التّنوير البريطاني بين جون لوك وآدام سميث

محفوظ أبي يعلا

 

في مقالة عن التَّنوير عرف إيمانويل كانط التّنوير بأنه: خروج الإنسان من حالة القصور الّتي يبقى هو المسؤول عن وجوده فيها بسبب الخوف و الجبن و عدم القدرة على استخدام العقل خارج أي وصاية من الغير . و اعتبر كانط أن عصره ليس بعصر متنور و لكنه عصر التّنوير (1).

و في الحقيقة هناك من مؤرخي الفلسفة من يرى أن عصر التّنوير ينتهي بكتاب كانط نفسه " نقد العقل المحض " و هو الكتاب الكبير الّذي تناول فيه كانط حدود العقل في المسائل الميتافيزيقيّة . و أمّا بداية عصر التّنوير فهناك من مؤرخي الفلسفة من يحددها من خلال مؤلف جون لوك " مقالة في الفهم البشري ".

و الفلسفة الّتي ظهرت في عصـر التّنوير سميت باسم هذا العصر ، أي فلسفـة الأنوار. و هذه الفلسفة تُدمج ضمن الفلسفة الحديثة. إذ يمكن القول أن فلسفة الأنوار خاتمة الفلسفة الحديثة و آخر حقبها.

ولهذا فقد غذّت فلسفة الأنوار نفس الأطروحات الّتي غذّت الفلسفة الحديثة، مثل أطروحات النّزعة الإنسانيّة، و أطروحات أصحاب التّوجه العلمي، كذلك لا ينبغي أن نغفل مساهمات التّيار الرومانتيكي في بروز عصر التّنوير.

وقد أعلن فلاسفة الأنوار حرباً صريحة على الفكر التّقليدي، غير الإنساني، المعادي للعلم وللعقل. لقد حارب فلاسفة الأنوار الكنيسة وأخلاق القرون الوسطى الدّينيّة. كما وضعوا مجموعة من النّظريات و الأفكار السياسيّة و العلميّة، بل و حتّى الدّينيّة (*).

و عموماً، يمكن القول أن الفلسفة الّتي وضعت في عصر الأنوار تعدُّ من أهم الفلسفات الّتي لازال تأثيرها قائماً لحدود عصرنا الراهن. فسؤال الأنوار لازال يفرض نفسه في زمننا العربيّ المعاصر.

والتّنوير غالباً ما يرتبط بالموسوعة الّتي حـررهـا الفيلسوف الفرنسـي دينـس ديـدرو و ساهم في مواضيعها مجموعة كبيرة من مفكري و فلاسفة عصر الأنوار الفرنسيين أمثال فولتير. لكن التّنوير لم يكن فرنسياً في بداياته، و إنّما كان بريطانياً. فالأنوار البريطانيّة سبقت الأنوار الفرنسيّة كما سبقت الأنوار الألمانيّة.

ومن هنا كان هدفي من كتابة هذا المقال هو التطرق إلى الأنوار البريطانيّة، وذلك من خلال محاولة ابراز أهم خصائصها وأهمّ مميزاتها. كما سأحاول أن أسلط الضوء، في هذا المقال، على أهم شخصيتين فلسفيتين بريطانيتين معبرتين عن طبيعة التّنوير البريطاني وهما جون لوك وآدام سميث. فما الّذي نعنيه بالأنوار البريطانيّة؟ وما هي أهم أطروحات جون لوك و آدم سميث؟

هذه الأسئلة وغيرها سأحاول أن أجيب عنها فيما سيأتي من تحليل و مناقشة. 

إذا كانت الأنوار الفرنسيّة تقوم على العقل و على مواجهة أخلاق الكنيسة، فإن التَّنوير البريطاني، حسب غيرترود هيملفارب، مؤلفة كتاب الطرق إلى الحداثة، يقوم على سوسيولوجيا الفضيلة. بمعنى أن الفلاسفة البريطانيين كانوا فلاسفة أخلاقيين (**)، اهتموا بالمشاعر وبالدّين و السياسة والاقتصاد، وبالجملة: بكلّ ما له علاقة بالمجتمع وبالأخلاق الإجتماعيّة، على عكس فلاسفة فرنسا الّذين قاموا بتأليه العقل، و جعلوا العقل محور فلسفتهم، لدرجة جعلت بعض الباحثين يعتبرون التّنوير الفرنسيّ إيديولوجيا العقل(***).

وممّا يؤكد اهتمام البريطانيين بالجانب الاجتماعيّ و السياسيّ أكثر من أي جانب آخر في الفلسفة نجد اعجابهم بالنّظريات السياسيّة الّتي طرحها أب التّنوير البريطاني جون لوك (2)، علماً أن أطروحات جون لوك في نظرية المعرفة لا تقل أهميّة عن أطروحاته السياسيّة (****).

لكن الاهتمام بالنظريات السياسيّة يرجع بدرجة أولى لكون عصر التّنوير اهتم بالجانب السياسيّ، بل إنه لم يظهر إلا نتيجة لظروف سياسيّة ودينيّة عرفتها أوروبا. و لهذا فإن جون لوك كتب في السياسة رغم أنّ أهمّ كتبه متعلقة بنظرية المعرفة، و أعني كتابه الشهير " مقال في الفهم البشري " الّذي انتقد فيه نظرية الأفكار القبليّة الّتي قال بها ديكارت وغيره من الفلاسفة العقلانيين. لقد رأى لوك في كتابه أن العقل الإنساني فارغ من أي أفكار فطريّة، إنه مجرّد صفحة بيضاء تمتلئ بالمعرفة من خلال التّجربة. وهذا الرأي قال به المدرسيون من قبل، و من هنا كان رأي جون لوك حول العقل ليس بالرأي الجديد. بل إن جون لوك نفسه لم يدعي في دراسته حول الفهم البشري بأنه سيأتي برأي جديد، و إنّما كل ما حاول القيام به هو إزالة الأوهام و التحيزات القديمة (3). و أمّا في السياسة فقد كتب جون لوك رسالتين عن الحكومة نشرهما في أواخر القرن السابع عشر. و افترض لوك في نظريته السياسية أن البشر كانوا متساويين و أحرار عندما كانوا يعيشون في حالة الطبيعة. وأن الملكية هي عمود العقد الإجتماعي، فمن خلالها تم الانتقال من حالة الطبيعة إلى حالة المجتمع السياسي الذي تنظمه ثلاث سلطات: تشريعيّة، تنفيذيّة، اتّحاديّة. ولهذا كانت مهمة الحكومة، في نظره، هي حماية الملكيّة (4).

ولعلّ الفيلسوف الذي يختزل طبيعة التّنوير البريطاني من حيث أنه تنوير إجتماعي، أخلاقي، اقتصادي ، هو الفيلسوف و رجل الاقتصاد آدم سميث، فآدم سميث فيلسوف أخلاقي و اقتصادي في نفس الوقت. و كتابه الشهير ثروة الأمم يتضمن قدراً كبيراً من الفلسفة الأخلاقيّة.

وقد مال آدم سميث في نظريته الاقتصاديّة إلى العمال الكادحين، فطالب برفع أجورهم، وبمساعدتهم لأنهم الشركاء الأكثر أهمية في العمل. و لم يكن آدم سميث يرى بتفوق طبيعي لإنسان على إنسان آخر، بل إن البشر في نظره قد خلقوا متساوين. و لذا نجده يقول: " إنّ الفرق أو الاختلاف بين الشخصيات الأكثر تبايناً، بين الفيلسوف والحمال العام في الشارع، مثلاً، لا يبدو أنه ينشأ من الطبيعة كثيراً، بقدر ما ينشأ من العادة ، والعرف، والتّربيّة ... " (5). وهكذا فالفيلسوف لا يختلف كثيراً عن الحمال في الشّارع في نظر آدم سميث.

ختاماً، إنّ اهتمامات فلسفة الأنوار البريطانيّة كانت مختلفة عن اهتمامات غيرها من الفلسفات الأنواريّة في أوروبا، وذلك راجع، بطبيعة الحال، لاختلاف البيئة الفكريّة والثقافيّة التي نشأ فيها فلاسفة الأنوار البريطانيين. فالفلاسفة، كما يقول كارل ماركس، لا يخرجون من الأرض كما يخرج الفطر، بل إنهم ثمرة بيئتهم و عصرهم. و من هنا فقط اهتم فلاسفة بريطانيا بالأخلاق الاجتماعيّة، في حين كان التّنوير الفرنسيّ يهتم بالعقل. إلاّ أنّ ما يمكن أن نؤكد عليه في نهاية هذا المقال هو أن الاختلاف في الاهتمامات الفلسفيّة وتعدد الأنوار في عصر التّنوير، لا يعني أنه لم تكن هناك خصائص موحدة لفلسفة هذا العصر وإن اختلفت أطروحاتها من بلد لآخر. وبكلّ تأكيد أهم خاصيّة موحدة لفلسفة الأنوار هي النّزعة الإنسانيّة الّتي جعلت من الإنسان محور تفكيرها. فعصر الأنوار هو عصر إنسانيّ أعطى أهمية كبرى للإنسان، ولذا اهتم فلاسفته، سواء كانوا أخلاقيين كفلاسفة بريطانيا أو عقلانيين كفلاسفة فرنسا، بنقد كل ما يقف في وجه سعادة الإنسان من: سياسة ظالمة، ودين متعصّب، واجتماع فاسد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ للاطلاع على مقال كانط عن التّنوير انظر : ما التنوير؟ ما الاستعمال العمومي للعقل؟ ، تقديم و ترجمة : اسماعيل مصدق ، نشر على موقع الأوان بتاريخ : 19 سبتمبر 2012 .

* يمكن أن نتحدث هنا عن الدّين الطبيعي و عن دين الفطرة الذي كتب حوله جون جاك روسّو في كتابه عن التّربيّة . 

** يمكن أن نلاحظ ، مثلاً ، عناوين كتب د.هيوم " محاولات أخلاقيّة و سياسيّة " و " فحص عن مبادئ الأخلاق " و " مقالات سياسية " و " محاورات في الدّين الطبيعي " . فأغلب هذه العناوين نجدها تركز على الجانب الأخلاقي و الاجتماعي . 

*** نجد أن غيرترود هيملفارب تطلق على التّنوير الفرنسيّ الذي خصصت له الفصل الثاني من كتابها الطرق إلى حداثة ــ تطلق عليه اسم ايديولوجيا العقل . لكن لا يمكن أن نغفل أطروحات جان جاك روسّو الرومانسيّة المعادية لفلسفات أصحاب التوجه العقلي . 

2 ـ غيرترود هيملفارب ، الطرق إلى الحداثة ، ترجمة : محمد سيد أحمد ، سلسلة عالم المعرفة ، عدد : 367 ، ص : 30 .

**** يذكر برتراند رسل أن الأطروحات السياسيّة لجون لوك كانت تلخيصاً لما كان يحدث في إنجليترا ، لذا تأثيرها لم يكن كبيراً داخل انجيلترا ، لكن ليبراليته ازدهرت في أمريكا و في فرنسا . 

3 ـ برتراند رسل ، حكمة الغرب ، الجزء الثاني ، ترجمة : فؤاد زكريا ، سلسلة عالم المعرفة ، عدد : 365 ، ص : 99

4 ـ عبد الرحمن بدوي ، موسوعة الفلسفة ، الجزء الثاني ، المؤسسة العربية للدراسات و النشر ، ط : 1 ، ص ص : 377 ـ 378 

5 ـ غيرترود هيملفارب ، مرجع سابق ، ص : 71

المصدر: http://www.mawada.net/email.asp

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك