الخطاب الديني الرسمي: جمود وتطرف

إبراهيم غرايبة

 

"ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد"

ليس متوقعا من الخطاب الديني الرسمي أن يشجع على فهم عقلاني وتنويري للدين، لأن ذلك يعني ببساطة تحرير المتدين من سلطة المؤسسة الدينية وهيمنتها، وما تفعله المؤسسة الدينية الرسمية في مواجهة التطرف ليس أكثر من صراع مع المتطرفين على الدين، والسعي الى احتكار فهم الدين وتطبيقه، وتأكيد الوصاية على عقل المواطنين وفهمهم.

فالخطاب الديني والتعليمي والإعلامي السائد في الدول العربية ما زال يفيد بأن الحاكم يستند في دوره وعمله وحقوقه وسلطاته إلى ركن أساسي في الدين والعقيدة، ويمتد ذلك بالطبع إلى المؤسسات الرسمية الدينية وموظفيها. ويغلب في السلوك والفكر الإسلامي المتبع حتى اليوم في الدول العربية والإسلامية إضفاء كثير من معاني وأحكام القدسية على الخلافة (باعتبار أن الحكام ومؤسساتهم يشكلون امتداداً للخليفة)، وأن الخليفة يستمد سلطانه من الله، وتمتد القداسة بالدرجة ذاتها إلى مؤسسات السلطة والحكم.

لقد أضفى التراث الإسلامي على الحاكم صفات دينية عظيمة، وأنه يستمد سلطانه من سلطان الله تعالى وقوته من قوته. ذلك رأي تجد روحه سارية بين عامة العلماء وعامة المسلمين أيضاً.

يقول علي عبد الرازق في كتاب "الإسلام وأصول الحكم" بعد جولة اقتباسية في مصادر كثيرة: "وجملة القــــول إن السلطان خليفة رسول اللـــه وهو ايضاً حمــــى الله في بــلاده وظلـــه الممدود على عباده، ولايته عامة مطلقــــة، كولايــــة الله وولاية رسوله، ولا غــرو حينئذ أن يكون له حق التصرف في أرقاب الناس وأبضاعهم".

وعلى رغم أن المسلمين تخلّوا عن نموذج الخلافة قبل قرون طويلة وتحوّلوا إلى سلطنات ودول سياسية مدنية، ظلت المرجعية الدينية والفكرية للدول والمجتمعات هي ذاتها التي تؤسس للخلافة والنظر إليها باعتبارها جزءاً أساسياً من الدين، وفي ذلك كانت تحدث تناقضات كبرى، فالدول والحكومات تسلك على نحو واقعي وإنساني، وتريد غطاء شرعياً دينياً، وهي بالطبع تكسب تأييد النخب والناس وكثير من الطبقات الاجتماعية، ولكنها تحمّل نفسها أعباء لا تريدها، وتجد نفسها في مواجهة جماعات وفئات تعتقد بأنها تناقض الشريعة ولا تطبقها.

وعلى سبيل المثال فإن وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية في الأردن في تصورها دورها وسلطتها تقوم بتوزيع تعاميم إدارية إلزامية أحياناً وتوجيهية في أحيان أخرى (ومرجّح أن ذلك يحدث في كل الدول العربية) حول محتوى خطبة صلاة الجمعة، وقد عمّم وزير الأوقاف قبل فترة وجيزة كتاباً إلزامياً لخطباء الجمعة بأن تكون الخطبة عن التعداد السكاني، فكتبت في صحيفة «الغد» متسائلاً: هل ستكون صلاة الناس باطلة إذا لم تكن الخطبة عن الإحصاءات السكانية التي تنفّذها الحكومة؟ فإذا لم تبطل ما هي الصفة الدينية لوزير الأوقاف؟ وبالطبع فإن وزارة الأوقاف إحدى مؤسسات السلطة السياسية وتقوم بعملها وسلطاتها مثل وزارة التجارة والتموين على سبيل المثال، ولكن الوزارة أرسلت رداً غاضباً إلى الصحيفة ممتلئاً بالشعور الديني المقدس لدورها الإداري والتنظيمي، وجاء في الردّ حرفياً «إن عمل الوزارة يستند إلى دور الرسول نفسه الذي كان يخطب في الناس في صلاة الجمعة، وكان يُعيِّن الخطباء في المساجد خارج المدينة المنورة، وهكذا سار الخلفاء الراشدون من بعده، فالذي كان يشرف على خطبة الجمعة ويتابع شؤونها هو ولي الأمر». ثم وبعد أن سردت التصور الديني لعملها مستمداً مما كان يعمله الرســـول أكدت في ردها ذاته بأن إشراف وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية على خطبة الجمعة وعلى شؤون المساجد، بيوت الله تعالى، يأتي كإجراء دستوري، ينطلق من خلال أحكام القانون واهتمامات الدولة.

وهكذا يدمج وزير الأوقاف دوره وموقعه القانوني برسالة النبي نفسه ودوره، ولا تملك كمواطن أن تتحدث عن إدارة وتنظيم الشأن الديني في الدولة والمجتمع، باعتبار ذلك شأناً سياسياً وليس دينياً، ولكن ما الذي يمنع وبالمنطق الديني والسياسي نفسه الذي يستخدمه وزير الأوقاف أن يرى أي مسؤول حكومي آخر نفسه يقوم برسالة ودور ولي الأمر خليفة رسول الله، وما الفرق دينياً وقانونياً بين كتاب وزير الأوقاف بأن تكون خطبة الجمعة عن الإحصاءات وبين كتاب مدير الضمان الاجتماعي في شأن تنظيم بيع وتسعير الويسكي في استراحة الأزرق؟

وبالنظر إلى الرسالة الموجهة إلى البغدادي رئيس "داعش"، والموقع عليها من قبل 126 عالما من أنحاء العالم الإسلامي، وهي وثيقة تولت الحكومة الأردنية إصدارها ونشرها بعدة لغات وتوزيعها على طلاب المدارس وفي شبكة الإنترنت؛ يتأكد لمن يطالعها أن المصادر والأدوات الفكرية والمنهجية والدينية للمتطرفين هي نفسها المصادر القائمة والمتقبلة لدى النخب الدينية على مدار التاريخ العربي والإسلامي؛ وأن المتطرفين لا يستخدمون في واقع الحال فهما وأدلة ونصوصاً مختلفة عن النخب الدينية، وأن هذه الأخيرة (النخب الدينية) تدافع عن سلطتها ومصالحها في مواجهة تهديد تمثله الجماعات البعيدة عن السلطة، وأن الصراع في الحقيقة ليس حول الدين ولكنه صراع على الدين!

لقد عرضت الرسالة أفكارا وحججا تجعل المواطنين يخافون من السلطات القائمة في العالم العربي، أكثر مما يخافون من "داعش"، وأنه لا أمل لهؤلاء المواطنين في التحرر من "الأوليغاركية" المهيمنة على النفوذ والموارد والفرص، وأن الإصلاح السياسي والديمقراطية والحريات هي حلم مستحيل، لا يختلف على استبعاده السلطات السياسية والنخب الدينية المتحالفة معها كما "داعش" سواء بسواء.

هل كانت مشكلة "داعش" هي الخطأ في تفسير النصوص الدينية؟ وهل تعتقد الحكومات العربية والإسلامية أن بيان حكم الشريعة الإسلامية سوف يقضي على التطرف؟ وهل ينقص الناس في بلاد العرب والمسلمين كما المؤيدون للجماعات المتطرفة بيان الحكم الشرعي؟ ومن يملك هذا الحكم الشرعي؟ ولماذا كان الصراع على مدار التاريخ العربي والإسلامي على السلطة، ولم تجر حروب ولا خلافات في يوم من الأيام على أركان الإسلام وأركان الإيمان، وسائر العبادات والأحكام الدينية؟

رسالة العلماء تحمل مضامين مرعبة للمواطنين والعالم أيضا، ولا تفيد شيئا في محاربة "داعش" والتطرف والإرهاب؛ فهذه الرسالة تدافع عن حق التطرف الحكومي، وأن مشكلة "داعش" أنه نازع التطرف أهله.

الرسالة ترى الخلافة من الدين، وواجبا يجب أن نسعى إلى تحقيقه، وكل ما فعله "داعش" أنه أخطأ الوسيلة. كما أن قطع اليد ورجم الناس وقتلهم، أمور من الدين، وما فعله "داعش" هو عدم التحوط. وأنه يجب قتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله.

ألا يعني ذلك، حسب الرسالة، أننا مأمورون بقتال كل الأمم والدول، من الآسيويين والأفريقيين والمسيحيين أيضا، وما يمنعنا من ذلك ليس إلا عجزنا؛ وأن من مصلحة العالم، بل وواجبه، أن نظل فقراء عاجزين، لأننا بغير ذلك سوف نقاتل العالم كله حتى يقول الناس لا إله إلا الله؟ والواقع أنه حسب رسالة العلماء، فإن اليهود فقط هم الذين لا يشملهم الأمر بالقتال؛ فكل من عداهم يمكن اعتبارهم لا يقولون لا إله إلا الله.

الرسالة تكريس للسلطة الدينية على الناس، على نحو يحرم الحريات والديمقراطية وولاية الأمة، وأنها مصدر السلطات والتشريع. والخلاف الوحيد بين العلماء و"داعش" هو أنه ليس البغدادي من يتسلط عليكم، ولكن المؤسسة الدينية الرسمية.

إن كان للرسالة حسنة، فهي أنها تشكل مناسبة للتأكيد على أن ثمة حاجة لإعادة صياغة العلاقة بين الدين والدولة على نحو مختلف عما كانت عليه الحال طوال التاريخ، وأن الدولة الحديثة، بما هي حديثة، يجب أن تكون محايدة تجاه الدين، والواقع أنه يوجد حسنات أخرى للرسالة، فقد أفتت بجواز حب الأوطان!

وفي نظرة على كتاب "الثقافة العامة" المقرر على طلاب المرحلة الثانوية في الأردن يمكن ملاحظة الدعوة المنسوبة إلى الدين لأجل تعطيل العقل والعلم، فالعقل كما يؤكد الكتاب لا يصلح لمعرفة الحقائق وإدراكها، فيقول الكتاب عل سبيل المثال: "كيف يعرف الإنسان؟ تتشكل معرفة الإنسان من خلال العقل، والمعرفة الروحية (الوحي، والإلهام، والقلب) والرؤيا الصالحة" .. ويطلب الكتاب من المعلم والطلاب مناقشة علامات الرؤيا وشروط الاستخارة، ..

وفي الحديث عن نماذج المعرفة يعرض الكتاب المعرفة الأكيدة بما هي "المستمدة من الله أو الوحي، ويتضمن هذا النوع مبادئ الرياضيات أو على الأقل علم الحساب المتجذر في الرقم واحد؛ الذي يعكس الوحدة الإلهية والمنطق، والحتميات التي تنبثق من الوحي أو طبيعة الخلق كتقدم الزمن والموت، .."

ويقول الكتاب: "يمثل المنطق نموذجا للمعرفة الأكيدة، .. والعلوم الإسلامية معرفة أكيدة من حيث المبدأ، والمعرفة الغربية الحديثة مثال على المعرفة التجريبية والظنية في طبيعتها" والحديث عن العلوم الإسلامية يعني جميع العلوم التي يشتغل بها أو يمكن أن يشتغل بها المسلمون مثل الفيزياء والعمارة والكيمياء، ، .. ويسأل الكتاب ما أنواع المعرفة؟ وضح مستعينا بالقرآن الكريم.

ويقول الكتاب "لقد تميزت العوم الإسلامية بأربعة معالم:

1- النهوض بها بالتقوى

2- لم ينظروا إلى العالم بمعزل عن الله أو عالم الغيب أو حتى الملائكة

3- الانطلاق من كون الإنسان خليفة الله في الأرض

4- لم يعتقد العلماء أنهم يعرفون من خلال ملكاتهم المنطقية فقط، بل كانوا يقرأون القرآن كونه المصدر الأول لعلم اليقين، وكانوا يدعون الله ليرشدهم ويلهمهم، وكانوا يقومون بالاستخارة."

ويحذر الكتاب من العلوم الغربية "فبرغم النجاح الهائل للعلوم والتقنيات الغربية فإنها لم تكن "علم يقين" لأنها ليست مبنية على مبادئ عليا للمعرفة ولا يقودها حب الخير ولكن شركات ودل تهدف إلى الثروة والسلطة، لقد حسنت الحياة، ولكنها ألحقت الضرر" ومن أمثلة هذاه الأضرار "إشاعة العلمانية السطحية التي تعتبر المال والسلع أهم شيء، واربكت الإنسان، وزاد الطلاق والاكتئاب، وساهمت في إحداث فائض سكاني في الأرض، وأضرت بالطبيعة، ولم تجعل حياة الناس أفضل، أو أفضل خلقا، بل على العكس فقد جعلتهم أسوأ وأسوأ خلقا"، ويستدرك الكتاب بالقول "ولكن لا يمكن الرجوع إلى الوراء، وبالتالي فإن اكتساب العلم الحديث وإن لم يكن في الأصل أمرا جيدا، فهو بالتأكيد ضرورة، ولهذا السبب واجب على الجميع."

 --------------------------------

مراجع:

1-      الإسلام وأصول الحكم/ علي عبد الرازق.

2-   رسالة مفتوحة من علماء الأمة إلى الدكتور إبراهيم عواد البدري الملقب بـ "أبو بكر البغدادي"،  http://www.lettertobaghdadi.com/14/arabic-v14.pdf

3-      كتاب الثقافة العامة للمرحلة الثانوية - وزارة التربية والتعليم في المملكة الأردنية الهاشمية.

المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%B7%D8%A7%D8%A8-%D...

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك