ضرورة التعارف بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم

إلياس بلكا

 

التعارف فريضة قرآنية، قال تعالى: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا»، وهي في حق المسلمين أوجب.

ومن أولى ما ينبغي أن تتجه إليه عناية المسلمين اليوم: أن يتعرف أهل المذاهب بعضهم على بعض، خاصة في البلاد التي تجمعهم. وقد ذكر آل كاشف الغطاء بعض صور جهل المسلمين بعضهم ببعض، ثم قال: «وأشد من هذا غرابة وأبعد شذوذا أن جماعة من أبناء السنة في العراق لا يعرفون من أحوال الشيعة شيئا مع دنو الدار وعصمة الجوار».

لذلك انطلقت فكرة جماعة التقريب من أن «المسلمين بحاجة إلى أن يعرف بعضهم بعضا، وإن الأغراض قد أدخلت على كل فريق بالنسبة إلى الآخر تهما ومطاعن، وليس من المعقول أن تتعرف على طائفة بما كتبه عنها أولو الغرض».. وقد كان كل فريق يحمل عن الآخر صورة سيئة، فالسنة يعتبرون الشيعة مشركين بالتوسل بالأئمة ورفعهم إلى رتبة فوق البشرية، وأن عندهم مصحفا آخر.. يقول القمي: «أما مطاعن الشيعة فأقل ما كانوا يقولون في أهل السنة أنهم مجسمة، وأنهم نواصب، وأنهم يكرهون أهل البيت». هكذا «جاء التقريب على أساس فكرة التعارف العلمي، وأوجد مركزا لمن يريد أن يعرف كثيرا أو قليلا عن المذاهب الإسلامية المعروفة». ورفعت الجماعة شعار: «إعرف أخاك تعرَّف على أفكاره، إذا لم تقتنع إعذره واحترم رأيه.»

وقد دعا أبو زهرة إلى إحياء فكرة المؤاخاة بين المسلمين، والتي عقدها النبي عليه السلام بدار الهجرة. ومما قاله هنا: «يجوز المؤاخاة بين الطوائف الإسلامية لإزالة معنى الطائفية، وإحلال المذهبية محلها. فهي سنة منيعة، وقد وجدت مقتضياتها في هذا الزمان»، ذلك لأن المؤاخاة عمل نبوي معقول المعنى، وليس تعبديا، ولا هو من خصوصيات النبي (ص)، لأنه لم يقم دليل على ذلك، فيجوز فعله اليوم.

ويدعو الصفار أهل السنة إلى مراجعة بعض تصوراتهم عن الشيعة، لأن بعضها لا يصدق إلا على طائفة منهم، حيث لم يقل بها الجميع، كما أنه كانت للإمامية آراء في سالف العصور، لكنها تغيّرت اليوم وتطورت.

ومن الوسائل العملية لتحقيق هذا التعارف:

أ- تقوية منظمة المؤتمر الإسلامي وتفعيل منظماته الفرعية. وقد عقد التركي يالجن في كتابه فصلا للحديث عن هذه المنظمة وفروعها، وذلك وإن كان في إطار الوحدة العامة بين الدول والشعوب المسلمة، إلا أنه يشمل أيضا حالة التعدد المذهبي في الأمة. وأختصر المطلوب من منظمة المؤتمر الإسلامي في كلمة واحدة، هي: التفعيل. إن فكرة تأسيس المنظمة جيدة، والمنهج الذي سطرته لنفسها، بمساهمة الخبراء، منهج سليم.. كل ما ينقص هو العمل. وإذا تحقق ذلك أمكن أن تنشأ مع الزمن صلات وصداقات بين المسؤولين من الفريقين، وفي هذا عون عظيم على التقريب. وقد رأيت في متابعاتي لما يحدث بأوربا أن مؤسسات الاتحاد الأوربي جمعت بين أكثر المسؤولين التنفيذيين بالقارة، ففي كل يوم توجد اجتماعات، وفي كل فترة وزمن دورات ومشاورات.. لذلك يعرف بعضهم البعض معرفة شخصية، بل إن بعض هذه الصلات تبقى حتى بعد مغادرة الوظائف الرسمية. لذلك فإن هذا التعارف يسهل أمورا كثيرة في عمل مؤسسات الاتحاد.

ب- تأسيس الاتحاد الدولي للكُتاب المسلمين، على غرار الاتحادات القطرية.

ج- أكاديمية العلوم الإسلامية، على مستوى الشعوب الإسلامية. وهذه فكرة يالجن، ذكر في كتابه أنه كان قد وضع مشروعا مفصلا حولها، وأنه قدمه إلى بعض الجهات.

د- مؤتمرات التقريب وندوات التأليف: فهي تجمع أهل الرأي والعلم من الفريقين لتدارس قضايا التأليف بين الأمة ومشكلاتها.

ه - السياحة: هذا الأسلوب الحضاري من أقوى الأسباب في تعارف الشعوب، حيث يتيح السفر والمكث بين قوم ما مدة ولو كانت قصيرة معرفة وإدراكا بطبائعهم وعقلياتهم ومختلف مناحي حياتهم.

هل فعلا لا يعرف الفريقان بعضهما البعض؟

لكن هل، فعلا، لا يعرف الطرفان بعضهما البعض؟ هنا نجد أن عبد الرحمن الحاج، مثلا، ينكر أن أهل العلم من مختلف الفرق يجهل بعضهم ما عند بعض. يقول: «إن الإلحاح على «التعرف على الآخر» على الرغم من أهميتها (أي مسألة التعرف) لا تبدو أنها تمثل أساسا قويا للتقارب، فكل منهما يعرف الآخر في شكل جيد، لا بل إنه في بعض الأحيان يعرفه أكثر من اللزوم، ومعرفة الآخر تفقد أهميتها بالنظر إلى المعرفة المتحققة فعلا، وإن شابها بعض الأوهام، لكنها في الجملة صحيحة. إن المعرفة «الصحيحة» عن الآخر هي شرط للحوار وليست شرطا للتقارب، فالواقع أن الشقاق أساسا ناجم عن معرفة المختِلف أكثر من الجهل به». وهذا الكلام فيه صواب، وفيه مبالغة أيضا. أما الصواب فلأن كثيرا من العلماء لهم اطلاع على مشكلات الخلاف المذهبي، فهم يعرفونها، وإن كان كثير منهم لا يعرف تفاصيلها. فافتراض أن الشيعة لا يعرفون ما عند السنة، أو افتراض أن السنة لا يعرفون ما عند الشيعة..أمر لا يصح، بهذا الإطلاق.

وهنا أمر آخر، نبّه إليه الأستاذ بنحمزة في بعض ما كتبه، وهو أن بعض العلماء كان حريصا على عدم إشغال الجمهور بمشكلات الفرق، فربما حسِب بعضهم ذلك قصورا في معرفة مذاهب الآخر، وليس كذلك. قال: «.. في خضم هذه المرحلة الحرجة، ظل علماء الأمة متيقظين محذرين من إذكاء شرارة الاختلاف الذي يقدم نفسه للناس خلافا فكريا وثقافيا ليستقطب منهم أكبر عدد، لكنه سرعان ما يستحيل خلافا سياسيا، تتشظى به الأمة خدمة لمشاريع لا تعدل في مجموعها ما أضاعته الأمة من وحدتها وسلامتها. لقد أثر عن بعض علماء السلف تحذيرهم الشديد من الاشتغال بخلافات الفرق، ومن إظهارها للمجتمع، على نحو ما يؤثر عن الإمام أحمد أنه عتب على الحارث بن أسد أنه اشتغل بمناقضة آراء الفرق بالرد عليها، لأن ذلك الاشتغال قد نبه إليها وفتح العيون عليها. تبعا لهذا التوجيه فقد ظلت مقولات كثير من الفرق والطوائف حبيسة كتب متخصصة، هي كتب تاريخ الفرق وكتب المناظرات والجدل، ومادتها لا تشكل جزءا من الثقافة العامة التي تؤطر ذهنية المجتمع».

لكنني مع هذا كله أزعم أن كثيرا من أهل السنة لا يعرفون التشيع: تاريخه وروحه ونشأته وأصوله وعقائده ورجاله، وكتبه.. كما أن لبعضهم معرفة بهذه الأمور، لكنها ناقصة، فقد لا يعرفون، مثلا، أن بعض فقهاء الشيعة يقول بجواز السهو على النبي (ص) ولا يدرك، بما يكفي من الإحاطة، مشكلة بل معضلة الحديث والرواية في المذهب، ولا يميزون بين الأخباريين والأصوليين في الإمامية، ولا يعلمون ظروف الغيبة وآثارها على الطائفة.. وهي الآثار التي تسلسلت منذ منتصف القرن الثالث الهجري، وما انفك عنها المذهب إلى اليوم.. كما ليست لأكثرهم فكرة واضحة عن التحولات الحديثة في المذهب، وفيها الإيجابي والسلبي، منذ أيام النراقي والخميني، إلى الشيرازي والخوئي والصدر.. حتى زعم بعضهم أن الإمامية الموجودة اليوم مغايرة تماما للمذهب القديم.. وقِس على ذلك أشياء كثيرة. وأزعم أيضا أن كثيرا من الشيعة لا يعرفون أن بعض أهل السنة وإن كانوا قلة قالوا بتفضيل عليّ على عثمان، رضي الله عنهما، ولا أن بعضهم أيضا جوّز لعن يزيد بن معاوية.. هكذا بالتعيين، لحديث النهي عن إخافة أهل المدينة. ولا يعرفون أن من أهل السنة المعاصرين من لا يزال يتمسك بأن الإمامة اليوم يجب أن تكون في قريش، ومن هؤلاء: الشيخ حماد الصقلي، من كبار فقهاء المغرب، وله رسالة في هذا الموضوع.. كما لا يعرفون أن أهل السنة لا يعارضون أبدا كما قال رشيد رضا أن تكون الخلافة في آل البيت حتى في أيامنا هذه، إذا افترضنا أنها قامت.

إن الأمثلة على وجود بعض الجهل، ولا أقول كله، بين الفريقين كثيرة لو تتبعناها. لكنني أودّ أن أشير هنا إلى أن معرفة الإمامية بأهل السنة أفضل من العكس، فقد كان للقوم، تاريخيا، اهتمام بما يكتبه أهل السنة، بل إن بعضهم أنشأ علوما كاملة على منوال ما عند أهل السنة، كما فعل، مثلا، ابن المطهر الحلي في أصول الحديث وعلم الجرح والتعديل.. بينما اعتقد كثير من أهل السنة أن التشيع في طريق الانقراض، أو أنه محدود الشأن في القرون الأخيرة.. أعني، وأقولها بصراحة: إن بعض هؤلاء كان يجهل تقريبا كل شيء عن الشيعة. لذلك فوجئت قطاعات واسعة في العالم العربي والإسلامي بالثورة الإيرانية، كما فوجئت بما أطلق عليه أحد المؤلفين الأوربيين، وهو عنوان كتابه: «صعود نجم الشيعة». لذلك لما حدثت مشكلة التبشير بالتشيع في عالم السنة، تحول كثيرون إلى المذهب الإمامي، إذ كان الناس لا يهتمون بالموضوع ولا معرفة لهم بالخلاف، ولا بأصوله.. فكان الاختراق سهلا، إضافة إلى أسباب أخرى.

وعندي أن مشكلة قسم من أهل السنة هي اعتقادهم أنهم على الحق المطلق، وظنهم أن الفِرَق ماض مضى، فاستهانوا بالموضوع برمته. وحين طرحت قضية التقريب، لا عجب أن نجد فعلا أننا نجهل ما عند القوم، وهذا أدى إلى أخطاء فادحة، بعضها كأخطاء أصحاب نظرية التهوين، لأنهم يتكلمون عن خلاف طفيف لا يوجد إلا في أذهانهم.. وبعضها أدى أيضا إلى اتهام الإمامية بأشياء كثيرة، دون وجه حق، بل بتسرع في القراءة، أو خطأ في التأويل، أو نقص اطلاع، أو قصور في معرفة المذهب.. وأمر آخر، وهو أنني لا أقصد بالتعارف بين أهل المذاهب، أن يعرف بعضهم علوم الآخر وعقائده.. بل أقصد إلى ذلك التعارف الإنساني الذي يكون بين أشخاص الناس في الواقع.

المصدر: http://www.maghress.com/almassae/120445

الأكثر مشاركة في الفيس بوك