أسلمة الديمقراطية حقيقة أم وهم؟

(1)

عقيب الانهيار المدوي للاتحاد السوفييتي وسقوط دولته، كان هذا إعلانًا بغياب القوة ‏الرئيسة المنافسة لليبرالية الغربية، وكان في الوقت نفسه إعلانًا بانتصار الليبرالية الغربية ‏وتربعها على القمة العالمية، ومن تلك اللحظات بدأت الدعوة إلى الديمقراطية على أنها ‏السند الشرعي لأي نظام تقوى وتنتشر، على أساس أن مرحلة الديمقراطية تمثل أفضل ‏نظام سياسي يمكن أن تتوصل إليه البشرية، وأن التاريخ قد توقف عند هذا الحد فيما ‏يعرف بـ"نهاية التاريخ" (كما يذكر فوكوياما).‏



‏ من هنا بدأت أغلبية الدول تسارع إلى هذا الخيار لعدم قدرتها على مناوأة الدولة ‏العظمى المتسيدة للنظام العالمي الجديد والداعية إلى تغليب نظرتها الديمقراطية، وذلك في ‏الوقت الذي فقدت فيه تلك الدول الحماية التي كانت تتمتع بها من الاتحاد السوفييتي ‏الزائل، ويظن كثير من الناس أن دعوة أمريكا إلى تبني النموذج الديمقراطي وفرضه على ‏العرب والمسلمين كان نتيجة مباشرة لما اشتهر بأحداث الحادي عشر من سبتمبر، فقد ‏أظهرت أمريكا بعد هذا الحدث رغبة عارمة في نشر الديمقراطية في بلاد العرب والمسلمين ‏على أنها العلاج الأكيد والناجع -من جهة مصلحتها- لهمجية العرب والمسلمين -بزعمها.‏



فوجئت أمريكا في تلك الأحداث بهجمات عنيفة دامية، حيث هوجمت قلاعها ‏الاقتصادية والعسكرية، مما دعاها لإعلان حربها العالمية على الإرهاب، والتي كان منها ‏الدعوة لنشر الديمقراطية حسب ما جاء في مشروع الشرق الأوسط الكبير وتبنيها لدعاوى ‏الإصلاح، وقد فرح بذلك الكثير من الإسلاميين ورأوا فيها الفرصة الكاملة للوصول إلى ‏الحكم لتنفيذ مشروعهم السياسي، على أساس أن نشر الديمقراطية صار مطلبًا أمريكيًا ‏يخدم مصلحة أمنها القومي ولذلك فهي تدعم ذلك التوجه وتعززه، وبذلك زاد زخم ‏الحديث عن الديمقراطية، وعن توافقها مع الإسلام، وأن الإسلام قد سبق الديمقراطية وقرر ‏أهم خصائصها، وإذا كان هذا الحديث ليس بالجديد كلية إلا أن زخمه قد زاد بعد الحملة ‏الأمريكية ووجد له أنصارًا كثيرين. ‏



موقف بعض الإسلاميين من الديمقراطية:‏



الطور الأول من الفكر الإسلامي (الديمقراطي) يزعم أن جوهر الديمقراطية موجود ‏في الإسلام، وأن الإسلام قد سبق بما أتت به الديمقراطية، أو أنه يمكن أن تتوافق ‏الديمقراطية مع الإسلام، وأن ما يُرى بينهما من اختلاف من الممكن إزالته، يقول خالد ‏محمد خالد بعدما ادعى أنه يوجد لحكام وقادة غير مسلمين لكنهم ديمقراطيون شواهد ‏قريبة من سلوك 
عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: "من أجل هذا قلنا وسنظل نقول إن ‏الديمقراطية إسلام"، ويقول: "كان عرضنا هذه المشاهد -وهي قليل من كثير- تبيانا ‏لديمقراطية الحكم في الإسلام، واكتشافا للتخوم الواسعة المشتركة بين الإسلام كدين وبين ‏الديمقراطية كمنهج ونظام"‏، ويقول الشيخ يوسف القرضاوي: "الواقع أن الذي يتأمل ‏جوهر الديمقراطية يجد أنه من صميم الإسلام"‏، وكلام كثير جدًا من مثل هذا.‏



‏ وأما في وقتنا الحاضر بعد ظهور اعتراضات كثيرة من الناحية العقدية على ‏الديمقراطية وهي واضحة وقوية، فقد نحا الطور الثاني من الفكر الإسلامي (الديمقراطي) إلى ‏الفصل بين الفكر التنظيري الديمقراطي، وبين آليات الديمقراطية، فابتعد عن القبول ‏بالأسس النظرية التي تقوم عليها الديمقراطية، لما تشتمل عليه من مصادمة صريحة للمقررات ‏العقدية الإسلامية، بينما قبل الآليات الديمقراطية، على أساس أن الآليات هي مجرد وسائل ‏عملية لا تنطوي على فكر أو عقيدة، بل هي آليات محايدة يستخدمها المسلم كما ‏يستخدمها الكافر، كالسيارة التي يستخدمها المسلم في الذهاب إلى المسجد ويستخدمها ‏النصراني في الذهاب إلى الكنيسة، وهكذا، من أجل هذا رغبتُ في كتابة هذا المقال لبيان ‏حقيقة الديمقراطية وهل حقًا أتى بها الإسلام، أو أنه من الممكن إزالة ما بينهما من تعارض ‏مع احتفاظ كل منهما بخصائصه المميزة، أو أنه يمكن التخلص من الأساس النظري لها ‏وعدم التقيد به والاستفادة مما فيها من آليات مجردة عن أصولها المذهبية، وهذا أوان ‏الشروع في المقصود:‏



ماذا تعني كلمة الديمقراطية؟ ‏

الديمقراطية كلمة لاتينية وهي مكونة من شقين: الشق الأول ‏demos‏ وتعني ‏الشعب، والشق الثاني ‏cratie‏ وتعني حكم أو سلطة، فاللفظ على ذلك يعني حكم ‏الشعب، أو الحكم للشعب، "وإذا كان للديمقراطية مصطلحات عديدة... إلا أن لها ‏مدلولًا سياسيًا والذي شاع استعماله في كل الأدبيات والفلسفات القديمة والحديثة وأنها ‏مذهب سياسي محض تقوم على أساس تمكين الشعب من ممارسة السلطة السياسية في ‏الدولة"‏؛ فالكلمة العليا والمرجعية النهائية إنما هي للشعب ولا شيء يعلو فوقه، فهي "تعني ‏أن يضع الشعب قوانينه بنفسه، وأن يحكم نفسه بنفسه، ولنفسه"‏، والحكومة التي تقبلها ‏النظرية الديمقراطية "هي الحكومة التي تقر سيادة الشعب وتكفل الحرية والمساواة السياسية ‏بين الناس وتخضع فيها السلطة صاحبة السلطان لرقابة رأي عام حر له من الوسائل ‏القانونية ما يكفل خضوعها لنفوذه"‏، وقد تبلورت هذا الفكرة فيما بعد تحت مصطلح ‏السيادة.



وقد عُرِّفت السيادة: بأنها سلطة عليا مطلقة لا شريك لها ولا ند متفردة بالتشريع ‏الملزم، فيما يتعلق بتنظيم شؤون الدولة أو المجتمع، فلها حق الأمر والنهي والتشريع والإلزام ‏بذلك، لا يحد من إرادتها شيء خارج عنها، ولا تعلوها أو تدانيها سلطة أخرى، ‏والسيادة في الفكر الديمقراطي إنما هي للشعب.



‏ وتتمثل ممارسة الشعب للسيادة في ثلاثة جوانب رئيسة:

1- إصدار التشريعات ‏العامة الملزمة للجماعة التي يجب على الجميع الالتزام بها وعدم الخروج عليها، وهذه ‏تمارسها السلطة التشريعية.

2- المحافظة على النظام العام في ظل تلك التشريعات، وهذه ‏تمارسها السلطة التنفيذية.

3- حل المنازعات سلميًا بين المواطنين انطلاقًا من هذه ‏التشريعات، وهذه تمارسها السلطة القضائية، ويتبين من ذلك أن السلطة التشريعية هي أم ‏السلطات الثلاث. ‏



تطور الديمقراطية باختلاف الأزمان والبيئات:‏

وليس من شك في أن الديمقراطية تطورت مع الزمن تطورًا كبيرًا ولم تبق على ‏شكلها الأول الذي ظهرت به أول مرة في أثينا، فقد كان الشعب الذين يحق لهم الحكم ‏في بداية الفكرة قليلًا بالنسبة للعدد الفعلي، فقد أخرج منه الأرقاء كما أخرج منه 
النساء، ‏كما اشترط لذلك بعض الشروط كامتلاك نصاب مالي معين، والتمتع بكفاءة أو وجاهة ‏في المجتمع، وبمرور الزمن تغير كثير من كل ذلك، إلى أن وصل إلى حق الاقتراع العام.‏



‏ كما اختلفت الصورة التي تمارس بها الديمقراطية فبعد أن كانت الديمقراطية تباشر ‏من قبل الشعب بلا واسطة فيما عرف بالديمقراطية المباشرة، احتاجوا مع تطور الأوضاع، ‏والانتقال من دولة المدينة -صغيرة المساحة قليلة العدد،إلى الدولة القومية -ممتدة المساحة ‏كبيرة العدد، وقيام عوائق في سبيل العمل بالديمقراطية المباشرة، إلى تغيير الصورة من ‏الديمقراطية المباشرة إلى الديمقراطية غير المباشرة (النيابية)، التي ينوب فيها عن الشعب أفراد ‏يختارهم الشعب ليحكموا بدلا عنه، كما ظهر التزاوج لاحقًا بين الصورتين فيما سُمي ‏بالديمقراطية شبه المباشرة، وذلك للتغلب على بعض السلبيات من إلغاء الديمقراطية المباشرة ‏كليًا، حيث تكون هناك موضوعات يحكم فيها الشعب حكما مباشرا، وموضوعات ‏أخري يحكم فيها الشعب حكمًا نيابيًا.‏



‏ كما تعددت أشكال الحكومات فهناك النظام الرئاسي (حيث تتركز السلطة في يد ‏رئيس الجمهورية المنتخب من الشعب، وهو الذي يعين الوزارة، ويكون هناك فصل شبه ‏حاد بين السلطة التنفيذية "رئيس الجمهورية" وبين السلطة التشريعية "البرلمان)، وهناك النظام ‏البرلماني (حيث تتركز السلطة في يد مجلس "برلمان" منتخب من الشعب، وهو الذي يعين ‏الوزارة، ويوجد هنا تداخل بين أعمال السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية)، وهناك نظام ‏حكومة الجمعية (حيث تتركز السلطة في يدجمعية منتخبة من الشعب وهي تجمع في يدها ‏سلطات واختصاصات السلطتين التشريعية والتنفيذية)‏، ومع كل هذه التطورات ‏والتغيرات في الأشكال والصور، ظلت الديمقراطية تحافظ على أمر جوهري لم تحد عنه ‏أبدًا، وهو الأمر الذي تكون اسمها منه وهو أن الحكم للشعب، فلا شيء يعلو عليه، ‏وكل سلطة في المجتمع فإنما تستمد منه، فالشعب (السياسي) كله له الحكم؛ فالأغلبية لها ‏حق التفرد بالحكم، والأقلية لها حق المعارضة للأغلبية. ‏



تأثير الفكر الديمقراطي على الدساتير العربية:‏

وقد ظهر هذا واضحًا في دساتير البلاد العربية التي كتبت في بدايات القرن العشرين ‏وما تلا ذلك:

ففي الدستور المصري المادة رقم 3: "السيادة للشعب وحده، وهو مصدر ‏السلطات، ويمارس الشعب هذه السيادة ويحميها"، وفي المادة 86: "يتولى مجلس الشعب ‏سلطة التشريع".

وفي الدستور السوري المادة رقم 2 في الفقرة الثانية: "السيادة للشعب، ويمارسها ‏على الوجه المبين في الدستور"، وفي المادة رقم 50: "يتولى مجلس الشعب السلطة التشريعية ‏على الوجه المبين في الدستور".

وفي دستور السودان الانتقالي لسنة 2005م في الباب الأول الفقرة الثانية: "السيادة ‏للشعب وتمارسها الدولة، طبقا لنصوص هذا الدستور والقانون".

وفي الدستور الأردني مادة 24: "الأمة مصدر السلطات"، ومادة 25: "تناط السلطة ‏التشريعية بمجلس الأمة والملك".

وفي الدستور التونسي مادة رقم 3: "الشعب التونسي هو صاحب السيادة يباشرها ‏على الوجه الذي يضبطه هذا الدستور"، وفي المادة 18: "يمارس الشعب السلطة التشريعية ‏بواسطة مجلس نيابي".

وفي الدستور الجزائري مادة رقم 6: "الشعب مصدر كل سلطة، السيادة الوطنية ‏ملك للشعب وحده"، وفي المادة رقم 7 :"السلطة التأسيسية ملك الشعب، يمارس الشعب ‏سيادته بواسطة المؤسسات الدستورية التي يختارها"، وفي المادة 98: "يمارس السلطة ‏التشريعية برلمان يتكون من غرفتين وهما المجلس الشعبي الوطني ومجلس الأمة، وله السيادة ‏في إعداد القانون والتصويت عليه".

وفي الدستور المغربي مادة رقم 2: "السيادة للأمة تمارسها مباشرة بالاستفتاء وبصفة ‏غير مباشرة بواسطة المؤسسات الدستورية"‏.

وفي الدستور القطري مادة 59: "الشعب مصدر السلطات ويمارسها وفقًا لأحكام ‏هذا الدستور"، وفي المادة 61: "السلطة التشريعية يتولاها مجلس الشورى على الوجه المبين ‏في هذا الدستور"‏.

وفي الدستور الكويتي مادة 51: "السلطة التشريعية يتولاها الأمير ومجلس الأمة وفقًا ‏للدستور".

وبقية الدساتير لا تخرج عن ذلك من حيث المضمون وإن اختلفت الصيغ، كما أن ‏هذه الدساتير تنص على أن نظام الحكم نظام ديمقراطي، وهي الصيغة السياسية لمصطلح ‏السيادة الشعبية. ‏ ‏



وهذه الخصيصة التي تميزت بها الديمقراطية على تعاقب الدهور تعد أكبر اختلاف ‏حقيقي بين الإسلام وبينها، فإن قاعدة الإسلام هي توحيد الله تعالى، والتي تعني أن يكون ‏المسلم عابدًا لله وحده، وذلك بالاحتكام إلى ما شرعه الله تعالى في أموره كلها من صلاة ‏وصيام وحج، ومعاملات بين الناس وخصومات، وفي شئونه كلها.‏

فقد ورد في مواضع عديدة من كتاب الله قصر الحكم عليه سبحانه فقال تعالى: {{C}{C}‏أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ{C}{C}} [الأنعام:62]. وقال: {{C}{C}إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ{C}{C}} [يوسف:40،67]. وقال تعالى: {{C}{C}‏فالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ{C}{C}} [غافر:12]. والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقال تعالى: {{C}{C}يَا أَيُّهَا ‏الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ ‏إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً{C}{C}} [النساء:59]. ‏فلم يُحكم الله تعالى في موارد النزاع أحدًا غير الكتاب والسنة، وقال تعالى: {{C}{C}فَلاَ وَرَبِّكَ ‏لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ ‏وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا{C}{C}} [النساء:65]. فأوجب تحكيم الرسول ‏ صلى الله عليه وسلم في كل ما يشجر بين المسلمين، ‏وأمر رسوله أن يحكم بين الناس بما أنزله عليه فقال تعالى: {{C}{C}فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ ‏تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ{C}{C}} [المائدة:48]. وقال تعالى في الآية التي تليها: {{C}{C}وَأَنِ احْكُم ‏بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ{C}{C}} ‏‏[المائدة:49].



فالحق عند المسلم هو ما أمر به الله تعالى ورسوله ‏صلى الله عليه وسلم أو دعا إليه، والباطل هو ما ‏نهى الله عنه ورسوله ‏صلى الله عليه وسلم؛ فالله تعالى هو الذي يشرع، وهو الذي يأمر وينهى، وهو الذي ‏يُلزم، وهو الذي يعاقب على المخالفة ويثيب على الطاعة، فالسيادة الكاملة إنما هي لله ‏تعالى وحده، وقد قال رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم : «{C}{C}السيد الله{C}{C}» ‏(صححه الشيخ 
الألباني).‏

‏بينما الحق في الديمقراطية هو ما أمر به الشعب، والباطل هو ما نهى عنه الشعب، ‏وإرادة الشعب هي معيار الخطأ والصواب، فما أقرته وقبلته فهو الصواب وما تركته ولم ‏تقبله فهو الخطأ، فالإرادة الشعبية معصومة، ومن هنا فإن الديمقراطية قد رفعت الشعب إلى ‏المنزلة التي لا تليق إلا بالله تعالى، وهذا الفرق لا يستطيع أن ينكره أحد، إلا عن طريق ‏
الكذب والتضليل لخداع الناس وإيهامهم، وتعريفات الديمقراطية في بلد المنشأ تدل على ‏ذلك، بل ابتعاد الديمقراطية عن الدين هو أحد مسوغات الدعوة إليها.



‏ والديمقراطيون الحقيقيون لا يعدون هذا عيبًا أو نقصًا يحاولون التبرؤ منه، بل هو ‏عندهم من مميزات الديمقراطية، فكما يبين أحدهم أنه يستحيل تعريف الديمقراطية "دون ‏تحرير الذهن من الأحكام المسبقة مهما كانت، أي إعطاء مسؤولية القرار للشعب دون ‏تقيد مسبق بأي قيد نصي أو تشريعي أو فقهي، فالناس وفق هذا المنطق هم الذين يملكون ‏حق السيادة والمرجعية في شئونهم التعاقدية الوضعية"‏، وبهذا يتم فك أي ارتباط إيجابي ‏بين الديمقراطية وبين الدين، فالديمقراطية تبعد الدين عن التدخل في الحياة العامة ‏للمجتمع، وهي بذلك تكون الوجه السياسي للعلمانية، وهذا لا شك اختلاف جذري بين الإسلام والديمقراطية ولا يمكن تقريب ‏الديمقراطية من الإسلام إلا بالتخلي عن هذا الوصف الجوهري في الديمقراطية، لكن إذا ‏أمكن التخلي عن هذا الوصف في محاولة التقريب، هل يظل ما بقي منها باسم ‏الديمقراطية؟ في حين لا يمثل الشعب أية مرجعية في الحكم، هذا ما تأباه قواعد اللغة ويأباه ‏العقل والمنطق، ولا يمثل الإبقاء على الاسم في هذه الحالة إلا القبول بالتبعية الفكرية، ‏واختزال الفكر الإنساني كله في الفكر الغربي.‏



لكن هل استطاعت الديمقراطية أن تحقق هذا الذي زعمته وادعته؟

يقسم الفكر الديمقراطي الشعب إلى فئتين: إحداهما يمكن تسميتها بالشعب ‏السياسي، وهو الذي تكون له السيادة، والفئة الثانية هي المتبقية من مجموع الشعب، وهي ‏التي لا دخل لها بهذه السيادة، وهذه الفئة تغيرت بتغيير الأزمان، فقد كانت في أول الأمر ‏تشمل الأرقاء وتشمل النساء والأطفال غير البالغين، والرجال غير المتعلمين، والفقراء، ‏وغير النبلاء في المجتمع، وهم يمثلون الأغلبية العددية في المجتمع، وقد كان النظام الذي يمنع ‏كل هذه الفئات من السيادة ينظر إليه على أنه نظام ديمقراطي، مما يبين أن السيادة الشعبية ‏كانت مجرد شعار لا رصيد لها يسندها من الواقع، ثم بمرور الزمن تغيرت هذه الفئة، لكنها ‏ما زالت حتى الآن تشمل الصبيان الذين لم يبلغوا سنا معينة (18عامًا) إضافة إلى المحكوم ‏عليهم في بعض القضايا التي تحددها القوانين.‏



وإذا تجاوزنا هذه النقطة وانتقلنا إلى الدستور الذي يعد أعلى وثيقة قانونية في النظام ‏الديمقراطي يلتزم بها الجميع ويحنون هاماتهم لها، واتخذناه مثالًا للحديث، نجد أن الشعب لم ‏يكن هو الذي وضع هذه الوثيقة، وإنما وضعها مجموعة من الناس ممن تخصصوا في الأمور ‏القانونية والمسائل السياسية، وهي لا شك مجموعة صغيرة جدًا جدًا بالمقارنة إلى عدد ‏الشعب (السياسي) مما يعني أن السيادة الشعبية لم تكن هي التي صاغت أعلى وثيقة قانونية ‏يتحاكم إليها في البلاد، ولو قيل :لكن هذا الدستور لا يُقَر إلا بعد الموافقة عليه من ‏الشعب عن طريق التصويت وأخذ الآراء، فإن ذلك أيضا لا قيمة له لعدة أمور:‏



أولًا: تشتمل هذا الوثائق على مسائل فنية تخصصية لا يدركها إلا المتخصصون وهم ‏قلة قليلة في أي مجتمع، فموافقة غيرهم عليها ليس له قيمة حقيقية، وكذلك اعتراضهم لا ‏قيمة حقيقية له، فإن الموافقة أو الاعتراض الناشئين عن مجرد الرغبة أو الاستجابة للدعابة ‏ووسائل الإعلام، من غير علم حقيقيي بالمسألة والقدرة على تبيان ما فيها من إيجابيات أو ‏سلبيات لا يساوي شيئًا في ميزان تقويم الآراء.‏



‏ ثانيًا: لو تجاوزنا هذه النقطة فإنه دائمًا ما لا يحصل إجماع على تلك الوثائق، بل ‏يقبلها طائفة ويرفضها آخرون، ذلك أنه في ظل عدم وجود مرجعية متفق عليها بين الناس ‏ويخضعون لها -خارجة عن الإنسان نفسه- فإنه يستحيل أن يتفق الناس كلهم أو أغلبهم ‏على رأي واحد في عشرات بل مئات المسائل المهمة، وإذا أُقرت هذه الوثائق لكون الموافق ‏عليها أكثر من المعترض، فمعنى ذلك أن هناك مجموعة كبيرة من الشعب (السياسي) وهي ‏قد تصل إلى الثلث أو قريب من النصف (على حسب الأغلبية المعتد بها في هذه المسائل)، ‏لم يكن لنصيبها من السيادة الشعبية أثر في إقرار هذه الوثيقة، على أن موافقة الموافق لا ‏تعني بالضرورة موافقة حقيقية، إذ ربما تكون الموافقة نتيجة ضغوط من أطراف خارجية، ‏أو تدخل الإعلام الموجه الذي يقوم بدور كبير في صناعة وتشكيل آراء الناس وتصوراتهم، ‏أو نتيجة الاتفاق على تقسيم المغانم بين الفئات المؤثرة في التصويت، وأقرب مثال لذلك ما ‏حدث في إقرار الدستور العراقي الذي وضع بعد الاحتلال.



‏ بل إن الأساس الذي يعتمد عليه في بيان الأغلبية المعتد بها، هل هو الأغلبية المطلقة ‏‏(أي ما زاد على 50% ولو كان بصوت واحد) أو أغلبية الثلثين أو غير ذلك، هو نفسه ‏يحتاج إلى إجماع الشعب (السياسي) حتى يمكن أن يؤسس عليه ما يأتي بعده، وإلا لم يكن ‏هناك أي معنى للحديث عن السيادة الشعبية المتخذة عن هذا الطريق، وهذا الإجماع نادر ‏الحدوث، وعادة ما لا يحدث أبدًا.‏



‏ ثم إن الذين يحق لهم الدخول تحت مسمى الشعب السياسي، كثير منهم لا يشارك ‏في عمليات الانتخاب والتصويت، مما يجعل الأغلبية عند حدوثها هي أغلبية من شارك في ‏التصويت لا أغلبية الشعب السياسي، ولو أننا أخذنا مثالًا قريبًا من انتخابات قد جرت في ‏
مصر فقد فاز الرئيس المصري بالانتخابات بنسبة تجاوزت الثمانين في المائة لكن لو نظرنا ‏كم فردا اشترك في الإدلاء بصوته ممن يحق لهم المشاركة، لم نجده يتجاوز نسبة الـ ‏‏(24%)، حسب الإحصاءات الرسمية، وما يجري في كثير من الدول لا يختلف عن هذا‏.



ثالثًا: ولو تجاوزنا هذه النقطة ونظرنا إلى الدستور الذي تم إقراره، فإنه بعد جيل أو ‏جيلين يكون الذين أقروا هذا الدستور جيفا تحت التراب، وهذا يعني إثبات السيادة ‏والإرادة لأناس أموات، وهو ما يعني في الوقت نفسه، أن الأحياء محكومون بإرادة الموتى، ‏وليس بإرادتهم، فأين السيادة الشعبية في هذا.‏



رابعًا: ولو تجاوزنا مرة أخرى هذه النقطة، فإن الأطفال الذين كانوا 
أطفالًا وقت ‏كتابة الدستور وإقراره، قد صاروا بعد زمن رجالًا لهم جزء من السيادة، فأين تأثير هذه ‏السيادة على الدستور والقوانين المنبثقة عنه في إدارة البلاد.‏



وفي تحديد الشعب نفسه: ما الذي يجعل العربي والكردي في العراق يمثلون شعبًا ‏واحدًا، وكذلك الكردي والتركي في تركيا يمثلون شعبًا واحدًا، والعربي والبربري في ‏الجزائر يمثلون شعبًا واحدًا، كل فرد منهم له جزء من السيادة، بينما العربي الأردني أو ‏المصري أو السوري المقيم في بلد عربي آخر لا يعد من شعب ذلك البلد، ومن ثم لا يمثلون ‏شعبًا واحدًا؟ ولا شك أن هذا المقيم في بلد ما تجري عليه أحكام هذا البلد، وهو في ‏الوقت نفسه لا يعد من الشعب فليس له أية حقوق في ممارسة الحكم فيه، (وهذا أمر يقره ‏الفكر الديمقراطي) ما يعني أنه ليس له نصيب في السيادة الشعبية، وهنا تخفق الديمقراطية في ‏تقديم 
التفسير المقنع لرضوخ هذا المقيم أو إجباره على الالتزام بأحكام البلد الذي يقيم ‏فيه، من غير أن يكون له نصيب من السيادة أو ممارسة الحكم فيه.



وبالانتقال من كل ذلك نجد أن المؤهلين لممارسة الحكم باقتدار حقًا، ليسوا هم ‏الشعب كله، بل هم مجموعة أناس معينين محدودين، مما يجعل الحكم محصورا فيهم إلى حد ‏كبير، وبذلك يتحول دور الشعب من كونه الممارس للحكم، إلى الاقتصار على اختيار ‏القادة الأكفاء ليقوموا بممارسة الحكم، وهو لا يمارس هذا الحق إلا مرة كل عدة سنوات ‏عندما تحين مواعيد الانتخابات، وفي كل هذا قضاء على قضية السيادة الشعبية، وهو ما ‏يؤول في النهاية أن تكون الديمقراطية بحق هي حكم الأقلية وليس حكم الأكثرية، ‏فالديمقراطية وإن كانت قد انطلقت من نقطة أن الحكم للشعب لكنها انتهت واقعًا وفعلًا ‏لحكم الأقلية، الأقلية الغنية المثقفة المنظمة التي استطاعت أن تحول القضية لصالحها فيما ‏يطلق عليه حكم النخبة "ففي الأنظمة الغربية لا يحكم الشعب كما تفترض النظرية، ولكن ‏الذي يحكم هي تلك الأقلية التي تسمى النخبة، ومن ثم ففي الغرب نخبة ديمقراطية تحكم ‏بسبب ما يتوفر لها من قدرة على التحكم في الموارد الطبيعية ومصادر الثروة والقوة، ‏وبحكم بعض المزايا الموروثة وغيرها من العوامل".‏



‏ويحق لنا بعد ذلك كله أن نقول: إن اعتبار الشعب هو الذي يحكم في النظام ‏الديمقراطي، يعد من الخدع الكبرى في تاريخ الأنظمة السياسية.



هذا العيب الجوهري في الديمقراطية الذي يجعل السيادة للشعب، وهو الأمر الذي ‏تشبثت به ولم تستطع تحقيقه في واقعها، وذلك لعدم واقعيته، هو نقطة الضعف القاتلة لها ‏في شريعة الإسلام، وهو ما دعا الكثيرين ممن يريدون جعل الديمقراطية من مكونات النظام ‏السياسي الإسلامي أو إدخالها فيه وذلك بغرض الخروج من حالة الاستبداد التي تعيشها ‏كثير من شعوب الأمة الإسلامية إلى تجاوز هذه النقطة تحت الدعوة إلى الاستفادة من ‏آليات الديمقراطية، دون التمسك بالأساس النظري لها أو الاعتماد عليه، على أساس أن ‏هذه النظرة المذهبية أو الفلسفية للديمقراطية كانت مرتبطة بزمن النشأة وظروفها، وقد ‏تجاوزتها الديمقراطية في تطبيقاتها المعاصرة، ولم تعد تعول على هذا الأساس، أو ترتبط به.‏



‏ فهم يرون أن الديمقراطية كفلت الكثير من الحقوق والحريات التي تتحقق بها ‏إنسانية الإنسان كحرية التنقل، والاستقلال في الرأي والتفكير، والمشاركة في القرار ‏السياسي وفي اختيار الحكومة، وفي القدرة على الإنكار على الحكومات، وتغييرهم عند ‏الخروج عن الجادة، وفي حق التملك وحق الأمن وغير ذلك، كما يحقق المساواة للجميع ‏أمام القانون، ويرون أن هذه الأمور لا ترتبط بالأساس النظري للديمقراطية الذي قامت ‏عليه الديمقراطية، بل هي آليات تنظيمية، وطرائق عملية للحفاظ على حقوق الناس ‏وحرياتهم، وتأمين تداول السلطة بينهم بطريقة سلمية، كما أنها من الأمور المشروعة في ‏الإسلام.‏



لكن هنا نقطة مهمة غابت عن أصحاب هذا الرأي، الذين يحاولون سلخ الديمقراطية ‏من أصلها وذلك أن هذا رأيهم ولا يعبر عن الشعب السياسي كله، فالشعب السياسي ‏حسب الفكر الديمقراطي يدخل فيه المواطن المسلم كما يدخل فيه المواطن الكافر، ‏والمسلمون منهم المسلم حقيقة ومنهم غير ذلك كالعلمانيين والحداثيين والقوميين وغيرهم، ‏وهؤلاء يصرون على ارتباط الديمقراطية بأصلها الذي خرجت منه، ولا سبيل -ديمقراطيًا-‏ بإلزامهم بغير ذلك. ‏



ولا شك أن العمل الديمقراطي القائم على الأساس الفلسفي للديمقراطية يتناقض مع ‏المقررات الإسلامية كما ظهر، فإن جعل التشريع بيد الشعب هو إلغاء لشريعة الله تعالى ‏وهذا ما لا يقول به مسلم أو يقبله، ولعل في ظهور هذا العيب الواضح في الديمقراطية، ما ‏يدعونا إلى عدم الوقوف أمامه ويكفي فيه ما تقدم، ويبقى الحديث عن التصور الذي ‏يتناول الديمقراطية بوصفها آليات، أو منهج عمل، من غير استناد إلى فكرة أو تصور ‏مذهبي أو فلسفي، وهذا هو موضوع المقال القادم إن شاء الله.

المصدر: http://ar.islamway.net/article/14643/%D8%A3%D8%B3%D9%84%D9%85%D8%A9-%D8%...

 

(2)

آليات الديمقراطية: يراد بالآليات التي تتبعها الديمقراطية في عصرنا الحاضر مجموعة ‏من الإجراءات والتصرفات التي منها: حرية الدعوة إلى الأفكار وتكوين الآراء، وحرية ‏تكوين الأحزاب، وحق المعارضة للسلطة القائمة، وحق الاقتراع العام، وتنظيم الانتخابات ‏للوصول إلى الحكم، وتداول السلطة بين أفراد الشعب، واعتماد مبدأ الأغلبية في اتخاذ ‏القرارات وسن القوانين. ‏



آليات الديمقراطية لم تنشأ من فراغ:

دعوى الأخذ بآليات الديمقراطية دون التقيد بأساسها النظري، فيها قفز على الواقع ‏وتجاوز للمعقول، فإن هذه الآليات لم تتبلور إلا انطلاقًا مما استقر في الفكر الديمقراطي من ‏الاعتماد على نظرية السيادة الشعبية تلك النظرية المرفوضة إسلاميًا.‏



‏ولا يمكن في الحقيقة تصور أن يقوم نظام له أصول وقواعد تُتبع ويُحتكم إليها عند ‏الاختلاف، ولا تكون لهذا النظام جذور فكرية يرجع إليها هي التي حتمته وأوجبته، فهذا ‏أمر مخالف لطبيعة الأشياء، وما مثله إلا كمثل من يزعم وجود شجرة لها ثمار وهي مع ‏ذلك معلقة في الهواء من غير جذور ترتبط بها.‏



فالديمقراطية لا تعمل في فضاء أو فراغ قيمي، ولنضرب مثالًا بذلك وهو حق ‏الاقتراع العام: وهو حق كل مواطن، ذكرًا كان أو أنثى، عالمًا كان أو جاهلًا، تقيًا برًا ‏كان أو فاجرًا شقيًا، في أن يكون له صوت انتخابي متساو مع صوت الأفراد الآخرين تمامًا ‏بتمام.‏



‏إن هذه الآلية إنما بنيت على أساس نظرية السيادة الشعبية، وأن الشعب كله هو ‏الذي يملك السيادة، وأن كل فرد له نصيب من هذه السيادة متساو بالتمام والكمال مع ‏نصيب غيره، بغض النظر عن التفاوت بين الأفراد من حيث 
العلم أو الجهل، ومن حيث ‏الصلاح أو الفساد، ومن حيث الذكورة أو الأنوثة، ومن حيث الحكمة أو السفه، وإلا ‏فما الحجة في التسوية في الصوت الانتخابي بين المتقين والفجار، وبين العلماء والجهلاء، ‏وبين الذكور والإناث، وبين الحكماء والسفهاء، ولو قامت جماعة من المسلمين اليوم ‏ترفض المساواة بين العلماء والجهلاء وبين الأتقياء والفجار، فهل يمكن أن يقبل هذا منهم ‏أم يعترض عليهم بأن هذا يخالف نظرية السيادة الشعبية.‏



ويترتب على هذه النظرية -التي ترجع أصل السلطة إلى العنصر البشري فقط- نسبية ‏الحقيقة، لأنه ليس أحد من البشر يمتلك الحقيقة الكاملة، وهذا يتيح لكل فرد الحرية ‏الكاملة في أن يقتنع بما يشاء، وأن يعبر عما يراه بدون ضوابط أو حدود، لأنه لا أحد ‏يستطيع أن يقول له إن ما تراه خطأ، ومن ثم فإنه يحق له الدعوة إلى ما يرى صوابه، وأن ‏يجمع الأنصار حوله، كما يحق له تكوين حزب للدعوة بين الناس إلى هذه الآراء، ومحاولة ‏الوصول من خلاله إلى سدة الحكم لتنفيذ ما يرى صوابه، فإذا انهار الأساس الذي تبنى ‏عليه هذه الآليات -وقد بينا بطلانه- فعلى أي شيء يعتمد الذين يأخذون بهذه الآليات؟



والقارئ في تفصيلات الفكرة الديمقراطية والنظم الانتخابية المنبثقة عنها، وما يوضع ‏من أفكار ونظريات في تفسيرها يجد التخبط الشديد والتناقض فيها، ولذا فهم يتقلبون من ‏فكرة إلى أخري فقد كان أول أمرهم يفسرون السيادة بأنها للأمة بمجموعها وليس ‏بآحادها، ولا يمكن تجزئتها، ثم عدلوا عن ذلك بأن جعلوا السيادة للشعب بآحاده بحيث ‏يكون لكل فرد جزء من السيادة، ثم تداخل المعنيان معا ولم يعد هناك من فرق بينهما عند ‏التطبيق، وكانوا يقولون بوكالة النائب عن الناخبين ثم عدلوا عن ذلك، وقالوا لا داعي ‏لهذه الوكالة، والنائب نائب عن الشعب وليس عن أفراد، وهذه الأفكار والتصورات قد ‏ترتب عليها أمور متعارضات، وهكذا ففي كل فترة يتخبطون محاولين إيجاد مسوغ مقبول ‏عقلا لما اختاروه آلية أو طريقة عملية، ولن يجدوا من الناحية العقلية مثل هذا المسوغ، لأنه ‏لم يبن على أساس متين، وإنما بني على أساس التصورات الشخصية، والتفسيرات العقلية، ‏وهي تختلف من مفكر لمفكر آخر ومن زمن لزمن غيره.



قد يقول البعض: أنا آخذ هذه الأشكال والنماذج وأحشوها بمضمون ذي أصل ‏إسلامي، وهذا في الحقيقة قول غير ممكن الحدوث، لكن لو تنازلنا عن هذه الجزئية، فكيف ‏يقبل أصحاب هذا القول التنازل عن المضمون المستند إلى الأصل الديمقراطي، ويصرون ‏على التمسك بشكلها؟ ويقال لهم: إذا أقررتم بأن 
الشريعة لديها المضمون الصالح الذي لا ‏تحتاج معه إلى الاعتماد على الغير، أفلا يوجد عندها الشكل الملائم لذلك المضمون؟



إن الأشكال أطر حاوية للمضامين، فإذا قيل إنه لا توجد أطر إسلامية يمكن أن ‏تحتوي المضمون حتى يُحتاج إلى استعارتها من النظام الديمقراطي، كان ذلك قدحا في ‏وجود المضمون نفسه.



يحاول بعض الناس إيجاد أصول لهذه الآليات بعيدة عن تلك المسوغات الفلسفية ‏المتقدمة، حيث يذكرون أن من مسوغات الدعوة إلى الديمقراطية التنوع الذي خلق الله ‏عليه الإنسان، فتعدد طرق تفكير الإنسان وتنوع المشارب والاهتمامات، واختلاف ردود ‏الأفعال تجاه الأحداث، تبين أهمية تمكين الإنسان من التعبير عن رأيه وأحاسيسه، وامتلاكه ‏لحريته الكاملة في الاختيار المطلق، دون قيود تمنع من ذلك أو تعيقه‏، لكن هذا التصوير ‏الذي يربط حقيقة وجود الإنسان بامتلاكه لحريته الكاملة في الاختيار المطلق دون قيود، ‏هو في حقيقته معارض بفكرة (الدولة)، التي يقبل بها الديمقراطيون، بل جُلُّ جهدهم ‏منصب على الوصول إلى حكمها والسيطرة عليها. ‏



‏ ومهما قيل عن تسويغ فكرة الدولة فهي تضع في النهاية حدودا وعوائق على الحرية ‏المطلقة، ومهما قيل عن عقلانية هذه القيود، وأنها قيود لصالح الإنسان ولمنع الفوضى في ‏المجتمع، لكنها في النهاية تضاد فكرة الحرية المطلقة، مما يعني أن هذا الأساس الذي تحاول ‏الديمقراطية المعاصرة أن تقيم مشروعها عليه هو أساس منقوض، وما دام أن الفكر ‏الديمقراطي بكل ما عنده من حديث عن الحريات المطلقة قد قبل مبدأ تقييدها، فهذا ‏يدعونا إلى عدم تقبل فكرة الحرية المطلقة، كأساس تبنى عليه الديمقراطية المعاصرة، كما ‏يدعونا في 
الوقت نفسه أن نحدد من الذي له الصلاحية في وضع هذه القيود.‏



‏ والقيد يعني الحجر على التصرفات بحيث لا تتجاوز نطاقه، والقبول به هو في ‏حقيقته نوع من الخضوع لمن يضع هذه القيود، ولا يكون الإنسان كامل الحرية حقا إلا ‏عندما يكون غير خاضع لمن هو مثله، وهو يقود في النهاية إلى أن القيود لا بد أن تأتي من ‏خارج المصدر الإنساني، ولا يكون ذلك إلا من الله تعالى، عن طريق رسله الذين ‏اصطفاهم من خلقه لهداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم.‏



ويترتب على الأخذ بتلك الآليات المذكورة إجمالا أمور تفصيلية كثيرة منها:

الدعاية: الدعاية للنفس وبيان إمكاناتها وتفوقها على غيرها أحد التصرفات التي ‏يستخدمها الفكر الديمقراطي، لتعزيز طلب الثقة من الشعب، والوصول إلى الحكم، وهذا ‏التصرف مرفوض شرعًا إذ لا يجوز للمسلم أن يزكي نفسه، ولكن الإنسان الصالح أعماله ‏هي التي تخبر عنه وليس أقواله، فإذا اجتهد المسلم في العناية بالشأن العام وبالعمل ‏الاجتماعي ابتغاء وجه الله، وعرفه الناس من خلال ذلك ومدحوه على فعله وأحبوه، ‏فتلك عاجل بشرى المؤمن فعنْ أَبِي ذَرٍّ قال قيل لرسول الله ‏صلى الله عليه وسلم: "أرأيت الرجل يعمل العمل ‏من الخير ويحمده الناس عليه، قال: «{C}{C}تلك عاجل بشرى المؤمن{C}{C}» ‏(
صحيح مسلم). لكن لا ينبغي له هو أن ‏يعلن عن نفسه أو يزكيها قال الله تعالى: {{C}{C}فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى{C}{C}} [النجم:32]. ولا يصلح أن يقال: لا يدعو هو لنفسه بل يتولى ذلك الأمر أحد غيره، لأن هذا ‏التصرف نابع من الأسر النفسي الذي أسر به النظام الديمقراطي نفوس الناس، وما هذا ‏التصرف إلا تحايل على الشرع في هذه المسألة، ومع ذلك فقد ورد في الشرع ما يبين ‏النهي عن ذلك فقد أخرج مسلم في صحيحه: "عن همام بن الحارث أن رجلًا جعل يمدح ‏عثمان فعمد المقداد فجثا على ركبتيه وكان رجلًا ضخمًا فجعل يحثو في وجهه الحصباء ‏فقال له عثمان: ما شأنك؟ فقال إن رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم‏ قال: «إذا رأيتم المداحين فاحثوا في ‏وجوههم التراب»،‏ ‏ كما لا يصلح في هذا المقام أن يحتج محتج بقول يوسف عليه السلام‏‏: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]. لما سنبينه في الفقرة القادمة.‏



والدعاية اليوم صارت صناعة محكمة، تحتاج إلى نفقات عظيمة لا يقدر عليها إلا ‏أفراد قلائل جدًا، ولو أخذنا مثالا من العالم الغربي فإن تكلفة الدعاية الانتخابية في ‏انتخابات الرئاسة الأمريكية قد بلغت أكثر من 500 مليون دولار للمرشح، ولو أخذنا ‏مثالًا من محيطنا العربي فنجد أن تكلفة الدعاية الانتخابية لانتخابات مجلس الشعب المصري ‏قد كلفت جماعة كالإخوان المسلمين ما يزيد عن أربعين مليون جنيه مصري، فمن أين ‏يأتي الأفراد العاديون بمثل هذه المبالغ الطائلة؟ وما الذي يدفعهم حقيقة لبذل هذه الأموال ‏الضخمة، هل الرغبة في نفع الشعوب والسهر على مصالحها، وماذا يكون موقفهم لو ‏طولب المرشحون لإنفاق جزء منها على الشعب في غير زمن الانتخابات حسبة لله؟ ‏



‏ إن هذا الإنفاق الضخم يقود إلى أحد أمرين: إما أن لا يرشح نفسه ويخوض غمار ‏هذا العمل إلا من كان من كبار الموسرين المستعدين لبذل هذه النفقات الكبيرة، وهو ما ‏يحرم الفقراء، وأصحاب الدخول العادية وهم الغالبية في الشعوب،ويحولهم فقط لمجرد مانحي ‏أصوات للأغنياء الأثرياء، ومن ثم تصير الديمقراطية ديمقراطية الأغنياء وأصحاب النفوذ ‏والثروات، وهي بذلك تكون انتقائية لا يمارسها إلا النخبة الغنية، والأمر الثاني: أن يقايض ‏المرشح أو الحزب الشركات الكبرى ويدعوها لدعمه وفق معادلة معلومة: ساعدني في ‏الانتخابات أعوضك عن ذلك عند النجاح، وأساهم في التشريعات التي تخدم مؤسستك ‏وشركاتك (وكل هذا يتم على حساب الشعوب)، ‏أو أن المرشح لا يمكن أن يخوض غمار هذه الانتخابات إلا من خلال حزب ينفق ‏على حملته الانتخابية، وفي هذه الحالة يصبح العضو أسيرًا لدى الحزب لا يتمكن من التعبير ‏عن رأيه الحقيقي إذا كان مخالفًا لحزبه وإلا تعرض للفصل أو عدم ترشيحه مرة أخرى ‏ومساندته في الانتخابات. ‏



طلب الولاية: يقوم الفكر الديمقراطي على طلب الولاية للنفس، بل وعلى الصراع ‏من أجل ذلك، فما تكوين الأحزاب، ونشر الدعايات، وخوض الانتخابات، إلا للحصول ‏على الولاية، وهذا أمر منهي عنه، فالمسلم منهي عن طلب الإمارة لنفسه قال رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم: «إنا والله لا نولي على هذا العمل أحدًا سأله ولا أحدًا حرص عليه» (صحيح مسلم). وقال ‏صلى الله عليه وسلم: «لن، ‏أو لا نستعمل على عملنا من أراده» (صحيح مسلم). وقال ‏ صلى الله عليه وسلم ‏ لعبد الرحمن بن سمرة: «يا عبد الرحمن لا ‏تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة أوكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت ‏عليها» (صحيح 
البخاري). وهذا يشمل طلب الولاية بكل الطرق: سواء كان بطريق القهر والغصب لأمور ‏الناس، كما هو الحاصل في كثير من البلدان، أو كان بطريق الطلب ممن له أن يعطي ذلك ‏ويمنع، أو كان بطريق الترشيح في الانتخابات وطلب التأييد من الناس لذلك، ولا يصلح ‏معارضة هذه الأدلة وهديه ‏ صلى الله عليه وسلم ‏ في إسناد الإمارة بقول يوسف عليه السلام: {اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْ‌ضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]. وذلك لأمرين: الأمر الأول أن هذا من شرع من قبلنا، ‏والعلماء في شرع من قبلنا لهم قولان: الأول أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يأت شرعنا ‏بخلافه، والثاني: أن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا إلا إذا ورد في شرعنا، وعلى كلا الرأيين ‏لا يصلح أن يحتج بما فعله يوسف عليه السلام في شرعنا، فإن طلب الإمارة لم يأتِ في ‏شرعنا إلا على سبيل النهي عنه، والأمر الثاني: أن يوسف عليه السلام قال ذلك في ‏ظروف غير اعتيادية، وما جاء مخالفا للأصل فإنه يقتصر به على مورده ولا يتعداه لغيره، ‏كما يقرر ذلك أهل الأصول، فكيف يمكن أن يؤسس على الحالة الاستثنائية نظامًا ‏اعتياديًا؟ ‏



التعددية: من الآليات المعتمدة في الفكر الديمقراطي التعددية وهي أوسع من ‏السماح بتشكيل أحزاب متباينة في آرؤاها، فالتعددية التي ظاهرها عند البعض السماح ‏بالاختلاف في الرؤية حول بعض التصورات المتعلقة بأمور المصالح ونحوها، هي في ‏حقيقتها إباحة لجميع المعتقدات والأفكار والتصورات في المجتمع، وبأحقية كل فرد أو ‏جماعة في تكوين الآراء والمعتقدات الخاصة، ولعلم جماعة إسلامية تخوض في لعبة ‏الديمقراطية، بأن التعددية في الديمقراطية تعني ذلك، وأن عدم الموافقة عليه يعنى عدم الموافقة ‏على الديمقراطية، فقد صرحت تلك الجماعة أنه لا مانع لديها حتى بعد وصولها إلى الحكم ‏من السماح بقيام حزب شيوعي، وهو ما يتعارض تعارضًا واضحًا مع المقررات الإسلامية ‏إذ من الثابت أن من ارتد عن دينه فعليه أن يتوب أو يواجه الحد الشرعي، لا أن يسمح له ‏بتشكيل حزب ينظر إلى الأمور من خلاله، ويدعو الناس إلى تصوراته.‏



وتعد حرية تكوين الأحزاب السياسية أحد أهم مظاهر السماح بالتعددية السياسية ‏في المجتمعات وخاصة بعد تقرير مبدأ الاقتراع العام، لكن على أي شيء يبنى هذا 
التعدد أو ‏ما المسوغ له؟ هو تعارض الإرادات والرؤى والتصورات تعارضًا بينا بحيث لا يسع الجميع ‏أن يكونوا في حزب واحد، فالديمقراطية على ذلك تفرق ولا تجمع، وهو واضح حتى من ‏الممارسات داخل الحزب الواحد فإن الحزب يظل حزبًا واحدًا متماسكًا ما دام أعضاؤه ‏متفقين في أسسه العامة وتوافقت تصوراتهم إزاء القضايا المهمة، فإذا حدث خلاف مهم في ‏هذه الرؤى فإن الحزب يتحول إلى هيئة عامة تظلل عدة أجنحة متباينة فيما بينها، وقد ‏يصل الاختلاف إلى درجة لا يتمكن معها الأعضاء من التعايش فينشق الحزب إلى حزبين ‏أو عدة أحزاب، مما يعني أن الديمقراطية لا تنمو إلا في ظل الاختلاف



الأغلبية:‏ عند اختلاف الرؤى في النظام الديمقراطي ينظر إلى الأغلبية على أنها ممثلة للإرادة ‏الشعبية العامة، وهذا يعطيها صفة العصمة أو صفة الصواب، بينما يلتصق برأي الأقلية ‏صفة الخطأ، لكن من حق الأقلية أن تحاول ضم من تستطيع إلى صفوفها والقبول ‏بأطروحاتها لتحقيق الأغلبية لتلك الآراء، حتى تتحول من صف الرأي الخاطئ إلى صف ‏الرأي الصواب، ويحدث العكس ويتبدل الحال للأغلبية السابقة، وهذا بدوره ينشئ صراعًا ‏كبيرًا بين فئات الشعب في محاولة ضم أكبر عدد للصفوف، لتكتسب رؤيتهم العصمة ‏ولتكون معبرة عن الإرادة العامة، مع ما يصاحب ذلك من كل الظواهر التي توجد في ظل ‏الصراع، وهكذا يمر الحق والصواب بدورات متتالية متعاقبة، فما يكون اليوم صوابًا قد ‏يصبح بعد حين خطأ لا لشيء سوى أن القائلين به تمكنوا من استقطاب شريحة كبيرة من ‏الناس للموافقة عليه، وما كان بالأمس صوابًا قد يصير خطأ لا لشيء سوى أن القائلين به ‏لم يستطيعوا المحافظة على الأغلبية التي كانت معهم، وذلك بغض النظر في كلا الحالين عن ‏مدى صواب تلك الأقوال أو خطأها من الناحية الحقيقية، ثم هذه الأغلبية قد تصبح أغلبية ‏مستبدة أكثر من أي نظام استبدادي، وليس هناك من وسيلة ديمقراطية لإيقاف هذا ‏الاستبداد إذا استطاعت أن تحافظ الأغلبية على وضعها في المؤسسات السياسية، ويظهر ‏هذا بجلاء في الشعوب التي تتكون من أكثر من عرقية فالعرقية ذات الغالبية العددية على ما ‏سواها من العرقيات الأخرى مؤهلة للاستبداد، في حين لا تملك العرقية الأخرى أية وسيلة ‏ديمقراطية لمنع هذا الاستبداد ويبقى الطريق المفتوح هو الصدام مع الأغلبية أو التعاون مع ‏أعداء الوطن، ويصبح المحافظة على حقوق الأقليات العرقية مرهونا بالحالة الأخلاقية ‏للأغلبية.‏



فآليات الديمقراطية تعمل على توطين الفساد وإعطائه الصبغة الشرعية حيث يكثر ‏التحايل بهذه الآليات عبر التصويت، ويتم تغيير القوانين ويصبح هذا التغيير مشروعًا ليس ‏إلا لصدوره عن الأغلبية حتى وإن كان مجافيا للصواب، فتستطيع الأغلبية تغيير القانون ‏الذي يجرم بعض تصرفاتها لتصبح تلك التصرفات بعد التصويت صوابًا، والأمثلة كثيرة، ‏فآليات الديمقراطية لا تمنع من تقنين 
الظلم وجعله شريعة ينبغي على الناس قبولها والعمل ‏بها.



وهناك وجه آخر لمشكلة الأغلبية فإنه من المستقر المعلوم حتى في المجتمعات المتقدمة ‏أن شريحة الأكثرية ليست مثقفة عالمة فاعلة، وأن الطبقات 
الدنيا والمتوسطة هي التي تمثل ‏الغالبية أو الأكثرية، أما الطبقات العليا فهي تمثل الأقلية في الناس، وفي هذا تغليب للكثرة ‏الجاهلة أو غير المثقفة أو غير المؤهلة على القلة العالمة الخبيرة، حتى يستوي في ميزان ‏الديمقراطية من وصل إلى أعلى الدرجات العلمية مع من ليس له من ذلك نصيب ولو كان ‏الموضوع يتعلق بتخصص ذلك العالم، كما يستوي فيها أتقى الاتقياء مع أفجر الفجار.‏



آليات الديمقراطية لا تؤدي إلى التعبير عن إرادة الناخبين: ‏

إخفاق الآليات الديمقراطية في التعبير عن إرادة الناخبين، فبعد انتخاب النواب ‏ينفصل النواب عن ناخبيهم فلا تكون لهم عليهم سلطة، ويظل الناخب في كل ذلك يعبر ‏عن آرائه وتصوراته، أو آراء الحزب وتصوراته، كما أن فكرة تعبير النائب عن آراء ناخبيه ‏هي في الحقيقة فكرة ساذجة فإن الناخبين للنائب قد يتجاوزون العشرات من الآلاف، ‏ولكل منهم رأيه بحكم ثقافته ومصالحه، التي تختلف في قليل أو كثير عن آراء الآخرين، ‏فكيف يكون النائب معبرا عنهم ناهيك عن الذين لم ينتخبوه، وإذا قيل بأن الناخبين إنما ‏ينتخبونه من أجل البرنامج الذي يعلنه، لكن هذا القول لا قيمة له لأن لا يوجد شيء يلزم ‏النائب بعدم الخروج على برنامجه، ثم إن هناك أمورا قد تجد لم تكن موضوعة من قبل في ‏برنامج النائب، ففي هذه الحالة فإنه يتكلم فيها بمجرد تصوراته والتي قد تكون معارضة ‏لآراء كثير أو قليل من منتخبيه، وإذا قيل بأنه يرجع لناخبيه ويستطلع آراءهم فإن هذا قول ‏مغرق في الوهم فكيف يجمع هذه الآلاف؟ وكيف يستطلع رأيهم؟ وكيف يحسم الخلاف ‏إذا اختلف الناخبون فيما بينهم؟ وهل المداولات التي تتم في البرلمان سوف تنتظر كل ‏نائب حتى يرجع إلى ناخبيه؟ ‏



الفراغ الأخلاقي:‏

الديمقراطية نظام بلا أخلاق، إذ أنه لم يؤثر في الدول التي تبنته وعملت به ودعت ‏إليه، فهو كالجسد الذي لا روح فيه، بل إن أكثر الدول استغلالًا لغيرها وظلمًا لها هي ‏الدول التي تعد رائدة في هذا المجال، فالديمقراطية البريطانية كما يقال هي أم الديمقراطيات، ‏والثورة الفرنسية هي التي أشاعت نظرية السيادة الشعبية، وأمريكا اليوم تتربع على عرش ‏الدول الديمقراطية العاملين بها والداعين إليها، ومع ذلك فلم تحجز هؤلاء ديمقراطيتهم عن ‏الظلم والطغيان وسرقة ثروات الدول الأخرى، وقد تعرضت دول العالم العربي والإسلامي ‏للاحتلال من هذه الدول الثلاث وغيرها وعانت من ذلك الكثير وتعرض رجالها للقتل ‏وثرواتها للسرقة والنهب، وما زال هذا النهج مستمرًا، فهل كان في الديمقراطية خلق ‏يمنعهم أو يحجزهم عن ارتكاب كل هذه القبائح؟ ‏



قبول الحل الديمقراطي يقضي على الحل الإسلامي:

وقبول الحل الديمقراطي هو في حقيقته الموافقة على كونه بديلًا عن الشريعة، فلا ‏يمكن مع وجود هذا الحل أن يطالب المسلمون حكامهم بتطبيق الشريعة، لأنه يقال لهم ‏والحالة هذه :أمامك الشعب وهو حجة يفصل في هذه المسألة، وهنا يقول أصحاب الحل ‏الديمقراطي: هذه فرصتنا التي ننتظر حيث يخلى بيننا وبين الناس، فنقنعهم بما لدينا من ‏التصور الإسلامي للسياسة، لكن كأن هؤلاء نسوا أو تناسوا أن كل النظم في الدول ‏الإسلامية التي سلكت هذا الطريق الديمقراطي تنص في قوانينها على عدم جواز إنشاء ‏أحزاب على أسس دينية، وهذا مما يبين أن الديمقراطية في فهم الساسة تقترن بالعلمانية، ‏والغرب الديمقراطي (الغاطس في ديمقراطيته إلى الأذقان)، لن يقف مع المسلمين ‏‏(الديمقراطيين) في هذه الحالة، بل سيقف مع أصحاب الحلول غير الديمقراطية إذا تعلق ‏الأمر بالإسلام، ولسنا ندعي علم الغيب بذلك، فأمامنا موقف الغرب من وصول الجبهة ‏الإسلامية للإنقاذ للحكم في الجزائر، والمثل القريب في 
فلسطين وموقفهم من حركة ‏حماس.‏



مقارنة الديمقراطية بغيرها مقارنة ناقصة:‏

هناك من يقر بأن الديمقراطية بها أخطاء كثيرة ويسلمون بكل ما ذكر من عيوبها ‏لكنهم يرونها على ما فيها من شر وأخطاء هي خير من غيرها بمرات كثيرة، وهؤلاء إنما ‏يقيمون هذا الكلام على أساس مقارنة ناقصة، فهم يقارنون ذلك بالأنظمة الاستبدادية ‏القائمة على القهر والظلم، أو على بعض النماذج التي تعد هي خارجة عن أصولها وليست ‏مطبقة لها، لكن لو قورنت الديمقراطية بما يقدمه الإسلام في مجال نظام الحكم لظهرت ‏عيوبها وسوآتها في مقابل النظام الكامل المتكامل، ولعل بعض من يقول بخيرية النظام ‏الديمقراطي يقول: نحن لم نضعه في مقابل الإسلام وإنما نحن نطالب به للخروج من حالة ‏الاستبداد التي تعيش فيها الشعوب، لكن يقال لهم: إن الذي ينقص في هذه الحالة ليس هو ‏النظام العملي حتى نأتي به من خارج محيطنا، ولكن الذي ينقص هو الرغبة والإرادة في ‏تمكين الشعوب، وإيجاد الرغبة والإرادة لا يكون بالدعوة إلى الديمقراطية، لأنه توجد من ‏الوسائل الديمقراطية ما يكفي لجعل الديمقراطية حبرا على ورق عند عدم الرغبة في ‏تطبيقها، أما إذا وجدت الرغبة فلماذا اللجوء إلى نظام فاسد وترك العودة إلى النظام ‏الإسلامي؟



تعدد صور الديمقراطيات:

ولو أن هؤلاء انعتقوا من ربقة المتابعة للغرب لما احتاجوا إلى كل هذا العناء، فإن ‏الديمقراطية ليست شيئا واحدا أو محددا، ولم ينزل بها تشريع من عند الله، بل كانت تتغير ‏وتتبدل في صور ممارساتها، بإزاء العقبات والمشاكل والتناقضات التي كانت تقابلهم، ‏كمشكلة التوفيق بين مصالح الفرد ومصالح الأقلية ومصالح الأكثرية، وكانت كل الصور ‏التي ظهرت فيها الديمقراطية على مدار تاريخها تمثل حلولا أو محاولات للتغلب على هذه ‏المشكلات التي تعترضهم، لكن ذهنية التابع الذي لا يصدر عن رؤية أصيلة، تجعله ينظر ‏إلى الديمقراطية وكأنها شريعة محددة، لا يملك بإزائها إلا المتابعة التامة، والنقل عنها من غير ‏تصرف.‏



ماذا يعني رفضنا للديمقراطية؟‏

لكن رفضنا للديمقراطية لا يعنى -كما يصور ذلك الديمقراطيون- إقرار التسلط ‏والرضا به، وإهدار مكانة الشعوب، والاستهانة بإرادتها، فإن تصوير الأمور على أنه إما ‏القبول بالديمقراطية وإما القبول بالديكتاتورية هو تسطيح مخل بالمسألة، وهو نوع من ‏الإرهاب الفكري الذي يحاول أن يجر الناس إلى قبول الديمقراطية بالإكراه، وهو مشابه ‏لقول بوش -عندما أراد أن يجر الدول معه في العدوان على الآخرين- من ليس معنا فهو ‏علينا.‏



لقد حرر الإسلام الناس من عبوديتهم لبعضهم البعض حينما أخرج سلطة التشريع ‏من أيدي البشر والخلائق جميعًا، وجعل ذلك من خصائص الربوبية، فالإنسان في ظل ‏الإسلام هو حر حقًا، لأنه لا يخضع إلا للذي خلقه ورزقه، وحتى المسائل التي لم يأت ‏بشأنها نص قاطع، فإن الرأي فيها لا يكون قولًا بالاختيار عن طريق أكثرية الأصوات، ‏وإنما يكون بحثًا في النصوص والدلائل للوصول إلى أشبه الأشياء، بما يريده الله تعالى الذي ‏خلقنا ورزقنا، وأحْيانًا بعد أن لم نكن شيئًا مذكورًا.‏



‏ فالمسلم في كل أحواله يتمتع بالحرية الحقيقية، لا الحرية الصورية في الديمقراطية، ‏والتي يكون فيها الإنسان عبدا للسلطة التشريعية، فكل الذي فعله الفكر الديمقراطي في ‏هذا الباب أنه نقل الإنسان من عبودية الفرد في الأنظمة الاستبدادية والديكتاتورية، إلى ‏عبودية الجماعة في النظام الديمقراطي.‏



إن كل ما يمكن أن تقبله النفوس السوية أو تدعو إليه، مما دل عليه الفكر ‏الديمقراطي، قد دلت عليه من قبل شريعة الإسلام، لكن على نحو صافٍ خالٍ من ‏الشوائب العالقة بالديمقراطية، فمثلًا عمد الفكر الديمقراطي في سبيل الحد من طغيان ‏السلطات أن دعا إلى ما عُرف بمسألة الفصل بين السلطات الثلاث (التشريعية-التنفيذية-‏القضائية) ورغم أن الفكر الديمقراطي لم يستطع أن يحقق ذلك فعلا تحقيقا كاملا، ومع ‏ذلك فقد جعل السلطة التشريعية في يد البشر (المجلس التشريعي) وهذا من أشد الطغيان، ‏وأما في شريعة الإسلام فإن التشريع ليس من اختصاص البشر بل هو لله وحده، وكل ما ‏للبشر في هذا المجال هو الاجتهاد في ضوء الشريعة الإلهية، على أمل إدراك حكم الشارع ‏في هذه المسائل التي تحتاج إلى الاجتهاد.‏



وأما السلطة القضائية في الشريعة فهي سلطة مستقلة حقًا، ليس لأحد عليها سلطان ‏خارجي حتى لو كان الأمير، ولا يملك أحد إلزامه بشيء، خارج عما شرعه الله تعالى، بل ‏لو أراد الأمير أن يلزمة بالقضاء على أحد المذاهب الإسلامية لم يكن له ذلك يقول ابن ‏قدامة: "ولا يجوز أن يقلد القضاء لواحد على أن يحكم بمذهب بعينه، وهذا مذهب ‏
الشافعي ولم أعلم فيه خلافا، لأن الله تعالى قال: {{C}{C}فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ{C}{C}} [ص:26]. والحق لا ‏يتعين في مذهب، وقد يظهر له الحق في غير ذلك المذهب، فإن قلده على هذا الشرط بطل ‏الشرط، وفي فساد التولية وجهان بناء على الشروط الفاسدة في البيع"‏، ‏وقال ابن القيم: "صرح أصحاب الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى بأن الإمام إذا شرط على القاضي أن ‏لا يقضى إلا بمذهب معين بطل الشرط، ولم يجز له التزامه، وفي بطلان التولية قولان مبنيان ‏على بطلان العقود بالشروط الفاسدة"‏، وقال ابن حزم: "واتفقوا على أنه لا يحل لقاض ‏ولا لمفت تقليد رجل بعينه"‏، وقال الماوردي: "فَلَوْ شَرَطَ الْمُوَلِّي وَهُوَ حَنَفِيٌّ أَوْ شَافِعِيٌّ ‏عَلَى مَنْ وَلَّاهُ الْقَضَاءَ أَنْ لَا يَحْكُمَ إلَّا بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَوْ أَبِي حَنِيفَةَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: ‏أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ عُمُومًا فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، فَهَذَا شَرْطٌ بَاطِلٌ سَوَاءٌ كَانَ ‏مُوَافِقًا لِمَذْهَبِ الْمُوَلِّي أَوْ مُخَالِفًا لَهُ، وَأَمَّا صِحَّةُ الْوِلَايَةِ فَإِنْ لَمْ يَجْعَلْهُ شَرْطًا فِيهَا ‏وَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْأَمْرِ أَوْ مَخْرَجَ النَّهْيِ وَقَالَ قَدْ قَلَّدْتُكَ الْقَضَاءَ فَاحْكُمْ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ‏رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِ الْأَمْرِ أَوْ لَا تَحْكُمُ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى وَجْهِ النَّهْيِ كَانَتْ الْوِلَايَةُ ‏صَحِيحَةً وَالشَّرْطُ فَاسِدًا سَوَاءٌ تَضَمَّنَ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ ‏إلَيْهِ سَوَاءٌ وَافَقَ شَرْطَهُ أَوْ خَالَفَهُ وَيَكُونُ اشْتِرَاطُ الْمُوَلِّي لِذَلِكَ قَدْحًا فِيهِ إنْ عَلِمَ أَنَّهُ اشْتَرَطَ ‏مَا لَا يَجُوزُ، وَلَا يَكُونُ قَدْحًا إنْ جَهِلَ لَكِنْ لَا يَصِحُّ مَعَ الْجَهْلِ بِهِ أَنْ يَكُونَ مُوَلِّيًا وَلَا ‏وَالِيًا، فَإِنْ أَخْرَجَ ذَلِكَ مَخْرَجَ الشَّرْطِ فِي عَقْدِ الْوِلَايَةِ فَقَالَ قَدْ قَلَّدْتُكَ الْقَضَاءَ عَلَى أَنْ لَا ‏تَحْكُمَ فِيهِ إلَّا بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَوْ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ كَانَتْ الْوِلَايَةُ بَاطِلَةً لِأَنَّهُ عَقَدَهَا عَلَى ‏شَرْطٍ فَاسِدٍ، وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ: تَصِحُّ الْوِلَايَةُ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ"‏‏.‏



‏ وهو ما يبين استقلال القضاء في الإسلام، وأنه ليس لولي الأمر أن يتدخل فيه، بل لو ‏قضى القاضي بما يخالف اجتهاد ولي الأمر، لم يكن له لينقض كلام القاضي، يقول ابن ‏القيم: "وعن عمر أنه لقي رجلًا فقال :ما صنعت؟ قال :قضى عليٌّ وزيد بكذا، قال :لو ‏كنت أنا لقضيت بكذا، قال :فما منعك والأمر إليك؟ قال: لو كنت أردك إلى كتاب الله ‏أو إلى سنة نبيه ‏صلى الله عليه وسلم ‏ لفعلت، ولكني أردك إلى رأي، والرأي مشترك، فلم ينقض ما قال ‏عليٌّ وزيد".



وأما السلطة التنفيذية فإنه لا يجوز اغتصابها والتغلب عليها، واستخدام القوة ‏للحصول عليها، وإنما يشرع أن يكون ذلك برغبة المسلمين ورضاهم وشوراهم من غير ‏إجبار أو إكراه، وقد بينت في مقال سابق ‏ دور الأمة في ذلك، وسقت على ذلك العديد ‏من الأدلة.‏



‏ ويبين أهل العلم أن السلطة التنفيذية (الخلافة) لا تمنحها لمستحقا إلا الأمة، فقد ‏أجمع أهل العلم على أن نصب الإمام فرض كفاية على الأمة، وهذا يعني أنه مفروض ‏على الأمة من حيث مجموعها لا من حيث أفرادها، ولا يمكن أن يقال أن الأمة مفروض ‏عليها القيام بذلك العمل بينما لا يكون لها دور في العمل نفسه، هذا كلام متناقض يدفع ‏بعضه بعضا، قال القرطبي رحمه الله: "ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة، ولا بين ‏الأئمة إلا ما روي عن الأصم حيث كان عن الشريعة أصم، وكذلك كل من قال بقوله، ‏واتبعه على رأيه ومذهبه"‏ وقال النووي: "وأجمعوا على أنه يجب على المسلمين ‏نصب خليفة"‏.



‏ وقد تحدث الماوردي عن حالة ما إذا وقع الإمام في أسر يد عدو قاهر لا يقدر على ‏الخلاص منه ثم قال: "وللأمة اختيار من عداه من ذوي القدرة"‏، وبين أنه لو عقدت ‏الخلافة لرجلين، وأشكل معرفة المتقدم منهما، فلو تنازعاها، وادعى كل واحد منهما ‏أنه الأسبق، لم تسمع الدعوى وعلل ذلك بقوله: "لأنه لا يختص بالحق فيها، وإنما هو حق ‏المسلمين جميعًا"‏، فكون نصب الإمام واجبًا على الأمة، يعني أن الأمة هي التي يصح ‏منها ذلك، وأنه لو استبد بذلك واحد أو جماعة بدون موافقتها لم يصلح ذلك، وهذا هو ‏الذي يليق بمكانة هذه الأمة الشريفة التي هي خير أمة أخرجت للناس من ذرية آدم عليه ‏السلام، وقد قال 
عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخليفة الراشد الملهم على منبر رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم ‏يوم الجمعة بمحضر من الصحابة كلهم: "من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين ‏فلا يتابع هو ولا الذي تابعه تغرة أن يقتلا".



ثم إن للمسلمين الحق في الاحتساب والإنكار على أمرائهم إذا خرجوا عن الجادة ‏بطرق الإنكار المعروفة التي أقرتها الشريعة، فقد أقر الرسول صلى الله عليه وسلم ‎‏ محاسبة خالد رضي الله عنه ‏من قبل جنوده عندما امتنعوا من تنفيذ أمره الباطل، عندما أخطأ في اجتهاده وقتل الذين ‏قالوا صبأنا ولم يحسنوا أن يقولوا: "أسلمنا"، وقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد مرتين» (
صحيح البخاري).‏



‏ وهذا أبو بكر رضي الله تعالى عنه يقر مبدأ الحسبة السياسة عقب توليه الخلافة ‏مباشرة إذ خطب الناس وقال لهم: "إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني"، مما يبين أن ‏الحسبة ليست قاصرة على الرعية دون الولاة، لأن الكل في ميزان الشرع عبد لله، والحاكم ‏والمحكوم كلاهما مطالب بعبادة الله وحده وطاعته واتباع ما شرعه ، وما طلبه أبو بكر ‏رضي الله عنه وأرضاه من الصحابة لا يتـأتى منهم إلا بعد المتابعة والمراقبة التي بها ‏يتمكنون من معرفة الإحسان أو الإساءة، وهذا عمر رضي الله تعالى عنه يقول: "إني والله ‏ما أرسل عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم ولكن أرسلهم إليكم ‏ليعلموكم دينكم وسنتكم، فمن فعل به شيء سوى ذلك فليرفعه إليَّ فوالذي نفسي بيدي ‏إذًا لأقصنِّه منه"، فوثب عمرو بن العاص فقال: "يا أمير المؤمنين أو رأيت أن كان رجل من ‏المسلمين على رعية فأدب بعض رعيته أئنك لمقتصه منه؟"، قال: "أي والذي نفس عمر بيده إذ ‏لأقصنه منه، وقد رأيت رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم ‏ يقص من نفسه: ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم ‏ولا تجمروهم ‏ فتفتنوهم ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم ولا تنزلوهم الغياض ‏ ‏فتضيعوهم"؛ فعمر رضي الله عنه يحض رعيته على عدم السكوت على ظلم الولاة، ويوجه ‏الولاة بعدم منع المسلمين حقوقهم والعمل على راحتهم والحفاظ عليهم.‏



لكن مع ذلك فإن النظام الإسلامي لا يفصل بين السلطة التنفيذية والسلطة ‏القضائية، وأما السلطة التشريعية فهي أصلا ليست للبشر، وبالنظر إلى ما يقدمه النظام ‏الإسلامي لمنع الطغيان والاستبداد أنه لم يجعل التشريع بيد البشر بينما النظام الديمقراطي لم ‏يفعل شيئًا أكثر من أن يجعل التشريع -بعدما كان في ظل الاستبداد في يد فرد أو فئة- في ‏يد مجلس يزيد عدده قليلًا عن الحالة الأولى وأما أصل الاستبداد والظلم والجور فلم ‏تتخلص منه إذ جعلت التشريع بيد البشر.



‏ وإذا تبين لنا هذا فما الحاجة إلى ما يدعيه البعض حول أسلمة الديمقراطية، فإن ‏كانت الأسلمة تعني إقرار ما جاءت به الديمقراطية مما يوافق الإسلام ومما يخالفه كان هذا ‏من قبول الباطل ونشره بين المسلمين باسم الإسلام، وإن كانت الأسلمة تعني أنه لا يقبل ‏منها إلا ما يقره الإسلام، فلماذا الحرص على نسبته للديمقراطية ولا ينسب للإسلام نفسه؟ ‏على أنه ما من شيء حسن أتت به الديمقراطية بدون عيوب، إلا وفي الإسلام ما هو أفضل ‏منه وأكمل، فما دمنا أقررنا أن الإسلام دين ودولة، وأن الإسلام أكملُ الشرائع، فكيف ‏يقوم في الذهن أن شريعة الإسلام تخلو عن بعض الأمور التي يحتاج إليها المسلمون في ‏تنظيم دولتهم، بحيث يأخذونها من غيرهم.

المصدر: http://ar.islamway.net/article/14645/%D8%A3%D8%B3%D9%84%D9%85%D8%A9-%D8%...

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك