تنوير الجماهير وجماهير التنوير

محمد علي المحمود

 

المؤسسات المدنية الحديثة مهما كانت حيطانها عالية، وشعاراتها باذخة، لا تصنع مجتمعا مدنيا حديثا؛ ما دامت الثقافة الـ»ماقبل مدنية» تحكم وعي الجماهير، أولئك الجماهير الذين سيُمدّون – وليس غيرهم - هذه المؤسسات بالموظفين، بل وبصانعي أنظمتها ومُفَصّلي قوانينها.

لا ريب أن التحولات النوعية في بُنية الوعي الجماهيري هي التي حَسَمت - وتحسم - مسارات التغيير عبر تاريخ البشرية الطويل.

يقول المفكر الأميركي الشهير صموئيل هنتنغتون: "الحركات الشعبية هي محرك التاريخ"، (صدام الحضارات، ص355). وإذ يقول هذا صراحة بعد استعراضه لوقائع تاريخية محددة، فإن كتابه الإشكالي (الذي ناهز 600 صفحة في طبعته العربية) لم يكن إلا تأكيدا للمعنى النهائي لهذه المقولة التي تؤكد أن خلف الحراك السياسي الظاهري/المباشر قناعات ثقافية راسخة تحكم مجمل الوعي العام، وتحدد - على نحو واع أو غير واعٍ - خياراته الكبرى/طويلة الأمد. وكما تتأكد هذه الخلفية الثقافية على مستوى الخارج (العلاقات بين الدول والحضارات)، تتأكد أيضا على مستوى الداخل (المفاضلة بين البدائل داخل الحضارة/الدولة)، إذ ينجذب الشعب – في تياره الجماهيري العام – لصوته الداخلي، أي لقناعاته الأعمق المتجذرة في الثقافة والتاريخ.

إذن، التغيير الحقيقي لا يكون بلا تنوير، والتنوير الحقيقي لا يكون بلا جماهير. التنوير الفاعل هو التنوير الذي يستطيع الوصول إلى وعي "الحركات الشعبية" التي وصفها هنتنغتون بأنها: "محرك التاريخ".

لم يكن هذا اكتشافا من هنتنغتون، بل قال به كثيرون، بصورة مباشرة أو غير مباشرة. قبله بقرن، كان غوستاف لوبون يؤكد على هذا الدور الحاسم للوعي الجماهيري في معظم كتبه، وقد أكد كلاهما على "روح الحضارة" الكامنة في الثقافة المهيمنة، وشرحا بالتفصيل مسؤوليتها عن كثير من الخيارات المصيرية التي أدت إلى نتائج متباينة في مسائل حاسمة، مسائل مرتبطة بفعالية التقدم الإنساني، كالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة..إلخ.

بهذا يتأكد أن تغيير وعي الجماهير له الأولوية في أي عملية تقدمية؛ لأن خيارات الجماهير في مسارها العام هي التي تصنع المستقبل، ولا تصنعه المؤسسات والأنظمة والقوانين؛ رغم أهميتها في هذا المجال. مَن يتجاهل الدور المحوري للوعي الجماهيري فسيصاب بالإحباط؛ مهما بذل من الجهود والتضحيات.

مثلا، العرب منذ أكثر من قرن لم يتحدثوا عن شيء كما تحدثوا عن الديمقراطية التي يحلمون بها، بل ويتغنون بها، وهي المعجزة التي "تأتي ولا تأتي"!. والغريب أن كثيرا من مفكري العرب يعجبون من هذا الاستعصاء المستفحل، ويقفون مشدوهين أمام الانتكاسات الثقافية للجماهير، والانقلابات العملية للقيادات على التجارب الجزئية، بل ويصابون بالصدمة إذا ما اصطدموا بالخيارات اللاديمقراطية المفاجئة لكثير من (المثقفين!). بينما لو نظروا إلى نظام القيم السائد الذي يجد مرجعيته في الثقافة التقليدية؛ لعُرِف "السّر"؛ فبطل العجب. وطبعا، "السر" الذي ليس سرا يتحدد في أن هذه الجماهير التي تهتف للديمقراطية بألسنتها، تؤمن في أعماقها بقيم ومبادئ وتصورات مناقضة لأبجديات التصور الديمقراطي.

يقول د. مصطفى حجازي: "قبل البحث في الحرية والديموقراطية، لا بد إذاً من طرح قضية الاعتراف بالإنسان وكيانه، وإلا تحول الأمر إلى شعارات ومساجلات لا طائل من ورائها" (الإنسان المهدور، ص26).

ويقول إيليا حريق - موضحا الطريق إلى هذا الإنسان: "إن الديموقراطية الغربية كما نعرفها اليوم هي نتيجة التوسع في القيم الليبرالية لتشمل عامة الناس بعد أن كانت تُحصَر في السراة المحدودي العدد" (الديموقراطية وتحديات الحداثة بين الشرق والغرب، ص176).

هنا تبرز أمامنا الحلقة المفقودة كما يقال. من الطبيعي أن يفشل مجتمع ما، في احتضان الديمقراطية كمنتج ليبرالي؛ ما دام يرفض الليبرالية أصلا. لا يجدي أن تقبلها النخبة المثقفة، ولا تؤمن بها بعض القيادات الإدارية.

الدور الحاسم للوعي الجماهيري، حيث لا قيمة لمؤسسات مدنية حديثة تَكْفُر الجماهيرُ/يكفُر الوعي العام بأهم مبادئها التي لا تنهض إلا عليها. لا يمكن أن تُقيمَ مؤسسات ديمقراطية فاعلة، في مجتمع تقليدي تعتقد الأغلبية الساحقة من جماهيره أن "الحرية الفردية" ضلال، وربما تجزم بأنها كفر بواح.

إن طرح مبادئ إنسانية تحررية تتعلق بأرقى ما وصلت إليه الإنسانية في مسيرة تأنْسنها، قبل أن يكون الإنسان - كقيمة - معترفا به، أي في بيئة لا ترى الإنسان في وجوده الفردي أولوية، هو نوع من العبث والالتهاء، صادر عن جهل حقيقي، أو عن إرادة تجهيل تسعى لمصالحها الخاصة/الآنية، ولا تهتم بما وراء ذلك؛ عندما تكون منافذ الحرية والديمقراطية طريقا مُمَهَّدا لمن يُصرح بالكفر بها ليل نهار، والأهم عندما تكون الجماهير هائمة في عشق أعداء الحرية من رموز الجهل والتضليل والتكفير والإقصاء والإرهاب.

هناك أبجديات يجب تعلمها قبل البداية في كتابة النصوص الخالدة.

وفي مضمار التحرر التنويري، هناك خطوات ضرورية تمس المعمار الذهني للجماهير. لا ديمقراطية دون الإقدام على تفكيك العصبيات الدينية والمذهبية والعرقية والقبائلية ثقافيا، أي في وعي الجماهير، وبالتالي، صناعة مجتمع مدني، يسبق، أو من المفترض أن يسبق كل تشكل ديمقراطي مؤسساتي أو شبه مؤسساتي، وإلا تحولت المؤسسات الديمقراطية إلى وسائط لتعزيز هذه التعصّبات في السياق الفكري؛ من حيث التأكيد المعنوي المستمر لحضورها؛ ومن حيث تشخيصها كحقائق واقعية من خلال الكيانات المشخصة، فضلا عن منحها الفرصة لتنزيل أوهامها التعصبية اللاإنسانية/القمعية في الواقع.

كل مَن ينظر إلى واقع المجتمعات العربية لا بد أن يصاب باليأس؛ جراء هذا العداء المستشري لكل الأبجديات التي تتأسس عليها الحقوق الإنسانية في العالم المتحضر. هذا العداء قد يظهر في صورة مقولات لفظية، تصدر عن رموز التيارات المحافظة غالبا، فتصفق لها الجماهير، وقد يظهر في صورة فعاليات واقعية، حيث التعصب العملي/الفعلي للانتماءات المتخلفة/ما قبل المدنية.

يقول د. أحمد شكر الصبيحي - مصورا استشراء هذه الانتماءات المتخلفة في الواقع العربي البائس: "إن المجتمع العشائري أو القبلي أو الأبوي الممتد لا يمت بصلة إلى المجتمع المدني، وإن جدلية العلاقة بين القبيلة والمدينة في طول الوطن العربي وعرضه هي دائما لصالح القبيلة وامتداداتها العشائرية والعائلية. وهذا ما يجعل المجتمع المدني الذي هو، تعريفا وممارسة، نقيض القبيلة وابن المدينة يتراجع كلما نشأت أزمة بينه وبين القبيلة" (مستقبل المجتمع المدني في الوطن العربي، 194).

أعجبني هذا التأكيد على الوضع اللامدني للمجتمعات العربية، لأنه لا يقف عند توصيف الظاهرة، بل يكشف عما هو أخطر هنا، وهو أن المجتمع الذي قد يتظاهر بمستوى ما من تجليات الظاهرة المدنية، يتراجع لصالح القبيلة في أي صراع، أي يرجع إلى ثقافته الجماهيرية الأعمق التي لم تتغير، يرجع إلى تعصباته ولو من خلال مؤسسات مدنية يُفتَرض أنها تحدّ من توحش هذه العصبيات.

إن المؤسسات المدنية الحديثة مهما كانت حيطانها عالية، وشعاراتها باذخة، لا تصنع مجتمعا مدنيا حديثا؛ ما دامت الثقافة الـ"ماقبل مدنية" تحكم وعي الجماهير، أولئك الجماهير الذين سيُمدّون – وليس غيرهم - هذه المؤسسات بالموظفين، بل وبصانعي أنظمتها ومُفَصّلي قوانينها.

الفشل الذي يلاحق المؤسسات المدنية في العالم العربي ليس راجعا إلى نقص في الوجود المادي/الوسائل المتاحة لهذه المؤسسات، بل إلى الثقافة التقليدية التي تخترقها؛ فتُجمّد حركتها.

د. مصطفى حجازي يؤكد بصراحة أن العصبيات/النظم التقليدية هي النظم الفاعلة فيها، وليست قوانينها المدنية، مشيرا إلى أن العرب لا يزالون يعيشون تشابك الأزمنة، ما بين قبلي وحديث، ما بين النسيج العصبي وقناع الحداثة، ما بين الظاهر الرسمي والخفي الفعلي، حيث تُوجَد أحدث المؤسسات والنظم، ولكن بالمرجعية العصبية المُنتمية لواقع التخلف، إنه يؤكد أن "العصبية تتغلغل في نسيج المديني وتحكم حركته ودينامياته وعلاقاته وتفاعلاته" (الإنسان المهدور، ص43 و45).

يعتقد كثيرون أن النخبة القليلة التي تتمتع بقدر من الثقافة المدنية الحديثة قادرة على توجيه المؤسسات المدنية لممارسة الوظائف المدنية وفق الأنظمة والقوانين المعلنة؛ حتى لو كانت الثقافة الاجتماعية السائدة تعمل في الاتجاه المضاد لهذه القوانين. هذا اعتقاد خاطئ؛ يتجاهل قدرة الوعي العام على ممارسة الضغط في مسألة تكييف القوانين، وعلى تعديل مجريات الأحداث داخل هذه المؤسسات، كما يتجاهل أن المثقف التقني ليس بالضرورة يمتلك وعيا تقدميا، بل الغالب أنه ابن بيئته الثقافية، لا ينفصل عنها – إن انفصل – إلا في القليل.

إذن، وفي كل الأحوال، لا يمكن تجاهل أن هذه النخبة هي من إفراز المجتمع ذاته، وليست نخبة مستوردة من وراء الحدود. يقول الباحث القدير خليل أحمد خليل: "الجمهور العام هو الذي ينتج نخبة العامة (السياسية والدينية) والخاصة (العلمية، الثقافية، والقطاعية: طب، صيدلة، زراعة، صناعة، تجارة، قانون، إدارة.. إلخ.)"(سوسيولوجيا الجمهور السياسي الديني، ص362). ومعنى هذا أن الرمز الجماهيري، صَغُر أو كَبُر، ليس إلا تكثيفا لخصائص الجماهير. وإذا استطاعت قلة نادرة من هذه النخبة أن تنعتق من أسر الثقافة المجتمعية المهيمنة لهذا السبب أو ذاك، فلا شك أن أغلبيتها ستخضع لها بشكل أو بآخر، وبعد ذلك، ستقدم كل صور التبرير لهذا "التخاذل الطبيعي"!.

لقد أدرك خطاب التنوير هذه الحقيقة التاريخية؛ لأنه ليس خطابا نظريا محضا، بل هو خلاصة تجارب التاريخ. ومن هنا، فليست أصول هذا الخطاب النظرية نتاج تأمل نظري خالص، وإنما هي ابنة حركة التاريخ، تاريخ النهضة ومسارات التقدم الإنساني، وفي الوقت نفسه، هي أم العصر الحضاري الحديث الذي يتفيأ العالم ظلاله الوارفة، والذي يجد نموذجه الأرقى في العالم المتقدم. لهذا، فهو – أي خطاب التنوير - لا يطرح أفكارا مجردة، ويقف عندها، بل يسعى إلى تغيير بنية التصورات العامة على المستويين: النظري والعملي؛ بأعمق درجة ممكنة، ولأكبر قدر من الجماهير.

إذا كان التقدم الفردي أو الجماعي يبدأ بحلم، فهذا يدل على أنه يبدأ بمعنى/بفكرة تشتغل في عالم الأذهان أولا. لا يمكن أن تحقق جماهير التخلف والعصبيات البدائية أحلاما ديمقراطية؛ لأنها لا يمكن أن تحلم بتحقيق أشياء لا تفكر بها أصلا.

في أوائل تسعينيات القرن الميلادي المنصرم، وعندما كان إسلاميو الجزائر على وشك الفوز بالانتخابات التي تتوسل الديمقراطية، كان زعيم هؤلاء الإسلاميين "علي بلحاج" ينشر مقالاته في تكفير الديمقراطية بعنوان: (الدمغة القوية في كفر الملة الديمقراطية). وكان هذا يعني أن ثمة ديمقراطية تمارس - مرحليا - على مستوى الفعل، بينما الوعي فاعل ومنفعل بنفي هذه الديمقراطية بأقصى درجات النفي: التكفير!.

الشواهد من هذا النوع كثيرة، وقد أوردت كثيرا منها في مقالاتي عن ديمقراطية المتأسلمين مشفوعة بالتوثيق. وطبعا، ديمقراطية المُتعرّبين لا تقل رداءة وتخلفا عنها بأي حال. العروبي الذي يُنظّر للديمقراطية، ويطالب بها، بينما هو يرفع صورة عبدالناصر وصدام، لا يختلف عن الشيخ الجزائري علي بلحاج. وحقيقة، الأمر لا يتعلق بهذا الرمز العروبي أو بذاك الشيخ الأصولي، بل بالجماهير التي يعكس هؤلاء وَعْيها؛ فيتكشّف لنا عن وعي لا يؤمن إلا بالاستبداد، ولا يحترم إلا عُتاة المستبدين.

أيا كان الأمر، لستُ يائسا؛ مع كل دواعي اليأس. إنني أؤكد أن مع كل هذا الرواج الكبير لثقافة التخلف والانحطاط والانغلاق، ثمة بارقة أمل. لكنه، ليس أملا في فراغ، ولن يصدر من فراغ. لا أمل إلا بعد إجراء تغيّرات نوعية في بنية التصورات العامة السائدة المستمدة من عصور الانحطاط، وهذه التغيرات تتطلب الاشتغال النقدي على الموروث؛ اشتغالا شرط فاعليته أن يكون في سياق جماهيري متفاعل مع هذا النقد. يحدث هذا، بالتزامن والتفاعل مع خطاب التنوير الغربي في كل مراحله، استنباتا ونقدا؛ لخلق "حالة تنوير" خاصة، متوائمة مع التحولات المستجدة في عالم اليوم. ولنتأكد أننا بدون هذه الخطوات الصعبة لن نصنع تنويرا جماهيريا، ومن ثم، لن نصنع عالما إنسانيا؛ مهما استوردنا من الأشكال/القوالب المفرغة من مضامينها.

إن من يقرأ كتاب: (هل الديمقراطية قابلة للتصدير؟) الذي أعده: زولتان بارني، روبرت موزر، وتضمن بحوثا تتعلق بقابلية المجتمعات للتحول الديمقراطي، وكتاب (روح الديمقراطية) للباحث القدير لاري دايموند، يدرك أن الشعوب تمتلك روحا ثقافية، هي التي تحدد القابلية لاستنبات الأفكار، وأن الثقافة المهيمنة قد تُحوّل أجمل وأنبل وأنفع الأفكار إلى ضلالات وشبهات وعزو فكري..إلخ في نظر الجماهير. وحينئذٍ، تذهب كل المحاولات والنضالات العظيمة أدراج الرياح.

المصدر: http://www.alriyadh.com/1536602

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك