نشأة الكون بين الأسطورة والعلم

معاذ قنبر

 

إذا تصوَّرنا إنسان العصر الحديث، وقد حُرم من كلّ معارفه السَّابقة الَّتي حصل عليها تراكمياً، نستطيع أن نتخيَّل وضع الإنسان القديم الَّذي أنتج الأسطورة، في توقه إلى فهم نفسه، وفهم الكون، وظواهر الطَّبيعة الَّتي تتحكَّم بحياته.

 فمنذ أن انتصب إنسان العصور الحجرية على قائمتين، رفع رأسه إلى السَّماء فرأى نجومها وحركة كواكبها، كما أدار رأسه فيما حوله، فرأى من الألغاز على الأرض ما يوازي ألغاز السَّماء، وقد حاول وضع تصوّرات عن أسباب وجود كلّ تلك الألغاز الَّتي تحيّره، فكانت الأسطورة، كطريقة للتَّفسير، لا تقلّ غايتها عن ما نقوله اليوم عن البحث العلمي، كطريقة من طرق التَّفسير، وإن اختلفت الأدوات والطُّرق والمعارف. على اعتبار أنَّ جوهر الأسطورة وغايتها، يتقاطع تماماً مع العلم الحديث. من خلال البحث الدَّائم عن محاولات التَّفسير، وهذا ما يجعلها تختلف تمام الاختلاف عن الخرافة.

وقد اعتقد ذلك الإنسان القديم أنَّ وراء كلّ مظهر من مظاهر الكون، وحركة من حركات الطَّبيعة، روحاً إلهية فاعلة، فالسَّماء والأرض آلهة، أو تحرّكها آلهة. إذ تتَّخذ أساطير الخلق والتَّكوين مكان المركز في أي منظومة ميثولوجيَّة، فهي تتحدَّث عن أصل الكون وكيف ظهر إلى الوجود، وأصل الآلهة وأنسابها، باعتبار أنَّ نشأة الكون، مرتبط ارتباطاً عضوياً بوجود أو تكون الآلهة. فهو يعرف أنّ الكون نشأ من أمر مجهول، والمجهول هو ما لا يمكن معرفته، إنَّه الظَّلام الَّذي لا يمكن أن يرى ما فيه، هذا التَّصوُّر الَّذي بدأ مع الإنسان القديم. فقد كان مشهد اللَّيل الجليل، وقبَّة السَّماء حافلة بنجومها وشهبها ومذنَّباتها، من أكثر المشاهد تأثيراً في نفس الإنسان القديم، فكان اللَّيل بالنّسبة إليه هو الأصل، والنَّهار هو الفرع، اللَّيل هو الأزلي، والنَّهار هو الحادث، عن عتمة اللَّيل أخذ الكون بالتَّمايز، وعن العماء الأوَّل ظهرت الموجودات وترتَّبت، كما تظهر نجوم السَّماء في جوف اللَّيل في كلّ يوم، وعن الظُّلمة الخافية، ظهرت المرئيات الواضحة، والخلق فعل سري، يسمو على الأفهام، ولذا فإنَّه يصدر عن اللَّيل والظُّلمة، لا عن النَّهار والنُّور، والعتم هو الرَّحم البدئي الَّذي حمل الكون وأنجبه . [1]

ومع ذلك فإنّ تطوُّر المعارف البشريَّة لم تلغي السُّؤال الأساسي وراء كلّ أسطورة وفلسفة وعلم القائل: ماذا خلق الخالق قبل خلق الكون؟ سؤال محيّر، وقد يكون لا معنى له، كون الخلق بدأ مع فعل الخلق، كما بدأ الوجود مع الوجود. لكنّ ردّ أوغسطين بأنَّه كان يعد الجحيم لأولئك الَّذين يفكّرون تفكيراً أعمق ممَّا ينبغي. لم يعد يفي بالغرض، إنَّه سؤال جادّ، سيطر على التَّفكير البشري، ولعلَّ رأي أوغسطين نفسه، أنَّه لم يخلق شيء قبل خلق السَّماء والأرض، قريب من الأفكار العلميَّة الحديثة.[2]

إنَّ الأسئلة الَّتي تثار حول أصل الأشياء لا تزال محيّرة، لا سيّما السُّؤال عن أصل الكون ذاته، إنَّ التَّفكير بالأصل له التَّأثير المدهش، كيف يمكن لشيء غير موجود، أن يأتي إلى الوجود؟ النَّوع الوحيد الَّذي كان مقبولاً في التَّفسير الأسطوري، ثمَّ العلمي الفلسفي، هو أنَّه لا بدَّ أن ينشأ الشَّيء الجديد بصورة مَّا، نتيجة تحوّل شيء سابق مختلف، هذا ما قاله مثلاً الفيلسوف اليوناني لوكريتس (لا يمكن لشيء أن يأتي من لا شيء). أي لا يوجد غذاء مجاني. لكن عندما يكون الشَّيء المعني هو الكون بأكمله، فإنَّ هذا الجواب لم يعد كافياً، إذ يعتقد البعض، على الأقلّ من علماء الكون، أنَّ الكون قد يكون الغذاء المجاني. لنفترض أنَّ هناك كرة تتوسَّع مع توسّع الكون، إنَّها تتوسَّع كلّ يوم، دعنا نعود إلى الوراء في الزَّمان، حيث الكون يتقلَّص، والكرة أيضاً، فإذا ما عدنا عكساً إلى 13،7 مليار سنة، ستتقلَّص الكرة لتصبح على شكل نقطة صغيرة بلا أبعاد، وبعد ذلك ماذا؟ لاشيء، لقد اختفت الكرة، أعد الشَّريط إلى الأمام من جديد، ستجد أنَّ الكرة انبثقت إلى الكون من لا شيء، أمَّا لماذا انبثقت في تلك اللَّحظة بالذَّات أي قبل 13،7 مليار عام، ومن هذا الفراغ؟ لا يوجد جواب شاف.

إنَّ الكون في الواقع، لم يخلق في لحظة معيّنة مناسبة أو غير مناسبة، لأنَّ هذه اللَّحظة الزَّمنيَّة نفسها، خلقت مع خلق الكون، لأنَّ الزَّمان كالمكان، وجدا مع الانفجار الكبير. وبالتَّالي عند التَّساؤل عن حالة وتاريخ الكون قبل لحظة الانفجار الكبير، نجيب أنَّنا لا نعرف ممَّا يكفي عن الطَّبيعة الكموميّة للثَّقالة لكي نتأمَّل فيه على الأقلّ بوعي وإدراك، ولكي نريح أنفسنا من عناء هكذا تساؤل، يمكننا القول أنَّنا اعتدنا على فكرة الصّفر المطلق لدرجة الحرارة، بحيث من المستحيل أن نخفض درجة الحرارة إلى ما يمكن أن يكون دون ال 273،16 درجة مئوية، هذا الأمر غير ممكن لا لأنَّه صعب جدّاً، بل ببساطة لأنَّ درجة حرارة أدنى من ذلك لا معنى لها، إذ لا يمكن عندها التَّحدُّث عن درجة حرارة أقلّ من عدم وجود حرارة، وعلى النَّحو نفسه قد يكون علينا أن نعتاد على فكر صفر مطلق للزَّمن  أي لحظة من الماضي يستحيل أن نتخيّل قبلها تعاقباً في الأسباب والنَّتائج.[3]

لقد اعتقد أينشتاين أنَّ الزَّمان يجب أن يكون لا نهائي في كلا الاتّجاهين، وإلاَّ سوف تكون هناك أسئلة مربكة حول تكون الكون، وكان هناك اعتقاد بأنّ الجرم الواقعي الَّذي يتقلَّص بتأثير الجاذبيَّة – جاذبيته هو نفسه – يكون فيه ضغط، أو سرعات جانبيَّة، تمنع أن تتهاوى المادَّة كلُّها معاً، إلى النّقطة نفسها، حيث ستكون الكثافة لانهائيَّة، وبمثل ذلك، فإنَّنا عندما نتابع تمدّد الكون وراءً في الزَّمان، سنجد أنَّ مادَّة الكون تنبثق كلُّها من نقطة ذات كثافة لانهائيَّة، وكان يطلق على هذه النُّقطة إسم المفردة، وهي ما ستكون عنده بداية ونهاية الزَّمان.[4]

وبالمقابل، فإن أوضح الأمور بالنسبة للفضاء، هي أنه سيستمر في الامتداد والامتداد والامتداد، وقد ثبت ذلك بواسطة الأجهزة الحديثة التي تتيح لنا أن نسبر أعماق الفضاء، ونحن نرى هكذا بلايين من المجرات التي تحوي كل منها على بلايين من النجوم، وتوجد كواكب حول الكثير من هذه النجوم، ويبدو من شبه المؤكّد أنَّ الكون متغير في الزمان، وليس ثابتاً منذ الأزل. كيف بدأ الكون؟ تدل عدة مبرهنات على أن الكون بدأ بانفجار كبير، أي عند نقطة يكون فيها الكون بأسره وبكل ما فيه، مضغوطاً في نقطة واحدة لها كثافة لانهائية، تنهار عند هذه النقطة نظرية النسبية العامة، وبالتالي لا يمكن استخدامها في التنبؤ بالطريقة التي بدا فيها الكون، وهذا يدخل في مجال التأمل النظري الرياضي، الذي يحاول البحث الدائم عن بداية.

 

ومع ذلك، يجب التنبيه، أننا حين نتحدث عن نشأة الكون من الانفجار الكبير، يجب أن نميز، بين نمطي الإجابة التي تقدمها الأسطورة والعلم. ففي العلم، الفضاء يكون في الكون بدلاً من أن يكون الكون في الفضاء، أي قبل نشأة الكون لا يوجد شيء لينشئه، كما أن الإنفجار حدث في كل مكان، وليس في نقطة في الفضاء تصارع فيها الآلهة، أو قرروا أن ينشأ الكون من ماء أو هواع أو دماء أو أي شيء آخر، فالإنفجار الكبير بالمعنى الفيزيائي الحديث، هو إنفجاراً للفضاء، وليس في الفضاء. فكيف كانت تصورات نشأة الكون في الأسطورة، والعلم؟.

نشأة الكون في الأسطورة:

كان و لا يزال هناك تساؤل فلسفي، قائم على أحساس أولي بأنّه لا بدّ من وجود سبب أول للوجود، وحيث أنك تستطيع في عالم قائم، أن تشرح أي حدث، بالاعتماد على حدث سابق، فإن وجود العالم نفسه، لا يمكن أن يُشرح بهذه الطريقة ما لم يكن له بدء.[5] ولعل ما يجمع كل تصورات نشأة الكون علمياً أو من خلال الأساطير، هو اصرارها على فكرة البداية، وحتى وإن كان بداية لا زمانيّة، أي فبل الزمان الكوني المعروف لنا. سواء أكان هذا الزمان ارتيابي، أم إلهي.

وقد شكلت الأسطورة أول محاولة منظمة لتفسير الكون بشكل شمولي، وقدّمت الكون على أنّه نتاج عقل، أو عقول لكائنات فوق طبيعية، تستطيع تنظيم الطبيعة، أو تخريبها كما تشاء، ففي الهندوسية، نجد براهما الخالق، وشيفا المدمر. وفي اليهوديَّة، يهوه الخالق والمدمر. وفي أستراليا، يرى السكان الأصليون، أن خالقان يعملان بالتَّعاون مع بعضهما البعض، أحدهما  (ولانغادا) وهو كائن ذكر، رش الماء فوق (ونغود) وهي أنثى على هيئة أفعى ملفوفة في مادة جلاتينية، ليصنع يورو – يورو، وهو العالم الذي نراه. إذ نجد في هذه الأنظمة، الأشياء على ما هي عليه، لأن إلهاً أو آلهة قررت ذلك، وحتَّى اليوم، ما زال ملايين البشر يبنون نظرتهم للعالم على أساس التفسير الأسطوري للطَّبيعة. [6]

هناك فكرة طريفة وجذَّابة، وجدانية الطَّابع، تنطلق من أن الكون ليس سوى حلم الإله الذي حل نفسه بعد مئة سنة براهميّة إلى نوم دون أحلام، وقد انحل الكون معه لفترة قرن براهمي آخر، استفاق الإله بعده وأعاد تركيب نفسه، ثم بدأ ثانية يحلم بالحلم الكوني الكبير، وفي الوقت ذاته، وجد في أماكن أخرى عدد لا نهائي من الأكوان الأخرى، وكان لكل منها إلهه الخاص الذي يحلم بالحلم الكوني. هذه الصورة العميقة وغيرها، تعبّر عن نوع من الهاجس المسبق المتعلق بمعرفة نشأتنا من خلال نشأة الكون، وذلك مثل ارهاصات بشرت بالأفكار الفلكية الحديثة (نظرية الأكوان المتعددة مثلاً). ومن المحتمل جداً أن الكون كان يتمدد منذ الإنفجار الكبير، ولكن ليس واضحاً بأي شكل ما إذا كان سيستمر في التمدد إلى الأبد، أو يتوقف فجأة و يعكس اتجاهه بإنكماش كبير. [7] تقول الأسطورة الفيدية في الهند أنه في عصر الإله الأول، خرج الوجود من العدم، ثم ظهر المكان العالمي، وعندما وقف الألهة في البحر البدئي يمسك أحدهم بالآخر بثبات، تصاعد منهم غبار كثيف كالذي يحدثه الراقصون، وبالتالي نشأ عن ذلك العوالم، ورفعوا الشمس المتخفية في البحر، ومن الأم الأرض (أديتي) جاءت الكواكب. وفي أسطورة فيدية أخرى هي أسطورة (البيضة الكونية) نجد أن العدم كان هذا العالم في البدء، والوجود نشأ من صيرورة العدم، فتحول إلى بيضة، وقد انشطرت هذه البيضة إلى شطرين، فضي هو الأرض، وذهبي هو السَّماء، والقشرة الخارجيَّة صارت الجبال، والدَّاخليَّة صارت الغيوم والضّباب، والعروق صارت الأنهار، والسَّائل الدَّاخلي صار بحراً. [8]

وعند البولينيزيين، في البدء، لم يكن غير المياه البدئية، الغائرة في الدياجير الكونية، ومن رحابة الفراغ حيث كان يوجد (إيو) الإله الأعلى، أعرب عن رغبته في الخروج من الراحة، وعلى الفور طلع النور، ثم قال (لتفترق المياه ولتتشكل السماوات، ولتكن الأرض)، وما جاء العالم إلى الوجود إلا بالكلمات التي نطق بها إيو.[9] وفي أسطورة إفريقية في ساحل العاج، تقول: بعد تكوّن جميع الأشياء على الأرض، وفي جلد السماء، تزامن كائنان ينعم كل منهما بتمام القوة، فكان كائن أعلى على يديه وجدت الشمس، والسماء، والقمر، والنجوم، والكائن الأسفل أوجد الكائنات الحية على وجه الأرض. كذلك عرض الصينيون تفسيرهم الخاص لنشأة الكون، و حسب رؤيتهم، إنه في زمن غابر، حيث لم يكن هناك سماء ولا أرض، كان الكون هلاماً وخراباً، ثم ولد في هذا الوضع الهلامي روحان، أو إلاهان هما (ين) المبدأ الأنثوي، و(يان) المبدأ الذكري، ونتيجة اتحادهما نشأ الكون، وبعد ذلك انقسم الروحان، فغدا (يان) يدير شؤون السماء، و(ين) تدير شؤون الأرض. وبحسب أسطورة أخرى، يندغم الكون بجسد عملاق بدئي يدعى (بان غو) الذي ولد من الخراب كبيضة دجاج، وبعد ذلك تضاعف حجمه خلال ثمانية عشر ألف عام مرات كثيرة (كون متضخم)، ومعه نما الكون، وتواصل هذا كله إلى أن انفصلت السماء (يان) عن الأرض (ين) انفصالاً تاماً، وبعد موته صار تنفسه الرياح والغيوم، وصوته الرعد، وعينه اليسرى الشمس، واليمنى القمر، وأطرافه جهات الكون الأربع، و دماؤه أنهاراً، وعروقه وأوردته دروب الأرض، و لحمه تربة الحقول، وشعر رأسه النجوم، وشعر جسمه الشجر، وأسنانه وعظامه الذهب والحجارة، وعرقه المطر والندى. [10]

عندما نقرأ تلك الأساطير، أو غيرها من أساطير الخلق، ينبغي ربط ذلك بالتصور الميثولوجي الذي يربط الطبيعة بما فوق الطبيعة، ففي مصر القديمة من المعروف أن عبادة الشمس كانت من العبادات الرئيسية في ديانة المصريين القدماء، ولكن ما له دلالاته، هو أنه إلى جانب هذه الخرافة الرسمية، كان ثمة أساطير أكثر قدماً، لم يكن الدور الرئيسي فيها من نصيب الشمس (رع) بل من نصيب الماء، وحسب هذه الأساطير، أن الأزل لم يعرف سوى المحيط البدئي الذي تشخص فيه الإله نون، وهو المحيط البدئي اللامتناهي الذي لا يمكن وصفه. أي قبل الوجود لا يوجد إلا الارتياب. و قد أدغموا بمملكة المياه البدئية، الثالوث الشمسي (رع – خيبري – سويديت (نجم الشعرى اليمانية). وفي الأزمن التالية جرى توحيد الآلهة الشمسية الثلاثة في ثالوث واحد هو خيبيري (الشمس المشرقة) – رع (الشمس في منتصف النهار) – آتوم (الشمس الغاربة). وحسب أسطورة هيليوبوليس، فإن إله الشمس آتوم، خلق أولاً الإله شو (الهواء) ثم الألهة تفنوت (الرطوبة) اللذين أنجبا بدورهما جب (الأرض)، ونوت (السماء)، الَّذين أنجبا النموذج البدئي للإنسان أوزيريس وإيزيس. [11] تصور المصريون أصل الكون كمحيط عظيم لا حركة فيه ولا حياة، سمي هذا المحيط (نون) ولم يلبث هذا المحيط أن انحسر عن تل عالٍ من اليابسة، ثم جاء الإله (آتوم) الذي خلق نفسه بنفسه، فأنجب نسل له بتلقيح ذاتي، فكانت الألهة (تفنوت) الرطوبة، و(شو) الهواء، وأنجبا بدورهما (جب) الأرض، و(نوت) السماء. وفي أسطورة مصرية أخرى، نجد أن عملية الخلق تمت بواسطة أربعة أزواج من الآلهة تمثل عناصر الطبيعة، الذكور منها على هيئة ضفدع، والإناث على هيئة ثعبان، هذه العناصر هي الظلام الدامس – اللانهائية الأزلية – المحيط الأزلي – القوة الخفية. وفي المقابل، كانت هناك بيضة في التل الأزلي (الناتج عن انحسار المحيط نون) تعبر عن الإله (آتوم – رع) وعندما فقست هذه البيضة نتج عنها، أوزة بيضاء هي الشمس التي قامت بخلق وتنظيم العالم. [12].

وعند السومريين، نجد أن تأليه الطبيعة، أدى دوراً مهماً جداً، لأهمية ذلك في العمل الزراعي، وقد جسدت قوى الطبيعة الثلاث (السماء – الريح – الماء) بصورة آلهة رئيسية خالقة للعالم وهم على التوالي (آن – إنليل – إنكي)، ونلاحظ أن الأسطورة السومرية تعتمد بشكل أساسي على الماء في نشأة الكون. ففي البدء كانت المياه والمحيط الكوني (نامو) تملأ كل شيء، فأخرجت (نامو) من ذاتها (آن) و(كي) التي هي الأرض، اللذين أنجبا إنليل، وكل الألهة الأخرى وعند تكاثرهما على الجبل الأولي أمر آن إنليل أن يرفع الجبل إلى فوق، وأن ينزل السفح المسطح إلى تحت، وبذلك ظهرت السماء بصورة قبة حيث حكم آن السماء، وإنليل الأرض. [13] وبالتالي تبدأ عملية الخلق في الأساطير السومرية، إنطلاقاً من مادة بدئية هي المياه الأولى التي تسمى (نمّو) وهي آلهة بالوقت نفسه، وفي أعماق هذه المياه تشكلت بذرة الكون الأولى على هيئة جبل، قبته السماء (الإله آن)، وقاعدته الأرض (الإله كي)، وكانتا ملتصقتين، بعد ذلك أخذ الهواء (الإله إنليل) بالتشكل داخل هذه الكتلة اليابسة، الأمر الذي أحدث فجوة داخلها، وكلما أخذ الهواء بالتزايد والتمدد، كلما توسعت هذه الفجوة، إلى أن باعدت بين الأرض المتبسطة، والسماء التي تغطيها، وهذا العنصر الغازي، أنتج القمر والشمس وبقية الأجرام، وكان من نتيجة فصل السماء عن الأرض، إتاحة الشروط المناسبة لظهور الحياة الطبيعية والكائنات الحية.[14] كذلك تؤكد أسطور خلق الكون البابلية أن البداية كانت من ماء وهواء، ويمثل ذلك آلهة ثلاثية هم آبسو (المياه الحلوة)، وتيامات (المياة المالحة)، و مومو (الضباب). إلا أن خلق الكون في الأسطورة البابلية نشأ عن صراع، وليس عن تفاهم و نظام، كما نجد في مصر وسومر، فالألهة أبسو وتيامات واجها تمرد أبنائهما (آنو وإيا) ثم مردوخ، الذي مزق جسد تيامت في حربه معها إلى قسمين، فأخذ قسماً وغطى به السماء، والنصف الآخر جعل منه الأرض، وبعد ذلك باشر مردوخ بخلق الآلهة العظام، القمر (سين) والشمس.[15]

في الأسطورة الكنعانية (ألواح أوغاريت) نجد أن العالم يخرج عن صراع بيم الإله (يم)، وهو المحيط الأولي الذي يمثل الفوضى والشواش، والإله (بعل) إله العواصف، الذي ينتصر على يم وأعوانه بمساعدة الإلهة (عناة)، فيعيد النظام والإنسجام للكون من جديد، إذ نجد هنا أن فعل الخلق الكوني لم يكن من عدم، بل هو انتقال من الفوضى إلى النظام، أليس ذلك إرهاص لتصور إنبثاق الكون من مرحلة غير متعينة؟. نستنتج من ذلك، أن نقطة الانطلاق الكوني في الأساطير المصرية والرافدية، تتمثل في وجود إله رئيسي، يعكس السلطة الملكية المركزية. وبالتالي فإن نقطة البداية تكون غالباً نقطة متفردة ينشأ عنها الكون (سواء من خلال قرار إلهي، أو صراع، أو سبب غير معروف).

 أما في العالم الإغريقي، فإن فعل الخلق لا يرتبط بأي إله رئيسي، فحسب الأساطير الإغريقية في نشأة الكون، أنه لم يكن يوجد في البدء سوى الكاوس (الشواش) ومن الكاوس، ولد الليل الأسود، وأنجب الأثير والنهار المشرق (هيميرو)، ثم اقترن بالحب مع أريبوس، فأنجبا (جيا) التي انجبت أورانوس، الذي وضع السماء ذات النجوم لكي تكون مسكناً راسخاً للآلهة الكاملي الغبطة، وقد ملك أورانوس العالم، واتخذ جيا زوجة له، ومن أبنائهما أوقيانوس (المحيط)، وثيطس (الشمس)، وسيلينا (القمر)، وأيوس (الفجر)، وقد نجح كرونوس بالاطاحة بأبيه أورانوس، ومن دماءه المتساقطة على الأرض ظهر العمالقة، ومن كرونوس وجيا، جاء زيوس رب السماء، وهيرا زوجته، وبوسيدون إله البحار، وديميترا آله الخصب، وهاديس إله العالم السفلي.[16]

وتتشابه الأساطير السكندنافية والجرمانية، مع اليونانية في البداية اللامتعينة للكون، ففي ملحمة (الإيدا) نجد أنه لم يكن في البدء شيء سوى (إيمير) وهو كينونة غير متعينة، حيث لا شاطئ، ولا أمواج، ولا يابسة تحت، ولا سماء فوق، لم تكون إلا لجّة فاغرة فاها، هذا العملاق إيمير، الناشيء عن تلاقي الهواء الدافئ، مع الثلج والصقيع، غفا، فأخذ جسده يتعرق، ونبت تحت يده اليسرى رجل وإمرأة، وبعد موته أصبح جسده هو الأرض، ودماؤه البحر، وجمجمته السماء، وشعره الغابات، ودماغه الغيوم الداكنة.[17]

ومع بزوغ الفلسفة اليونانية، ورغم اتجاهها نحو التفسير العقلي المادي في نشأة الطبيعة، لم تختفى تماماً التصورات الأسطورية. فأنكسمندر، وهو أول من كتب بحثاً عن الطبيعة باللغة اليونانية في القرن السادس قبل الميلاد، يرى أن أصل العالم هو، تصور لامادي يسميه اللامتناهي (الأبيرون)، وهذا ما نرى فيه تقاطع حقيقة مع التصور الكمومي لما قبل نشأة الكون على الأقل عند هذه النقطة قبل أن يدخل تصوراته الميتافيزيقية المنسجمة مع عصره، فمع مولد العالم خرج الأبيرون، وهو المبدأ الحيوي للدفء والبرودة، وأحاط بالهواء المحيط بالأرض على شكل كرة، ولما تمزقت الكرة و تجمعت في حلقة، ظهرت الشمس و القمر والنجوم، أما الأرض فتستقر في الوسط. والدور نفسه تلعبه النار عند هيرقليطس، فهي تتحول عند (الحركة إلى تحت) إلى هواء وماء وأرض، أما الفضاء عنده فلم يخلق، بل كان موجوداً أبداً وأزلاً، وسيبقى ناراً حية تضطرم هنا، وتخبو هناك. [18] ومع ديمقريطس نجد فكرة الكون الأزلي الذي لا بداية له، إذ أن الذرات والفراغ هما مبدأ الكون، والعوالم كثرة لا عدد لها، لكل منها بداية ونهاية عبر الزمن، ولا شيء ينشأ من العدم، وهذه الذرات لا عدد لها من حيث تنوع أحجامها وكثرتها، وتنتشر في الكون دوارة في صورة زوبعة، ومنها يولد كل المركبات كالنار والهواء والتراب والماء. ويورد لنا تشكل الكون، وفق تسلسل يشبه أسطورة دون آلهة، فلدى التشكل البدئي للكون كان للسماء والأرض شكل واحد سببه اختلاط طبيعتيهما، ثم وبعد أن انفصلت الأجسام بعضها عن بعض، اتخذ الكون كل الترتيب الذي يظهر فيه الآن، فتلقى الهواء حركته الدائبة، وتجمع جزؤه الناري في الأماكن الأعلى، لأن المادة الخفيفة صعدت إلى فوق، ولهذا السبب استولى العلوّ الكلي على الشمس والكواكب الأخرى، أما المادة الطينية التي اتحدت مع الرطوبة، فقد مكثت في المكان عينه بسبب ثقلها، فشكلت البحر في أجزائها السائلة، واليابسة في أجزائها الأكثر صلابة. [19] أما أفلاطون، فلم يخرج أيضاً عن التصور الاهوتي الأسطوري في نشأة الكون، فالإله (الخير  خلق الكون على شاكلته، وقد استرشد في غضون ذلك باستدلالات مادية محددة، فكان ينبغي أن يكون المخلوق جسدياً، ثم مرئياً ومحسوساً، ولكن شيئاً لا يمكن أن يكون مرئياً دون مشاركة النار، ومحسوساً دون أن يكون صلب، أي ترابي. وإذا كان ينبغي على جسد الكون أن يكون مسطحاً بسيطاً من غير عمق، فإن حداً وسطانياً واحداً كان يكفي لقرن نفسه بالأطراف، لكن الجسد يأتي ثلاثي الأبعاد، والأشياء الثلاثية لا يمكن أن تقترن عبر حد وسطاني واحد، بل عبر حدين، لذلك وضع الإله الماء و الهواء، بين النار والأرض، وهكذا جمعهم، وينى السماء مرئية ومحسوسة. في حين أن  أرسطو قد أرجع الوجود إلى ما أسماه بالمحرك الأول (قوة خالصة)، وهو يقول بأن السماء ليست مكان للكون، بل هي حده الأقصى المستقر المتماس مع الجسم المتحرك، لذلك توضع الأرض في الماء، والماء في الهواء، والهواء في الأثير، والأثير في السماء، أما السماء، فلا تتوضع في أي شيء آخر.[20]

وفي القرن الثالث قبل الميلاد، كان ينتشر في العالم الهيليني، ثم الروماني والبيزنطي، العقيدة الكلدانية المتعلقة بالسنة الكبرى، في هذه العقيدة يعتبر الكون خالداً، لكنه ينعدم، ويخلق من جديد دورياً في كل سنة كبرى، تتعلق بألفيات تختلف من مدرسة لأخرى، عندما تتحد الكواكب السبعة في برج السرطان (الشتاء الأعظم) يحدث طوفان، وعندما تتقابل في برج القرنبيات، تبتلع النار الكون كله. كانت هذه العقيدة تسيطر على فكرة زينون، وكل الكوسمولوجيا الرواقية، وقد تمتعد أسطورة الحريق الكوني، بحظوة كبيرة في القرنين الأول قبل الميلاد، والثالث بعده في جميع أنحاء العالم الروماني، وهي تشافه فكرة الإنكماش الكبير الذي قد يحدث وفق ما تقول به الفيزياء الحديثة. وإننا لنجد أفكاراً مماثلة في الهند، وإيران، وقبائل المايا، والأزتيك في المكسيك. [21] هل يعود الكون إلى الإنكماش؟ إنها تصورات بدأت أسطورية منذ العهد الهندوسي القديم، إذ تصورت فكرة العود الأبدي والمتكرر للكون، وتبناها الفلاسفة الإغريق، في أسطورتهم عن الحريق الكوني .

نشأة الكون في العلم:

لقد كان أسلافنا متشوقين إلى فهم العالم، لكنهم لم يعثروا على الطريقة، فتخيلوه عالماً صغيراً طريفاً ومنسقاً، تتألف القوى القاهرة فيه من آلهة، أما الآن، فقد قدم لنا العلم طريقة فعّالة ورائعة في فهم العالم، لدرجة بدت معها الشؤون الإنسانية ذات أهمية قليلة، فقد ابتعدنا في نشأتنا عن الكون، الذي بدأ بدوره بعيداً جدّاً، وغير مرتبط باهتماماتنا اليومية، لكن العلم إكتشف أن العالم لا يتسم فحسب بالعظمة المذهلة، أو بإمكان فهم الإنسان له، بل اكتشف أيضاً أننا نشكل بمعنى حقيقي وعميق، جزء من هذا الكون الذي ولدنا منه، ويرتبط مصيرنا به بشكل عميق، إذ يقول ساجان أن: " أكبر الأحداث الإنسانية وأقلها أهمية، هي ذات جذور مرتبطة بالعالم وكيفيّة نشوءه ".[22]

فقبل 13،7 مليار سنة، حدث شيء ما، وكان ذلك الحدث هو ما يسمى - حسب قيود لغتنا البشرية – الإنفجار الكبير، أما لماذا حدث، فهو لغز غير معروف، وأما أنه حدث فعلاً، فهو أمر واضح بما فيه الكفاية، إذ كانت كل المادة والطاقة الموجودة حالياً في الكون، مركزّتين بكثافة عالية إلى أبعد حد في نوع من بيضة كونية تذكر بأساطير الخلق لدى الكثير من الحضارات.والملاحظ أن المناخ الفكري العام الذي سبق القرن العشرين، لم يُتح لأحد أن يفكر بأن العالم يمكن أن يتوسع، أو يتقلص. فقد كان من المقبول عموماً، أن العالم موجوداً منذ الأزل في حالة سرمدية، أو أنه قد خلق في لحظة معينة من الماضي في شكل يشبه الشكل الذي هو عليه اليوم، ويمكن أن نعزو هذا التفكير إلى النزوع البشري نحو الاعتقاد بوجود حقائق خالدة، كما يمكن أن نعزوه إلى الارتياح الذي يشعر به الإنسان عندما يعتقد، وهو المخلوق الفاني، ورغم مر العصور، أن العالم الذي صُنع من أجله، يبقى هو، خالداً ومماثلاً لنفسه على الدوام. [23]

أما اليوم، فيمكننا بواسطة الملاحظات الدقيقة بأجهزة، كتلسكون هابل الفضائي، تحديد موعد دقيق للانفجار الكبير، والتقدير الحالي الأفضل هو (13،7) مليار سنة، وبالمقارنة، فإن عمر الأرض هو (4،56) مليار سنة، وبما أن الكون في تلك الفترة كان منضغطاً، فلا بد أن يكون حاراً، وإذا كان حاراً، لا بد أن يشع، لذا يمكن أن نتوقع أن الحرارة التي تخلفت عن ولادة الكون، تغسل الفضاء الآن بتوهج باهت من الإشعاع، وهو بالضبط ما اكتشفه مهندسو الراديو (بنزياس وويلسون) سنة 1967.[24]

فمن المفترض وفق ذلك، أن هناك بداية، وأنّ العالم لحظة الإنفجار الكبير كان ذا حجم معدوم، وبالتالي ذا درجة حرارة لانهائية الكبر، ولكن شروعه بالتوسع، أدى إلى تناقص سخونته. وتبدأ قصة الكون عند الثانية الأولى تقريباً بعد الإنفجار، في ذلك الوقت، كانت درجة الحرارة حوالي 10 بليون درجة، وتحت تلك الظروف، لا يمكن للذرات أن تبقى، حتى نوى الذرات تتحطم، لذا فقد تألف الكون عندها من، حساء بلازمي، من عناصر جسيمية تتحرك بحرية، وبعض 100 ثانية تقريباً هبطت حرارته إلى مليار درجة، عندها لم تعد للبروتونات والنيوترونات طاقة تكفي للافلات من قوى التجاذب النوية الشديدة، فبدأت بالالتحام معاً لتشكل ذرات الدوتوريوم (الهدرجين الثقيل)، ثم اندمجت مع هذه النوى بروتونات ونيوترونات أخرى، فتشكلت نوى الهيليوم، وهما العنصران الأوليان في الكون.[25] بعبارة أخرى، بعد حوالي جزء من مئة من الثانية من الانفجار الكبير، وهي أقدم لحظة يمكن التحدث عنها بشيء من الثقة، هبطت درجة حرارة الكون إلى ما يقرب من مئة مليار درجة، هذه الحرارة كانت عالية لدرجة أن كل مكونات المادة العادية، الجزيئات، و الذرات، وحتى القوى الذرية، لا يمكن أن تحتفظ بتماسكها، وبدلاً من هذه العناصر المركبة، كانت المادة المضطربة في أثناء الانفجار مكونة من مختلف أشكال الجسيمات الأولية، التي هي موضوع الفيزياء النووية الحديثة في الطاقات العالية.[26]وقد بقيت معظم البروتونات التي نجمت عن الإنفجار الكبير حرة، وانتهت بتشكيل ذرات الهيدرجين، وعندها برد الكون إلى حالة تسمح لكل بروتون من إلتقاط إلكترون (بعد حوالي 400 ألف سنة من الإنفجار)، وفي هذه الأثناء، لم تبق كل البروتونات مستقلة، فقد ارتطم بعضها مع نيوترونات، ليشكلا معاً عنصر الديوتوريوم، وهو نظير الهيدرجين، كما اندمجت البروتونات الأخرى لتشكل الهيليوم، وهو العنصر الثاني، ممهداً بذلك لما يسمى بالإندماج النووي. [27] لقد كان الكون عند لحظة الانفجار الكبير، على شكل غاز ساخن كثيف، ومتأين و معتم، ومغلف بالإشعاع الحراري بشكل متجانس تقريباً، وبعد حوالي 300 ألف سنة عن الانفجار، برد الكون إلى بضعة آلاف من الدرجات، وأزيلت شوارد الغازات، فإندمجت النوى والإلكترونات، لتشكل الذرات، ونتيجة ذلك أصبحت الذرات شفافة.

في نهاية الدقائق الثلاث الأولى من الانفجار الكوني، كان محتوى الكون مؤلفاً بصورة أساسية من الضوء والنوترنيوات ومضاداتها، وكمية صغيرة من النوى الذرية 73% هدرجين، و27% هليوم، وكمية قليلة من الالكترونات، وبعد زمن يقدر ببضعة آلاف من السنين، انخفضت حرارة الكون إلى حد يكفي لأن تُأسر الالكترونات من قبل النوع، مكونة بذلك ذرات الهيدرجين والهيليوم، وعندئذ تكاثف الغاز المتشكل هنا وهناك، بتأثير قوى الجاذبية، إلى أن انتهى هذا التكاثف إلى انهيار المادة على ذاتها لتكون مجرات الكون الحالي، ونجومه.[28]

وكان الكون عند تشكله يتوسع ويبرد بسرعة (إنه نموذج حقيقي للصراع بين الآلهة الذي تخسلته الأساطير)، وفي درجة حرارة شديدة الارتفاع، يمكن لطاقة الجسيمات الموجودة في حالة توازن حراري، أن تكون من الأهمية بحيث تصبح قوى الثقالة التي تتبادل تأثيرها، مضاهية لشدة الأنماط الأخرى من التأثيرات المتبادلة، ودرجة الحرارة التي يحصل فيها ذلك تقدر بما يقرب من مئة ألف مليار مليار مليار كلفن، وفي درجة حرارة كهذه، يمكن أن يحدث كل شيء غريب، إذ ليس وحسب أن قوى الثقالة تكون شديدة، وتولد عدداً كبيراً من الجسيمات، بل إن فكرة الجسيم نفسها تفقد عندئذ أي مدلول، وكذلك تكون مساحة الأفق، أي المسافة التي لا يمكن أن تستقبل من بعدها إشارة مَّا، أصغر من طول موجة جسيم نموذجي في حالة توازن حراري، بحيث يمكننا القول بشيء من التجاوز، أن كل جسيم يكون عندئذ كبيراً كبر الكون الذي يمكن ملاحظته منه.[29]

وقد يكون كوننا ليس الكون الوحيد و الفريد، فقد يكون جزءً من نظام ضخم (فقاعة من فقاعات لا متناهية) غير متجانس يدعى الكون المتعدد، وقد لا يمكننا ملاحظة الأكوان، أو المناطق الكونية الأخرى، لذا نستنتج وجودها من النظرية مع بعض الأدلة غير المباشرة، ويمكن لقوانين الفيزياء، والحالة الأولية للكون، أن تختلف من كون لآخر، وبالتالي ما سلمنا به على أنها قوانين مطلقة (ثوابت) قد تكون مماثلة لقوانين محلية، بخصائص رئيسية تتضمن تلك المهمة للحياة، والتي تجمدت من الإنفجار الكبير الحار في جزء من الثانية الأولى.[30]

وفي النظرية الاقليدية للثقالة التي تعتمد على الزمان المكان الحقيقي، لا يمكن للعالم أن يتصرف إلا بأحد أسلوبين، إمَّا أن يكون قد وجد منذ الأزل اللانهائي، و إمَّا أن يكون قد بدأ إنطلاقاً من متفردة، في لحظة معينة من الماضي، أما في نظرية الثقالة الكمومية التي اقترحها هوكنغ، فقد توجد إمكانية ثالثة، ذلك أن استخدام زمكانات اقليدية، لا يختلف فيها الإحداثي الزمني نوعياً عن الإحداثيات المكانية، يتيح للزمكان، أن يكون محدوداً باتساعه، وأن يستغني مع ذلك عن أي متفرد يكون بمنزلة حد طرفي له، وهذا الزمكان يشبه سطح الأرض، سوى أنه يضم بعدين اضافيين، إذ أن سطح الأرض مسطح محدود الاتساع، دون أن يكون له حدود أو حافّة. [31]

خاتمة

يقول ساجان: " إنَّ حجم الكون وعمره خارج إدراك الإنسان العادي، ففي مكان مَّا بين اتّساع الفضاء وخلود الزَّمن، يضيع كوكبنا المعروف بالأرض، وفي المنظور الكوني، فإنّ كلّ الاهتمامات الإنسانيَّة، تبدو غير مهمَّة، بل بائسة "[32]. ومع ذلك فإنَّ الجنس البشري فضولي وشجاع، يمتلك خيالا، وهو قلق متسائل. إذ أنَّ الكائنات البشريَّة وجدت لكي تفكّر، فالمعرفة هي شرط لاستمرار الحياة.

 

 


[1] فراس السواح: مدخل إلى نصوص الشرق القديم – دار علاء الدين، دمشق، ط1 2006، ص 203.

[2] ستيفن هوكنغ: الكون في قشرة جوز – ترجمة: مصطفى فهمي، عالم المعرفة، الكويت، عدد 291، 2003، ص 40.

[3] ستيفن وينبرغ: الدقائق الثلاث الأولى من عمر الكون – ترجمة: محمد وائل الأتاسي، الدار المتحدة للنشر، دمشق، ط1، 1986، ص165.

[4] ستيفن هوكنغ: الكون في قشرة جوز – مرجع سابق، ص 41.

[5] ستيفن هوكنغ: موجز تاريخ الزمن – ترجمة: أدهم السمان، دار طلاس، دمشق، ط2 1993، ص 21.

[6] بول ديفيز: الجائزة الكونية الكبرى – ترجمة: د سعد الدين خرفان، وزارة الثقاف، دمشق ،2011، ص 28.

[7] كارل ساجان: الكون – ترجمة: نافع أيوب لبّس، عالم المعرفة، الكويت، عدد 178، 1993، ص 236.

[8] س. بريوشينيكين: الفيزياء الفلكية والميثولوجيا القديمة – ترجمة: حسان ميخائيل اسحق، دار علاء الدين، دمشق، ط1، 2006، ص 166.

[9] مرسيا إلياد: أسطورة العود الأبدي – ترجمة: نهاذ خياطة، دار طلاس، دمشق، ط1، 1987، ص148.

[10] س. بريوشينيكين : الفيزياء الفلكية والميثولوجيا القديمة – مرجع سابق، ص174.

[11] س. بريوشينيكين: الفيزياء الفلكية والميثولوجيا القديمة – مرجع سابق، ص 8 - 9.

[12] محمد الخطيب: ديانة مصر الفرعونية – دار علاء الدين، دمشق، ط2، 2007، ص 30.

[13] س. بريوشينيكين: الفيزياء الفلكية والميثولوجيا القديمة – مرجع سابق، ص 51.

[14] فراس السواح: مدخل إلى نصوص الشرق القديم – مرجع سابق، ص 10 - 11.

[15] س. بريوشينيكين: الفيزياء الفلكية والميثولوجيا القديمة – مرجع سابق، ص 59.

[16] س. بريوشينيكين: الفيزياء الفلكية والميثولوجيا القديمة – مرجع سابق، ص 84 - 85.

[17] س. بريوشينيكين: الفيزياء الفلكية والميثولوجيا القديمة – مرجع سابق، ص 148.

[18] س. بريوشينيكين: الفيزياء الفلكية والميثولوجيا القديمة – مرجع سابق، ص 189.

[19] س. بريوشينيكين: الفيزياء الفلكية و الميثولوجيا القديمة – مرجع سابق، ص 205.

[20] س. بريوشينيكين: الفيزياء الفلكية والميثولوجيا القديمة – مرجع سابق، ص 238.

[21] مرسيا إلياد: أسطورة العود الأبدي – مرجع سابق، ص 157.

[22] كارل ساجان: الكون – مرجع سابق، ص 12.

[23] ستيفن هوكنغ: موجز تاريخ الزمن – ترجمة: أدهم السمان، دار طلاس، دمشق، ط2، 1993، ص20.

[24] بول ديفيز: الجائزة الكونية الكبرى – مرجع سابق، ص 37.

[25] ستيفن هوكنغ: موجز تاريخ الزَّمن – مرجع سابق، ص 123.

[26] ستيفن وينبرغ: الدقائق الثلاث الأولى من عمر الكون – ترجمة: محمد وائل الأتاسي، الدار المتحدة للنشر، دمشق، ط1، 1986، ص 13.

[27] بول ديفيز: الجائزة الكونية الكبرى – مرجع سابق، ص 74.

[28] ستيفن وينبرغ: الدقائق الثلاث الأولى من عمر الكون – مرجع سابق، ص 16.

[29] ستيفن وينبرغ: الدقائق الثلاث الأولى من عمر الكون – مرجع سابق، ص 162.

[30] بول ديفيز: الجائزة الكونية الكبرى – مرجع سابق، ص256.

[31] ستيفن هوكنغ: موجز تاريخ الزمن – مرجع سابق، ص 140.

[32] كارل ساجان: الكون – مرجع سابق، ص 21.

المصدر: https://www.alawan.org/content/%D9%86%D8%B4%D8%A3%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%...

 

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك