أنواع الشرائع وموقف المسلم منها

 

الأحكام الشرعية التي أنزلها الله تعالى وفرضها هي كلمة الله؛ فكلمة الله تعالى هي مجموع ما أنزل.

 

يقول شيخ الإسلام: "فالمقصود أن يكون الدين كلُّه لله، وأن تكون كلمةُ الله هي العليا، وكلمة الله: اسمٌ جامع لكلماته التي تضمنها كتابه، وهكذا قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾ [الحديد: 25]، فالمقصود من إرسال الرسل، وإنزال الكتب أن يقوم الناسُ بالقسط في حقوق الله، وحقوق خلقه"؛ مجموع الفتاوى (28/ 263).

 

ويقول: "وحتى تكون كلمة الله - التي هي كتابه، وما فيه من أمره ونهيه وخبره - هي العليا"؛ مجموع الفتاوى (28/ 416).

 

والأحكام الشرعية لها أحكام متعلقة بالعقيدة والتوحيد وأصل الدين والإيمـان، وهذه كلها مترادفات على نفس الأصل، ولها أحكام متعلقة بالفروع والإيمان الواجب.

 

أما تعلقهـا بالفروع، فبالامتثال والعمل، وبمصطلح آخر: (الدخول في الأعمال)، والأحكام المتعلقة بالعمل هنا هي الطاعة والمعصية.

 

وأما تعلقها بالعقيدة والتوحيد وأصل الدين وأصل الإيمان، فهو أمران: التصديق، والقبول.

والتصديق يشمل التصديق بالقلب، والإقرار باللسان.

 

والقبول يكون بالقلب والجوارح؛ إذ إن عمل القلب هو إرادته النابعة من التعظيم والمحبة والقبول، والإرادة تستلزم عمل الجوارح، وهذا يكون بقبول الحكم التشريعي من الله، وابتغاء الحكم عنده، وهو يستلزم ردَّ حكمِ غيره تعالى إجمالًا وتفصيلًا؛ ولهذا لا يتحقق قبول شرع الله إلا برفض غيره، وذلك بعدم مشايعة ومظاهرة من بدَّل الشـرائع، وعدم نصره على باطله.

 

وعلى هذا؛ فالمسلم يرفض تبديلَ الحكم الجزئي لأي حكم من أحكام الشريعة باستحلال المحرَّم، أو رفض الواجب، أو تحريم الحلال، أو ردِّ أي حدٍّ من حدوده تعالى، ومن باب أوْلى فهو يرفض تغيير مصدر التشـريع الذي يستلزم تبديل الشرع جملة.

 

قبول التشريع عبادة ودينونة؛ فمن فرض على المسلم مصدرًا آخر للتشريع، فقد فرض عليه عبادة غير الله، والدينونة لغيره تعالى.

 

التنسك لله - وهو العبادة بمعناها الخاص - دينونة لله، وقَبول التشريع منه تعالى دينونة له، والشرك يقع بصرفِ التعبُّد لغير الله، أو قبول التشريع من غيره، فكلاهما عبادة وكلاهما دينونة يجب إفرادُ الله تعالى بها؛ ﴿ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ﴾ [الزمر: 11].

 

ولهذا جمع الله تعالى بينهما في أكثر من آية، فقال تعالى عن انحراف مشركي النصارى: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ﴾ [التوبة: 31]، فهنا نوعان من الشرك:

فعبادتهم للمسيح: كانت بصَـْرف النُّسك والتعبد (بمعناه الخاص؛ من السجود، والدعاء، والذبح، والنذر، والاستكانة، وغيرها)، والتوجُّه به للمسيح عليه السلام من دون الله.

 

وأما عبادة الأحبار والرهبان، فكانت بقَبول التشريع منهم بدلًا مما شرع الله تعالى؛ حيث بدَّلوا الشرائع المنزَّلة، واستحلوا ما حرَّم الله؛ ولهذا لم يَقبَل منهم تعالى ادِّعاءهم للإسلام.

 

وجمع تعالى بيانَ الانحرافين فيما حكى عن مشركي العرب، وأخبر تعالى أنـه نفس انحراف مَن قَبلهم: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ... ﴾ [النحل: 35].

 

وجمع تعالى ذكرهما في قول مدين لشعيب في اعتراضهم على التشـريع الرباني في المجال الاقتصادي بتحريم ما استحَلوه من المحرَّمات، مع اعتراضهم على دعوته لتَرْك شرك الأصنام: ﴿ قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ﴾ [هود: 87].

 

بـل اطَّرد النهي عن الانحرافين في دعوة الأنبياء: ﴿ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ ﴾ [نوح: 3]، والطاعة للرسول إنما هي طاعة لله تعالى وحده؛ إذ إن الرسول إنما يُطاع بصفة الرسالة والبلاغ؛ ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [النساء: 64].

 

وعلى هذا؛ فقد جاءت الرسل ببيان أمرين عظيمين يُمثِّلان محور الرسالات:

أولًا: جـاؤوا ببيان كيف يُعبَد الله؛ فقال صلى الله عليه وسلم: ((خُذوا عني مناسكَكم))، وقال: ((صلُّوا كما رأيتموني أصلي))، وقال: ((مَن أحدَث في أمرنا ما ليس منه، فهو ردٌّ))، فنَهَوْا عن البدع المخترَعات في العبادة.

 

وثانيًا: جاؤوا بشرائعَ شاملة كمنهج كامل للحياة، لا يسعُ المسلمَ الخروجُ عنها.

 

ولا يتمُّ الإيمان بالرسالة إلا بالتصديق والقبول في الجانبين: جانب كيف يُعبد الله، وجانب المنهج الذي يقيم القسط بين الناس.

 

ولهذا كانت الشرائع ثلاثة أنواع:

1) شريعة منزَّلة: وهي ما جاءت به الرسل من الكتاب والحكمة، وهي السنة.

 

2) شريعة مؤوَّلة: وهي الاجتهاد المشروع على وَفْق النصوص والأصول التي جاءت بها الرسالات، وهذه الأصول هي في شريعتنا أصول الفقه المستفادَة من تصرفات الشارع في أحكامه، وتصرفات العرب في كلامها.

 

3) وشريعة مبدَّلة: وهي الشـرائع المكافِحة لما جاءت به الرسالة؛ كشرائع ملزِمة وقانون عام مبدَّل وُضع للناس بديلًا ملزِمًا عما أنزل الله؛ راجع مجموع الفتاوى (3/ 268)، و (35/ 395- 396).

 

وشرعية القبول عند المسلم يكون للشريعة المنزَّلة؛ والشريعة المنزَّلة نفسها نوعان: محكَمة ومنسوخة.

 

والمسلم متعبَّد بقبول الشريعة المنزَّلة المحكَمة، دون الشـريعة المنزَّلة المنسوخة، فمن تمسك بالمنسوخ ورد الناسخ ورفضه، فليس بمسلم، فمَن أَسْبَتَ بعد الجمعة، أو توجَّه لبيت المقدس بعد تشريع التوجه إلى الكعبة، أو تمسك بأحكام منسوخة من التوراة أو الإنجيل - وإن كانت صحيحة في زمنها - فليس بمسلم.

 

ولهذا لما استأذن بعضُ من أسلم من اليهـودِ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يقيموا الليل بالتوراة، وأن يُسْبِتُوا في الإسلام (يجتمعوا يوم السبت ويعظموه) - استأذنوا فقـط ولم يفعلوا - نزل قولـه تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ﴾ [البقرة: 208]؛ يعني: شرائع الإسلام كافَّة، ﴿ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾ [البقرة: 208]؛ يعني: في ترك بعضها تمسُّكًا بالمنسوخ؛ ﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 208، 209] قال ابن عباس: "الزَّلَل الشـرك"، ومقصود ابن عباس رضي الله عنه هنا بالشـرك هو ردُّ حكم الله الناسخ؛ فهو شرك أعظم في التشريع.

 

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "فدين الأنبياء واحد؛ وهو دين الإسلام، كلُّهم مسلمون مؤمنون، كما قد بيَّن الله في غير موضع من القرآن، لكن بعض الشرائع تتنوَّع؛ فقد يُشـرِّع في وقتٍ أمرًا لحكمة، ثم يشرع في وقت آخر أمرًا آخر لحكمة؛ كما شرع في أول الإسلام الصلاة إلى بيت المقدس، ثم نسخ ذلك وأمر بالصلاة إلى الكعبة؛ فتنوعت الشـريعة والدين واحدُ، وكان استقبال الشام ذلك الوقت من دين الإسلام، وكذلك السبت لموسى من دين الإسلام، ثم لما نسخ صار دينُ الإسلام هو الناسخَ، وهو الصلاة إلى الكعبة، فمن تمسَّك بالمنسوخ دون الناسخ، فليس هو على دين الإسلام، ولا هو متبع لأحد من الأنبياء"؛ مجموع الفتاوى (35/ 364 - 365).

 

ومن هنـا كانت قاعدة الإسلام التي انتظمت جميع الرسالات للأوَّلين والآخِرين، كما قررها علماء الأمة وأئمة الهدى، وهي أن جِماع الدين أصلان:

أن يُعبد الله وحده، وأن يُعبد بما شرعه في كل وقت، بما أمر الله به في ذلك الوقت.

 

فردُّ أحكام الله الناسخة تمسُّكًا بحكم منزَّل منسوخ هو خروج من الإسلام، فالأَوْلى والأعظم هو رد أحكام الله تعالى المنزَّلـة تمسُّكًا بشـرائع مبدَّلة اخترعها الخلق كِبرًا على الله وتمرُّدًا عليه، وتنحيةً للدين عن قيادة الحياة، وطعنًا في أحكام الله تعالى وفي علمه تعالى بتطورات الحياة وحاجات الناس؛ إذ يرون شرائعَهم أعلمَ وأَوْفى بحاجـات الخلق، وطعْنًا في حكمته فيما شرع؛ حيث يرون شرائعهم أحكمَ، بل وفي رحمته تعالى؛ فيرون شرائعهم أرحمَ، بل وفي عـدله تعالى؛ حيث يرون شرائعهم أعدل... وتبعهم في هذا المنافقون والمفتونون!

 

يقول شيخ الإسلام: "ومَن بدَّل شرع الأنبياء وابتدع شرعًا، فشرعُه باطل لا يجوز اتِّباعه، كما قال: ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ﴾ [الشورى: 21]، ولهذا كفر اليهود والنصارى؛ لأنهم تمسكوا بشرع مبدَّل منسوخ"؛ مجموع الفتاوى (35/ 365).

 

"ومعلوم أن من أسقط الأمرَ والنهي الذي بعث الله به رسلَه، فهو كافر باتِّفاق المسلمين واليهود والنصارى"؛ مجموع الفتاوى (8/ 106).

 

وأما المسلم، فهو يصدق بما أنزل الله من خبر، ويقبل ما أنزل من تكليفٍ ويلتزمه دون ما سواه، واثقًا مُطمئِنًّا لحكم ربه وشريعته، وعلمه تعالى وحِكمته، وعدله ورحمته، والله الموفِّق للخير، نسأله تعالى الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، ولا حول ولا قوة إلا به.





المصدر: http://www.alukah.net/sharia/0/101200/#ixzz4MTLBua1J

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك