عكاكيز الدُّعاء.. والعقل المُستريح!

حمزة رستناوي

 

ملاين المسلمين السوريين المظلومين المُهانين وذويهم دعوا الله صادقين أن ينتقم من حافظ الاسد ، فلم ينتقم منهُ! لا بل حظي المذكور بجنازة مهيبة، ووَرَّثَ ابنه المُلك، ومن ثمّ أُجِبر المسلمون السوريون (السنّة – أصحاب الفرقة الناجية !) على عبادة (القائد الخالد حافظ الأسد) قسرا حتّى وهو في قبره، وأيضا عبادة ابنه حيّا وهو في قصره! و ما ينطبق على حافظ الاسد ينطبق على آلاف الطغاة و المجرمين من شتّى الأمم و الاديان، و ما ينطبق على المسلمين السنّة ينطبق أيضا على غيرهم مع الفئويات العقائدية داخل و خارج الاسلام.

 

يتساءل الكثيرون أين عدالة الله ! ما الفائدة من دعاء المظلوم في ساعات الفجر! أو ظهر يوم الجمعة! أو في أيام الحج المباركة عند أستار الكعبة! ..و ربما يتساءل آخرون - لبرهة - لو كنّا حقا نحن أصحاب الفرقة الناجية و الايمان الصحيح لاستجاب الله (سبحانه) لنا و لم يتركنا لقمة سائغة للكافرين المتجبِّرين! سأقوم بتحييد حقيقة أنّ فئة من المؤمنين الدُّعاة هم انفسهم ظالمين. إذن ما فائدة الدعاء؟! و لماذا يحظى الدعاء بمكانة كبيرة في جميع العقائد الدينية و يكاد يكون ممارسة رائجة في طقوس العبادة و سلوك المتدينين! كثير من المؤمنون السنّة في العراق يدعون الله أن ينصرهم على الشيعة الروافض، و كثير من المؤمنون الشيعة في العراق أيضا يدعون الله أن ينصرهم على السنّة النواصب! و كلاهما يؤمنان بالله ونبوة محمد (ص)، و كلاهما يسلّمان بالقرآن الكريم كتاب مقدّس؟! لمن سيستجيب الله! ما هو مفهوم المؤمنين لله عند كلا الفريقين!

*

ثمّة اعتراض مفاده أن الدعاء مفهوم ايماني عقائدي و لا يجوز طرحه للنقاش خارج دائرة المؤمنين بالعقيدة المخصوصة؟ و تعقيبا على ذلك نقول.. الدعاء قاسم مشترك بين جميع العقائد الدينية.. وبالتالي فهو احدى تظاهرات العقائد الدينية و لكن مع اختلاف اللغة و الصيغة، و تعقيبا على ذلك نقول أيضا ..كثيرا ما يكون أشخاص و جماعات من غير المؤمنين بالعقيدة المخصوصة هم موضوعا أو مستهدفا بالدعاء، و بالتالي لا يجوز أن نُبقي الدعاء و باب الادعية في اطار عقائديّ مغلق!

إنّ مناقشة موضوع الأدعية و الدعاء من وجهة نظر نقدية لا يستلزم التشكيك بعقائد الناس، و لا يستلزم رفض الظاهرة الايمانية العقائدية أبدا، فالعقيدة هي احد ابعاد الكينونة الاجتماعية ، و لا يوجد كينونة اجتماعية ليس لها بعد عقائدي ( الأيديولوجيا الحيوية- رائق النقري) و تعبير العقائد يشمل العقائد الدينية ..و العقائد اللا- دينية كالإلحاد و اللاأدرية و عبادة الزعماء و نحوها.. من جهة أنّهما يبديان سلوكا متشابها ، و يخضعان لنفس القانون، فالعقيدة هي ما يعتقد به الانسان حرا، و الدين هو ما يدين به الانسان بينه و بين نفسه.

*

ليس السؤال الأكثر أهمّية و خطورة هو: ما فائدة الدعاء؟! يمكن أن أقول رأيا و أتفق أو أختلف مع آخرين، و لكن السؤال الاكثر خطورة – بمقياس عموم الناس- هو ضرورة اكتشاف ازدواجية المعايير التي يترتّب عليها ضرر و أذى في الأدعية و السلوك الدعوي، أي ضرورة زيادة حساسية- المؤمنين قبل غيرهم- لكشف العنصرية التي قد تعرضها خطبهم و أدعيتهم من حيث لا يشعرون. يمكن تحديد معايير الدعاء العنصري و تصنيف الدعاء في باب خطاب الكراهية عندما يساوي الدعاء بين: نحن= الخير. هم = الشر، أو عندما ينتهك الدعاء معيار أولوية الحياة و العدل و الحرية، و من أمثلته: ( اللهم عليك بالنصارى واليهود والكفرة ومن عاونهم يا رب!) (اللهم احصِهم عدداً ، واقتلهم بدداً ، ولا تُبقي منهم أحداً، اللهم اشدُد وطأتك عليهم!- اللهم نكّس أعلامهم وفجّر سلاحهم ودمّر قواعدَهم وهدّم كنائسهم ومعابدهم يا الله، اللهم رمّل نساءهم ويتّم أطفالهم وقطّع قلوبهم ومزّق جلودهم وفتّت أكبادهم واجعل عيونهم تسيل على خدودِهم يا الله، واجعل الدماء تسيل بينهم كالأنهار..)

بالمقابل يمكن تحديد معايير الدعاء الحيوي، في كونه ينتقد الذات قبل الآخر، ويعزز أولويات الحياة و العدل و الحرية، و من أمثلته : (اللهم قنا من شرور أنفسنا و من سيئات اعمالنا و اختم بالصالحات أعمالنا- اللهم فرّج عن السجناء المظلومين و أعد المغتربين سالمين الى أوطانهم – اللهم أسألك شفاء ابني المريض يا رب – اللهم اشفي و ارزقني و اكفني مؤنة الذل و السؤال لغيرك ..) كل ذلك على شرط اقتران الدعاء بالسعي و العمل.

*

لا أعيب على أحد أن يدعو بما يناسب معتقداته الايمانية ، و ليس لأحد أن يصادر حريّة الاعتقاد على الآخر، و لكن ندعو الى معاينة فوائد الدعاء و الجدوى بمقياس موحّد يتمكّن عموم الناس من التحقق منه و إن كانوا مختلفين عن بعضهم في العقيدة! مثال-1: أم تدعو الله أن يشفي ابنها من مرض ألمَّ به، و لكن الابن مات بعد معاناة مع المرض، و لم يُشفى! هل نستطيع القول أنّ الله قد استجاب لدعائها مثلا؟! مثال-2: خطيب مسجد يدعو الله أن نحرر فلسطين من الصهاينة ( طرد اليهود من فلسطين) و بعد نصف قرن تقريبا ،مات خطيب المسجد نفسه و مات معظم المشاركين في صلاة الجمعة و لم تتحرر فلسطين !

مثال-3: هل تقل حوادث السير - بلغة العلم الاحصائي- عند السائقين أو الركاب الذين يستفتحون بدعاء السفر مثلا، مقارنة بغيرهم؟ هل تقل حوادث السير في السيارات التي يُعلَّق القرآن الكريم فيها أو الانجيل أو أي كتاب مقدّس آخر مقارنة بغيرهم؟! يمكن اجمال الفوائد المُحتملة للدعاء بالطمأنينة و كونه يزرع الأمل في نفس المؤمن ، فهو من باب تعزيز الثقة بالنفس و شحذ الأمل ، على شرط أن لا يكون الدعاء بديلا عن العمل، و لكن بالمقابل ليس للدعاء مفاعيل ايجابية أو مغيِّرة بما يمكن توثيقه و تأكيده بمرجعية عامة الناس أو بمرجعية أهل الاختصاص بالعلم في مثال مُحدّد.

لا يجوز منع المؤمنين من الدعاء أو انكاره عليهم فهذا يدخل في باب الحرية الشخصية و حرية الاعتقاد و شكل الاعتقاد.. مالم ينتهك الدعاء معايير حقوق الانسان.. فطرة الخير...و اذا كان الامر يتساءل صديق إذن ما المعزى من عنونة مقالكَ يا هذا ( عكاكيز الدعاء ..و العقل المُستريح!)؟ و في ذلك أقول : الانسان العاجز يحتاج الى المساعدة، و كذلك حال الداعيّن فهم في حالة عجز يستعينون بالدعاء على حوائجهم، فالدعاء هو فعل عجز يبحث عن معين! و كذلك يمكن تفسير عبارة ( العقل المُستريح) بكون الدعاء يجلب الراحة و الرضى للمؤمن الداعي، و قد يكون بديلا عن العمل الشاق عند بعضهم! و بالتالي فهو نتاجُ عقل مُريح مُستريح.

في العموم ، يمكن فهم العقائد الدينية من منظورين: 

أولا- منظور لا- سببي سحري خوارقي، يرى في الدين بابا أوسع من العلم التجريبي ، هو منظور يرى المؤمنين بعقيدة مخصوصة بشرا أفضل من الآخرين ، و في درجة أرفع مقاما الى الله مقارنة ببقية البشر من غير المؤمنين...و ما يزال هذا الفهم مهيمنا في المجتمعات الاسلامية.

ثانيا- منظور قانوني سُنني يرى أن الله قد خلق الكون وفق صيغ قانونية ثابتة، لا تميز بين الناس اعتمادا على شكل عقائدهم أو ألوانهم و قبائلهم...الخ وانطلاقا من هذا المنظور على المؤمن أن يسعى لاكتشاف هذه القوانين و من ثم تسخيرها لما فيه خير الانسان ، فلكي تنجح عليك ان تأخذ بأسباب النجاح و إذا لم تأخذ بها سوف لن تنجح بغض النظر عن شكل عقيدتك و قوة ايمانك بها! و يمثل هذا الاتجاه الحيوي السُّنني في الاسلام على سبيل المثال لا الحصر فرقة المعتزلة قديما، و الشيخ جودت سعيد حديثا على سبيل المثال لا الحصر، و سأورد لجودت سعيد يفيد ذلك " الكهرباء لا تمشي في الخشب، و لا تسأل عن مذهبك و دينك ،و ستصعقك اذا خالفت قوانينها بدون رحمة حتى تعقل و تتعلم ،و بعد ان تعرف سننها ستخدمك خدمات عجيبة لا يمكن التخلي عنها".

ينبغي الاعتراف بأنّه من الصعوبة بمكان أن تجد مؤمنا أو رجل دين مسلم ينفي وجود فائدة الدعاء، حيث يبدو هذا من ثمة العقائد ، سأعرض هنا رأيا لطرفة بغناجي ( داعية و امام مسجد في فينا ) الإنسان مخير في أعماله، و الله عز وجل أعطاه العقل و ألهم نفسه فجورها و تقواها، و حمّله هذا الميثاق الغليظ ،و بذلك يكون رجوعه إلى الله و دعاءه الصادق له.. فدعوة المظلوم مُستجابة بغض النظر عن دينه و عرقه ،و استجابتها تكون غالباً في الدنيا قبل الآخرة و لا تعارض لهذا الفهم مع القدر الأزلي و علم الله الخارج عن إطار الزمان و المكان و الأبعاد التي تحكمنا في هذا العالم الدنيوي. و وجب التأكيد على أن قيمة الدعاء لا تكون إلا بعد أن يكون الإنسان قد استوفى الشروط اللازمة و هي و العمل ".

أما د. خالص الجلبي – مفكر سوري- فيرى أنّ " عالم الشهادة يقابل بالجهد الواعي، وعالم الغيب يقابل بالدعاء لأننا لا نحيط به، وهو رصيد نفسي للداعي أن يستنفر نفسه لتقبل ما يحدث والاستعداد للمواجهة فلا نحزن على ما مر ولا نقلق فيما هو قادم، ونظرا لتشابك عالم الشهادة بالغيب في كل لحظة، فلا بد من ذلك المزيج العبقري بين الجهد الواعي في كل لحظة مقترنة بالدعاء لتغطية كلا من عالم الغيب والشهادة، فإن تحقق ما نريد لم نبطر ونأشر وأن فشلنا لم نحزن ونيأس، فهذا موقف نفسي معتدل يدخل إلى الروح الطمأنينة في متابعة الحياة بكل ثقة وقوة ".

*

ما دام الظلم موجودا في هذه الدنيا ، بما لا يستثني المؤمنين أنفسهم، فكيف يستطيع المؤمن تفسير حضور الظلم في هذا العالم ؟! في الحقيقة إن مصدر الشر قضية اشكالية مُستغلقة على الفهم و مبهمة في المنظور الفلسفي و العقائدي، نجد إحدى اجاباتها في مفهوم الجزاء الأخروي، و ترحيل تحقيق العدالة الى حياة أخرى بعد الموت، و هو حل مفيد ضمن المنطوق الإيماني، يحفظ تماسك هذا المنطوق و ينعش جرعة الامل في نفوس المؤمنين.

*

في الفلم التليفزيوني الأمريكي" محاكمة يهوه " الذي تدور أحداثه عقب مرحلة الهولوكوست حيث يقوم مجموعة من اليهود بزيارة لأطلال معسكر الاعتقال النازي أوشفيتز في (بولندا)، حيث يدور جدال: كيف يسمح الله لشعبه المختار- أي اليهود- بأن يُهان و يُعزل، ويحرق بهذا الشكل! حيث يسأل الابن الليبرالي أباه المُتدين: 
- ألا يعتبر كلام الله لنا في التوراة بأننا شعبه المختار عقد مُبرم بيننا، فلماذا يعذبنا ويقتلنا بأبشع الطرق؟! 
- الأب المتديّن: لأننا نحن نقضنا العقد وابتعدنا عن الدين. 
- الابن: إذن فنحنُ المجرمون، والله محق في عقابنا ؟ 
- الأب المتديّن :بالتأكيد. 
- الابن: إذن هتلر هو أداة من أدوات تنفيذ الله لقانونه العادل ، فلماذا نكرهه ، ونقاتله بدل أن نعتبره قدِّيساً ينفِّذ حكم الله العادل فينا؟!

المصدر: http://www.alawan.org/spip.php?page=article&id_article=15390

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك