منظومة الانتماء في الإسلام

 

• الوطن كلمة لها جرسٌ خاص في الآذان، وقَبضة في القلوب، وقشعريرة في الأبدان، هذه الكلمة كثيرًا ما تَغنَّى بها الشعراء، وتفنَّن في ذِكرها الأدباء، وأصابت باللوعة والأسى الغرباء.

• الوطن هواء وسماء، عُشب وماء، تراب وطين، ذكرياتٌ وحنين، ضحكات وآهات، أهلٌ وأحباب، أبناء وأحفاد، أفراح وأتراح، عَبَراتٌ وابتسامات.

• إنَّ الوطن عبارة عن مزيج من كل شيء، يسري في العروق، فإذا حُرِم منه الإنسان سار كالطفل الذي حُرم من حنان أمِّه؛ فلا يجف له دمع، ولا يهدأ له بال، حتى يجتمع الشمل، وتلتقي النَّظرات، وتنسكب العَبَرات والزفرات فرحًا بذلك.

 

أولًا: تعريف الوطن بمفهومه الشامل:

قال ابن منظور رحمه الله في لسان العرب: (الوطن): المنزل تقيم فيه، وهو موطن الإنسان ومحلُّه، يقال: أوطن فلان أرضَ كذا وكذا؛ أي: اتَّخذها محلًّا ومسكنًا يقيم فيه.

• وجاء في تاج العروس: "الوطن: منزل الإقامة من الإنسان ومحله، وجمعها: أوطان".

• قال الجاحظ رحمه الله: "كانت العرب إذا غزَتْ أو سافرتْ، حملتْ معها من تربة بلدها رملًا وعفرًا تستنشقه".

قال الغزالي رحمه الله: "والبشر يألَفُون أرضَهم على ما بها، ولو كانت قفرًا مُستوحَشًا، وحبُّ الوطن غريزةٌ متأصِّلة في النفوس، تجعل الإنسانَ يستريح إلى البقاء فيه، ويحنُّ إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هُوجِم، ويَغضب له إذا انتقص".

 

ولذلك فإنَّ مصطلح "التغريب" ‏ يقصد به: "النفي والإبعاد عن الوطن؛ عقابًا على ما يصدر من الشخص من جُرم في حقِّ الآخرين أو في حق الوطن"، وهو ما ذكر في تهديد قوم لوط عليه السلام له: ﴿ قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَالُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ ﴾ [الشعراء: 167]، وكذلك في قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [المائدة: 33].

 

• أما عن مصطلح "الجلاء"، فجاء في التفسير الكبير أن معناه: "الخروج من الوطن والتحوُّل عنه، والجلاء نوع من أنواع التعذيب"، قال تعالى عن جلاء اليهود عن المدينة: ﴿ وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الحشر: 3، 4].

 

• وكل ما سبق يجب ألَّا يتنافى مع العقيدة والدِّين؛ ففي سبيل العقيدة والدين هَجَر النبي صلى الله عليه وسلم وصحابتُه الكرامُ الأوطانَ، وتركوا كلَّ غالٍ ونفيس؛ لإعلاء كلمة التوحيد، ولكي يُعلِّموا مَن يأتون بعدهم من المسلمين أن الوطن الحقيقي ليس هو المكانَ الذي تَحُدُّه الحدودُ والمعالم فقط، ولكن هو كلُّ مكان تُرفع فيه كلمة التوحيد ويأمن فيه الفرد على نفسه وعلى إقامة شعائر دينه؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 92]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ﴾ [المؤمنون: 52].

 

• قال الشاعر:

فَأَيْنَمَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ فِي بَلَدٍ ♦♦♦ عَدَدْتُ ذَاكَ الحِمَى مِنْ صُلْبِ أَوْطَانِي

 

• إنَّ الانتماء وحبَّ الأوطان ليس مَدعاةً للانسلاخ من الدِّين أو التنازل عن بعض مبادئه، وليس مدعاة للذَّوبان في مجتمع قد طُمستْ فيه الهُوية وضاعت فيه القيم، وليس مدعاةً لتقديم العصبية والقبَليَّة على العقيدة والدين.

 

• عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: كنا في غَزاةٍ - قال سُفيانُ مرةً: في جيشٍ - فكسَع رجلٌ من المهاجرينَ رجلًا من الأنصارِ، فقال الأنصارِيُّ: يا لَلأنصارِ، وقال المهاجرِيُّ: يا للمهاجرينَ، فسمِع ذاك رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: ((ما بالُ دَعوى الجاهلية؟!))، قالوا: يا رسولَ اللهِ، كسَع رجلٌ من المهاجرينَ رجلًا من الأنصارِ، فقال: ((دَعوها؛ فإنها مُنتِنَةٌ))؛ (رواه البخاري).

 

• عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أربعٌ في أمَّتي من أمرِ الجاهليَّةِ، لا يتركونهنَّ: الفخرُ في الأحسابِ، والطَّعنُ في الأنسابِ، والاستسقاءُ بالنُّجومِ، والنِّياحةُ))؛ (رواه مسلم).

 

• وعن جندب بن عبدالله وأبي هريرة رضي الله عنهما مرفوعًا: ((مَنْ قُتِلَ تحتَ رايةٍ عِمِّيَّةٍ، يَنصرُ العصبيةَ، ويغضبُ للعصبيةِ، فقِتْلتُهُ جاهليةٌ))؛ (صححه الألباني).

 

• قال حسن البنا رحمه الله: "... فالإسلام والحالةُ هذه لا يَعترف بالحدود الجغرافيَّة، ولا يعتبر الفروقَ الجنسية والدمويَّة، ويعتبر المسلمين جميعًا أمَّة واحدة، ويعتبر الوطن الإسلامي وطنًا واحدًا مهما تباعدَتْ أقطاره، وتناءت حدوده".

 

ثانيًا: منظومة الانتماء في القرآن الكريم:

لأهميَّة الأوطان بالنسبة للإنسان عمومًا، وللمسلم بصِفة خاصة، نجِد أنَّ الله تعالى قد أفرد العديدَ من الآيات في كتابه الكريم تتحدَّث عن الوطن وأهميَّته، ومدى التعلُّق به، وضرورة الدفاع عنه، وتمنِّي الخير له، وتقديم مصلحته على أيِّ مصلحة أخرى مهما كانت التضحيات، ونسوق هنا بعضَ الآيات لنبرهن على ذلك:

1- لأهمية الوطن استخدم أسلوب التهديد بالطَّرد والإخراج منه والإبعاد عنه كوسيلة من وسائل العقاب: قال تعالى: ﴿ قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَالُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ ﴾ [الشعراء: 167].

 

• قال تعالى: ﴿ وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 76].

• قال تعالى: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30].

 

2- لأهمية الوطن استخدم أسلوب الطرد والإخراج منه والإبعاد عنه كوسيلة من وسائل العقاب: قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [المائدة: 33].

 

• قال تعالى: ﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ﴾ [النمل: 56].

• قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 82].

 

• قال تعالى: ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 40].

 

• قال تعالى: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ ﴾ [محمد: 13].

 

3- الخروج من الوطن ومفارقته من الأشياء العزيزة على النفس ولا تَميل إليه، وهو بمثابة خروج الروح: قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ﴾ [النساء: 66].

• قال تعالى: ﴿ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ﴾ [الأنفال: 5].

 

4- الإنسان لا يضطر إلى مُغادرة الوطن إلا لضرورة مُلحَّة أو تفاديًا لخطر أكبر: قال تعالى: ﴿ وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 20، 21].

 

5- جعل الله تعالى الثواب الأعظم لمن يُرغم على الخروج من وطنه ومفارقة الأهل والأحبة والأموال قسرًا: قال تعالى: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ [الحشر: 8].

 

• قال تعالى: ﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ﴾ [آل عمران: 195].

• قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ... ﴾ [الحج: 40].

 

6- حب الوطن وتمنِّي الخير له غريزةٌ فطرية في الإنسان: قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ﴾ [إبراهيم: 35].

 

7- أحيانًا يكون الخروج من الوطن والبعد عنه ضرورة ملحَّة، والخيارَ الأمثل؛ بل واجبًا شرعيًّا حِفاظًا على النفس وحفاظًا على الدين: قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ﴾ [النساء: 75].

• قال تعالى: ﴿ وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ ﴾ [الأنبياء: 74].

• قال تعالى: ﴿ فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الذاريات: 35، 36].

• قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا * وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 97 - 100].

• قال تعالى: ﴿ ... وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الأنفال: 72].

 

8- المصلحة العليا للوطن مُقدَّمة فوق أي مصلحة أخرى، ويجب عدم التواد مع المتآمرين على سلامة الوطن وسلامة أراضيه: قال تعالى: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الممتحنة: 8، 9].

• قال تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 190، 191].

• قال تعالى: ﴿ أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 13 - 15].

• قال تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 217].

 

9- عندما يستنفد المسلمون كلَّ سُبل الدفاع عن أوطانهم تتدخَّل قدرة الله تعالى للدفاع عن بلاد المسلمين: قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [الحشر: 2].

 

10- من الصِّفات التي ذمَّ الله تعالى بها أهلَ الكتاب والأمم السابقة استخدامُهم وسيلة الإخراج والإبعاد والطرد لمن يخالفونهم في الرأي أو يدْعونهم للخير: قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 84، 85].

• تلك عشرةٌ كامِلة، أرساها الله تعالى في كتابه الكريم؛ لنتعرَّف منها على ضوابط التعامل مع الأوطان حبًّا وانتماءً، وتمسكًا ودفاعًا، وألَّا يكون حب الوطن سيفًا مُصْلَتًا على الرقاب بالإخراج منه أو التهديد بذلك.

 

ثالثًا: منظومة الانتماء في السنة النبوية المطهرة:

لقد ضرب النَّبي صلى الله عليه وسلم أروعَ الأمثله في الانتماء للوطن وحب الأهل والعشيرة، ولم يتبادر إلى ذهن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه سيُجبَر على مفارقة هذا الوطن يومًا من الأيام؛ فعندما قال له ورقة بن نوفل: "ليتني أكون حيًّا إذ يُخرِجُك قومُك، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((أوَمُخرجِيَّ هم؟!))، قال: نعم، لم يأتِ رجل قطُّ بمثل ما جئتَ به إلا عُودِيَ، وإن يدركْني يومُك أنصرْك نصرًا مؤَزَّرًا، ثمَّ لم ينشب ورقةُ أن توفِّي، وفتر الوحيُ"؛ (رواه البخاري).

• قال السفيري رحمه الله: "قوله صلى الله عليه وسلم: ((أومخرجيَّ هم؟!)): استفهام إنكاري على وجه التفجُّع والتألُّم؛ كأنه استبعد صلى الله عليه وسلم أن يُخرجوه مِن حَرَم الله وجوار بيته، وبلدةِ أبيه إسماعيل من غير سبَب؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن منه فيما مضى ولا فيما سيأتي سببٌ يَقتضي إخراجًا، بل كانت منه المحاسن الظاهرات، والكرامات المقتضية لإكرامه وإنزاله بأعلى الدرجات".

 

ولأن مفارقة الأوطان تترك في القلب لوعة وحنينًا، نجد أنَّ الله تعالى أراد أن يُسرِّيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل عليه قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [القصص: 85].

 

• يقول سيد قطب رحمه الله: "... يتوجَّه الخطابُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومِن خلفه القلَّة المسلمة التي كانت يومها بمكة، يتوجَّه الخطابُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُخرَج من بلده، مُطارَد من قومه، وهو في طريقه إلى المدينة التي لم يبلغها بعد؛ فقد كان بالجحفة قريبًا من مكَّة، قريبًا من الخطر، يتعلَّق قلبُه وبصره ببلده الذي يحبُّه، والذي يَعز عليه فراقه لولا أنَّ دعوته أعزُّ عليه من بلده وموطن صباه، ومهد ذكرياته، ومقر أهله، يتوجَّه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في موقفه ذلك: ﴿ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ﴾ [القصص: 85]، فما هو بتاركك للمشركين".

• ولقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهمَّ حبِّب إلينا المدينة كحبِّنا مكة أو أشد))؛ (رواه البخاري).

 

• ونسوق هنا بعضَ الأحاديث التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن:

1- عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الله خلق السَّمواتِ سبعًا، ثمَّ خلَق الخلقَ، فاختار من الخلق بني آدم، ثمَّ اختار من بني آدم العربَ، ثمَّ اختار من العرب مُضر، ثم اختار من مضر قُريشًا، ثم اختار من قُريشٍ بني هاشمٍ، ثم اختارني من بني هاشمٍ؛ فأنا خيارٌ من خيارٍ))؛ (رواه ابن حجر العسقلاني في الأمالي المطلقة).

 

2- عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لمكَّة: ((ما أطيَبَك من بلدٍ وأحَبَّك إليَّ! ولولا أنَّ قومي أخرجوني منك ما سكنتُ غيرَك))؛ (رواه الترمذي).

 

3- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى عليه وسلم: ((لو أن الأنصار سلكوا واديًا، أو شِعبًا، لسلكتُ في وادي الأنصار، ولولا الهجرةُ لكنتُ امرأً من الأنصار))، فقال أبو هريرة: "ما ظلَم، بأبي وأمي؛ لآووه ونصروه"، أو كلمةً أخرى؛ (رواه البخاري).

 

4- عن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن قُتل دون ماله فهو شهيدٌ، ومَن قُتل دون دينه فهو شهيدٌ، ومَن قُتل دون دمه فهو شهيدٌ، ومن قُتل دون أهله فهو شهيدٌ))؛ (رواه الترمذي).

 

5- عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: "لما قدِم رسولُ الله صلى اللهُ عليه وسلم المدينةَ وُعك أبو بكرٍ وبلالٌ، فكان أبو بكرٍ إذا أخذَتْه الحمى يقولُ:

كلُّ امرئٍ مُصبَّحٌ في أهلِه ♦♦♦ والموتُ أدنى من شِراك نَعلِهِ

 

وكان بلالٌ إذا أقلع عنه الحمَّى يرفعُ عقيرتَه يقولُ:

ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلةً 
بوادٍ وحولي إذخرٌ وجليلُ؟ 
وهل أَرِدَنْ يومًا مياه مجنَّةٍ 
وهل يبدُوَنْ لي شامةٌ وطفيلُ؟ 

 

وقال: اللهمَّ العن شيبة بن ربيعة، وعُتبة بن ربيعة، وأمية بن خلفٍ، كما أخرجُونا من أرضنا إلى أرض الوباء، ثم قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهمَّ حبِّب إلينا المدينةَ كحُبِّنا مكة أو أشد، اللهمَّ بارِك لنا في صاعنا وفي مُدِّنا، وصححها لنا، وانقُل حُماها إلى الجُحفة))، قالت: وقدمنا المدينة وهي أوبأُ أرض الله، قالت: فكان بُطحانُ يجري نجلًا، تعني: ماءً آجنًا"؛ (رواه البخاري).

 

6- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهمَّ اجعل بالمدينة ضِعفي ما جعلتَ بمكة من البركة))؛ (رواه البخاري).

 

7- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان الناسُ إذا رأوا أولَ الثمر جاؤوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أخذه رسولُ الله صلى اللهُ عليه وسلم قال: ((اللهمَّ بارِك لنا في ثمرنا، وبارِك لنا في مَدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارِك لنا في مُدِّنا، اللهمَّ إنَّ إبراهيم عبدُك وخليلُك ونبيُّك، وإني عبدُك ونبيُّك، وإنه دعاك لمكة، وإنِّي أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكَّة، ومثله معه))، قال: ثم يدعو أصغر وليدٍ له فيُعطيه ذلك الثمر"؛ (رواه مسلم).

 

8- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا قدِم من سفرٍ، فأبصر درجات المدينة، أوضَعَ ناقته، وإن كانت دابَّةً حركها"؛ (رواه البخاي)، أوضع ناقتَه: أسرع بها.

 

9- وعن أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "كان إذا اشتكى الإنسانُ الشيء منه، أو كانت به قرحةٌ أو جرحٌ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم بإصبعه هكذا؛ ووضع سفيانُ سبابته بالأرض ثم رفعها: ((بسم الله، تربةُ أرضنا، برِيقة بعضنا؛ ليشفى به سَقيمُنا، بإذن ربنا))، قال ابنُ أبي شيبة: "يشفى"، وقال زهيرٌ: "ليشفى سقيمُنا"؛ (رواه مسلم).

 

10- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ أُحُدًا جبَلٌ يحبُّنا ونحبه))؛ (رواه مسلم).

 

11- عن مالك بن الحُويرث؛ قال: أتينا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ونحن شببةٌ متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلةً، وكان رسولُ الله صلى اللهُ عليه وسلم رحيمًا رقيقًا، فظنَّ أنَّا قد اشتقنا أهلنا، فسأَلَنا عن مَن تركنا من أهلنا، فأخبرناه، فقال: ((ارجعوا إلى أهليكم؛ فأقيموا فيهم، وعلِّموهم، ومُروهم، فإذا حضرت الصلاةُ فليؤذِّن لكم أحدُكم، ثم ليؤمكم أكبرُكم))؛ (رواه مسلم).

 

• جاء في الأثر: روى ابن شهاب الزهري قال: "قدم أصيل الغفاري قبل أن يُضرب الحجاب على أزواج النَّبي صلى الله عليه وسلم، فدخل على عائشة رضي الله عنها فقالت له: يا أصيل، كيف عهدتَ مكة؟ قال: عهدتُها قد أخصب جنابها، وابيضت بطحاؤها، قالت: أقم حتى يأتيك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فلم يلبَثْ أن دخل عليه النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا أصيل، كيف عهدتَ مكة؟))، قال: عهدتُها والله قد أخصب جنابها، وابيضَّت بطحاؤها، وأعذق إذخرها، وأسلب ثمامها، وأمشر سلمها، فقال: ((حسبك يا أصل، لا تحزنا))؛ رواه محمد بن عبدالرحمن القرشي، عن مدلج - هو ابن سدرة السلمي - قال: قدم أصيل الهذلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة؛ نحوه.

• هكذا عبَّر النبي صلى الله عليه وسلم عن مدى حبِّه للوطن، وعلَّمنا كيف يكون الانتماء بمفهومه الشامل ومفهومه الصحيح؛ فلا إفراط يصِل لدرجة الغلو والتقديس، ولا تفريط يصِل لدرجة الاستهانة والانتقاص؛ وعلى دربه صلى الله عليه وسلم سار صحابتُه الكرام والتابعون وتابعوهم رضوان الله عليهم أجمعين.

 

رابعًا: قالوا عن الوطن:

لقد تفنَّن المخلِصون في التعبير عن حبِّهم للوطن، ونظم الشعراء قصائد تتغنَّى بالوطن، وألَّف الأدباء كتبًا في محبَّته؛ فترك الجميع لنا تراثًا في هذا الشَّأن يصلح بأن نَقتبس منه بعد كتاب الله تعالى وأحاديث النَّبي صلى الله عليه وسلم.

1- قال إبراهيم بن أدهم: "ما قاسيتُ فيما تركتُ شيئًا أشد عليَّ من مفارقة الأوطان".

2- قال ابن المبارك وغيره: "إنَّ من أقام في مدينة أربع سنين، فهو من أهلها".

 

3- قال الرافعي القزويني: "ولولا نزوع النَّفس، إلى مسقط الرَّأس، ودائرة الميلاد، لم ينـزل: ﴿ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ﴾ [القصص: 85]".

 

4- أنشدتْ ميسون بنت بحدل الكلبية في حب وطنها قائلة:

خشونَةُ عيشَتي في البَدو أشهى 
إلى نَفسي من العيشِ الطَّريفِ 
فما أبغي سوى وطَني بديلًا 
فحَسْبي ذاك مِن وطنٍ شريفِ 

 

5- قال الشريف قتادة أبو عزيز:

بلادي وإن هانَتْ عليَّ عزيزةٌ ♦♦♦ ولو أنَّني أعرى بها وأجوعُ

 

6- قال أبو تمَّام الطائي:

بالشَّام أهلي وبغداد الهوى وأنا 
بالرقمتين وبالفسطاط جيراني 
فأينما ذُكر اسمُ اللهِ في بلدٍ 
عددتُ ذاك الحِمى مِن صُلبِ أوطاني 

 

7- قال عبدالرحمن الداخل وهو بأرض الأندلس:

أيُّها الرَّاكب الميمِّم أرضي 
أقْرِ مِنْ بَعْضِيَ السَّلامَ لبعضي 
إنَّ جسمي كما تَراه بأرضٍ 
وفؤادي ومالكيه بأرضِ 

 

8- قال جعفر بن أحمد السراج البغدادي:

وقفنا وقد شطَّت بأحبابنا النَّوى 
على الدَّار نَبكيها سَقى ربعَها المُزْنُ 
أفيك لِحملِ الشَّوق يا ريحُ مَوضعٌ 
فقد ضعفَتْ عن حَمل أشواقنا البُدْنُ؟! 

 

خامسًا: الخاتمة:

إنَّ حبَّ الوطن ليس معناه السَّير في قطيع، واعتناق مبادئه، والتحدُّث بلسانه، واقتفاء أثر الآباء والأجداد دون إعمال للعقل.

• إنَّ حب الوطن يعني غَرسًا واقتلاعًا، وليس مجرد اتباع.

• إنَّ حب الوطن يعني غرسَ كل ما هو في مصلحة أفراد الوطن وأجيال الوطن المتلاحقة، وتراب الوطن، والحفاظ عليه، والدِّفاع عن حياضه مهما كانت التضحيات، وتوريث ذلك للأجيال.

• إنَّ حبَّ الوطن يعني اقتلاع كل ما من شأنه إحداثُ ضرر بأفراد الوطن وأجيال الوطن، أو بتراب الوطن وسلامة أراضيه، وتوريث ذلك للأجيال كذلك.

• إنَّ حب الوطن يعني غرس قيَم المواطنة الصحيحة البنَّاءة، التي لا تصطدم مع دين ولا مع موروثات صحيحة.

• إنَّ حبَّ الوطن يعني اقتلاع كل ما من شأنه إلحاق الضَّرر العاجل أو الآجل، الحالي أو المستقبلي، بالوطن أو بأفراده أو معتقداتهم.

• إنَّ حب الوطن يعني دراسة تاريخه؛ للاستفادة من إيجابيَّاته والإضافة عليها، وتجنُّب سلبياته وتلاشيها.

• إنَّ الوطن لا بد وأن يعيش فينا قبل أن نعيش فيه، فبدونه يصبح الإنسان هائمًا على وجهه مشردًا طريدًا لا قيمة له.

• إنَّ حب الوطن يعني أن يكون الفرد خير ممثِّل لوطنه أينما حلَّ وأينما ارتحل.

• ألم ترَ أنَّ الطيور والحيوانات والأسماك تهاجِر لأبعد المسافات وتجوب الأرضَ من أقصاها إلى أقصاها، ثم تعود لأوطانها؟!

• ألم ترَ أنَّ الإنسان يجوب الأرضَ ويطوي أطرافها، حتى إذا أُنهكت قواه وبلغ من العمر أرذله، عاد إلى موطنه ليُدفن في مسقط رأسه؟!

• هل هناك مخلوق على وجه البسيطة يَعيش بلا وطن؟

• هل هناك أسد بلا عرين؟

• هل هناك نحل بلا خليَّة؟

• هل هناك طائر بلا عش؟

• هل هناك أفعى بلا جحر؟

• هل هناك غنم بلا حظيرة؟

• هل هناك سمَك بلا ماء؟

 

وصدق الشاعر حيث قال:

بلادي وإن هانَتْ عليَّ عزيزة ♦♦♦ ولو أنَّني أعرى بها وأجوعُ

 

وقال آخر:

بلادي وإن جارَتْ عليَّ عزيزة ♦♦♦ وأهلي وإن ضنُّوا عليَّ كرامُ

• وخلاصة القول: إنَّنا يجب أن نوازِن بين الإفراط في حبِّ الوطن والتفريط في حب الوطن؛ فلا نُفرِط في حبِّنا للوطن لدرجة التقديس الطَّاغي الذي يَجعله في مرتبة أعلى من ثوابت ديننا، ولا نُفرِّط في حبِّنا للوطن ونخذله في مواطن النصرة ونشمِّت فيه الأعداء.

• اللهمَّ مَن أراد أوطاننا بسوء فاشغله بنفسه، وردَّ كيده في نحره، واجعل تدبيرَه في تدميره.

• اللهمَّ احفظ أوطاننا من شرِّ الأشرار، وكيد الفجَّار، وشرِّ طوارق الليل والنهار.

• اللهمَّ احفظ أوطاننا من عبَث العابثين، وكيدِ الكائدين، وعدوان المعتدين.





المصدر: http://www.alukah.net/culture/0/108729/#ixzz4NnB14Tjp

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك