السوبر هوية في مواجهة السوبر إنعزالية

حسن عجمي

باسم الهوية نتفق ونختلف وباسمها نصنع السلام والحروب. لذا من الضروري معرفيًا واجتماعيًا أن نحاول فهم ما هي الهوية. نرصد في هذه المقالة تنافس النظريات المختلفة حول ما هو التحليل الصحيح لمفهوم الهوية لنشهد أخيرًا المواجهة الفكرية والاجتماعية بين السوبر هوية والسوبر انعزالية.

جدل الجسد والذاكرة

يوجد اتجاهان أساسيان في تحليل الهوية هما الاتجاه العقلي والاتجاه الجسدي. قدّم الفيلسوف والمفكر جون لوك تحليلًا عقليًا سيكولوجيًا لمفهوم الهوية. بالنسبة إلى لوك, الهوية الشخصية كامنة في استمرارية التجارب العقلية السيكولوجية عبر الزمن. هكذا استمرارية الوجود السيكولوجي وما تحتوي من تواصل وترابط بين المشاعر والأفكار والذكريات تضمن استمرارية وجود هوية هذا الفرد أو ذاك. أن تبقى حالات العقل في ماضي الفرد مترابطة ومتواصلة مع حالات العقل في حاضر الفرد ومستقبله يعني أن يملك الفرد هوية شخصية تصاحبه في كل أزمنته. فبمجرد أن يتذكر هذا الشخص أو ذاك أن هذه هي تجاربه وأفكاره ومشاعره ويعي تجارب ماضيه على أنها له يصبح الشخص حائزًا على هوية شخصية كانت تحيا تلك التجارب الماضية واستمرت في الوجود في الحاضر على أساس ارتباطها بتجارب الماضي.

من هنا, الهوية بالنسبة إلى لوك قائمة في الذاكرة والذكريات. لكن يتعرض هذا التحليل للهوية إلى نقد قاتل مفاده التالي: من الممكن للفرد أن يفقد كل ذاكرته فتواصله السيكولوجي مع ماضيه, ورغم ذلك يبقى هو هو عين ذاته. في هذه الحالة يُوصَف هذا الفرد على أنه هو نفسه لكنه فاقد لذاكرته. ففقدان الذاكرة لا يتضمن فقدان الهوية. مثل ذلك أنه إذا قتل فرد ما شخصًا آخر ومن ثم فقد ذاكرته فهذا لا يعني أنه فقد هويته وإلا لسقطت عنه تهمة القتل ولم يعد مسؤولًا عما فعل. على هذا الأساس, لا تكمن الهوية في الذاكرة والذكريات وفي استمرارية وترابط الحالات العقلية والسيكولوجية (1).

أما الاتجاه الجسدي في تحليل الهوية فيعتبر أن الهوية ليست سوى استمرارية الجسد الحي عبر الزمن. يقدّم الفيلسوف والمفكر برنارد وليمز هذا المذهب المادي في الهوية ويدافع عنه. بالنسبة إلى وليمز, نحتاج إلى جسد الفرد من أجل تحديد هوية الفرد لأننا لا نستطيع أن نميّز بين الجسد والعقل أو النفس. فبما أن الجسد وما يتضمن من حالات فسيولوجية وأفعال يقوم بها هو نافذتنا إلى النفس والعقل, إذن لا مفر من ضرورة تحديد الجسد ومعرفته لكي نحدِّد الهوية ونعرفها. من هنا, يستنتج وليمز أن الهوية كامنة في الجسد واستمراريته. بالإضافة إلى ذلك, يقول وليمز إنه من الممكن أن يتذكر شخص ما ذكريات شخص آخر, لكن هذا لا يجعله مطابقًا للآخر أي حائزًا على هوية الآخر. وبذلك يستنتج وليمز أن الهوية قائمة في الجسد وليست كامنة في استمرارية الذكريات. لكن هذا الاتجاه الجسدي المادي في تحليل الهوية يواجه مشكلتين أساسيتين هما:

أولًا, إذا كانت الهوية هي الجسد واستمراريته, حينها لا يستطيع الفرد أن يحافظ على هويته لأن خلايا الجسد تتغير مع مرور الزمن. من هنا, يفشل الاتجاه الجسدي في التعبير عن استمرارية الهوية.

ثانيًا, إذا كانت الهوية هي الجسد, وبما أن معظم جينات أجساد البشر متطابقة, إذن لا يوجد فرق بين هويات البشر المختلفة. من هنا, يفشل الاتجاه الجسدي في التعبير عن اختلاف هويات الأفراد (2).

كل من الاتجاه العقلي والاتجاه الجسدي يحلّل الهوية معتمدًا على مفهوم الزمن. فبالنسبة إلى الاتجاه العقلي, الهوية هي استمرارية وجود الذاكرة نفسها عبر الزمن أي عبر مرور الفرد من ماضٍ إلى حاضر فمستقبل. أما بالنسبة إلى الاتجاه الجسدي فالهوية هي استمرارية وجود الجسد نفسه عبر أزمنة الفرد المنتقلة من ماضٍ إلى حاضر فمستقبل. هكذا يبدو أن أية نظرية في الهوية عليها أن تعتمد على مفهوم الزمن في طرح تحليلها لمفهوم الهوية. هذا لأنه من منطلق الفلسفة التقليدية المطلوب من أية نظرية في الهوية هو أن تقدّم تحليلًا ناجحًا في التعبير عن أن الفرد في الماضي يملك هويته نفسها حين يصبح في الحاضر وفي المستقبل. يوضح الفيلسوف والمفكر نيد ماركوزين هذه القضية حين يقارن بين الأسئلة التي يطرحها الفلاسفة حول مفهوم الهوية. يقول إن السؤال الذي سيطر على الفلسفة التقليدية هو التالي: ما هي الظروف التي تحتم وتؤكد على أن هذا الشخص في زمن ما هو الشخص فلان في زمن آخر؟ بالنسبة إلى ماركوزين, مشكلة هذا السؤال تكمن في أنه يسلّم بوجود شخصين هما شخص في زمن ما وشخص في زمن آخر. وبذلك يعقّد هذا السؤال المشكلة بدلًا من أن يساهم في حلها. على هذا الأساس, يعتبر ماركوزين أن السؤال الأفضل هو: ما الذي يجعل مرحلة الشخصية الآن جزءًا من مرحلة الشخصية في الماضي؟ فيكون الجواب أن الهوية هي انضمام المرحلتين الزمنيتين في مرحلة واحدة بدلًا من المطالبة بتطابق شخصيتين كما في السؤال التقليدي. فبالنسبة إليه, الكلام عن شخص في زمن ما هو الكلام عن تجسد الهوية في ذاك الزمن, وبذلك يحافظ الفرد على هويته ذاتها لأن هويته هي مجموعة تجسداته في ماضيه وحاضره ومستقبله أي هويته هي مجموع مراحل شخصيته المتجلية في أزمنته كافة. كما أوضح المفكر نيل توغنازيني الاتجاه الصريح في تحليل الهوية من خلال الزمن. فالهوية بالنسبة إلى هذا الاتجاه ليست سوى الشيء ذي الأبعاد الأربعة (أبعاد الطول والعرض والعمق والزمن) والمكوَّن من كل أجزائه الزمنية (3).

لقد وجدنا أن كل هذه المذاهب الفلسفية تحلّل الهوية من خلال الزمن. لكن ما هو الزمن؟ إذا كان الزمن هو الذي تحدث فيه الأحداث كاكتساب الأفراد لهوياتهم, حينها تكون كل النظريات السابقة قد حلّلت الهوية من خلال الهوية فوقعت في الدور المرفوض منطقيًا. فبما أن الزمن هو الذي تحدث فيه الأحداث كأحداث اكتساب الأفراد لهوياتهم أو أحداث تغير هوياتهم, إذن الزمن محلّل من خلال الهوية. وبما أن النظريات السابقة قد حلّلت الهوية من خلال الزمن, وبما أن الزمن محلّل من خلال الهوية ومفاهيم أخرى, إذن النظريات السابقة قد حلّلت الهوية من خلال الهوية كمن يحلّل الماء بالماء. لذا تفشل النظريات السابقة كلها في تعريف الهوية وتحديدها. بل أي محاولة لتحليل الهوية تقع في هذا الدور المرفوض لأن أي تحليل للهوية يستلزم الاعتماد على الزمن في عملية تحديد ما هي الهوية علمًا بأن سؤال الهوية هو ما الذي يجعل الفرد هو نفسه عبر الزمن ورغم اختلاف الأزمنة. من هنا, من المستحيل أن ننجح في تعريف الهوية وتحديدها, وبذلك الهوية غير محدَّدة ما هي. وبما أن الهوية غير محدَّدة سلفًا, إذن نحن أحرار في تحديدها كما نشاء, وبذلك تغدو الهوية نتيجة قراراتنا وأفكارنا وأفعالنا وتصبح محدَّدة فقط في المستقبل الذي نريد صياغته على ضوء ما نختار في حقل صناعة هوياتنا. هذا هو الموقف الفلسفي للسوبر هوية, وبذلك فلسفة السوبر هوية مقبولة إلى أقصى حد.

من جهة أخرى, يطوّر الفيلسوف والمفكر ديريك بارفت نظرية بوذا وهيوم في نفي وجود الهوية. بالنسبة إلى بارفت, الفرد دماغ وجسد ليس إلا, وبذلك لا توجد هوية تجمع الحالات العديدة والمختلفة للدماغ والجسد. بل ثمة فقط مجموعة تجارب عقلية وجسدية هي مجموعة المشاعر والأفكار والذكريات والأفعال, لكن هذه المجموعة من التجارب لا تشكّل كائنًا مستقلًا ومنفصلًا عنها يجمعها في كينونة واحدة هي الهوية. فكما أنه لا يوجد شيء يُدعَى النادي بل توجد فقط مجموعة أشخاص قرروا الاجتماع والنقاش والحديث إلخ, كذلك لا وجود لهوية بل ثمة فقط مجموعة تجارب جسدية وعقلية. يدعونا بارفت إلى تصوّر السيناريو التالي: من الممكن أن يولد في عالم آخر قرين لي يطابقني جسديًا وعقليًا. في هذه الحالة, إذا كانت توجد هوية لي فحينها أنا شخصان هما هويتي في عالمي الواقعي وهويتي في العالم الممكن الآخر. لكن من المستحيل أن أكون شخصين. لذا لا وجود للهوية. يدعم بارفت هذا التوجه معتمدًا على بعض الاختبارات في علم النفس. يقول إن في بعض الأمراض الدماغية ينقسم الدماغ إلى نصفين بحيث إذا سُئل المريض عن اللون الذي يراه أمامه تجيب كل يد من يديه بإجابة مختلفة. وبذلك إذا يوجد شيء يُدعَى الهوية فحينها هذا المريض يملك هويتين بدلًا من هوية واحدة, وهذا يعارض مفهوم امتلاك الفرد لهوية معينة. من هنا, يستنتج بارفت أن الهوية غير موجودة (4). لكن هذا الاتجاه يواجه مشكلة أساسية ألا وهي: إذا لا توجد هوية لي, إذن لا يحق لي أن أتحدّث عن أن هذه المشاعر أو تلك المعتقدات مشاعر أو معتقدات لي أي تنتمي إلى أناي وتكوّن هويتي بدلًا من أن تكون مشاعر ومعتقدات الآخر. وبذلك يصبح التخاطب والتفاهم بين البشر مستحيلًا. هكذا من الخطأ اعتبار أن لا وجود للهوية. كما أنه من الخطأ اعتبار أن الهوية هي استمرارية الجسد أو استمرارية العقل والذاكرة. لكن إذا أردنا تحديد الهوية وتعريفها فيكون ذلك إما من خلال الجسد وإما من خلال العقل وقدراته لأن الإنسان جسد وعقل. من هنا, نستنتج بحق أنه من غير الممكن تحديد الهوية وتعريفها, وبذلك الهوية غير محدَّدة كما تقول نظرية السوبرهوية بالضبط.

جدل الهوية والانعزالية

لا بد من التمييز بين الهوية والسوبر هوية لكي نخرج من جدل تحليل الهوية. الهوية هي أسلوب محدَّد في تعريف الفرد بينما السوبر هوية لا تحدِّد الفرد في صفات معينة. مَن يدعي أنه يملك هوية يدعي أنه يملك صفات محدَّدة تعرّفه. وبذلك الهوية تسجن تابعيها ومعتنقي منهجها في تعريف محدَّد للذات لأنها تحدِّد الصفات التي على الفرد أن يتصف بها كي يملك هوية شخصية معينة. لكن السوبر هوية تحررنا لأنها لا تحدِّد صفات معينة علينا أن نتصف بها كي نكون نحن ذواتنا. هكذا الخلاف شاسع بين الهوية والسوبر هوية, والصراع دامٍ بين المدافعين عن الهوية والهاربين منها. تعتبر السوبر هوية أن الهوية محدَّدة فقط في المستقبل على ضوء قراراتنا وأفعالنا. وبذلك, بالنسبة إلى السوبر هوية, الهوية غير محدَّدة في الحاضر والماضي, ولذا يتحرر الفرد من أن يكون سجين صفات معينة ليكون هو نفسه. وبما أن الهوية محدَّدة فقط في المستقبل على ضوء ما نقرر ونفعل, إذن هوياتنا معتمدة في وجودها وتشكلها علينا نحن بالذات بدلًا من أن نكون نحن المعتمدين عليها في وجودنا وتكوّننا. وبذلك نحن الذين نبني هوياتنا بدلًا من أن تبنينا هي ما يضمن تحررنا من أكاذيب هوياتنا. من هنا, الفضيلة الأساسية للسوبرهوية كامنة في أنها تجعلنا خالقي هوياتنا بدلًا من أن نكون عبيدًا لها. وهذه الفضيلة تتضمن فضيلة أخرى ألا وهي أن السوبر هوية تحررنا من أكاذيب الهوية المتمثلة في التعصب والطائفية ورفض الآخر.

مثل ذلك أن من يحدّد هويته على أساس ولادته ونشوئه في هذه الجماعة الدينية أو المذهبية أو العرقية سوف يتعصب لجماعته ويرفض الآخرين المنتمين إلى جماعات دينية وعقائدية وعرقية أخرى. فبما أن الفرد هنا يعرّف نفسه من خلال جماعته ولا يرى هويته سوى في هوية جماعته, وبما أنه من المفترض أن تكون هويته هي الهوية الإنسانية وهوية الحضارة, إذن لا مجال أمام هذا الفرد سوى أن يرفض الجماعات الأخرى ويعتبرها أقل في إنسانيتها وتحضرها منه ومن جماعته. هكذا الهوية تؤدي إلى التعصب ورفض الآخر, وعملية التعصب والرفض هذه معتمدة على مسلّمة كاذبة مفادها أن البشر منقسمون إلى طبقات منها طبقة أكثر تحضرًا وإنسانية ومنها طبقة أقل تحضرًا وإنسانية. على هذا الأساس, السوبر هوية التي ترفض تحديد الهوية تحررنا من التعصب الطائفي والمذهبي والعرقي والمناطقي وأكاذيبه من خلال عدم تحديدها للهوية. لذا تنتصر السوبر هوية على الهوية التي سيطرت على الشعوب كافة وأوقعتها في صراعات وحروب لا معنى لها. بكلامٍ آخر, السوبر هوية طريقنا إلى السلام العالمي لأنها لا تحدِّد هوياتنا ما يجعلنا كلنا مالكين لهوية واحدة هي الهوية اللامحدَّدة أي هوية الإنسان اللامحدَّد. فاللامحدَّد يحررنا من خلال لامحدديته. عندما يصبح كل البشر غير محدَّدين في هوياتهم, يغدون حينها غير مختلفين عن بعضهم البعض, وبذلك يقبلون بعضهم البعض فيتجنبون الصراعات والحروب فيكتسبون الأخلاق الحقة وصفة الإنسانية الحقيقية. أما إذا استمررنا في التمسك بهوياتنا الكاذبة فسنبقى نعاني من التعصب والرفض والحروب لأن الاعتقاد بأن هذه هي هويتنا دون الهويات الأخرى يتضمن الاعتقاد بأن هويتنا أرقى من الهويات الأخرى ما يحتم رفض الآخر ؛ فعلى ضوء ظننا أن هويتنا أرقى تم اختيارنا لها على أنها هويتنا بالذات. الهوية قاتلة الشعوب ؛ الهوية سلاح الطغاة والحروب. اليوم, تستعبد الهوية شعوب الأرض كافة, ولا خلاص من هذه العبودية سوى من خلال قتل الهوية واستبدالها بهوية مستقبلية غير محدَّدة سلفًا. فهوياتنا نتائج ماضينا وحاضرنا, وبذلك تجعلنا الهوية سجناء الحاضر والماضي. لكن السوبر هوية تتحدد في المستقبل فقط وبذلك نتحرر من حاضرنا وماضينا لنحيا في المستقبل الذي نختاره نحن ونصنعه.

بالإضافة إلى ذلك, من الضروري أن نميّز بين الانعزالية والسوبر انعزالية. الجماعة الانعزالية هي تلك التي تنعزل عن الجماعات الطائفية والمذهبية والعرقية الأخرى المختلفة عنها. لكن الجماعة السوبر انعزالية تعزل جماعتها عن هويتها. بكلامٍ آخر, السوبر انعزالية تتضمن انعزال الجماعة عن ذاتها بالإضافة إلى انعزالها عن الجماعات الأخرى. وهذا يحدث حين يسيطر طاغية ما على هذه الجماعة أو تلك ويستولي على سلطة تحديد من ينتمي إلى الجماعة ومن لا ينتمي إليها. في هذه الحالة, الطاغية يحدِّد هوية الجماعة فيقصي من يريد من الجماعة وبذلك تصبح الجماعة غريبة عن ذاتها ؛ فلا هوية تحدِّد من هي بل ثمة فقط قرار مستبد يتخذه الطاغية وبموجبه تتشكّل الجماعة في هذه اللحظة على أنها مالكة لهذه الهوية وفي لحظة أخرى تتشكّل الجماعة نفسها على أنها المالكة لهوية أخرى مختلفة عن الهوية الأولى. من هنا, تضيع هوية الجماعة فتنعزل عن ذاتها وعن هويتها. لقد انتقلت الجماعات والشعوب من عصر الانعزال عن بعضها البعض إلى عصر الانعزال عن أنفسها وعن هوياتها. لذا نشهد التقلب المستمر في حركية المجتمعات وسياسات الدول فيتحوّل داعية السلام إلى داعية حرب والعكس صحيح, ويغدو المناضل عميلًا والعميل مناضلًا, ويصبح الكافر مؤمنًا والمؤمن كافرًا. سوبر انعزاليتنا جعلت منا سجناء فراغ ثقوبنا السوداء التي تبتلع كل الأشياء وتحوّلها إلى عدم ساكن.

ثمة أمثلة عدة على السوبر انعزالية منها سوبر انعزالية الطوائف والمذاهب في عالمنا العربي. لم تعد طوائفنا ومذاهبنا منعزلة عن بعضها البعض فقط بل أمست أيضًا منعزلة عن نفسها فاستحال بذلك تعريف هذه الطائفة أو هذا المذهب أو ذاك ومعرفة مشروعه وأهدافه. هكذا انعزاليتنا انعزالية مضاعفة. فهوياتنا الافتراضية أصبحت تحت رحمة طغاتنا القدامى والجدد. على هذا الأساس, من الأفضل أن نتخلص من هوياتنا الافتراضية وأن نستبدلها بهويات غير محدَّدة فنتحرر من طغاتنا وسوبر انعزاليتنا. فالهوية تؤدي لا محالة إلى الانعزالية ومن ثم إلى السوبر انعزالية. هذا لأنه إذا حددت الجماعة هويتها فهي تقوم بذلك من خلال اعتبار أن الهويات الأخرى أدنى في إنسانيتها وأخلاقها وتحضرها من هويتها ولذا تختار هويتها بالذات دون الهويات الأخرى ما يحتم انعزالها عن الجماعات الأخرى بحجة أن تلك الجماعات الأخرى فاقدة لإنسانيتها ولصفات الحضارة. لكن متى أردنا أن نحدِّد هوية جماعتنا لا بد من وجود فرد أو مجموعة أفراد قادرة على القيام بذلك وجعل تحديدها لهوية الجماعة تحديدًا مقبولًا من قبل معظم أفراد الجماعة. ولا يتم ذلك سوى على أيدي هذا الطاغية أو تلك المجموعة من الطغاة لأن وحده الطاغية ينجح في فرض هوية محدَّدة على جماعته. من هنا, عملية تحديد هوية هذه الجماعة أو تلك تؤدي لا محالة إلى سيطرة الطاغية أو الطغاة وانعزال الجماعة عن نفسها فلا تعد الجماعة هي المحدِّدة لهويتها بل يغدو الطاغية هو المحدِّد الأساس لهوية الجماعة. هذا ما يفسِّر تمسك بعض الجماعات بطغاتها كما نحن نفعل عادة.

من جهة أخرى, إذا كانت الهوية غير محدَّدة فلن تنعزل الجماعات عن بعضها البعض ولن تنعزل الجماعة عن نفسها. حين تكون هويات الجماعات هويات غير محدَّدة, تنصهر حينئذٍ هويات الجماعات في هوية واحدة ألا وهي الهوية اللامحدَّدة, وبذلك لا تنعزل الجماعات عن بعضها البعض. وحين تكون هوية الجماعة هي الهوية غير المحدَّدة وبذلك لا تطالب الجماعة بتحديد هويتها لكونها تملك هوية ألا وهي الهوية غير المحدَّدة, لا يوجد حينها مبرر لنمو طاغية من أجل تحديد هوية الجماعة. وبذلك لن يقصي الطغاة الأفراد عن جماعاتهم ما يُزيل إمكانية انعزال الجماعة عن ذاتها. هكذا الهوية غير المحدَّدة التي تدعو إليها السوبر هوية (كمذهب فكري) هي طريق الخلاص من الانعزالية والسوبر انعزالية. وبينما يسجننا الاتجاه العقلي في هوية تشكّلت في الماضي من خلال اعتباره أن الهوية هي الذاكرة والذكريات, تحررنا السوبر هوية من سجون ماضينا وتجاربه بفضل تأكيدها على أن الهوية لا تتكوّن سوى في المستقبل من جراء قراراتنا وأفعالنا اليوم. وبينما يسجننا الاتجاه الجسدي في أجسادنا وأفعالها الماضية والحاضرة من خلال اعتباره أن الهوية هي الجسد واستمراريته, تحررنا السوبر هوية من سجون الجسد المتجسد في الحاضر والماضي من خلال اعتبارها أن الهوية صناعتنا المستقبلية. أما نفي وجود الهوية فيقيّدنا بقيود عدم المقدرة على التفاهم والتخاطب فيما بيننا, بينما السوبر هوية تقرّب التواصل والتفاهم فيما بيننا لأنها تعتبر أننا كلنا نسعى إلى خلق هويات مستقبلية لنا وبذلك كلنا متشابهون في امتلاكنا لهويات غير محدّدة وفي سعينا الدائم إلى تحديدها.

الآن, بما أن السوبر هوية تعتبر أن الهوية غير محدَّدة في حاضرنا وماضينا وتغدو محدَّدة فقط في المستقبل على ضوء ما نصوغ من قرارات ومعتقدات وأفعال, إذن تجعلنا السوبر هوية نحن خالقي هوياتنا على أساس ما نراه مناسبًا وصادقًا ومفيدًا وبذلك تقربنا السوبر هوية من هوياتنا بدلًا من أن تعزلنا عنها. وبما أن السوبر انعزالية تعزل الجماعة عن هويتها بينما السوبر هوية تقرّب الفرد من هويته والجماعة من هويتها, إذن المواجهة واقعة لا محالة بين السوبر هوية والسوبر انعزالية. إنها مواجهة قاسية ودامية ؛ فمن جهة تدفعنا السوبر هوية إلى أن نصبح ذواتنا, ومن جهة أخرى تسقطنا السوبر انعزالية في الانعزال عن ذواتنا والاغتراب عنها. من هنا, انتصار السوبر هوية انتصار لذواتنا المستقبلية بينما انتصار السوبر انعزالية انتصار الطغاة والغربة والاغتراب. مَن لا ينتصر على هوياته المُسبَقة لا ينتصر على طغاته.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) John Perry: Personal Identity. 1975. University of California Press

(2) المرجع السابق

(3) Editors: Campbell, O’Rourke and Silverstein: Time and Identity. 2010. The MIT Press

(4) Derek Parfit: Reasons and Persons. 1986. Oxford University Press

 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك