اختلاف القيم وتقرير التصادم في رأي الفيلسوف طه عبد الرحمن

لبنى بوشوارب

 

القيم وتعدّدها وتصادمها موضوع له أهميته خاصة في هذه الظرفية التي كثر فيها النقاش والتداول حول موضوعات شتى: هوية، حرية، ثقافة، تسامح، اختلاف. ودون الدخول في سبر أغوار هذه المواضيع كلّها سيكون الحديث عن القيم من خلال تصوّر الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن للموضوع.

يعتبر طه عبد الرحمن التعددية القيمية اتجاهًا ذا تأثير في الفلسفة الأخلاقية والسياسية المعاصرة، ويؤكد هذا الاتجاه مكانة القيم في الحياة الإنسانية، إذ بها تصلح الحياة وتطيب وبدونها تخبث، مع الإشارة إلى أنّ هذه القيم منها الخلقية وغير الخلقية، وتحت هذيْن القسمين تندرج أصناف مختلفة، مثال القيم الخلقية: المحبّة، الصدق، الأمانة، وهي قيم يعود نفعها على الخير. أمّا القيم غير الخلقية فمنها: النسب، الحسب، الجمال، وهذه يعود نفعها على الذات. يقول الفيلسوف طه عبد الرحمان: "إنّ أهمّ خاصّية يتميّز بها هذا الاتجاه، هي القول بأنّ القيم الأساسية التي تنبني عليها الحياة الطيّبة - أو الحياة الخيّرة - تكون متعارضة أو متنازعة أو قل متصادمة فيما بينها، بحيث لا يمكن رفع هذا التصادم بردّ هذه القيم بعضها إلى بعض ولا بترجيح بعضها على بعض؛ فعلى سبيل المثال، تتصادم الحياة مع الحرّية متى كانت التضحية بالحياة ثمنًا لنيل الحرية، كما تتصادم الحياة مع العدل متى كان التعرض للهلاك وسيلة توصل إلى دفع الظلم، وكذلك تتصادم الحرّية المطلقة مع المساواة المطلقة، فالواحدة منهما لا يمكن أن تتحقق إلا على حساب الأخرى؛ فإذن التعدّدية القيمية تدّعي بأنّ الحياة الطيّبة تواجه قيمًا متعدّدة متصادمة"[1].

هذا التصادم في رأي أصحابه، لا يرجع إلى أسباب تطبيقية كالنقص في المعلومات أو الاعوجاج في الاستدلالات، كما لا يرجع إلى ارتباط تلك القيم بذات الإنسان، ولا إلى ثقافة بعينها وإنّما يرجع هذا التصادم إلى كون العلاقة بين القيم تتصف بصفتين أساسيتين، هما التغاير والتباين.

أ- التغايريقول الفيلسوف طه عبد الرحمان: "المراد بالتغاير أنّ القيمتين المتصادمتين لا تقبلان مقايسة أو مقارنة إحداهما بالأخرى، وذلك للأسباب التالية: إمّا لأنّه لا توجد أية قيمة عليا - كالسعادة - يمكن أن تتفرع عليها هاتان القيمتان أو يجري ترتيبها بحسبها؛ وإما لأنّه لا يوجد مبدأ عام يمكن أن يؤخذ به أو قاعدة مقرّرة يمكن اتباعها للخروج من هذا التصادم"[2] مثال ذلك كما ذكر الفيلسوف، المعرفة والرحمة، إذ لا يمكن أن نقيس إحداهما على الأخرى، ولا أن نقارن بينهما على أساس معيار مشترك بينهما، فضلاً عن أنّ الزيادة في إحداهما لا يجعلها بالضرورة أفضل من الأخرى ولا دونها أفضلية.

ب- التباينيقول طه عبد الرحمن "المراد به معنيان: أحدهما التباين المنطقي، ومقتضاه أنّ مدلول إحدى القيمتين المتصادمتين لا يمكن أن يجتمع في العقل مع مدلول القيمة الأخرى، بحيث إذا تُصوّر تحقق إحداهما، امتنع تصوّر تحقّق الثانية؛ ومثال القيمتين المتباينتين منطقيًّا: العدل والعفو، والمعنى الثاني التطبيقي، ويحصل بين قيمتين متوافقتين منطقيًّا، لكن لا يوجد بينهما تباين عرضي ناتج عن أسباب عملية تتعلق بظروف مخصوصة أو بأحوال هذا العالم؛ ومثال التباين التطبيقي: الحياة الزوجيّة الهنيئة وحياة التفرّغ للعلم، فليس بين الأمرين تباين منطقي، لكن يجوز أن يتباينا عند بعض طالبي العلم"[3]. وعليه فصفتا التغاير والتباين متمايزتان فيما بينهما، فلا يصح أنّ كل تغاير تباين، فقد تكون القيمتان متغايرتين فيما بينهما من غير أن يمتنع حضورهما في حياة الفرد، إذ يكفي أن يتوسّع تصوّره للحياة الطيبة بحيث يجعلها تشمل هاتين القيمتين معًا.

يرى الفيلسوف طه عبد الرحمن أنّ هذا المذهب ارتبطت به ثلاثة ظروف:

- ظرف حداثي: أعطى طه عبد الرحمن المثل برأي ماكس فيبر، الذي يرى أنّه بفعل العقلنة استطاع الإنسان الخروج من عالم مسحور - أي عالم تسوده آلهة كثيرة تخفى مقاصدها عن الإنسان وتتدخل في حياته ومصيره - إلى عالم بصير لا سحر فيه، أي عالم خال من كل مقصدية متعالية خفية؛ فقد أصبح الإنسان الحديث قادرًا على معرفة العالم والتنبؤ. يعلق طه قائلاً "يلزم من هذا أنّ تقدّم العقل، بدل أن يفضي إلى تمكّنه أفضى، على العكس من ذلك، إلى تسيّبه، وأنّ انتصار العقلانية، بدل أن يصحبه ازدهارها، صحبه على خلاف ذلك، انحلالها؛ وتمثل هذا التسيّب أو الانحلال في ظهور قيم متعددة يصادم بعضها بعضًا؛ ولا تهمّنا هنا هذه المفارقة بعينها بقدر ما يهمّنا السبب الذي كان من ورائها، وهو أنّ الغلوّ في العقلنة أدى إلى التعارض بين عقل الإنسان ودين التوحيد، ومن ثمّ أدى إلى السقوط في شرك جديد، وهو شرك القيم"[4]. يمكن أن يقال بناءً على ذلك إنّ عقلنة العالم قائمة على مبدإ التعارض بين العقل والدين.

- ظرف إيديولوجي: يعطي المثال هنا باللبيرالية، التي تطالب بمجال واسع لممارسة الأفراد لحرياتهم دون تدخل بعضهم في أفعال بعض، وكذا لتحقيق تصوراتهم للحياة الطيبة دون تدخل الدولة فيها إلا بما يحفظ هذه الحريات. يقول طه "لهذا لجأ المنظّرون اللبيراليون إلى التفريق بين ما يسمّونه بالقيم الجوهرية - وهي تتعلق بتصوّرات الأفراد للحياة الخاصة بهم - وبين ما يسمّونه بالقيم الإجرائية - وهي قيم عامة تنظّم تحصيل هذه القيم الجوهرية؛ ثم جعلوا دور الدولة ينحصر في تحديد هذه القيم الإجرائية العامة؛ وهذا يعني أنّ اللبيرالية تفرّق بين الجانب السياسي الذي تنهض به الدولة، وبين الجانب الأخلاقي الذي يستقل به الأفراد ويختلف باختلافهم"[5]. وبالتالي نكون أمام فصل بين ما هو سياسي وما هو أخلاقي.

ظرف استراتيجي: يقول طه عبد الرحمن "يتميّز مفهوم الصدام عن نظائره من مفاهيم المواجهة مثل النزاع والصراع من جانب معيّن؛ فإذا كان النزاع يغلب عليه الطابع السياسي والصراع يغلب عليه الطابع الاقتصادي، فإنّ الصدام يختص باعتماد العنصر الثقافي وتقديمه على العنصرين الآخرين: السياسة والاقتصاد؛ ولا شيء أدعى اليوم إلى الصدام من اعتقاد الغرب الراسخ بشمولية ثقافته وحضارته، وقد شاقه هذا الاعتقاد إلى التطرف البالغ في تفضيل قيمه ومؤسساته وممارساته، مدّعيًا أنّ ثقافته نمط في الفكر ليس في الأنماط الفكرية أنور منه ولا أعقل ولا أحدث، ومستنفرًا كل وسائله لحمل شعوب العالم على الأخذ بها، على تعارضها مع بعض قيم ومؤسسات وممارسات هذه الشعوب"[6]. يرى طه أنّ الظرف قام على مبدأ التطابق بين الثقافة والأخلاق، وهو ما أدى إلى تطرّف ثقافي.

طرق التعامل مع صدام القيم

الطرق التي تعامل بها الليبراليون مع ظاهرة تصادم القيم، حصرها طه عبد الرحمان في أربع وهي: التقرير، التدليل، التفريق، والتجميع.

- طريق التقرير:

ذهب ماكس فيبر وكذا الفيلسوف الإنجليزي أشعيا برلين إلى أنّ تصادم القيم صفة لا تنفك أبدًا عن الحياة الإنسانية، إلا أنّهما اختلفا في موقفهما منه وتحديد أسبابه، يقول طه "أما فيبر فيبدو أنه يَعُدّ هذا التصادم صفة سلبية، إذ يرى أنّ العقلانية الحديثة في مواجهتها لواقع الحياة الداخلية والخارجية أفضت إلى ظهور رؤية متصادمة وقيم متباينة أشبه في تعددها بتعدد الآلهة: ولا يمكن أن تتحقق هذه الرؤى إلا بحصول صراع بينهما أشبه بحرب الآلهة، لأنّ كل واحدة من هذه الرؤى والقيم مقدّسة لدى صاحبها، ولأنّه لا سبيل إلى الاستدلال على أنّ إحدى القيم المتصادمة أفضل وأولى بالاختيار من الأخرى"[7]. هنا يركّز فيبر على الصراع والتصادم معتبرًا ذلك صفةً سلبيةً. أما برلين فيرى عكس ذلك. يقول طه "وأمّا برلين فإنّه يَعُدّ هذا التصادم القيمي صفة إيجابية، إذ يرى أنّ القيم التي تسعى إليها المجتمعات المختلفة خلال فترات مختلفة أو تسعى إليها الجماعات المختلفة داخل المجتمع الواحد أو يسعى الأفراد داخل الجماعة الواحدة متعددة ومتباينة فيما بينها، ولا سبيل إلى التوفيق بينها بأيّ وجه من الوجوه ولو أنّها كلها معان موضوعية وأساسية؛ ولكن يبقى أنّ العالم الذي يقوم به التعدد يكون أغنى وأنفع من العالم الذي لا تعدد فيه، إذ يفتح الباب لإمكانات مختلفة للسلوك في الحياة ويزيد في نطاق الحرية والتصرّف"[8].

طريق التدليل:

لقد سلك كل من يورغن هابرماس وكارل أوتو آبل في معالجة تصادم القيم طريقًا يضادّ طريق التقرير الذي أخذ به فيبر وبرلين، أي طريقًا ينبني على التدليل العقلي، يقول طه "إلا أنّهما قررا أن يكون تدليلاً من نوع خاص؛ فينبغي أن لا يكون من فعل العقل التأملي المنكفئ على الذات، وإنّما من فعل العقل التواصلي المنفتح على الجماعة، ولا أن يستند إلى عقلانية كيانية تزعم مطابقة الواقع في جوهره، وإنّما إلى عقلانية إجرائية تكتفي بتحديد القواعد التي يصح بها المطلوب، وبناءً على مقتضى هذا العقل التواصلي الإجرائي"[9] كما "يتوجب تحديد شروط الصحة التي يجب أن يستوفيها الحكم القيمي، هذه الشروط أجملها هابرماس في مبدأين اثنين:

أحدهما مبدأ التعميم: ومقتضاه أنّ الحكم القيمي لا يصح إلا إذا كان كل ما ينتج من تطبيقه العام - قضاءً لمصالح كل واحد - مقبولاً عند جميع الأشخاص المعنيين، بمعنى أنّه لا صحة للحكم القيمي بغير إجماع.

الثاني مبدأ المناظرة؛ ومقتضاه أنّ الحكم القيمي لا يصح إلا إذا اتفق على صحته جميع الأشخاص المعنيين بوصفهم متناظرين، بمعنى أنّه لا صحة للحكم القيمي من غير مناظرة"[10]. فالمناظرة إذن مهمة لكي يقيم المتحاورون الأدلة على صحة الأحكام القيمية.

طريق التفريق:

طريق التفريق نجده عند الفيلسوف الأمريكي جون رولز حيث يرى أنّ التعددية واقع ملحوظ في المجتمع الليبرالي، وذلك لصعوبات الحكم على الأشياء بسبب غموض المفاهيم الأساسية واختلاف الاعتبارات وخصوصية التجارب وتفاوت التقديرات وعسر الاختيارات. "كما يرى أنّ رفع التصادم القيمي الناتج عن هذه التعددية ينبغي أن يكون بطريق التفريق، فيؤكد أيّما تأكيد على الفرق بين الدائرة العمومية والخصوصية من حياة المرء، ويجعل الدائرة العمومية تختص بجملة من القيم التي ينبغي أن يشترك فيها كل أفراد المجتمع، وهي القيم التي تدخل في نطاق العدل، بينما يجعل الدائرة الخصوصية تتضمن القيم التي يختص بها كل فرد، والتي تحدّد تصوّره للحياة الطيبة، وهي القيم التي تدخل في نطاق الخير، بحيث لا تتعدد القيم إلا في هذه الدائرة الثانية وحدها"[11]. والخلاصة إذن نجد رولز يفرّق بين السياسة والأخلاق.

طريق التجميع:

الفيلسوف الأمريكي ميكائيل ولتزر في مجابهة تصادم القيم سلك طريقًا يضاد طريق التفريق الذي اتخذه رولز، أي طريقًا ينبني على التجميع بين الجانب السياسي والجانب الأخلاقي، حيث بيّن أنّ التعددية تعرض لكل القيم، كائنة ما كانت، ولذا لا يمكن استثناء العدل منها كما فعل رولز. يقول طه "وعلى الجملة، فإنّ للقيم الأخلاقية وجهين اثنين: أحدهما وجه كثيف يخص كل أمّة على حدة لتعلقه بثقافتها وتاريخها، وبفضله تتعدد القيم؛ والثاني وجه لطيف يشترك فيه أفراد الإنسانية جميعًا، ولا ينكشف لهم إلا من خلال الأحداث ذات البال - أو قل الابتلاءات - التي تقع لهذه الأمة أو تلك، وبفضله تتوحّد هذه القيم؛ وعلى هذا، يكون طريق ولتزر في التعامل مع التصادم القيمي هو المزاوجة بين المختصّ والمشترك، بحيث تكون القيم مشتركة إنسانيًّا، مختصة اجتماعيًّا، والمشترك الإنساني منها لا يشرف على المختص الاجتماعي ولا يؤسّسه"[12].

طه عبد الرحمان ونقده لمبادئ التعددية القيمية:

- نقد مبدإ التعارض بين العقل والنقل: يرى طه عبد الرحمن أنّ المعنى المباشر للتفريق بين العقلي والديني معنيان كلاهما باطل، أحدهما أنّ الدين لا شيء من العقل فيه، والثاني أنّ العقل لا شيء من الدين فيه، يقول طه "إنّ العقل يوجد حيث يوجد الدليل، لزم أن يكون في النص الديني قدر من العقل"[13]. ومن ثمّ لا تناقض ولا تنافر ولا تعارض بين العقل والدين.

- نقد بطلان مبدإ التعارض بين السياسة والأخلاق: يقول طه عبد الرحمن وهو يتحدث عن هذا المبدأ "فلا بد لكل فعل إنساني أن يصطبغ بصبغة أخلاقية، إما ابتداء وإما انتهاء؛ يترتب على هذا أنّ الفعل السياسي ينبغي أن يندرج تحت الفعل الخلقي، إلا أنّ هذ الاندراج ليس اندراجًا مباشرًا، ذلك أنّ الفعل السياسي يتأسس مبدئيًّا على ركنين هما: المصلحة المادية والسلطة المادية؛ والمصلحة المادية إما نافعة (خلقيًّا) فينبغي جلبها، وإما ضارة (خلقيًّا)، فينبغي دفعها؛ وجلب المصلحة النافعة فعل حَسَن، ودفع المصلحة الضارة فعل قبيح"[14].من ثمّ فإنّ مقولة اعتقاد التعارض بين السياسة والأخلاق مردودة.

- نقد مبدأ التطابق بين الثقافة والأخلاق: يرى الفيلسوف طه أنّ التطابق بين الثقافة والأخلاق لا يصح بإطلاق، لكون الثقافة انفصالية والأخلاق تعاونية، إذ يمكن أن تكون الثقافة اتصالاً ويمكن تكون انفصالاً، بخلاف الأخلاق فهي دائمًا تدعو إلى الخير والتعارف والتعاون.

على الجملة، فإنّ التعددية المطلوبة هي التعددية التي لا تسيّب للعقل فيها، ولا فصل فيها بين السياسة والأخلاق ولا تطرّف ثقافيّ فيها.


[1]- الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، طه عبد الرحمن، الناشر المركز الثقافي العربي، ط1، 2005، ص 53

[2]- نفسه، ص 54

[3]- الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، طه عبد الرحمن، ص 54

[4]- الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، طه عبد الرحمن، ص 56

[5]- نفسه.

[6]- الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، طه عبد الرحمن، ص ص 57-58

[7]- الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، طه عبد الرحمن، ص 59

[8]- نفسه.

[9]- نفسه، ص 60

[10]- الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، طه عبد الرحمن، ص 60

[11]- الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، طه عبد الرحمن، ص 62

[12]- نفسه، ص 65

[13]- نفسه، ص 68

[14]- الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، طه عبد الرحمن، ص 70

المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D8%AE%D8%AA%D9%84%D8%A7%D9%81-%D...

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك