لو أنَّ لكلّ مُفردة عربية شرفات تطلّ على اللُّغات الأخرى

مرزوق الحلبي

 

العلاقة بين اللُّغة وبين ناطقها ليست علاقة واضحة دائما ولا هي عادية ومفروغ منها، ولا هي أحادية الاتّجاه. فالنَّاطق لغة مَّا يختار الكلمات ويصيغها بما يخدم غرضه من النُّطق بالكلام. وفي اللَّحظة ذاتها تقوم اللُّغة بصياغته وتشكيله. فاللُّغة الَّتي يصنعها ناطقها على قياسه تصمّمه لغته وترسم صورته في عيون المتلقّين. بمعنى، أنَّ اللُّغة والنَّاطق يسيران معا في ظلّ بعضيهما. فلا حياة بغير لغة ولا لغة بغير ناطق. ومن هنا فإنَّ اللُّغة كيان حيويٌّ قابل للتَّحوُّل كما هو ناطقها كذلك. فللُّغة أثرها وتأثيرها ليس فقط في سامعها أو قارئها بل في ناطقها، أيضاً.

 

أمر آخر تجدر الإشارة إليه في سياق الحديث عن اللّغة هو الوظائف الَّتي تضطلع بها اللُّغة في الاجتماع. هناك مَن يسارع إلى حصر وظيفتها في أشكال الاتّصال. بمعنى، أنَّه يخصّ اللّغة بوظيفة واحدة موسّعة علما بأنَّ للُّغة جملة وظائف تجتمع إلى بعضها فتصير لغة جماعة وحياتها! فإذا قلتَ لي ما هي لغتك أقلّ لك مَن أنت! أو كما قال القوميون الألمان "كلُّ أمَّة تفكّر كما تتكلّم وتتكلّم كما تفكّر". وإذا كانت الثَّقافة العربيَّة قد أنتجت "إنَّ في البيان لسحر" فإنَّ الثَّقافة الأوروبيَّة لا سيَّما الفرنسيَّة أنتجت "سُلطة اللُّغة والإنشاء". و"السّحر" عند العرب لا يُمكن فهمه إلاَّ مجازا على أنَّه "سطوة" اللُّغة على سامعها. وقد كان الشَّاعر العربيّ أو الرَّاوية يسحر النَّاس بقصصه وحديثه الَّذي شجون كما سحرت شهرزاد أميرها لأكثر من ألف ليلة!

 

في الثَّقافة المسموعة ـ قبل شيوع القراءة والكتابة وبعد محو الأميَّة ـ كان وقع الكلام على سامعيه معيارا من معايير الشّعر الجيّد والشَّاعر المُجيد والجهبذ. وكانت إيقاعات الشّعر جزء من تداوله وحفظه ومنابره. وهي ظاهرة غير محصورة في الثَّقافة العربيَّة بل طالت مختلف الثَّقافات في فترتها المسموعة. فالإنجليز أيضا ـ على سبيل المثال ـ لهم عاداتهم في نظم الشّعر الموقّع أو السّجال الشّعريّ. وفي الثَّقافة اليهوديَّة ظاهرة مماثلة. للقول أنَّ للُّغة أكثر من وظيفة واحدة في الاجتماع. فقد يتمُّ استعمالها لإحداث أثر. بل كلَّما تعقّدت منظومة الاجتماع كلَّما تعدَّدت وظائف اللُّغة. ففنُّ الخطابة مثلا ـ يُعطي للُّغة وظيفة يُقصد بها التَّأثير على الآراء وعلى السّياسة! كما أنَّ اللُّغة أداة المعرفة وحاويتها. ومن هنا ذاك الفصل في التَّأريخ بين حِقَب قلّ فيها العارفون بالقراءة والكتابة ـ في أي ثقافة ـ وبين غالبية ساحقة لا تعرف هذه ولا تلك. وكذلك تلك الإشارات الواضحة إلى دور الطَّبقة المتعلّمة اللُّغويَّة في باحة القصر وأروقته مقابل "الغوغاء" أو "العامَّة".

 

ويُشير هوبسباوم مرارا (وغيره ـ أندرسن مثلا) إلى الدَّور الَّذي لعبته اللُّغة في تشكيل الجماعات القوميَّة أو في إدامة سيطرة الطَّبقة الإداريّة في مركز مديني بفضل لغتها. مثل هذه التَّنظيرات تلتقي مع تلك الَّتي أتى بها غرامشي وفوكو وسعيد بخصوص بسط أنظمة الحكم سطوتها وسيطرتها بواسطة اللُّغة ومفاعيلها. واللُّغة هنا بمعنى الخطاب (discourse). والفرضيّة هنا أنَّ النُخب تفرض خطابها/لغتها ومفرداتها الَّتي تعني في نهاية المطاف رؤيتها وتصوُّراتها للعالم ومجمل أحكامها. أمَّا في العمق فهي تعني أيضا عقيدتها السّياسيَّة والفكريَّة ومُجمل أنماطها الفكريَّة والعمليّة وسياساتها في المجالات المختلفة.

 

أمَّا اللُّغة كمعرفة فهي نظريَّة تقول بوضوح أن لا وجود للمعرفة إلاَّ ضمن اللُّغة. ولأنَّ المعرفة ليست نهائيَّة أو مُطلقة في أي لحظة خاصَّة إذا مضت، بل متراكمة متغيّرة نتوقّع من اللُّغة أن "تتراكم" وتتغيّر وتتحرَّك وفق المعارف المتولّدة على الأقلّ بفعل العلم ومُنجزاته لا سيّما التكنولوجيَّة. لكن لا يُمكننا أن نغفل ذاك الكمّ الهائل من المعرفة في علوم الاجتماع والسّياسة الَّذي تراكم في زمن الحداثة أو الحداثة الفائقة أو السَّائلة.

 

وماذا مع اللُّغة العربيَّة في هذا المضمار ـ سؤال يطرح نفسه للمرَّة المليون في ضوء ما نلمسه من محافظة وانغلاق لدى سَدَنة اللُّغة العربيَّة بوصفها مفردات وتمثيلات وثقافة ومعرفة. نشير بداية إلى أنَّ أمام نهوض العربيَّة جملة من المعيقات. الأوَّل ـ تلك النَّزعة المحافظة ومصدرها أوساط دينيَّة تعتبر اللُّغة العربيَّة لغة نهائيَّة في القرآن لا يعتريها نُقصان ولا تعوز الزّيادة. بمعنى، أنَّ اللُّغة العربيَّة مقدّسة لا يجوز الاعتداء على قدسيتها بفرضيات من العالم الأرضيّ وبنظريات علمانيَّة. يشترك مع هذه الأوساط نُخب ذات نزعة قوميّة تخلع على اللُّغة العربيَّة قداسة هويتيّة عربيَّة. إلاَّ أنَّ المحصّلة واحدة ـ مُعارضة شديدة لتحديث اللُّغة وتطويرها بفعل إراديّ. الثَّاني ـ نزعة رومانسيَّة تعتبر اللُّغة العربيَّة واسعة في منتهى الاتّساع والكبر قادرة على أن تحتوي كلّ شيء. ويُضيف هؤلاء إلى ادعائهم الإشارة إلى كثرة المترادفات وأنَّ اللُّغة العربيَّة "بحر في أحشائه الدرّ كامن"! هذا علما بأنَّ لا اللُّغة العربيَّة واسعة ولا المترادفات تعني الغِنى لأنَّ عدد الجذور الَّتي يُشتقّ منها قليل جدًّا قياسا بلغات أخرى! الثَّالث ـ سياسات لغويَّة معطوبة أو فجّة لم ترقَ لفهم مُجمل الوظائف الَّتي تؤدّيها. صحيح أنَّ الفترة القوميَّة وفترة التَّحرُّر من الاستعمار ترافقت مع تنظيرات لغويَّة هامَّة لكن سرعان ما غرقت في تأصيلات وشوفينية عربيّة مغالية.

 

فالعربيَّة في الجزائر مثلا قمعت الأمازيغيَّة. والتَّعريب خلق أزمة العلاقة مع اللُّغات العربيَّة المحكية علما بأنَّها كان يُمكن أن يكون "المنجم" الَّذي تأتي اللُّغة العربيّة منه بثروتها واغتنائها. زجّت العروبة العربيَّة في حرب مع ذاتها ومع اللُّغات الأخرى المحايثة. فانغلقت بدل أن تنفتح وتقلّصت بدل أن تتَّسع على الأقلّ في السّياسات الرَّسميَّة للدُّول على مذاهب أنظمتها. أمَّا المجامع اللُّغويَّة الَّتي نشأت في كلّ عاصمة عربيَّة فبدل أن تتنافس في فتح أبواب اللُّغة تنافست وتناحرت في السَّعي إلى تكريس مغاليقها وتعزيز تحصيناتها. لقد ضاعت الأصوات الدَّاعية إلى الإصلاح اللُّغوي في حمأة حروب المجامع الَّتي تراجع دورها إلى أن اضمحلّت.

 

لعلّ أكثر ما يجسّد قصور اللّغة العربيَّة هي تلك الظَّاهرة المضحكة المُبكية الَّتي شهدتها في حقبة التَّدوين وتلازمها إلى اليوم. ففي فترة التَّدوين ساد الاعتقاد عند اللُّغويين أنَّ الأعرابي صانع اللُّغة العربيّة فاشتروا منه ألفاظا اتّضح أنَّه اختلقها سعيا إلى الرّبح الرَّخيص خاصَّة وأنَّهم كانوا ينقدون الأعرابي الوافد من عُمق الصَّحراء درهما أو أكثر لقاء كلّ لفظة يقول لهم أنَّها جديدة وأنَّها تعني كذا وكذا في منطقته! وهكذا، سنجد في كلّ مُنجد كلاسيكيّ في كلّ صفحة تقريبا جذرا أو أكثر لا اشتقاق منه ولا تصريف. لفظة ومعنى جامد ميّت لا شيء أكثر! وفي القواميس نفسها ستجد أنَّ اللُّغة الحديثة كلّهاـ لغة التَّداول الإعلاميّة والحياتيَّة موجودة هناك في ملاحق خاصّة وكأنَّها ابنة غير شرعيّة للُّغة العربيَّة أو أنَّها مهموزة النّسب لا تصلح لتُحسب على اللُّغة العربيَّة الأصل! ولا تزال الألفاظ الميّتة هناك معزّزة مكرّمة ترمز إلى الموت في اللّغة العربية المعجميّة أو تلك المستندة كليّا إلى "لسان العرب" لابن منظور.

 

المراكز الأكاديميّة فسحة لحيويّة لغويّة

أمَّا المراكز الأكاديميَّة العربيَّة فقد شكّلت نقطة الضَّوء في هذه المسيرة اللُّغويَّة المعتمة للعربيَّة. فإذا اعتبرنا أنَّ علماء حقبة التَّدوين هم بمثابة المركز الأكاديميّ لتلك الحقبة سنرى أنَّهم طوّروا اللُّغة وأغنوها بترجمات وتحويلات من لغات العلوم ومن أمَّهات الكتب الَّتي اعتبرتها النُخبة العربيَّة في حينه معرفة لا بدّ منها في اللُّغة العربيَّة. بل أنَّ الترجمة في تلك الفترة هي الفعل اللُّغويّ الَّذي وسّع العربيَّة في مفرداتها ومعارفها. ولا ننسى أنَّ فقه الكلام العربيّ تطوَّر من خلال السّجال مع تلك الثَّقافات وطروحاتها وأنَّ "الفلسفة العربيّة" نهلت من هذه الحقبة و"لغاتها".

 

بمعنى أنَّ اللُّغة العربيَّة عاشت أفضل بانفتاحها على اللُّغات الأخرى والتَّفاعل معها ومع علومها. وأعتقد أنَّ بعض المراكز الأكاديميَّة العربيَّة وإن بتفاوت فعلت الأمر ذاته في العقود الأخيرة حين ترجمت واقتبست وتفاعلت مع النّتاج المعرفيّ العالميّ في اللُّغات الأخرى لاسيّما المؤثّرة منها.

 

يكفي مثلا أن نرى إلى ترجمات الفلسفة الفرنسيّة الحديثة في المغرب العربيّ لنُدرك حجم الغنى والثراء الَّذي اكتسبته العربيّة لغة وثقافةً. هكذا فعل باحثون ومفكّرون ومستنيرون عرب أفراد عندما خرجوا من ثقافتهم واكتسبوا من ثقافات أخرى وأدخلوها ضمن أبحاث أو كتابات أو تنظيرات فأضافوا للُّغة كنزين، كنزا من المفردات ولدت في حالة التَّرجمة والتَّحويل وكنز الفكر عندما تمّ دمج معارف جديدة ضمن إطار اللُّغة العربيَّة ومساحتها (مثال على ذلك ما يُنشر هنا في موقع الأوان من نصوص وأبحاث وترجمات قيّمة تُضيف ليس إلى اللُّغة العربيَّة بل إلى العربيّ فردا وجماعة، أيضا).

 

على خط موازٍ، عمد الإعلام العربيُّ في كلّ مراحله تقريبا لا سيّما الفضائيّ وذاك الألكتروني إلى التَّجديد والتَّطوير اللُّغوي خاصَّة وأنَّ الميديا كانت على خطّ المواجهة الأوَّل مع الحدث ومع المتغيّرات ومع الخبر ومع تغطية العالم على ما فيه من تجديد ومتغيّرات.

 

إنّ في صلب مثل هذا العمل الثَّقافيّ اللُّغويّ المعرفيّ فرضيَّة تقول بأنَّ اللُّغة كيان حيٌّ وظاهرة تاريخيَّة إنسانيَّة يُمكن أن تتطوَّر وتتحوَّل بكلّ اتّجاه. وهذا نقيض رؤيتها كمقدَّسة أو نهائية أو مسألة سماويَّة يُحذر المسّ بها من خلال التَّطوير أو الإضافة أو الحذف! عمل يفترض أنَّ مصلحة العربيَّة والنَّاطقين بها تستدعي فتح مغاليقها وتحويلها إلى ميناء مفتوح لا إغلاقها في حدودها، لا خارج منها ولا داخل.

 

شيء يُشبه الخاتمة

لاحظت من تتبُّعي لأنشطة المجتمع المدنيّ العربيّ لا سيَّما في العقدين الأخيرين أنَّ هذا القطاع الاجتماعيّ أو هذا الحقل الاجتماعي ـ حسب بورديه ـ عدا كونه فاعلا جديدا في الاجتماع العربيّ فقد كانت له إسهاماته اللُّغويَّة في المستوى المعرفيّ واللُّغويّ الصَّرف. هنا أيضا حصلت عمليات تحويل وترجمة للمعارف المتَّصلة بهذا الحقل من لغات أخرى. وهين دون شكّ، أغنت اللُّغة العربيَّة ووسّعتها وأدخلت للتَّداول عشرات المُفردات والتَّراكيب الجديدة. وهذا ما حصل مع كلّ حقل اجتماعيّ جديد خاضه عرب وأنتجوه بلغتهم. وهذا يعني أنَّ اللُّغة وإن أهملتها الأنظمة واللُّغة بهذا المستوى أخذها أصحابها اليوميين إلى أماكن لم تصلها من قبل لا من حيث المفردات ولا من المعرفة الخالصة والكشف المعرفيّ. ومن هنا رأينا ظهور المعاجم المتخصّصة ـ وإن لا تزال قليلة ـ الَّتي تغني اللُّغة وتضيف إليها وتفتحها على الحياة والدُّنيا كما هي اليوم. أي أنَّ هناك حركة تجديد في اللُّغة تتمّ بفعل أفراد ـ وأقلّ مؤسّسات ـ ومبادرات داخل الأكاديمية العربيَّة ومؤسَّسات البحث ومراكزه. لكنَّها ظلّت في الأطراف ولم تتحوّل إلى التيّار المركزيّ أو النَّافذ وإن كنتُ لا أقلّل من دورها ولا من إسهامها في عمليَّة النُّهوض اللُّغويَّة الفكريَّة.

 

تجمَّعت في مكتبتي ربَّما مئات الكتب العربيَّة الَّتي تُعنى باللُّغة والنَّهضة والتَّنمية والحداثة وما إلى ذلك. وفي الكثير منها إشارة واضحة إلى العلاقة بين نهضة في الاجتماع ونهضة في اللُّغة.

 

وأعتقد أنَّ هذا الطَّرح صحيح في مجمله ينبغي أن يظلّ أمام اللُّغة العربيَّة وأصحابها. فالنّقاشات الَّتي تدور أحيانا بين مناصر للّغة المحكيَّة ومناهض لها أو بين عشرة نُحاة حول تشكيل جمع المؤنّث السَّالم، كنتُ أحبّ رؤية نقاش سنويّ حول التَّرجمات إلى العربيَّة وأثرها في ثراء اللُّغة واتّساعها أو حول عدد الكلمات الجديدة الَّتي طوَّرتها اللُّغة العربيَّة وأدرجتها ضمن معاجمها في نهاية العام 2016 مثلا! أو أن نناقش قرار دولة عربيّة أو مجمع لغة مرموق إزالة الألفاظ الميّتة من متن القواميس وإدراج ملاحق اللُّغة المتداولة في صلب هذه المعاجم. اللُّغة العربيَّة بحاجة إلى عمليتين سريعتين الأولى ـ الإقرار بأنَّ آلاف الألفاظ فيها وُلدت ميّتة وأنَّ آلافا مثلها ماتت في حوادث وحروب ونتيجة هرم وخرَف وأنَّ هناك ضرورة لدفنها في أسرع وقت ممكن. والثَّانية ـ العزوف عن الاعتقاد بقداسة اللُّغة والمكوث أسرى في رومنسيتها وإنشاء شرفة على كلّ حرف من المفردات العربيَّة لتطلّ على الُّلغات الأخرى وتتفاعل معها بوصفها معارف وثقافات وتصوّرات وأحكام وأنماط. ساعتها ستكبر العربيَّة وتتَّسع وتغتني في عقد مَّا تأخّرت عنه قرونا. بمعنى، أنَّ عمليَّة النُّهوض بالجماعة العربيَّة تمرّ عبر لغتها، النَّهضة في اللُّغة بروح ما تقدّم من لزوم الانفتاح والاقتباس والتَّفاعل والنَّقد الذَّاتيّ بعد الهزيمة اللُّغوية (الثَّقافيَّة الفكريَّة) المدوّية للُّغة العربيَّة.

المصدر: http://www.alawan.org/spip.php?page=article&id_article=15333

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك