الدين المحمدي

د. نبيل طعمة

 

سمحٌ، معتدلٌ، متوازنٌ، أظهرته شخصية نادرة عالمة وعارفة امتلكت معارف الماضي فاشتغلت في حاضرها كي تعيش ضمن المستقبل اللامتناهي الرؤى، وبه كمنت حقائق فهم الوجود، والتعامل مع الموجود، وهي القائلة من مظهرها "إنما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق"، وما إظهاره لحقيقة الديانة الجديدة واعتناق نِسب مهمة من مجموع البشرية لها والإيمان بها ما كان ليكون لولا إدراك العقل الإنساني لعدالة المطروح إليه، حيث كانت حاجة مضافة تحولت إلى حق من حقوق الإيمان الفكري؛ من باب أن الفكر الذي أكمل مثلثه بحضوره، وأن الفكر يؤمن بالعلم ومفاهيم الشيء واللاشيء وكل شيء، يفسّرها يحاكمها يطرحها للنقاش، بينما القلب يسلم ويستسلم بكونه عاطفياً وسريع التفاعل، إذ إنه يقع بين صورة الإسلام ومعاني التسليم، ومنه نتجه لمناقشة الإشكال المجيّش حول الشخصية الإسلامية، وهل هي في الصورة أم في الجوهر، وهل هي كذلك متشابهة مع أضلاع مثلثها، أي: إن الأضلاع الأخرى أيضاً لديها صورة وجوهر، ومنه تتوفر الأحجية.. هل أزمة الإسلام في قبوله لمحيطه وتفاعله معه، أم في رفض محيطه له؟ وإذا كان كذلك؛ فأين يكمن جوهر الخوف بين الأضلاع هل في انكشاف أسرارها الرئيسة بكون المنبع واحداً أم من أجل الحفاظ على التنوّع والتطور والتخلف.
فالدين المحمدي دين إيمان، والإيمان قوة متكوّنة من اليقين والعمل والحب، فلا يمكن أن يحدث اليقين إن لم يجذبك ما تروم وإلى ما تريد، والمسافة بينهما الفعل المسؤول في النتيجة عن توليد الحب؛ الذي بدونه أيضاً تعود إلى الفراغ أو إلى ما كنتَ عليه.. نؤكد على معنى عنواننا والذي قصدنا منه المقاربة، بما أنه ضلع من أضلاع مثلث الرسالات التي نقول عنها الديانة الموسوية (اليهودية) نسبة إلى موسى، والديانة المسيحية نسبة إلى السيد المسيح، وعليه أعتقد في أن نقول "الديانة المحمدية"، وقد يسأل الكثرة لماذا وما الذي ننشده من طرح عنواننا الكبير والعريض والواسع؟.. وبالفعل وجدنا رغبة ممّن كنّا نتحادث معهم حول أزمة أو محنة الإسلام أو إسلام الأزمة، حيث أشار البعض إلى أن الكثير من البؤر الملتهبة على كوكبنا الحيِّ سببها المسلمون، أو وجودهم ضمن رقاعهم الجغرافيّة وكذلك تصرّفاتهم عليها أو فيما بينهم.. فلماذا هذا يحدث؟.. سؤال أرجو من كل الباحثين الخوض فيه، وامتلاك الجرأة للإجابة عليه، وكذلك أيضاً علينا أن نبحث عن أسباب تغييب معنى الديانة المحمدية، وعن تلك الشخصية المثيرة حقيقة للاهتمام، بكونها تحدثت عن ذاتها بأنها مدينة العلم، والإمام المكرّم من العلي القدير بابُها. 
إذاً، ما هو الرابط بين هاتين الشخصيّتين، وما تلك الأسرار الكبرى التي تدعونا للبحث فيها وعلاقة استمرارها بكون الشخصيتين جسدتا مفهوم آل البيت، وكما بدأتُ بالحديث عن الديانة المحمدية؛ أسأل أين تكمن المشكلة؟ هل هي في المفسِّر الإسلامي، أم في أصحاب الطرق والبدع، أم في الطوائف والمذاهب والفتاوى الناتجة عن تعدّد المرجعيات وتناحرها، وتضخم الأنا في ذات كلٍّ منها، أم أنها وقعت في حالة تغييب جعلتها تختفي عن سندان السلفية ومطرقة الوهابية، وتشق طريقاً آخر هو طريق الحقيقة، والحقيقة هي جوهر الدين المحمدي. 
إن سعينا للدخول في هذا البحث يحمل غاية واحدة: ألا وهي إعادة النهوض بهذه الأمة التي حملت مفهوم العروبة؛ من حيث لغة قرآنها التي نشرتها بالفتوحات المنطلقة من أموية الشام وعباسيّة بغداد، وهذا إن دلّ على شيء إنما يدل على عظمة ومكانة الدولتين التاريخيتين، وما حملتاه من موروث إنساني عظيم موغل في القدم، وكذلك أسرار منْبت ومرور ونشوء وولادة وتثبيت كامل النبوات في هذه المنطقة في هاتين الدولتين؛ ذوات التنوع الأسطوري المسؤول عن نشأة التنوع الثقافي والإثني التي ولّدت حقيقةً مثلث الديانات النهائية.

لماذا يجري العمل الحثيث من أجل إبعاده، وأكثر من ذلك تقزيمه وإخفائه، هل لأنه جوهر، وبه تكمن علوم الحقيقة، وكذلك لماذا يستشري دين استهلاك البشر الفطريّين، ويمنع عنهم الإيمان الحقيقي؛ المانح الرئيس لقوى الحياة الحقيقية وإشعاعاتها الجمالية؛ المؤدية أبداً بحكم صيرورتها وحاجتها إلى امتلاك العلم والعلمية الحقيقية، مما يأخذ بها إلى إحداث أفعال التطور الحالم بها كل إنسان حي على وجه البسيطة، أي: لماذا لا يسمح لها بذلك؟.. أسئلة محقّة.
منه أتجه للغوص أكثر، بعد أن ساد مفهوم الإسلام العام صاحب الفِرق والشيَع والمذاهب والطرق والزوايا والتكايا، وكلّ استقلّ فيما حمل، وأخذ يفتي ويغني ويعزز فكرة الأنا، فهل الديانة المحمدية بدأت كذلك، وهي التي ظهرت وحملت معاني السماحة والاعتراف بأخلاق وديانات ومعتقدات الآخرين، وبأنها قادمة لتتمِّم أو تضيف إلى الموجود، وتصحّح بعضاً من الخلل الطبيعي في نظم السلوك والأخلاق الإنسانية، وأقصد المسكون تاريخياً، ومنذ بدء الخليقة في العقل الإنساني، والذي وحينما نؤمن بالحقيقة نعلم أن المشروع الإلهي أوجد في داخل الإنسان محوري الخير والشرّ، وتركه في حالة صراع دائم فيما بينهما، وعليهما أمام الموجود المادي والآخر الإنسان من جنسه، وكذلك طيلة مسيرة حياته الوقتية التي يمضيها من أجل الوصول إلى امتلاك الخير، فهل هو كذلك؟ وحينما نحلل الصورة القائم عليها الإسلام حالياً، ماذا نجد؟ وأدع لكم وضع الاحتمالات ومشاركتي أيضاً في الذي نرغب الوصول إليه؛ من أجل فهم ما يجري على الجغرافيا العربية الإسلامية في زمننا الحاضر.
لقد غدا الدين أداة وسبيلاً لاستعمار الشعوب، بل أكثر من ذلك تحوّل وبشكل خاص لخدمة الاستعمار في أشكاله الحديثة، وسمح للأوروأميركي بعد أن قاتل باسمهم أعداء الله في أفغانستان أن يعود ليقاتل بعضه كأداة بيد الغرب، وتناوب على هذا القتال بشكل أو بآخر معه، وكذلك منحه حق التطاول عليه، حتى وصل بجورج بوش الابن حين غزو العراق أن يعتبر نفسه رسول الرب، حيث يقول: لقد أرسلني الرب لإنقاذ العالم (وهداية المسلمين) معتبراً أن غزو العراق كان بأمر إلهي، وحينما اعتبره – وللأسف- الإسلام الخليجي وبكامل ممالكه وإماراته أنه المهدي المنتظر القادم من الغرب؛ وعلى المشرق العربي أن يدين له طائعاً وخاضعاً وداعماً ومبجلاً بكل ما يملك، وإلاّ فإنه - أي هذا الشرق العربي وشماله الإفريقي بعوالمه الإسلامية- إرهابي، وعلى المخلّص قتاله وتصحيحه ودعوته بالعودة عن ضلاله، لماذا؟ لأن من يفكر أن ينتقل من دين الاستسلام إلى دين الإيمان، ومن المظهر إلى الجوهر، ومن المسطح إلى الكروي، ومن الجهل إلى العلم، ينبغي لجمه وتغييره عبر إثارة الفاشلين، والحاقدين، والحاسدين، والفارّين واللاجئين، واللامنتمين، وغير المؤمنين المرتبطين، والمرتهنين لعالمي إسلام الاستسلام الاستهلاكي اللامنتج؛ المسكونين لدى الفكر السلفي والوهابي، وهذا ما يتوافق مع سياسات المخلّص الأوروأميركي.. وطبيعي أن فكرة المخلّص سكنت الفكر الإنساني عبر مسيرة التاريخ، منذ وجود الخليقة، وحتى اللحظة، وإلى ما سيأتي من الزمن، فالمخلّص هو رمز العدالة الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية .
من كلِّ ذلك علينا الاتجاه لإدراك الحاجة الماسة من أجل إعادة فهم حقيقة وتاريخ الديانة المحمدية وصورها الإسلامية، بعد ما شابها الكثير من التشويه والشوائب التي رافقت عمليات التفسير والاجتهاد والتقسيم والفتاوى في السند والمتن، وكذلك ربط أزمانها مع بعضها من خلال فهم أبعاد وجود السند والمتن، وتفكيك المفهوم الفقهي الشرعي وتحويله لتحليل علمي، وكل ذلك من أجل أن يتبيّن لنا معنى أسباب وجودنا كشخصية عربية إسلامية حقيقية استمرت بسبب ظهور الديانة المحمدية، ولذلك أجتهد من أجل الحفاظ على أمة تتناهبها سياسات الغرب لأن النية تتجه إلى إخضاعها...
 وقد فرّق بين الإيمان والإسلام، معتبراً أن الإيمان حقيقة الإنسان، بينما الإسلام صورته، ودعا المؤمنين لاعتناقه، وخاطب الأعراب بأن لا يقولوا آمنّا بل عليهم القول أسلمنا، وكأن به يعرف مسبقاً وعبر الوحي الإلهي ما يقوم عليه الأعراب، وما سيؤول إليه حالهم في زمنه وفي الأزمان اللاحقة، ومنها زمننا الحالي؛ من خلال انحصارهم بين بدء الانحطاط وأزمة أو محنة الإسلام في وقتنا الراهن، طبعاً هذا جسَّده الكتاب المكنون في الآية الكريمة ( قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ).. وعندما بارك الرسول العربي عليه السلام الشام التي نهَل من علومها، وتعرَّف إلى رجالاتها وعلى رأسهم الراهب بحيرى واصطحب معه العديد منهم إلى مكّته، أعتقد أنه علم بأن الإيمان في الشام حقيقة محفوظة بسرِّها وأسرارها؛ من تجليات الوحي الذي نتحدث عنه بأنه التأمل العميق بين حاجة الوجود وفعل وانفعال الموجود، والذي هيأ له أن يكون مدينة علم، بالتأكيد لم يظهر من طائفة أو مذهب، مثله كمثل الديانة المسيحية واليهودية، فالمؤثرات المسكونة ضمن الوصايا العشر شكلت للجميع قواعد وأسساً ومنهجاً، كلٌّ تعامل معها من خلال رؤية أوضحت لهم أحقية قراءة الكلمة، بكونها تحمل عدة وجوه؛ لكنّ جوهرها واحد لا لبس فيه، وكذلك امتلكت العلمية، وتفاعلت من خلالها، فأوجدت لها حضوراً كيميائياً في اليهودية، وفيزيائياً في المسيحية، والمفترض أن تكون النتائج وتوافقياتها في المحمدية التي تعمقت فيها العلمية، ليكون محمد عليه السلام مدينتها، وعليُّ المكرم بابها.. فما الذي يجري اليوم وبالأمس القريب والبعيد؟ وماهية نتائجها حين ظهورها وصعودها بين الأمم، وإكمالها لمثلث الديانات بأضلاعه الثلاثة، وإلاّ لم يكن هنالك مثلث، ولبقيت تلك الديانات في مهبِّ الريح، لكن إرادة الكلّي صاحب التابو، والسياسة التاريخية لحركة أضلاعه ومقايساتها بحجم كل ضلع منها والتي اقتضت اكتماله، ومن ثم تمَّ التلاعب الخطير بأفكاره، وتحويل المقدس حسب مقتضيات السياسة، متحولة في صورها إلى أداة تعمل تحت أجنحتها.. وحينما نستمرّ في تجوالنا وبحثنا ضمن الدين المحمدي نجد أنه يسكن مدينة العلم، وما يجري وجرى عليه أنهم أغلقوا بابها، وعاثوا خارجها فساداً، من خلال التفاسير والفتاوى، وتحويل إطاره المتشكل من المظهر إلى ألعاب سياسية، تتناهبها الأهواء والمصالح، مما أدى بالصورة إلى انجرارها لتبعية مطلقة ضمن النظام العالمي الجديد؛ الذي وُلد مع ولادة أمريكا المنهوبة والمسلوبة من أصحابها الحقيقيين (الهنود الحمر).. والقصد ممّا نخوض فيه: إنهم عندما أغلقوا باب مدينة العلم انحدروا بعد نجاحات وصلوا فيها إلى جبال البرانس بين فرنسا وإسبانيا وأسوار الصين، عاشوا أمجادها نتاج ما نهلوه - في زمن ظهورها- من تلك المدينة عبر بابها.
الانحدار، والانهيار، والاستباحة لكامل الأمة الإسلامية، ودخولها في عصور الظلمات والانحطاط؛ كان نتاج حدوث التشرذم، وتشتتهم إلى فرق وشيَع ومذاهب، كمَثل الديانة اليهودية وطوائفها، وكذا المسيحية واشتقاقاتها الشرقية والغربية، والأرمن والأقباط وطوائفها؛ إلا أن الفارق بين الديانات الأخرى أنها استطاعت أن تنجز مرجعيات قوية، وسقفت معارفها الدينية بأساقفتها وأحبارها، حيث لا يرشح منها إلا ما يرغب به أصحابها وحملتها، بينما انفلشت الديانة الإسلامية، وتاهت على الرغم من وجود التشابه العميق فيما بينها مع تلك الديانات وتنوعات حضورها، ولم تستفد من مدينة علم الديانة المحمدية وبابها؛ الذي أغلقته مع الخليفة الرابع علي المكرم، وعزّزت – وللأسف- فرقَها وشيَعها وانقسامها، وتاهت بين أئمتها، ولم يستطع المستمرّون السير بها قُدماً؛ بل تحولوا نتاج الفتاوى السلفية، والرؤى والتفسير، والحديث والفقه والشريعة، والتطبيق حول جهاد المسلم على المسلم، ولغة فرض الكفاية وفرض العين، والتعلق بعالم الشمال واتجاههم إلى دينه، وتحويل الجوهر إلى مظهر، أي: المؤمن إلى مسلم؛ أدّى إلى أزمة ومحنة إسلامية لم يستطع الخروج منها مفسرو المظهر الإسلامي حتى اللحظة.. فأين هذا من ديانة محمد عليه السلام؛ الذي عَادَ اليهودي أثناء مرضه، وستَر على العاشقين كي لا يقيم الصحابة الحد عليهما، وخيَّر بني خيبر بين: الرحيل أو الجزية أو القتال، وأسس لمفاهيم طلب العلم حتى وإن كان في الصين وطالب الإنسان بالسعي إليه وبأنه لن يطال مجمله، ولذلك كان عليه الاجتهاد العلمي كي يعلم معنى الجهاد الأكبر وهو التكوين والحفاظ عليه، أي: إنه الخروج على بيته وكفايته والإسهام العلمي في بناء مجتمعه وأمته، وبيّن أن الجهاد الأصغر هو الدفاع عن الوطن، وأن الجهاد الأكبر هو الذي يحمي الأرض والعرض، ويؤمِّن الكرامة المنشودة من قبل أي إنسان.
وتتمّ التعمية عليه بقوة، بسبب إعادة فتح باب مدينة العلم، وتفعيل العقل المؤمن من أجل امتلاكه، وكذلك بكونه لا يتناسب والأهداف السياسية المسؤولة أولاً وأخيراً عن حركة الاقتصاد العالمية، ولذلك نجدها تخدم بأمانة القوى الاقتصادية الكبرى؛ عبر خلخلة المصادر الروحية الحقيقية، ليس فقط في الديانة المحمدية، وإنما أيضاً في الديانة المسيحية، فالمنابع الإيمانية التي تدفّقت في لحظات الظهور والولادة، وانسابت منها رؤى المحبة والرحمة والتسامح، وطالبت بالانفتاح وعدم إغلاق الأبواب من أجل تبادل الثقافات، والاستمتاع بالتنوع والتعدد الإنساني الذي يلغي خوف الإنسان من أخيه الإنسان، ويشجّعه على العمل من أجل شكم الحياة ومقاومة ظواهرها الطبيعية والاصطناعية؛ مما أدى إلى استمراره وتعلّمه إنه رسالة، وعلى عاتقه يقع عبء استمرارها والرضى بها كأمانة صعبة، كما أدرك أنه قادر على تحمّلها، رغم ما تحمله في طياتها من حالات صراع إثبات للوجود.
المشكلة الإسلامية تكمن في تحول المسلم إلى أداة رخيصة بيد دعاة الدين الجديد، ألا وهو النظام العالمي الذي تقوده وبشكل خاص أمريكا، والسبب في المفسّر الذي حصر المسلم بين الإسبال والضمِّ، وبين اللحية الطليقة والشارب الحليق، والعباءة القصيرة أو الطويلة، والدخول بالقدم اليمنى أو اليسرى.. فخلق الشك والخوف من الخطيئة في كل مذهب، وميّز بين الطوائف، وأكثر من ذلك تشدّد في كلٍّ منها فضخّم الطائفة ودعا هذا المسلم للتمسك بها وبعدم التفريط بمبادئها، بينما الديانة المحمدية عبر شخصية مُظهرها لم تفرِّق بين إنسان وإنسان، وهو القائل صلّوا كما رأيتموني أصلّي وتمثلوا أفعالي، فلم تظهر - وكما ذكرنا في بحثنا- من طائفة أو مذهب.
إذاً، إلى ماذا يسعى الدين الجديد القابع في أمريكا؟ أعتقد أن جلّ همّه هو إبعاد الإسلام عن جوهره، وما نراه اليوم هو دعم لإسلام المظهر وأشكاله العاطفية وتشعّباته الطائفية؛ حيث تحولت غايته إلى تعزيز الأنا المسؤول الأول والأخير عن إحداث التخلّف، ومهما امتلكت شخصية حامله من علوم وشهادات وتخصصات تجده أجوف، أي: بلا جوهر، فتسهل تعبئته أو استثارته وتحويله إلى أداة يمكن التحكم بها بسهولة، والغاية النهائية لذاك الدين الجديد، هي السيطرة والهيمنة على مقدرات وجغرافيّة العرب والمسلمين أينما وجدوا.. وما نراه من دعوات لتعزيز الإسلام الليبرالي أو الإخواني أو الوهابي المتمسّك بالسلفي والمنجب للأصولي والجهادي والمدعوم من الفكر الوهابي وحقيقته الأعرابية، هو مبتغى الباحثين عن السيطرة على الشخصية الإسلامية وإيمانها، وبحصولها على مبتغاها الوحيدة القادرة على إنهاء قواعد الديانة المحمدية التي لو عادت إلى جوهر المسلم لخلقت منه شخصية علمية وإنسانية راقية، قوية إيمانياً، ومقاومة عملياً لكل أشكال التخلف والتبعية وللدين الجديد، وهذا هو الممنوع بعينه.. وما نراه اليوم يولد سؤالاً مهماً حينما نراقب الحركات الدينية الإسلامية؛ التي حادت عن أهدافها وضخّمت أناها، فهل هي تحمل في طياتها البناء الروحي الحقيقي الذي يعيد للإنسان إنسانيته، ومسؤوليته في البناء، وإسهامه في الحفاظ على الموجود وتطويره، أم أنها تعمل في الوعي لحماية ذاتها، وفي اللاوعي إلى الانجرار وراء الدين الجديد.. إننا نؤكد بأن جميع ما نشاهده ما هو إلا غايات سياسية رخيصة تظهر تبعيتها لداعميها ومسيِّريها الواعدين لها بالوصول السياسي على حساب أي جهد أو فعل أو بناء، فتظهر بحالة الانتهازية السياسية والاجتماعية، تطفو إلى حين عودة الراعي للبحث عن بديل.. راقبوا وتأملوا.. وأعتقد أنكم ستصلون بسرعة إلى النتائج التي أتحدث عنها.
إن التسلل إلى الديانة المحمدية الذي بدأ مع بدء العصر العباسي، ومن ثم السير في الانحطاط، أظهر الإسلام السياسي الذي وظّف الدين وجعل منه خادماً لتطلعات الآخر من غيره، ومنجزاً أميناً للمشاريع الجاهزة، بعد أن تمّ حصره في الروحية، وانفلاته ضمن الطوائف، وإبعاده عن لغة الفعل العاقل، والحركة المخططة والإنجاز الهادف، وتركه معتمداً على الغرائز والعواطف، التي من السهل جداً تحريضها وتأجيجها في لحظة، وهذا ما يحدث في عالمنا الإسلامي منذ ما يقرب من ألفٍ ومئتي عام، ساد الطائفيون العالمين العربي والإسلامي، وتمسك كلٌّ بفرقته وشيعته، مما أدى إلى ضعف خطير في مفاهيم الديانة المحمدية السمحة، وكذلك تغييبها بشكل خطير، وإذا ما عدنا إلى رؤية محمد عليه السلام؛ وهو المتحدث عن الانقسام المستقبلي لمعتنقي ديانته إلى بضع وسبعين شعبة جميعها تنهج منهج المخالفة - بسبب تضخم الأنا- إلا واحدة، وأعتقد أنه قصد المتمسكين بجوهر ديانته المسؤولين عن إعادة تقديمها بالشكل الصحيح، بكونها ديانة حقّة تستحق إكمال مثلث الرسالات، وأكثر من ذلك أظهرت جمال أضلاعه.
فقد بنت حضورها -كما تحدثنا- على المفاهيم العلمية التي لا يمكن لها أن تظهر إلا بعد اكتمال أبعاد علم الجمال ومحاوره، وكذلك أنجزت قيمتها في صورة الإسلام، وغايتها تعميم السلام الذي يستند دائماً إلى حالة الأمان الجوهري في ذات الإنسان، والأمن العام بإرخاء ظلاله على المجتمعات المتعددة والمتنوعة بإثنياتها ودياناتها وتنوعها، فأين نحن اليوم منها بعد أن قام المفسرون والمفتون والمشرِّعون بإنجاز شروط التخلف وإعادة العوالم الإسلامية، -وأقصد إسلام آسيا الوسطى. والإسلام الأمازيغي. والكردي. والماليزي. والإندونيسي. والإفريقي. والشرق أوسطي. والخليجي السلفي؛ الذي حمل غاية واحدة ألا وهي السيطرة على كامل العوالم الإسلامية، بكونه امتلك ظهور الديانة المحمدية، ومكة المكرمة بحَرَمها الذي اعتبر قبلة المسلمين، والمدينة التي جثا في حرمها الثاني جثمان محمد الأمين عليه السلام، حيث تمَّ التخلّي عن القبلة الأولى في القدس لصالح القبلة المكية- أجل أعادها إلى الوراء؛ من خلال تحريم الرسم والنحت والتصوير والموسيقى والمسرح والرقص والعمارة، وكذلك تم حصر المسلمين بين نقطتي الولادة والوفاة، وتقديم الوعود التي تتحقق في عالم الآخر، فهناك الخمر والحواري والغلمان، وكل ما يُشتهى من مباهج الحياة، وبهذا نجد أن الإنسان استرخى لقدره، وقتل طموحه، وتحوّل إلى البلادة الفكرية، وبقي في عالم المادة الدونية والدنيوية، ومهما امتلك من تحصيل علمي فكل ما يشتغل به حمَل هدفين: الجنس والمال، يحميهما بمظلة الإسلام في سعي بدائي لم يرقَ لمستوى طموح الديانة المحمدية؛ التي حاربت وأد الأنثى ومنحتها كرامتها ونصرها، وساواها بالإيمان، وأعطاها ما لم تعطها ديانة أخرى: سماوية كانت أم وضعية ثقافية، لنجد المفسِّر يعيدها إلى الإذلال بطريقة أخرى، حيث وعَد المجاهدين بفتاوى الجهاد  بأربعين حورية في السماء، ولم يعِدها بـ "حوري واحد"! فكيف يحدث هذا؟.. من بساطة الفكر نجد أن الديانة المحمدية أسّست لنظام علمي متكامل، يكون بمثابة جوهر للعبادات، حتى الإله لم يمنح البشرية جمعاء إلا فكراً يدعو للتفكر في منجزه أولاً؛ حينما يريد الفرد الإنسان الوصول إليه.. وبالمقاربة مع ما أسِّس له والسائد نجد أن عبادات الجهل تطغى على عبادات العلم التي تُستبعد من المشهد الإسلامي وحتى المسيحي في عالم الجنوب حصراً، وبشكل خاص في العالمين العربي والإسلامي، حيث تسود الفتاوى والتفاسير والاجتهادات اللاعلمية تحت ستائر الفقه والشرع والعقيدة المنحصرة بين المذاهب والطوائف، مظهرة نصرة البعض على الكلّ والكلّ على البعض، وفي طروحاتها تتجلّى الفردية والأنانية والجهل والتجهيل، وما هي إلا عودة للتخلف والتقوقع بعيداً عن طلب العلم والسعي إليه، فالسلفية والوهابية المتمسكة بلغة الماضي لم تستطع أن تتوافق مع مجريات التطور بما حمَلَه من حداثة الخدمات العلمية؛ القادمة من قدرة الإنسان على تحويل التأمّل في الموجود الروحي إلى إبداع مادي قرين ومتشابه؛ دون قدرته على الوصول إلى علم الروح، من باب بقاء الإنسان كروح لأيِّ مصنوع ماديّ شبيه بالروحي، كالطير والطائرة، والحوت والغواصة، وكلتاهما تحتاجان الروح، والروح لهما هو الإنسان، وقسْ على ذلك.. وبالمقارنة بين إسلام الحاضر، وما يسود العالم من العلم الذي قدّم وسائط أذهلت العقل المنجز لها بعد أن عاد إلى التفاعل معها؛ نجد ضعف المطروح الإسلامي العقائدي أمام الإبداع العلمي الهائل القادم من عالم الشمال، والذي جعل أعناق جميع إنسان عالم الجنوب مشرئبة للوصول إلى ذلك العالم دون القدرة على الانتقال لمضاهاة عالم الشمال.
وبقليل من القراءة للفارق بين عالم الشمال المادي ونظامه، مع الموجود في عالم الجنوب نلاحظ الهوة الهائلة، وكذلك تمتلك عملية القرار بأن يبقى هذا العالم متخلفاً من خلال تعزيز الروحية الجوفاء، بإبقائها في حالة المظهر، كي يسهل تعبئتها وإفراغها كلما دعت الحاجة لذلك، أي: القدرة والمقدرة على التلاعب فيه، وأخذه ذات اليمين وذات الشمال، وإشعاله وإشغاله متى أراد ذلك العالم.. نعلم أن العالم العربي والإسلامي بما يمتلك من قدرات مادية هائلة ينبغي عليه العودة إلى جوهره الإيماني، وهو علم الديانة المحمدية، فإن عاد عادت له قوته العلمية التي تعيد له قراره وهيبته.. وهنا تكمن خطورة ما نستفيض بالحديث عنه. 
حيث أسهم في إكمال البناء الحضاري تاريخياً، وأوجد حضوراً عالمياً على مساحة جغرافيّة امتدت؛ وكما ذكرنا فيما نحن نسير إليه: من جبال البرانس في أوروبا شمال الأندلس إلى أسوار الصين وصولاً إلى البلقان، وكذلك بنى حضوراً له في جنوب شرق آسيا ممتداً حتى إندونيسيا، ومنه نجد أن تراخي المسلمين في الحفاظ على ديانتهم المحمدية قد أنشأ لهم أزمة تجاه حضورهم عالمياً في زمننا المعاصر، هذا أولاً، وثانياً عدم استطاعة المسلمين نشر دعوة دينهم المحمدي بشكل علمي، أي إن انتشارهم مع تقدم مشروع الحداثة العالمي كان بشكل عشوائي بين القارات والأمم، حيث قدّموا أنفسهم كمسلمين لا كمؤمنين، مما سبَّب لهم عدم القدرة على تبادل العيش مع الآخر، فتكونت صورة سلبية عن المسلم، وبمجرد ظهوره في أي مكان ضمن بلدة أو مدينة أو دولة في العالم تومئ بضرورة أخذ الحيطة والحذر منه، وغدا التعامل على أنه حالة غريبة، والسبب قبوله أشياء ضمن مجتمعات الآخر، ورفضه أشياءً أخرى تحت مسمى الحلال والحرام، فيحلل بعض المحرّم عند الآخر ويحرّم بعض المحلل كذلك، كأن يشرب الخمر المحلّل في كل الديانات، ويمارس الزنا وهو المحرم عند المفسّر الإسلامي، ولا يأكل الخنزير بكونه محرماً أيضاً؛ وهو محلل عند الديانات الأخرى، وأيضاً يصرّ على ممارسة طقوسه في لحظات لا يتمالك فيها الآخر استساغتها، أي أنه فقَد في عصر الحداثة استطاعة تقديم ذاته ومنهجه ومبادئه.. فمن هو المسؤول عن وصول الحالة الإسلامية إلى هذا الإشكال؟.
من أجل ذلك، نتقدم معاً للتباحث حول كيفية فتح بوابات إعادة إشراقها النوعي؛ الذي ابتدأت به الديانة المحمدية كرسالة حضارية، والبحث ملياً من أجل وضع الأنامل على الجراح لا من أجل نكئها، بل من أجل الوصول إلى الآلام التي يعيشها المسلم بسبب المفسّر، ومن ثم البحث في تقديم العلاج الناجع كي تلتئم وتعود لانتظام حركتها من جديد.
إن أزمة المسلمين في اعتقادي تكمن في ابتعادهم عن المشروع المحمدي العلمي، هذا بداية، وانتهاء مرجعيتهم بانتهاء الخلفاء الراشدين الأربعة، وفتوحات الدولة الأموية والدولة العباسية تالياً، ودخولهم بعد ذلك في نفق التيه؛ الذي أدّى إلى انقسامهم إلى مذاهب وطوائف، وتشرذمهم وضياعهم بين نحن مَن، ومع مَن، وأيضاً ضياع سبُلهم من أين وإلى أين، ومن خلال نظرة متفحصة ومتجولة على الجغرافيا الإسلامية؛ لا نجد لهم مرجعاً موحداً باستثناء الكعبة المحمدية والأزهر والنجف وكربلاء.. فضلاً عن الصراعات الخفية فيما بينهم، وإنما نجد إدارات قائمة من فلسفة قرارات الحكام التي تمنح للمفتين حق إفتاء كلّ منهم بما يتوافق عليه في دائرته الجغرافية، فعدم وجود مرجعية جامعة لامعة واحدة، ووجود مرجعيات لكل طائفة ومذهب أظهر عدم التوافق والانحدار، على الرغم من محاولات خجولة وغير موفّقة لإيجاد صورة موحدة، في الوقت الذي يمتلك المسلمون مرجعية واحدة وهامة ألا وهي الديانة المحمدية صاحبة العلم والعلمية
إذاً، الأزمة الإسلامية تتعمق بتناهب الأفكار منها، مما يظهرها تائهة بين الديانتين اليهودية والمسيحية أولاً، وثانياً بين مجموعة العقائد والأفكار الثقافية والوضعية، وكذلك الأفكار الحداثية التي ظهرت مع ظهور النظام العالمي الجديد؛ الذي تتبناه أميركا منذ القرن السابع عشر، مروراً بالوجودية السارترية والعلمانية الأوربية والشيوعية السوفييتية والصينية، وإلى آخر مطافٍ حطّ فيه المسلمون في زمننا الحاضر، تلك الفلسفات والنُّظم والأفكار أشغلت فكر المسلم وخلطت ما يحمله ويعتنقه بما عليه أن ينجز أو يسير إليه، فلم يستطع المسلم مقاومة إغراء محاور التطور، وكذلك لم يخرج من عمقه القديم كي يتوافق مع مجريات حاضِرِه، فسكنت الفكرة الإيمانية في عمقه دون تحفيز، واستسلم في حالات اللاشعور للحداثة، فتاهَ بينهما، حيث يستفيق فقط عند نشوء الأزمات.

المصدر: http://albahethon.com/?page=show_det&select_page=50&id=1623

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك