الأصولية والمعاصرة.. حالة اشتباك أم نقطة ارتكاز؟

إسلام العدل

 

على مدار عقود منصرمة تم التجاذب بين الأصولية والمعاصرة باعتبارهما نقيضين وطرفي نزاع وهما كعادة الكثير من الثنائيات التي تبلورت لأسباب ليس لنا فيها دور حقيقي وليست جزء حقيقي من أزمتنا، فقد تصدرت إلينا لندمجها مع ثقافتنا وواقعنا بل وننبري للدفاع عن أحد طرفيها وكأنه الحق وغيره باطل، وهذا يحتاج منا إلى وقفة إيضاح وتفصيل لكل من الأصولية  والمعاصرة بما يدفع عنهما تهمة التصارع أو التضاد علي إطلاقهما.

ونعود إلى التعريف المبدأي وننطلق منه لتفكيك الإشكال أو فض الاشتباك، ففي اللغة أصَّل الشئ: أي جعل له أساسا ثابتًا يبنى عليه، وأصول العلوم تعني قواعدها التي تبنى عليها الأحكام وأصل كل علم هو القواعد الخاصة بذلك العلم دون غيره والنسبة إليها أصولي وأصولية وبالتالي الأصولية هنا تعني العودة للأسس الثابتة التي يبنى عليها الأمر وبالتالي نقيضها العبثية أو الغثائية أي الأمر الذي ليس له أساس مبني عليه.

أما المعاصرة فتعني التكيف مع أفكار العصر الذي نعيشه والمقصود أن نكون في اتصال مع الواقع بغير انفصال وبالتالي فإن نقيضها يمكن أن يكون الرجعية من ناحية أو الجمود عن هذا الاتصال مع العصر من ناحية أخرى وهكذا يتبين أن الأصولية ليست نقيضًا للمعاصرة ويتبين كذلك أنه لا تعارض في الجمع بينهما فليست العودة إلى الأسس التي بنيت عليها الأمور عودة زمنية بالمعني اللغوي بل هي عودة شعورية إذا جاز التعبير تُستحضر فيها الأسس الثابتة التي تحافظ على خصوصيتنا لتعيد تشكيل الأمر بما تتطلبه معطيات الواقع الخاص بنا وبالتالي لا انفصال بينهما بل أزعم أن هذا الاتصال هو الحافظ لاستمرار التجديد والمانع للجمود أو الرجعية وفقًا لأسس ثابتة وراسخة وإذا حدث الانفصال فلا داعي للعودة للأصول إذ أن الأمر القائم سيكون كافيًا لا حاجة لتجديده لتوقف التجدد في الواقع وهو ما لا يستقيم.

والحقيقة أن مصطلح أصولي كمصطلح فقهي لا غبار عليه ولا التباس فيه إنما الالتباس جاء مع مصطلح أصولية باعتبارها عودة للقديم وثوابته دون تجديد وهو ما يضرب المعاصرة في مقتل ولكن هذا يُنسب في العصر الحديث إلى بعض الإتجاهات المسيحية كالمسيحية الأصولية كمذهب يشدد على الحقيقة الحرفية للكتاب المقدس، أي أنه يفسر الكتاب بشكل لفظي غير قابل للتأويل الأدبي أو التاريخي وهذا ما يختلف عن سياقنا جملة وتفصيلا.

 ثم تفاقم الالتباس حينما بدأت القيادة السياسية الأمريكية اتهام أعدائها من الاتجاه الإسلامي بالأصولية كمرادف للرجعية فانطبع في الأذهان دلالة المصطلح المسيحي بالأساس الذي يجعل من الأصالة عودة زمنية إلى الوراء وبالتالي رجعية تعاكس المعاصرة فسيطرت تلك الدلالة علي المصطلح وأسقطت عن قصد المعنى الحقيقي الذي قدمناه سالفا.

وعليه يمكننا أن نوضح حقيقة الالتباس وهو أن يكون للأصولية بُعدا زمنيًا واحدًا وهو الماضي فصارت تقبل أن توصف بالقدم دون الحداثة وبالتخلف دون التقدم وبالرجعية دون المعاصرة بينما حقيقتها أنها تملك قدرة على التفاعل الزمني المتجاوز لتلك التصنيفات فيصبح لدينا أصولية زمنية مزمومة يريد الغرب أن يوصمنا بها رغما عنا وهناك أصولية منهجية محمودةوهي التي تأخذ من القديم ثوابته الراسخة التي تتجاوز الارتباط بالزمن من ناحية ولا تتجاوز خصوصياتنا وذلك لتأسيس طرحنا الخاص المنطلق من إرادتنا وتصوراتنا وليس الطرح الذي نساق لتقديمه من خلال الرد علي ما نوصم به من حين لأخر وهذا ليس هروبا من الواقع وأحداث العصر وأزماته المفروضة علينا بل تأسيسا للمنطلقات الخاصة بنا ابتداءا ثم للتفاعل مع العصر وإشكالاته وفقا لمعطياته الزمانية والمكانية وتبعا لتلك الاسس الخاصة المتجاوزة لهما ولتلك المنطلقات الخاصة المتجاوزة للأزمات المفروضة.

بهذا التفسير سنجد أنه لا انفصال عندنا بين الأصولية والمعاصرة وأنه لا قيمة لأحدهما دون الأخر فالأصولية دون تفاعل مع العصر لن تأتي بجديد والتفاعل مع العصر بلا أسس ثابتة سيقودنا لأن نصبح تابعين لمن يأت بالجديد مقلدين لغيرنا مهدرين لخصوصياتنا متحركين في فضاء القرن طبقا لنماذج غيرنا المعرفية وليس نماذجنا الذاتية.

وبالتالي فإنني أزعم أن الأصولية والمعاصرة معًا نقطة ارتكاز هامة للانطلاق لا استغناء بأحدهما عن الآخر، هذا الارتكاز هو مدخل أساسي لبناء خصوصيتنا ونماذجنا الذاتية ابتداءا، ولمواجهة التبعية والتحرر منها ومن أطروحاتها من تغريب وحداثة وأوهام أولوية اتباع الغالب والغرام به.

المصدر: http://feker.net/ar/2014/02/02/22756/

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك