الإبداع الفني والهوية الإنسانية

د. حسين الصديق

 

يطرح العنوان مسألة إنسانية معقدة جداً، لأنها مسألة فلسفية اجتماعية، وترمي المحاضرة إلى طرح إشكالية العلاقة بين الإبداع الإنساني عامة والفني خاصة وبين هوية الإنسان وثقافته الحضارية، للنقاش من خلال تصور إجابة.

ونعتقد أن عنوان المحاضرة يجب أن يعدّل إذا أردنا أن يدل على المضمون ليكون على الشكل التالي: إشكالية العقم في الإبداع الفني عند العرب اليوم.

ولا بد للبدء من الإشارة إلى حقيقة لغوية فكرية هي مصدر سوء العلاقة التي قد تقوم بين المرسل والمتلقي في اي مستوى من مستويات الخطاب، وهي أن التعبير عن الفكر بوساطة اللغة ليس سهلاً، لأن الفكر يدرك الموضوعات في كلياتها من غير زمان، ويعجز اللسان عن التعبير عنها كما يدركها الفكر لأنه بحاجة إلى زمان، وقد يجري على اللسان جزء مما في الفكر، ولا يسمح زمن العرض بجريان أجزاء أخرى حاضرة في الفكر، فيظن السامع عجزاً في الخطيب عن الإفهام، فنعوذ بالله كما قال التوحيدي من ألاّ يؤتى القائل من سوء فهم السامع.

مقدمات في جدلية العلاقة بين الإبداع والهوية

جدلية العلاقة بين الإبداع والهوية

إن العلاقة الجدلية بين الإبداع والهوية إنما تكون على ثلاثة مستويات: مستوى المرسل، ومستوى المتلقي، ومستوى أداة الاتصال بينهما: النص أو الرسالة، ونخص في هذه الدراسة العمل الفني.

فالمرسل مبدعاً هو فرد ينتمي إلى ثقافة تشكل أصول خطابه المعرفية، والمتلقي متذوقاً هو فرد ينتمي أيضاً إلى ثقافة تحكم أصول تلقيه المعرفية ، والخطاب رسالة بينهما هي شيفرة، تتضمن مجموعة من الرموز التي تحمل إشارات خاصة بثقافة المرسل والمتلقي على السواء، وهي تمكّن الطرفين معاً من التواصل من خلال تحديد هدف الخطاب ومضمون الرسالة. من خلال ما تقدم نرى أن العلاقة الخطابية بين الأقانيم الثلاثة: المرسل والرسالة والمتلقي، معقدة جداً.

إن المتلقي في حلّ رموز الرسالة هو مبدع سلبي، والمرسل في تركيب رموزها مبدع إيجابي، ويبدو الأمر أكثر تعقيداً عندما نتحدث عن شيفرة الرسالة أو رموزها، ما مصادرها المعرفية والثقافية واللغوية؟ ونعتقد أن توضيح ذلك يقتضي أن نعرّف المصطلحين الذين يشكلا محور الدراسة: الإبداع والموقف الجمالي.

الإبداع كما نفهمه تعبير عن موقف جمالي يصدر عن صاحبه/المرسل، يتجسد في عمل فني يهدف إلى مخاطبة متلقٍ مفتَرضٍ لتحقيق غاية ما. أما الموقف الجمالي فهو سلوك إنساني يرتكز فيه الإنسان على ثلاثة مفاهيم: الله والكون والإنسان، تمثلها الحضارة التي ينتمي إليها الإنسان وتحكم هذا السلوك. فالإبداع بذاته موقف جمالي، وما الفرق بين المصطلحين إلا في أن الأول فاعل والثاني منفعل. والسلوك الإنساني إما أن يكون إيجابياً أو حيادياً أو سلبياً، ويقوم به الإنسان تجاه ذاته أو تجاه الآخر أو تجاه المجتمع، والطبيعة، سواء أكان هذا السلوك خارجياً عملياً أم داخلياً فكرياً.

ويأتي الموقف الجمالي في قمة هرم السلوك الإنساني من جهة المتلقي والمبدع على السواء، فهو نتيجة للتراكم المعرفي، وبناء على ذلك يكون نسبياً يختلف من فرد إلى آخر بحسب المعرفة، من جهة كمها وكيفها، وارتباطها بالعمر والزمان والمكان والمجتمع وثقافته.

ويكون أسمى تجسد للمواقف الإنسانية في العمل الإبداعي، وكل سلوك إنساني هو موقف يمكن إخضاعه للدراسة الجمالية، فالطعام مثلاً حاجة غريزية، ولكن سلوك الإنسان في إعداده وتناوله هو موقف إنساني يختلف من فرد إلى آخر بحسب الثقافة الاجتماعية، فهو إذن موقف معرفي، كما يختلف من مجتمع إلى آخر، وهو إذن موقف حضاري. والإبداع من جهة تلبيته الحاجات الفردية والاجتماعية هو موقف جمالي.

مصادر المواقف الإنسانية: الجمالية والإبداعية ^

إن الكلام على السلوك يقودنا إلى الحديث عن الشطر الثاني من المعادلة: الهوية الذاتية، فلا إبداع بلا هوية، ونتيجة غياب الهوية يغيب الإبداع، ويحضر التقليد.

ما الهوية؟

الهوية هي انتماء ذهني، سواء أكان واعياً أم لا، إلى مجموعة من القيم والعادات والتقاليد أو ما يمكن وضعه تحت مفهومي الثقافة العالمة والثقافة غير العالمة، ويتجسد، عن وعي أو عن غير وعي، في الموقف الإنساني، الذي هو موقف معرفي، أي أن صاحبه لا يصدر في سلوكه إلا عن مستوى معرفي معين يجعله يفعل هذا الشيء دون ذاك.

ويمكن أن نبين وجهة النظر هذه بالرسم الآتي:

إن المستقبل بالنسبة إلى الإنسان لا وجود له إلا في التصور، أما الحاضر فهو سيّال، لأنه عبارة عن اللحظات التي ينتقل فيها المستقبل ليغدو ماضياً، أما الماضي فهو زمان تراكمي لا وجود له إلا في الذاكرة. وماذا يبقي للإنسان من الزمان إذن؟ الحق أنه لا يبقى له إلا الذاكرة، فالزمان سيّال، ولا يغتسل الإنسان بماء النهر مرتين، ووجود الزمان مرتبط بالإنسان فهو وجود معرفي لأنه يرتبط بالجوهر الإنساني، على حين أن للمكان وجود مادي ويرتبط بالعَرَض. أما المستقبل فلا وجود له إلا من خلال تصوره في إطار تجربة الماضي وخبرته، ولا وجود للحاضر كذلك إلا من خلال الماضي، أي من خلال التراكم المعرفي الذي جناه الإنسان منذ لحظة ولادته إلى اللحظة التي هو فيها في الزمان الحاضر. ولا يمكن الحكم على الحاضر من خلال معطيات الحاضر وحدها مجردة، وإنما يكون هذا الحكم من خلال التجارب المباشرة وغير المباشرة، الخاصة وغير الخاصة، وهذا ما يسمى بالتراكم المعرفي، فمن مسحت ذاكرته لا موقف له خاص، والإنسان لا وجود له إلا من خلال الماضي، فهو ذاكرته ومن خلاله يرى الحاضر ويتعامل معه.

كيف تشكلت هذه الذاكرة؟ 

للفرد ذاكرة، ويعيش في مجتمع له ذاكرة تشكلت من مصادر عدة، يمكن إجمالها في مصدرين:

الثقافة العالمة والثقافة غير العالمة، ويقصد بالثقافة العالمة كل النتاج المعرفي المكتوب من ثقافة وفكر، ويقصد بالثقافة غير العالمة كل ما في المجتمع من نظم وعادات وتقاليد ومفهومات وجميع أنواع السلوك والأخلاق، إن العلاقة التي تربط الثقافة العالمة بغير العالمة هي علاقة جدلية، فغير العالمة تغّير العالمة وتحولها ، والعالمة تصحح غير العالمة.

يولد الإنسان جسداً يملك غرائز وراثية، وينمو اجتماعياً فيكتسب ثقافة غير عالمة، فهو بهذين المستويين لا وجود له إلا بالجبر، أي أنه غير حر ولم يختر اي مستوى من مستويات وجوده، ويصبح وجوده حراً فيملك الخيار من خلال استخدام العقل باكتساب الثقافة العالمة لتصحيح الوجودين البيولوجي والثقافي الاجتماعي.

في ثقافتنا العالمة وغير العالمة يسود مفهوم الله على مفهومي الإنسان والكون، فيُرى الإنسان والكون معاً من خلال الله، فيظهر هنا مفهوم الخلافة: “وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين” (ص/ 70). وللإنسان وجودان: الجوهر والعرض، والجوهر كائنٌ بالقوة لا يخرج إلى الوجود بالفعل إلا عن طريق العقل الذي هو مناط التكليف في الفكر العربي الإسلامي، وهو أداة الإنسان في اكتساب المعارف، وكذلك المعارف التي يتوصل إليها بوساطة أدواته الحواس، فهي أداة ليصل الإنسان إلى الجوهر من خلال تحقيق مفهوم الخلافة بالسيادة على الكون،” سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ليتبين لهم أنه الحق”، فغرض المعرفة المادية هو تمكين صاحبها من الانتقال إلى المعرفة المجردة التي تتمثل في معرفة النفس لتقود هذه المعرفة إلى تمكين صاحبها من الإيمان المطلق بالله المطلق السرمدي اللانهائي.

والموقف الجمالي في الفكر العربي الإسلامي موقف إنساني، وكل موقف إنساني هو موقف معرفي، بل الموقف الجمالي هو أسمى هذه المواقف، وهو في الفكر العربي الإسلامي وسيلة لغيره وليس غاية في ذاته، فهو وسيلة لاكتشاف الجمال الكائن في المخلوقات وعلى رأسها الإنسان، تمهيداً لاكتشاف الجمال الكائن في الإنسان نفسه. يقول ابن سبعين: “ايه، الكمال كنه الكائن”، وفي الحديث: “إن الله جميل يحب الجمال”، فالله خلق الجمال وخلق في الإنسان محبة الجمال ليدل به عليه.

والإبداع موقف جمالي ومحرّض معرفي، فالموضوع الجميل يحرض محبة الجمال لدى المتلقي ويدعوه إلى الارتقاء في أحاسيسه ومشاعره ليصل في نهاية المطاف إلى اكتشاف جماله الخاص به، فهو محرض على اكتشاف الجوهر الذاتي الذي حققه الفكر العربي الإسلامي في معنى العبودية والاستخلاف.

إن الإبداع الإيجابي الخاص بالمرسل هو موقف معرفي جمالي يصدر فيه صاحبه عن وجوداته الثلاثة التي تسيطر عليها ثقافتان: عالمة وغير عالمة تصبغان الحضارة التي ينتمي إليها. والإبداع السلبي/ التذوق الخاص بالمتلقي هو موقف معرفي جمالي يصدر فيه صاحبه عن الشيء ذاته. والشيفرة/الرسالة المستخدمة بينهما يجب أن تنتمي إلى هاتين الثقافتين المشتركتين بينهما، وكلما أجادت الرسالة تجسيد تصور الثقافتين السائدتين في الحضارة التي ينتمي إليها المبدع والمستقبل؛ للعلاقة بين المفهومات: الله والكون والإنسان، كان العمل الفني حامل الرسالة أقرب إلى الكمال الإبداعي، وأقدر على خلق ردود فعل جمالية ومواقف حضارية عند المتلقي.

واقع الإبداع الفني عند العرب المعاصرين

نحن اليوم نعاني من عقم فني وجمالي وأدبي، ويمكن تعميم هذا على باقي المجالات في الفكر والثقافة والاقتصاد والسياسة؟ ولمعرفة أسباب ذلك علينا أن نبحث أولاً في الفكر السببي أو النقدي، والفكر القياسي، وتعود أصول هذه الفكرة إلى الفقه، ففي القرون الأربعة الأولى سيطر الفكر السببي أو النقدي، وفي القرن الخامس توقف الاجتهاد، وتراجع علم الكلام والفلسفة والتصوف والجمال، وساد الفكر القياسي في الفقه، وقد كان الفقه هو المجال الغالب المسيطر الذي استمر بالوجود لحاجة الناس العملية إليه.

وفي عصر النهضة العربية ظهر تياران: تيار ينادي بالإصلاح والتوفيق بين الثقافة العالمة العربية الإسلامية، والعالمة الغربية، وكان من الداعين إليه محمد عبده وجمال الدين الأفغاني ورشيد رضا وغيرهم. والتيار الثاني كان يتبنى الثقافة العالمة الغربية، فلا نهضة إلا بها، ويرفض غير العالمة، وكان من الداعين إليه طه حسين ولويس عوض وسلامة موسى وغيرهم. توقف التيار الأول، وانتصر التيار الثاني واستمر لأسباب عديدة من أهمها السياسية، إذ بعد خروج المستعمر تمّ تسليم السلطة إلى حكومات وطنية كانت قد تربّت على أيدي الغرب، ولسيادة الفكر القياسي فيهم فقد قاموا باستيراد الفكر، وقاسوا نهضة مجتمعاتهم على النهضة الغربية، ففي الفكر يقرر طه حسين أن الثقافة العربية ليست أصيلة ويدعو إلى الثقافة الغربية، وهو بذلك لا يعدو تقرير حقيقة النخبة في زمانه وثقافتهم الغربية. وفي الأدب والفن تم استيراد مفهوم أدب غريب عن الأدب العربي القديم، واستورد معه أنواع أدبية لم يعرفها هذا الأدب من رواية ومسرحية وقصة قصيرة وشعر حديث وقصيدة نثرية. وصحب كل ذلك استيرادُ أدواتها المعرفية الخاصة بها من مذاهب نقدية ومدارس أدبية هي أيضاً غريبة كل الغربة عن الأدب العربي القديم. وقد شهد النصف الأول من القرن العشرين توازناً مثّله طه حسين والعقاد، وسلامة موسى والمازني، كما شهد إبداعاً أدبياً في المسرح والرواية والشعر، وذلك على الرغم من اعتماد كل هذا في جوهره على الثقافة الغربية، وهو سبب عدم تأصله وتجذره في المجتمع العربي وسقوطه وتراجعه في النصف الثاني من القرن العشرين، وبخاصة بعد 1967.

إلاّ أن الأمر لم يتوقف على ما قدمنا وإنما عاد الإبداع ليتراجع، حيث نلاحظ اليوم تراجعاً وانحساراً في الفكر القومي والاشتراكي العلماني، وتراجعاً في الأنواع الأدبية وبخاصة في الشعر والمسرح. وأصبح رواد النصف الأول يشكلون موضوعات الدراسات المعاصرة، ويحق لنا بالقياس أن نتساءل عن هذه الحال كيف ستكون في النصف الأول من القرن الحادي والعشرين؟

هناك أسباب كثيرة أدت إلى الوضع الحالي من تراجع الأنواع الأدبية وصعود مبيعات الكتب ذات التوجه الديني في معظم أنحاء الوطن العربي.

وعلى مستوى الفنون التشكيلية فإن الأمر أكثر سوءاً، فقد كانت هذه الفنون، في نشأتها وتطورها وجمودها، من أصول لا تنتمي إلى الثقافة العالمة العربية أو غير العالمة، ولا يمكن لهذه الثقافة أن تفهمها وتقبلها.

درس إشكالية العقم من خلال عرض العرض على المقدمات

لا يمكن إنكار أن ثمة شرخاً في الذات العربية وانفصاماً في الهوية على مستوى النخبة وبخاصة منها المثقفة والمبدعة، فقد تربى هؤلاء ثقافياً في مجتمع له ذاكرة، وهم بذلك اكتسبوا الثقافة غير العالمة، وتربوا ثقافياً ومعرفياً باكتساب الثقافة العالمة الغربية، يقول لويس غارديه: إن المفكرين العرب يعرفون عن الفلاسفة الأوروبيين والفكر الغربي أكثر بكثير مما يعرفون عن الفلاسفة المسلمين أو الفكر العربي الإسلامي[1]. ويتحدث إدوارد سعيد عن المخبرين من سكان البلاد الأصليين وهم الطلاب الذين يأتون إلى أمريكا وأوروبا، ثم يعودون إلى بلادهم ليرددوا مقالات أساتذتهم، ويتعالوا على زملائهم، وهم ليسوا بالنسبة إلى الغربيين أكثر من نماذج مخبرية للدرس.

بالنسبة إلى المبدع فقد صاغ الأدباء أدبهم على نماذج غربية تنتمي إلى ثقافة عالمة وغير عالمة غريبة عن ثقافتهم، ولهذا يعاني نتاجهم من شرخ، لأن الشيفرة المستخدمة فيه لا يتمكن المتلقي من حلها لأنها غريبة عليه وهو لا يملك مفاتيحها. ومن جهة أخرى نجد أنه في الأدب الغربي يقدم النص على النقد فالنص أولاً والنقد تابع له، على حين أننا قدمنا النقد على النص عندما أتينا بالنظريات النقدية من الغرب وكان على النص أن ينسجم معها، فهي المعيار بالنسبة إلى الأديب والناقد على السواء . والنقد الغربي يتبع في مناهجه ومدارسه النقد الغربي، وهذا الأخير نتاج ثقافة عالمة وغير عالمة خاصة بحضارة كل بلد أوروبي، وإذا سلمنا جدلاً بأن النقاد العرب فهموها فإنهم بتطبيقها على الأدب العربي المعاصر استخدموا أدوات معرفية لا علاقة لها بالأدب والثقافة التي يصدر عنها المرسل والمتلقي معاً، لأن هذا الأدب مشروخ، فهو وإن صيغ على نماذج غربية عالمة؛ فإنّ الجانب غير العالم في المبدع الذي ورثه عن المجتمع موجود ولا بد أن يظهر، وكانت النتيجة اغتراب المبدع ومعاناته أزمة هوية، فهو يحمل في داخله ثقافتين: ثقافة غير عالمة عربية، وثقافة عالمة غربية. وينطبق هذا الكلام على الفنون، فقد تلقى الفنانون التشكيليون العرب تكوينهم الفني في الغرب، وتشكلت أعمالهم الفنية على صورة الأعمال الغربية فكانت مقلدة لها، كما كانت مدارس نقدها هي عينها مدارس النقد الغربي، فلا تجديد فيها ولا إبداع، يؤكد هذا عدم قدرة عمل من تلك الأعمال على نيل الإعجاب في الغرب، وكيف يكون ذلك وحال الغرب يردد: هذه بضاعتنا ردّت إلينا؟

وبالنسبة إلى المتلقي فإن كان من المثقفين فهو كالمبدع يدعي الفهم، ولكنه يعاني من انشطار وشرخ. وإن كان من غير هؤلاء فهو يعاني من انشطار أيضاً لأن ثقافته غير العالمة منذ النصف الثاني من القرن العشرين أصبحت مختَرَقة، وأخطر هذا الاختراق تجلى في العقود الأخيرة من القرن الماضي إلى اليوم.

إن إبداع الفنانين من أدباء وغيرهم لا ينتمي إلى الموقف المعرفي الذي وصفناه، ولا ينطلق من موقف عقلاني ناقد للثقافة العالمة وغير العالمة، ولوجوديه معاً، وإنما ينتمي إلى موقف قياسي غير عقلاني ولا سببي، يقلد فيه الثقافة الغربية والفنون الغربية، والمقلِد لا يصل أبداً إلى درجة المقلَد، لأن المقلَّد يجري إلى الأمام باستمرار ويزداد طرداً الفارق بين الطرفين، ودائماً ما يجري قياس ما عندنا من إبداعات على ما عند الغرب ونتخذ ما عنده معياراً، لأنه ليست لدينا مرجعية للإبداع خاصة بالثقافة العربية المعاصرة العالمة وغير العالمة، ولذلك فإن هذا المعيار يتبدل باستمرار ويسقط مع الزمان لأنه غير أصيل، وتصبح الرموز واللغة المستخدمة في الرسالة/ العمل الفني أداة قطيعة بدلاً من أن تكون أداة تواصل بين المرسل والمتلقي، ولا تؤدي الرسالة دورها الذي وصفناه في المقدمات، ويدعي الفنان/ المبدع أن الجمهور لا يفهم، وأنه لا يرضى لنفسه النزول إلى مستواهم، وتبقى رسائله غامضة وغير مفهومة، ويبقى الإبداع غائباً.

إن الإبداع الحقيقي عند العرب المعاصرين يعاني من عقم حقيقي، ولكن هناك نهضة أو بذور نهضة جديدة، تبدو بوادرها في الأسئلة المطروحة منذ عقدين من الزمان حول أزمة الهوية العربية الإسلامية، ونعتقد أن الإسهام في البحث عن إجابات مقنعة لتلك الأسئلة هو مساهمة في تحرير الإبداع العربي، ليس في الفن وأنواعه فقط بل في كل مجالات الوجود الإنساني: السياسي والاقتصادي والثقافي والديني والاجتماعي والجمالي، فالإنسان كلٌ لا يتجزأ والإبداع كلٌ لا يتجزأ، وكلا الاثنين مرتبطان بتحقيق وعي الهوية والعودة إلى الذات مصدر الإبداع، إذ لا إبداع لمن لا وجود له في ذاته.الإبداع الفني والهوية الإنسانية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ


[1] دراسات …، د. إبراهيم مدكور، القاهرة 1979، ص 129 حتى 141، الفلسفة العربية والفلسفة الأوروبية.

المصدر: http://asseddik.com/cms/%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D8%B9-%D8%A...

الحوار الخارجي: 
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك