أدب التخاطب في السنة النبوية

ناصر بن سعيد بن سيف السيف

 

بسم الله الرحمن الرحيم

    إن الحمد لله نحمده ، ونستعينه ، ونستهديه ، ونعوذ به من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله الله وحده لاشريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله  ،  أما بعد  

     فهذا ملخص للبحث المُحكَّم بعنوان : (أدب التخاطب في السنة النبوية) كتبه الدكتور عبدالمحسن بن عبدالله التخيفي – حفظه الله تعالى - الأستاذ المساعد بكلية التربية بقسم الثقافة الإسلامية في جامعة الملك سعود بالرياض, وصدر هذا البحث المُحكَّم بحث في مجلة كلية الدراسات الإسلامية والعربية بدبي.

     نسأل الله العلي القدير التوفيق والسداد, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

المقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف السابقين واللاحقين، نبينا محمد، وعلى آله وصبحه أجمعين.    أما بعد

فإن الكلمة من جليل نعمة الله على عباده، فهي الكاشفة عن مدفون المشاعر، والمبينة عن مكنون الضمائر، ولا يُعرف قدر هذه النعمة إلا برؤية حال من حُرمها، والكلمة من موجبات النجاة أو الخسران، فرب كلمة أوجبت لقائلها الجنة، ورب كلمة أوبقت صاحبها في النار، عن أبي هريرةt قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالاً، يهوى بها في جهنم)). ([1])

والكلمة لها الأثرُ النافذُ في القلوب، فرب كلمةٍ رأبت صدعاً، ورب كلمة فرقت جمعاً، ورب كلمةٍ أوقدت عزيمةً في النفس، ورب كلمةٍ خذَّلت نفساً منبعثة للطاعة، وقد جعل النبيe الفألَ هو الكلمة الطيبة يستبشر بها المسلم فتنبعث همتُه وتعظم رغبته.

لأجل هذه الاعتبارات وغيرها، فقد اعتنت نصوص الوحيين الشريفين، ببيان الآداب التي ينبغي أن يلتزمها المتكلم لتكون كلماته نافعةً، جالبةً له الأجر دافعةً عنه الوزر.

 

تمهيد

معنى التخاطب ، ومفرداته

الـخِطابُ والـمُخاطَبة: مُراجَعَة الكَلامِ، وقد خاطَبَه بالكلامِ مُخاطَبَةً وخِطاباً، وهُما يَتـخاطَبانِ. والمخاطبةُ مفاعلة من الخطاب، وهي: مراجعة الكلام بحضرة من يخاطبه، وضدها المغايبة. ([2])

الحوار: أصله من الحور، وهو الرجوع عن الشيء وإلى الشيء. ([3])

والتحاور: تراجع الكلام. فهو متفق مع التخاطب، إلا أنَّ التخاطب أخص منه، لأنه يكون بحضرة من يخاطبه، وأما الحوار، فإنه أعم من ذلك. فيمكن أن يحاوره من هو غائب عنه، كمن يحاور غيره كتابةً.

الجدل: وهو بمعنى الحوار، إلا أنه يأخذ صفة الغلبة والشدة والخصومة، ولذا فإنَّ شدة الفتل تسمى في اللغة جدلاً. ([4])

المحاجة: التخاصم، ورجلٌ محجاجٌ أي جَدِلٌ، والحجةُ ما دفع به الخصم، وقيل: الوجه الذي يكون فيه الظفر والغلبة. وهي بمعنى الجدل. ([5])

المناظرة: النظر بالبصيرة من الجانبين في النسبة بين الشيئين إظهاراً للصواب.([6])

التجاوب: هو التحاور، وتجاوب القومُ: جاوَبَ بعضُهم بَعْضاً.

فنطاق البحث هو التوجيهات النبوية التي تعنى ببيان أدب الحديث بين المتخاطبين بمعناه الأعم.

 

الفصل الأول

عناية السنة بإبراز القيم الخُلقية عند التخاطب

المبحث الأول

 إعلاء قيمة الجمال في القول

الكلمات قوالب المعاني ولبوسها، والكلمات الجميلة خير وعاء لحمل المعاني الجليلة؛ لما تُحدثه من أثر محمود في قلب السامع، فتجعله مهيأً لقبولها، قال ابن بطال:(جعل اللهُ في فطر الناس محبةَ الكلمة الطيبة، والفأل الصالح، والأنس به، كما جعل فيهم الارتياح للبشرى، والمنظر الأنيق، وقد يمر الرجل بالماء الصافي فيعجبه، وهو لا يشربه، وبالروضة المنثورة فتسره وهي لا تنفعه). ([7])

والتجمل محبوب إلى الله تعالى في كل الأحوال، كما قال : ((إن الله جميل يحب الجمال))([8])، وجمال القول داخل في عموم الجمال الذي يحبه الله، ولا عبرة بخصوص السبب الذي ورد الحديث من أجله. بل إن الجمال في المعنويات أعظم من الجمال في المحسوسات.

وقد تنوعت النصوص المؤكدة على العناية بحسن الكلمة، ومن ذلك:

- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: سُئل النبيe عن الفَأْل فقال:((الكلمة الصالحة))، وفي روايةٍ:((الكلمة الحسنة، الكلمة الطيبة)).([9])

-   عن عدي بن حاتم  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا النارَ ولو بشق تمرة، فبكلمة طيبة)). ([10])

المبحث الثاني

المحافظة على الذوق العام

الكلمة من أقوى وسائل التواصل بين الخلق، والعناية بحسن انتقائها واصطفائها، مساهمة فاعلة في نشر الذوق الرفيع بين أفراد المجتمع، وذلك أنَّ ضمور المفردات الحسنة في التخاطب بين الناس، مؤذنٌ بفشو أضدادها من الكلمات الرديئة، ويمكن بيان عناية السنة بالمحافظة على الذوق العام في العناصر التالية:

أولاً: التحذير من الفحش في القول: الفحش: القبيح من القول والفعل، ويأتي بمعنى التعدي في الرد والجواب ([11]) ، وقد تنوعت الأحاديث الدالة على ذم هذا الخلق, فعن أبي الدرداء  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله ليبغض الفاحش البذيء)). ([12])

ثانياً: التلميح فيما يستحى بدلاً من التصريح : المتحدث اللبق ينأى بنفسه عن كل لفظٍ ينبو عنه الذوق الرفيع. وإليك هذه الأمثلة: فعن عباد بن تميم عن عمه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ينصرف حتى يسمع صوتاً، أو يجد ريحاً)) ([13]) , وعن أبي هريرة  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ)) ([14]) ففي هذين المثالين لم ينطق النبيe بالاسم الصريح للحدث، وإنما عبَّر عنه بصفته.

ثالثاً: التحذير من أذى المسلمين باللسان: أصناف الأذى باللسان، متعددة، فمنها: اللعن، والسخرية، والغيبة، والنميمة، وغير ذلك وجميعها ألفاظٌ تخدش الحياء، وتؤذي النفس، وتعكر الذوق العام. فعن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)). ([15])

المبحث الثالث

التنويه بخلق الصدق

 فإنَّ صدق الحديث، يجعل صاحبه محلاً للثقة، فيُقبل قوله، ويُطمئن إلى خبره، ولا تتحقق هذه الطمأنينة إلا إذا كان هذا الخلق أصيلاً في نفس صاحبه، وإليه الإشارة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ولا يزال الرجل يصدق، ويتحرى الصدقَ، حتى يكتب عند الله صديقاً)) ([16]) , وهو سبب لدخول الجنة كما في حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الصدق برٌ، وإن البر يهدى إلى الجنة، وإن العبد ليتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإن الكذب فجورٌ وإن الفجور يهدى إلى النار، وإن العبد ليتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)).([17])

المبحث الرابع

إبراز خلق الرفق والأناة

الرفق جماع الخير كله، ما خالط شيئاً إلا وأفاض عليه جمالاً وبهاءً عن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه)) ([18]) ، وهذا يشمل الرفق في الأقوال، والرفق في الأفعال.

المبحث الخامس

إبراز مبدأ الوسطية والاعتدال

التوسط والاعتدال صفة أصيلة في هذا الدين، وهي تشمل أصول الدين وفروعه، ليس للجفاء ولا للغلو فيه مكان, ومن الأمثلة على ذلك في باب التخاطب: النهي عن المبالغة في المدح فعن أبي موسى قال سمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلاً يُثني على رجلٍ ويُطريه في المِدْحَةِ، فقال: ((أهلكتم أو قطعتم ظهر الرجل)) ([19]) وهذا محمول على المدح الذي فيه مبالغة وتجاوز للحد، وأما إذا كان المدح بما في الممدوح فلا حرج؛ إذا أمنت الفتنة على الممدوح، فقد صح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مدح أصحابه بما فيهم من الصفات الحسنة. قال الحافظ ابن حجر: (والضابط أن لا يكون في المدح مجازفة، ويُؤمن على الممدوح الإعجاب والفتنة). ([20])

الفصل الثاني

الآداب التي ينبغي للمتحدث أن يتحلى بها

المبحث الأول

الآداب المتعلقة بالكلمة

الكلمة هي أداة التخاطب بين المتحاورين، وقد اشتملت التوجيهات النبوية بيان الصفات التي تجعل الكلمة نافعة لقائلها وسامعها:

ترك الفضول من القول: تظل الكلمة متألقة ذات نفوذ في نفوس السامعين، إذا عرف المتكلمُ قدرها، وأوقعها موقعها اللائق بها. عن الحسين بن علي -رضي الله عنهما- قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)). ([21])

ترك التكلف في الفصاحة: هذا الدين مبناه على اليسر والسماحة، ومجانبة التكلف والتنطع، لما يجلبه من إدبار الناس عن المتكلف، ولما يورثه ذلك من إعجاب المتكلف بنفسه، عن أبى ثعلبة الخشني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إن أحبكم إليَّ وأقربكم منى في الآخرة أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إليَّ وأبعدَكم منى في الآخرة أسوؤكم أخلاقاً، المتشدقون، المتفيهقون  الثرثارون)). ([22])

توضيح المعنى: عن أنس بن مالك ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً حتى تفهم عنه. ([23]) , قال الخطابي: (أما إعادته الكلام ثلاثاً؛ فإنما كان يفعله لأحد معنين: أحدهما أن يكون بحضرته من يقصر فهمه عن وعي ما يقوله، فيكرر القول ليقع به الفهم؛ إذ هو مأمور بالتبليغ، وإما أن يكون القول الذي يتكلم به نوعاً من الكلام الذي يدخله الإشكال والاحتمال، فيُظاهر بالبيان لتزول الشبهة فيه ويرتفع الإشكال معه). ([24])

حسن البيان: جودة البيان وجماله، من أنجع الوسائل لإظهار الحق والترغيب فيه، فهو يستحوذ على القلوب ويأخذ بمجامعها، وكم من حق خبا نوره وتلاشى أثره في النفوس؛ لسوء تعبير صاحبه، وكم باطل راج وشاع بين الناس؛ لفصاحته قائله وحسن بيانه. عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه لما قد رجلان من المشرق فخطبا، فعجب الناس لبيانهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من البيان لسحراً أو إن بعض البيان سحر)). ([25])

التبيّن في معنى الكلمة ومعرفة مآلاتها: فإنَّ دلائل التوفيق للعبد أن يتأمل في كل كلمة يلفظ بها، وأن يعرف عوافبها، فإنَّ الكلمة ملكٌ لصاحبها، فإذا نطق بها ملكته، وقد جاء التحذير من إطلاق اللسان بالكلام الذي لا يعرف المتحدث عواقبه، عن أبي هريرة ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها، يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب)). ([26])

الاعتناء بنبرة الصوت: هذه المهارة فرقان بين المتحدث الجيد من غيره، وبها يُستدل على حالته النفسية ويعرف غضبه ورضاه والأصل أن يتحدث الرجل بالقدر الذي يُسمعُ مَن عِنده.

المبحث الثاني

الآداب المتعلقة بلغة الجسد عند المتحدث

وهذا المصطلح (لغة الجسد) من المصطلحات المعاصرة، ويراد به: أنَّ لهيئة الجسد لغة مؤثرة في نفس المخَاطبْ، وأنت تجد في بعض الأحاديث تطبيقاً لهذا المعنى:

العناية بهيئة الجسد عن الحديث: وهذه مهارة مهمة ينبغي للمتحدث أن يتقنها، فإنَّ هيئة المتحدث وحركة الجسد لها أثرٌ بالغ في إيصال الفكرة وتفعيلها في نفس المخاطب.

تعابير الوجه وأثرها في نفس المخاطَب: إنَّ الكلمة ليست لفظة مجردةً تؤخذ بمنأى عن هيئة قائلها، ألست ترى أنَّ الكلمة يتنوع فهمها باختلاف حال قائلها، وصفة إخراجه لها.

المبحث الثالث

اتقان مهارات التخاطب الجيد

الخطاب المؤثر، هو الذي يحدث أثراً محموداً في نفس السامع، ولا يكون للخطاب ذلك الأثر إلا إذا اقترن بالمهارات التي تزيده فاعليةً، ومن تلك المهارات المستفادة هدي النبي e :

إثارة نفس المخاطب وتحفيزه لسماع ما يقال له: هذا المسلك يأخذ أشكالاً متعددة كطرح الأسئلة على المخاطب لتهيئته لما يقال له، وهو مسلك كان يفعله النبيe كثيراً. وتكرار النداء من يُحدثه لتهيئته لما سيُقال له.

تقريب الأمور المعنوية في قوالب حسية : عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا)). ([27]) ففائدة ضرب المثل تقريب الأمر المعنوي في صورة المحسوس لهم، وذلك أنَّ حال المذنب كحال المغتسل في النهر بجامع أنَّ كلاً منهما تزال عنه الأقذار.

-     ضبط المشاعر: المحاور الجيد هو الذي يملك السيطرة على انفعالاته، مهما أُلقي إليه من أقوال لا يقبلها.

مراعاة الزمان والمكان: من تمام حكمة المتحدث، وحصافة رأيه أن يعرف التمايزَ والتفاضلَ بين الأمكنة والأزمنة، وأن لكل منها اعتباره، ولكل منها ما يناسبه.

جعل المحاور يستدل على الحق بنفسه: المحاور الراغب في ظهور الحق ، لا يبالي إنْ ظهر الحق على لسانه، أو اهتدى إليه الخصم. ولذا تجده يثير أسئلةً يكون جوابها مؤدٍ إلى الحق.

الفصل الثالث

الآداب المرعية في حق المخاطب

المبحث الأول

حفظ الحق المعنوي للمُخَاطب

من الجوانب المشرقة في التوجيهات النبوية في شأن التخاطب: اعتبار الحق المعنوي للمُخاطب، وحفظ كرامته، ويمكن ملاحظة هذا الأمر في الجوانب التالية:

-   حفظ النبيe الألقاب لأصحابها: حفظ الألقاب لأصحابها، وإنزالهم منازلهم اللائقة بهم، تكريمٌ لهم ولأتباعهم، وسببٌ لانشراح صدورهم لسماع الحق, وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحفظ للناس أقدارهم عند مخاطبتهم.

النهي عن مناداة المخاطَب بألفاظٍ تدل على احتقاره: المماليك والإماء إخوان لمواليهم، جعلهم الله في خدمتهم، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأخوة بقوله: ((إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم))([28]) ، ومن حق الأخ على أخيه ألاَّ يؤذيه بكلمةٍ تجرح مشاعره، أو تشعره بهوانه، ويتأكد هذا الأمر حال المخاطبة.

تقدير اجتهاد المجتهد، وعدم التقليل من شأنه: إن الإنسان إذا استفرغ وسعه في البحث عن الحق، وأدَّاه نظره إلى اختيار أحد الآراء، فإنَّ نفسه تتطلع إلى من يُقدِّر عملَه، ويُثني على جهده، وإن لم يدرك الصواب، وفي أقل الأحوال أن لاتلحقه عتاب على خطأه.

النهي عن السخرية به: النهي عن السخرية عامٌ في الأحوال كلها، ومن ذلك: السخرية به أثناء التخاطب والتحاور معه.

معاتبته باللطف واللين: تتنوع الأخطاء التي تقع من الناس، ويتنوع تبعاً لذلك أسلوب معالجة الخطأ والمعاتبة على فعله, فمن الأخطاء ما يقتضي مساءلة المخطئ؛ لما يترتب عليها من أحكامٍ شرعية كإقامة الحدود، ومنها أخطاء عامة لا يترتب عليها شيءٌ من ذلك، وإن كانت تستدعي المؤاخذة.

عدم التشهير به عند معاتبته: من الآداب النبوية في حق المخاطب العناية بالستر عليه، وعدم التشهير به، حتى باتت كلمة (ما بال أقوام) (ما بال رجال) ونحوها وصفاً غالباً لمعاتبة النبيe  بعض أصحابه على ما يقع من الخطأ.

الإقبال على المخاطب والإصغاء لقوله: فقد كان النبيe لم يكن أحدٌ يصافحه إلا أقبل عليه بوجهه ولم يصرفه عنه حتى يخلو من كلامه ففي هذ الهدي بيان خلق نبوي كريم عند التخاطب، وهو الإقبال على المتحدث، وعدم صرف الوجه عنه حتى يفرغ من حديثه، وهو متضمنٌ لحسن الإصغاء له، وعدم مقاطعته.

المبحث الثاني

مراعاة الفروق الفردية بين المخاطبين

هذا جانب من جوانب عناية السنة بشأن التخاطب، وهو الاهتمام بشأن الفروق الفردية بين المخاطبين، ومخاطبة كل أحدٍ بما يناسبه. ويمكن استجلاء هذا الأدب في الأمور التالية:

أولاً: مخاطبة الإنسان على قدر علمه: عن معاذ بن جبل صلى الله عليه وسلم قال:((كنت رِدف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له: عُفير، فقال: يا معاذ هل تدري ما حق الله على عباده، وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحقُ العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً، فقلت: يا رسول الله أفلا أبشر به الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا)) ([29]) فقد خاطب النبيe معاذاًt بما يناسب علمه، ولم يخاطب بهذا الحديث غيره ممن ليس على هذا الوصف، بل أمر معاذاً ألاَّ يخبر به أحداً؛ لئلا يحمل الحديث على غير المراد به؛ لقلة علمه، وقد بوب البخاري على هذا الحديث بقوله:(باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا)، وقال عبد الله بن مسعود:(ما أنت بمحدثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة).([30])

ثانياً: تنوع وصايا النبيe التي يسديها لأصحابه: وتأمل تباين الوصايا النبوية التي كان يسديها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه الذين كانوا يسألونه أن يوصيهم، فإنهe كان يخاطب كل أحدٍ يما يلائم حاله كما في حديث أبي هريرة: أن رجلا قال للنبيe: أوصني، قال: ((لا تغضب فردد مرارا قال: لا تغضب)). ([31])

المبحث الثالث

مراعاة الحال النفسية للمخاطب

الأصل في مخاطبة الناس أنَّ يكون بالتيسير والتبشير، ولا يُخرج عن هذا الأصل إلا لمصلحةٍ راجحة، ومع هذا الأصل المتضمن الرحمة والشفقة بالخلق، فقد كان النبيe يراعي الأحوال النفسية للمخاطبين، ويخاطب كل أحدٍ بم يلائم حاله، وإليك هذه الأمثلة:

مراعاة حالة الملل والسآمة: إنَّ للنفس إقبالاً وإدباراً، ونشاطاً واسترواحاً، ومراعاة تباين تلك الأحوال، ومعرفة أثر ذلك على المخاطب، من دلائل التوفيق للمتحدث، ولهذا الأدب النبوي الكريم تطبيقاتٌ في سيرة النبيe، فكانe يباسط أصحابه ويمازحهم، وكانe يعظهم ويذكرهم، وكانe يعلمهم ويوجههم، ولم يكن يطغى جانب على آخر، بل يراعي مناسبة كل حال.

مراعاته في حالة الحزن: عن أنس بن مالكt قال:(مرَّ النبيe بامرأة تبكي عند قبر، فقال: اتقي الله واصبري، قالت: إليك عني فإنك؛ لم تُصب بمصيبتي ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبيe فأتت بابَ النبيe فلم تجد عنده بوابين فقالت: لم أعرفك. فقال: إنما الصبر ثم الصدمة الأولى).([32])

مراعاته في حالة الغضب: الغضب ضد الرضا، وهو شيءٌ يداخل القلب، يُفْقِدُ الإنسان السيطرة على تصرفاته، ومنه ما هو مطبقٌ يذهب بالسمع والبصر، فلا يدري المرء على أفعاله، ومنه ما هو دون ذلك، وكله من الشيطان.

الفصل الرابع

الآداب التي ينبغي مراعاتها أثناء المحاورة

الحوار لمن أخذ بآدابه سبيل من سبل تحصيل العلم، وإظهار الحق ودحض الباطل، وترغيب الناس في الخير، وما تقدَّم من الآداب ينبغي استحضاره في هذا المبحث، ويضاف إلى ذلك بعض الآداب التي هي ألصق بهيئة المحاورة وصفتها:

المبحث الأول

العناية بالمقدمات المتفق عليه بين المتحاورين

فإن المحاور الموفق هو الذي يسعى إلى تضييق مساحة الخلاف بينه وبين من يحاوره، ويمد جسور الاتفاق بينهما، مما يجعل الطرف المقابل مهيأ لقبول الحق والإذعان له.

المبحث الثاني

مراعاة حال المحيطين بالمخاطب

عن عبد الله بن مسعود: قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه))([33]). فقد تضمن هذا الحديث توجيهاً نبوياً كريماً للمتخاطبين أن يحترموا مشاعر المحيطين بهم.

المبحث الثالث

حسن إدارة الحوار

حسن إدارة الحوار هي يراد بها: أن يعرف المحاور متى يبدأ؟، ومتى ينتهي؟، وكيف تساق الحجج؟ وأنت راءٍ في حوارات النبي صلى الله عليه وسلم إجابةً لهذه الأسئلة كلها وأكثرها , منها:

-   متى يبدأ الحوار؟ ليس كل حوار يحسن بك أن تشارك فيه، بل من الحوارات ما ينبغي مجانبتها، لعدم نفعها، أو لأنها تحقق مصلحة للخصم، أو غير ذلك من الموانع.

-   متى ينتهي الحوار؟ المحاور الجيد يعرف الوقت المناسب للخروج من الحوار، فإنَّ كل حوار لابد له من نهاية يقف عندها، وإذا لم يتقن المحاور هذه المهارة، فربما انتهى الحوار على هيئة تضرُ بالحق الذي ينافح من أجله.

المبحث الرابع

الصفات التي ينبغي أن يكون عليها المحاور

أولاً: العلم: كل حوار لا يُبنى على أساس من العلم فهو عبثٌ ، والمراد هنا: علم المحاور بما عنده من الحق، ويتبع ذلك علمه بما عند خصمه من الشبه، وعلمه بطرائق الحوار.

ثانياً: الإنصاف وعدم البغي: فالمحاور الصادق الناصح لنفسه، يجاهد نفسه للزوم العدل، ومجانبة البغي، وهو من أشد الأخلاق على النفوس.

ثالثاً: سماع الحق وقبوله: وهو ثمرة الإنصاف، وقد قرر النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ صاحب الحق أعلى حجة، وأقوى عارضة، عن أبي هريرة، قال: كان لرجلٍ على رسول الله صلى الله عليه وسلم حق، فأغلظ له، فهمَّ به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبيe: ((إنَّ لصاحب الحق مقالاً)). ([34])

رابعاً: ترك المراء والخصومة: والمراء مرقاةٌ إلى وقوع الشحناء والعداوة، وحاملةٌ على البغي والمكابرة في دفع الحق وعدم قبوله، والمخاصم الشديد الخصومة مُبْغضٌ إلى الله، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنَّ أبغض الرجال إلى الله الألد الخَصِم)). ([35])

خامساً: الحلم وكظم الغيظ: لا يسلم المحاور من سماع ما لا يحب من خصمه أثناء المحاورة، والمحاور الموفق قد هيأ نفسه لذلك.

سادساً: سعة الصدر بسماع قول المحاور: من أهم الآداب التي يحتاجها المحاور أن يكون واسع الصدر، بسماع جميع ما يورده المحاور، وألاَّ يتبرم بكثرة سؤاله أو اعتراضه.

سابعاً: منح المخاطب فرصة التأمل قبل الرد: غاية الحوار هي إقناع كل من المتحاورين الطرف الآخر بصحة الفكرة التي يتحدث عنها، وتكوّن القناعة في النفس أمرٌ يحتاج إلى تروٍ ومزيد تأمل، وهذا يستدعي أن يمنح المحاورُ الطرفَ المقابل وقتاً للتفكر والنظر.

ثامناً: الحرص على الإقناع: هذه الصفة هي ثمرة الحوار وغايته، وإقناع المحاور بصحة قولك نجاحٌ لك في حسن عرض الحق الذي عندك، ونهاية حسنة للحوار.

تاسعاً: أن يكون ممتثلاً لما يدعو إليه: إنَّ من أنجع أسباب الإقناع أن يكون المتحدث ممثلاً لما يدعو إليه في نفسه؛ لأنَّ التعارض بين القول والعمل من أعظم أسباب الصد عن قبول الحق.

عاشراً: القوة في عرض الحق: إن العرض الهزيل للحق، يُفقده قوته، ويغري الخصم بتجاوز الحدود. والمحاور الناجح محتاج في بعض حواراته إلى الصدع بالحق، وعدم الاسترسال مع الخصم في أقواله، فلم يجب النبي صلى الله عليه وسلم ضماد عن قوله، بل عرض عليه الحق الذي عنده عرضاً قوياً، فما كان من ضماد إلا قبل منه قوله.

!  !  !

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) رواه البخاري (حديث 6113).

([2]) انظر: الصحاح، الجواهري (خطب)، ولسان العرب، ابن منظور (1/361) مادة: خطب.

([3]) انظر: لسان العرب (حور).

([4]) انظر: لسان العرب (جدل)، والتعريفات للجرجاني (101)، والتعاريف للمناوي (ص236).

([5]) انظر: لسان العرب (حجج).

([6]) انظر: التعريفات للجرجاني (298)، والتعاريف للمناوي (678).

([7]) انظر: شرح صحيح البخاري لا بن بطال (9/437).

([8]) أخرجه مسلم (حديث29).

([9]) رواه البخاري (حديث5422)، ومسلم (حديث2223).

([10]) أخرجه البخاري (حديث1347)، ومسلم (حديث1016).

([11]) انظر: النهاية في غريب الحديث (3/415)، ولسان العرب (فحش).

([12]) أخرجه ابن حبان (حديث5695)، والترمذي (حديث2002)، وقال: (حديث حسن صحيح).

([13]) أخرجه البخاري (حديث175).

([14]) أخرجه البخاري (حديث135)، ومسلم (حديث225).

([15]) أخرجه البخاري (حديث10).

([16]) أخرجه البخاري (حديث5743)، ومسلم (حديث2607).

([17]) أخرجه البخاري (حديث5743)، ومسلم (حديث2607) واللفظ له.

([18]) أخرجه مسلم (حديث2594).

([19]) أخرجه البخاري (حديث5713).

([20]) فتح الباري (10/479).

([21]) أخرجه أحمد (1/201) من طريق حجاج بن دينار، عن شعيب بن خالد.

([22]) أخرجه أحمد (4/193)، والترمذي (حديث2018)، وابن حبان (حديث5557).

([23]) أخرجه البخاري (حديث95).

([24]) أعلام الحديث (1/208).

([25]) أخرجه البخاري (حديث5434).

([26]) أخرجه البخاري (حديث6112)، ومسلم (حديث2988).

([27]) أخرجه مسلم (حديث667).

([28]) أخرجه البخاري (حديث2407).

([29]) أخرجه البخاري (حديث2701)، ومسلم (حديث30).

([30]) أخرجه مسلم في المقدمة (1/11) باب النهي عن الحديث بكل ما سمع.

([31]) أخرجه البخاري (حديث5765).

([32]) أخرجه البخاري (حديث1223) واللفظ له، ومسلم (حديث2067).

([33]) أخرجه الترمذي (حديث2825)، وقال: (حديث حسن صحيح).

([34]) أخرجه البخاري (حديث2465)، ومسلم (حديث1061).

([35]) أخرجه البخاري (حديث2325)، ومسلم (حديث2668).

المصدر: http://www.saaid.net/book/open.php?cat=82&book=14428

 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك