مللتُ الحوار.. إلا بشروط!!

مللتُ الحوار.. إلا بشروط!!
"أطرح رأيي هنا وأنتظر رأيك؛ وتظللنا القاعدة التي أعدت صياغتها:رأيي الذي أرى صوابه يحتمل الخطأ.. ورأيك الذي أرى خطأه يحتمل الصواب.. وكلا رأيينا يحتملان الصواب معا أو الخطأ معا!!"

* سألني زميل عملي: لِمَ لَمْ تستمر في مناقشته وتدحض رأيه، خاصة أن حجته واهية في مقابل حجتك القوية؟
- فسألته بدوري: وعلى أي أساس وصفتَ حجته بالواهية وحجتي بالقوية؟
* مط شفتيه، وهو يهز كتفيه قائلا: هذا واضح؛ فلديك الدليل القوي على رأيك من القرآن والسنة، بينما لا يملك هو واحدا على رأيه!
- فعدتُ أسأله (موجزا سبب توقفي عن الحوار في هذا الموقف): ومن قال لك أنه يحتكم إليهما؟!!
------------------
منذ فترة طويلة توقفت عن دخول حوارات جدلية مع من يخالفونني فكريا خاصة في مقر عملي؛ ذلك أني - والعلم عند ربي - ما أردتُ يوما أطرَ غيري على اعتناق رأيي، بل عرضَ وجهة نظري أمام مستمعي ليقبلها أو يرفضها، وفي مقابل ذلك غالبا ما كنت أجد محاوري يسعى إلى هدف غير الذي إليه أسعى!! فإما يريد قهري على قبول رأيه، أو على الأقل التخلي عن قناعتي، وإن لم يستطع فتسفيه رأيي، أو انتقاص قدري، فإن لم يستطع فخلط الأوراق وتشعيب القضايا بما يحير المستمعين ويجعلهم عن حديثنا يعرضون!!!
فاكتشفتُ - مع الأيام - أن هناك ضوابط مهمة تفتقر إليها حواراتنا؛ وبعد جلسة مع النفس اجتهدتُ في حصر بعض تلك الضوابط - أو قل الشروط - التي أشترطها على محاوري قبل أي حوار خلافي؛ وهي:

1- تحديد القضية أو الموضوع الذي سيدور حوله الحوار بوضوح؛ حتى إذا اختلطت الأوراق وتداخلت سهل إعادة فرزها وانتقاء ما يعنينا منها، وإذا تفرعت الطرق أو تشابكت تيسرت العودة للحديث الأصلي.
2- تحديد هدف الحوار الرئيسي؛ هل هو محاولة إقناع كل من الطرفين للطرف الآخر بوجهة نظره؟ أم المقاربة والجمع بين وجهتيْ النظر؟ أم عرض القضية بوجهتيْ نظر مختلفتين على طرف ثالث وتركه ليختار ما يقتنع به (حتى لو لم يختر أحد الرأيين)؟
3- الاتفاق على مرجعية مشتركة للنقاش؛ فمن العبث أن يحتكم صاحب فكر إسلامي إلى القرآن والسنة حال محاورته ليبراليا! أو أن يستشهد (إخواني التوجه) بآراء مشايخه المحسوبين على حركته - أو اختياراتهم الفقهية - عند محاورته (سلفي التوجه)! أو أن يُستشهَد بآراء عالم في الحديث وقت مناقشة قضية فقهية، أو بآراء سياسي وقت مناقشة قضية اقتصادية!
4- الاستشهاد بالمعلومات الموثقة بدليل شرعي ثابت (إن كانت القضية تخص شأنا دينيا) أو بمصدر مختص محترم (إن كانت القضية تخص أحد العلوم أو الفنون الأخرى)؛ فلا نقبلها لمجرد أن فلانا (عالي الشأن أو صديقي الذي أثق فيه) قالها أو لكثرة انتشارها بين الناس، أو نرفضها لمجرد أن فلانا (قليل الشأن أو عدوي الذي أبغضه) قالها، أو لقلة انتشارها بين الناس!
5- السعي للوصول إلى الحق وليس إلى إثبات القناعة الشخصية أو مجرد ضحد الرأي الآخر؛ صحيح أن هذا من الأمور القلبية التي يصعب التيقن منها، لكن يمكن استنباطها من بعض الدلائل؛ وإلا فما رأيك مثلا فيمن بادرني قبل بدء حوارنا بقوله: لتعلم قبل بدء حديثنا أنك لو حاورتني من الآن إلى الغد فلن أغير رأيي الذي أقتنع به؟!!!
6- صِدْقُ كل طرف في عرض الصورة كاملة لا ما يحب رؤيته منها فقط؛ فلا يُظهِر الأمور الإيجابية في رؤيته ويخفي السلبيات مثلا، أو يكتفي - في قضية فقهية خلافية - بالاستشهاد بآراء العلماء المؤيدة لاختياره معرضا عن وجود آراء أخرى مخالفة؛ فهذا أسلوب غير أمين في الطرح، وللأسف الشديد رأيت من واقع خبرتي الشخصية من يقوم بمثل هذا التصرف من بعض أصحاب التوجه الإسلامي، فإذا سألتَه عن السبب تعلل بأنه يريد أن يصل بالمستمع إلى الحق دون أن يبلبل أفكاره بالسلبيات أو الآراء الأخرى!! سبحان الله.. أليس هذا حَجْرا على فكر الآخرين؟ بل انتقاصا لعقولهم وامتهانا لحرية اختيارهم؟!!! فكيف نلوم أهل السياسة على تفكيرهم الميكيافيلي أو ممارساتهم البراجماتية إذن؟!!
7- الاستدلال بالمعلومة الدقيقة الواضحة (المبنية على أرقام وإحصاءات وحصر واستقراء) لا العامة الغامضة (القائمة على أقوال مرسلة)؛ فلا يجوز أن يقال: الإسلاميون كلهم إرهابيون! فمن أطلق مثل هذا الاتهام فليحدد أولا الإسلاميين المعنيين، ثم ليأتِ بحصر للحوادث الإرهابية التي ارتكبوها، وهذه الحوادث - إن وجدت - يجب أن تكون محددة بأرقام، ويجب أن يُستحضر دليل نسبتها إليهم من الوثائق الرسمية لا من مانشيتات الصحف..! كما لا يجوز أيضا أن يقال: المسئولون كلهم فاسدون أو الأثرياء كلهم لصوص، دون تحديد واضح بالأرقام وأدلة موثقة من مراكز رقابية رسمية أو محترمة..! وفي نفس السياق لا يجوز أن يطلق التعميم - مثلاً - بأن أهل بلد ما كلهم جهلاء، أو كلهم ظالمون؛ فقد تغلب صفة ما على أهل بلد أو جماعة أو فئة أو مهنة.. لكن لا يجوز إطلاق هذه الصفة على إنسان ما ابتداء لمجرد انتمائه لإحداها!!
8- توحيد المفاهيم والمصطلحات؛ فكم من ساعات ضاعت بلا جدوى في صراعات كلامية اكتشف طرفاها أن كلا منهما يقف في حلبة غير التي يقف فيها الآخر!! فحري بطرفي الحوار أن يوضح كل منهما مقصده أولا، وأروع مثال يحضرني في هذا السياق هو أسلوب الإمام الشهيد (حسن البنا) عندما بَيَّنَ لمخالفيه مقصده من مصطلح (الوطنية) الذي تُتَّهم جماعته بأنها لا تعترف به؛ فتساءل إن كان المقصود بالوطنية (حب الوطن والحنين إليه) أو (المجاهدة من أجل عزة الوطن واستقلاله من المحتلين) أو (تقوية الروابط بين أفراد القطر الواحد) فكل ذلك مما حث عليه الإسلام، وذكر الأدلة على ذلك.. وبنفس هذا المنهج يمكنك - قبل بدء حوارك - توفير الوقت والجهد و تقليص عدد مخالفيك (إن لم تنقل بعضهم إلى فئة مؤيديك!).
9- التركيز على الأفكار دون أصحابها، والانشغال بنقدها لا تجريح أصحابها (أشخاصا كانوا أو جماعات أو هيئات).
10- تحديد وقت للحوار؛ فحتى في حالة اعتماد كل تلك الشروط.. لا يمكن استمرار الحوار إلى ما لا نهاية!
-----------------
وأنت يا قارئي، إن كنت تخالفني في أحد تلك الشروط فلا تحرمني رأيك، وإن كنت ترى غيرها فأكرمني به..
أما عن مخالفيَّ فأعتذر عن مشاركتهم الحوار؛ لأني مللت الحوار.. إلا بتلك الشروط!
بقلم ماجد القاضي
المصدر: http://magidalkady.blogspot.com/2010/04/9_17.html

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك