المواطنة

البروفيسور: طارق رمضان

 

لقد طُرح مفهوم «المواطنة» على بساط التحليل والنقاش بشكل أكبر وأكثر توسعاً في التقليد الفرنسي منه في تقاليد الدول الأنجلوساكسونية الأخرى. إلا أن الأمور بدأت تتغير في العقد الأخير على ما يبدو. فأعداد المهاجرين المتزايدة والتهديدات الأمنية للمجتمعات الغربية استحضرت بعض الأفكار إلى الواجهة من جديد، إلى جانب بعض المساجلات الجديدة. ففي أميركا وكذلك في أوروبا تدور مسألة «المواطنة» حول هذا السؤال: «من ينتمي إلينا؟» أو «ما هي متطلبات الانتماء؟» وهذا النهج ليس بنّاءً أو كريماً أو إيجابياً في أساسه لأنه ناتج عن العديد من المخاوف التي سبق ذكرها، ومن الصعب إدارة التنوع الثقافي والديني رغم الإطار القانوني المشترك. لم تشغل هذه القضايا بال علماء العقد الاجتماعي الأوائل من أمثال هوبز، ولوك، وروسو، ومن بعدهم ألكسيس ده توكڤيل (1805 – 1859) -الذي كان مهتماً بمساواة الظروف البشرية- بل ما كان يشغلهم هو الأساس الشرعي للانتماء والمحافظة على المساواة، إلى جانب التنظيم، وأيضاً من خلال القانون، للعلاقات التفاعلية، أو تلك التي يجب أن تقوم بين الأفراد والدولة. كان موضوع التجانس الثقافي أمراً مفروغاً منه، ولهذا لم يمكن التنبؤ بأي انتهاك لحرفية أو روحية القانون، المقرّر والمطبّق. ما انطوت عليه النظريات كان إدارة القوى السياسية من خلال العقد الاجتماعي للحد من صلاحيات الدولة، وكبح تأثير الأغنياء والمتسلطين، وحماية حقوق المستضعفين.

لقد سمح امتداح المبادئ الديموقراطية ومناصرتها للمجتمعات الأوروبية ومن بعدها الأميركية أن تتقدم باتجاه سيادة للقانون أكثر فاعلية. لكن وكما قلنا فقد كان هناك سؤال يطفو على السطح بشكل متكرر وملِح، والسؤال الذي صَعُبَ صياغة إجابة واضحة وشافية له هو الآتي: على مستوى المفهوم الفلسفي والقانون الأساسي، هل كان الدفاع عن فكرة المساواة والعقد الاجتماعي يتم بدافع من فكرة محددة تتناول البشرية ككل، لكي يتم تطبيقها على الجميع بنفس الطريقة؟ أم أنه انعكاس مقيّد بمجتمع المرء الخاص، وبأفراده، مستثنياً أو متغاضياً عن وجود الآخرين؟ وهذا السؤال ليس ولم يكن تافهاً أو جديداً. فالمجتمع المثالي في «جمهورية» أفلاطون (حوالي. 424 – 347 ق.م) يضم النخبة فقط؛ والديموقراطية في أثينا مخصصة لأقلية من سكان المدينة وهي طبعاً تستبعد كل الأجانب أو «البرابرة». أما مساهمة الفارابي (حوالي. 872 – 950)، بتأملاته وآرائه حول العلاقة بين السياسة والفلسفة والأخلاقيات في كتابه (آراء أهل المدينة الفاضلة) فتكشف المشكلة نفسها: ماذا عن أولئك الذين لا ينتمون إلى المدينة الفاضلة، أو أولئك الذين لا يعتبرون، لسبب أو لآخر أعضاء كاملين؟ إن المبدأ الإيجابي لسيادة القانون والمساواة «والنقاش فيما بيننا» لم يفِ معنى السؤال حقه فيما يخص العدالة تجاه المدعوين أو المشار إليهم باسم «هم» أو «الآخرون»، أو «البرابرة»، أو «الأجانب»، بل أيضاً الأفراد الذين ينتمون إلى طبقات اجتماعية محتقرة، كما كانت ولا تزال حال الداليت (طبقة الباريا المضطهدة) في الهند. إن الديموقراطية والعدل بين المواطنين لا تلغي إمكانية وجود الاستعمار الجائر والاستبدادي تجاه الآخرين. لم تستطع حتى أفضل الفلسفات أن تتجنب مثل هذه التناقضات، والتاريخ مليء بحالات لمجتمعات فاضلة ظاهرياً، لكنها ترتكب أفعالاً عنصرية مدمّرة ضد «الدخلاء.»

إن مجتمعاتنا الحديثة الديموقراطية نوعاً ما، الغنية نوعاً ما، هي بعيدة كل البعد عن التوصل إلى وضع حلول لهذه التحديات. وبالطبع فإن المواطنة من المفترض أن تعني مساواة الجميع في الحقوق والواجبات. وهنا يبدو العقد الاجتماعي واضحاً تماماً، وأفراد المجتمعات الديموقراطية يعرفون حقوقهم وواجباتهم. لكن هناك أوضاع أخرى للناس، ليس فقط الزائرين، بل أيضاً أولئك الذين يعيشون ضمن مناطق ليسوا مواطنين فيها بل مقيمين، وهناك طبعا المهاجرون (الذين يُصنّفون في معظم الدول وفق معايير زمنية: «طويلة،» «مؤقتة،» «فصلية،» إلخ)، بالإضافة إلى اللاجئين، وأخيراً الفئة غير المحددة والتي تشمل «المهاجرين غير الشرعيين» و«الذين لا يحملون وثائق» إثبات شخصية. القانون يميز بين هذه الأوضاع كلها، ويعتمد مبدأ المساواة، حسب التعريف، عليهم. لكن المزعج والمغيظ هو ملاحظة أن الأوضاع المختلفة تبرر معاملة مختلفة، قد تتعارض مع مبدأ وممارسة احترام الكرامة الإنسانية. إن تفسير القانون وطرائق تطبيقه قد تكون هي أساس مشاكل وتجاوزات أكثر من تلك التي تُحدِثها حرفية القانون، فتجيز –على سبيل المثال- معاملة غير مقبولة للعديد من غير المواطنين، مما يتعارض تماماً مع ما يعتبره المرء عادلاً له ولمن حوله. ويمكن «للأفضلية الوطنية» أن تهمّش بعض المقيمين الأكفاء، وكنتيجة لذلك يُعامَل المهاجرون أحياناً بطريقة بغيضة جداً في العديد من الدول الغربية وكذلك في آسيا، وفي كل أنحاء القارة الأفريقية، وفي ممالك النفط الغنية. يُجرَّم اللاجئون والأشخاص الذين لا يحملون وثائق إثبات رسمية، ويعانون من الإذلال اليومي، الذي يشمل الاستغلال، وسوء المعاملة، والاعتقال، والترحيل الفردي أو الجماعي إلى «بلادهم».

هل نستطيع، كما فعل الفلاسفة القدماء الذين مجّدوا أثينا وأبناءها واحتقروا «الأجانب» أن نقنَع بوضع «المواطن» النبيل وأن ننأى به بقصر نظر عن أوضاع المهاجرين أو «البرابرة» السريين التي لا يُحسدون عليها؟ وخلف هذه الفئات والتسميات ألسنا نخلق أو نقبل بوجود طبقات جديدة تميّز الأفراد حسب أصولهم وألوانهم وثرواتهم؟ هل يمكن لديموقراطياتنا الموقّرة أن تبرر العبودية الصارخة للكثير من الرجال والنساء؟ إن لم يكن الخطأ المباشر يكمن بوضوح في ديموقراطيات «كهذه»، أليس القبول الصامت بتلك الهرميات وتلك المعاملة العنصرية هو في حد ذاته خطأ أخلاقي؟ وقد كانت هذه المشكلة هي جوهر احتشاد دول أميركا اللاتينية ضد التصويت في البرلمان الأوروبي لصالح ما يُسمى «توجيه العودة»return directive» وهو قانون للهجرة يشجّع على «العودة الطوعية» ويقضي بسجن المهاجرين الذين لا يحملون وثائق رسمية، وترحيل القُصّر. وقد انتقدت دول أميركا الجنوبية (وسط صمت قاتل من قبل الدول الأفريقية، خصوصاً دول شمال أفريقيا) ذاك «التوجيه المعيب»، وذكّرت الأوروبيين أنه من فترة ليست ببعيدة كانوا هم المهاجرين إلى أميركا وأنهم استقبلوا بطريقة مختلفة تماماً. وأضافوا أنه يجب أن يكون هناك رابط مباشر بين الهجرات وحقوق الإنسان: فحقوق الإنسان يجب أن تطبق أيضاً على المهاجرين واللاجئين الذين قهرتهم الظروف الاقتصادية، وغيرها من أشكال البؤس، كي تساعدهم على النجاة. يبدو وكأن مسألة حقوق الإنسان أصبحت خطاباً أو أداة في يد الأغنياء؛ خطاب يمجدون من خلاله مُثلهم، وأداة مناسبة لحماية مصالحهم من خلال غطاء العدالة والمساواة. وهذه هي النظرة إليهم في كل أنحاء العالم من قبل مليارات النساء والرجال الذين تجعل ظروفهم المعيشية من إعلان حقوق الإنسان وتطبيقاته محض خيال وأوهام.

علينا أن نذهب أبعد من ذلك، إذ يبدو أن الفئات التمييزية قد تغلغلت حتى بين المواطنين. ويبدو أن هناك أنواع مختلفة من المواطنين، فمن ناحية هناك الذين شاركوا تاريخياً – بطريقة حقيقية، أو مثالية، أو متخيّلة تقريباً – في العقد الاجتماعي الأصلي، وهناك من يتشارك ثقافة عامة متجانسة، وهناك من يُعتبر حسب العقلية الجماعية جزء من المجتمع فعلاً. وهم يبدون مخوّلين بشكل طبيعي الحصول على الحقوق نفسها. ومن ناحية أخرى هناك «المواطنون الجدد»، من أصحاب الثقافات والأديان المختلفة، الذين قد يكونون مواطنين حقاً لكن بوضع مختلف. فهم لا يزالون يُنظَر إليهم ويعاملون على أنّهم: «هم»، «الآخر»، «أقلية»، حتى لو لم يكن لمفهوم «مواطنة الأقلية» وجود قانوني. إنه وضع نفسي. لا يزال على «مواطني الأقلية» هؤلاء أن يندمجوا ليثبتوا (غالباً بعد عدة أجيال) أنهم يستطيعون حقاً أن يكونوا جزءاً «منّا». إذاً هناك نوع جديد من المواطنة قد تم خلقه لأولئك غير الموثوق بهم بصورة كاملة (أو بلفظ آخر: المشكوك بأمرهم) حيث لا يُعدّ احترام القانون وحده كافياً. وكما يبدو، يخطىء هؤلاء المواطنون «الجدد» حين يطالبون بتطبيق متساو للقانون، لأنه يبدو من «الطبيعي» أن تتوفر بعض المتطلبات الإضافية في هؤلاء الأشخاص الذين يجب التحقق من «اندماجهم» و«ولائهم.»

هذا ما دعاه عالم الاجتماع الهولندي الشاب فيليم شينكل باسم «المواطنة الأخلاقية»؛ إذ لا يوجد فيها ما هو شرعي أو رسمي، لكن يبدو أن هناك قائمة قد وُضعت لما هو متوقع من المواطنين المختلفين ثقافياً أو دينياً، قبل أن يتمكنوا من الحصول على مكانتهم الطبيعية. فوراء احترام القوانين وتعلم اللغة، يتم التطفل على حياتهم الخاصة دون تردد، والتشكيك بتقاليدهم، وطريقة لباسهم، وتعليم أبنائهم، إلخ. لا يُقال هذا بوضوح، فالأمر يحدث بشكل غير رسمي، لكن انعدام رسمية «المواطنة الأخلاقية» أو «المواطنة النفسية» له عواقب قاسية على الأفراد. فهم ليسوا جزءاً من نسيج المجتمع في الواقع، وقد يعانون من التمييز، وهذا أمر لا يصدم «الأغلبية.» فبعد أجيال من وجودهم يُفترض أن يُلحظ نجاحهم الشرعي والنفسي في الاندماج، بالتوقف عن ذكر الاندماج، لكن العكس هو الذي يحدث، فبعد جيلين أو ثلاثة أو ربما أربعة أجيال «هم» لا يزالون «مهاجرين.» ربما علينا أن نتذكر، وهذه هي الرسالة التي أراد أهالي أميركا الجنوبية نقلها للأوروبيين في النهاية حول سياسات الهجرة، أن الاختلافات بين المهاجرين والمواطنين «الجدد» من ناحية، و«المواطنين الأصليين» من ناحية أخرى، يكمن في حقيقة أن الآخرين هم أيضاً مهاجرون لكن منذ فترة أطول.

كيف ولماذا، في لحظة محددة من تاريخ الوجود، تصبح مجموعة قادرة على قول «نحن»، وتسمح لأفرادها بالشعور بالراحة والشعور أنهم في بيوتهم؟ كيف يمكن لمجموعة أو مجتمع ينظمه ويحكمه التشريع، أن يربطه ويوحده الإحساس المشترك أيضاً؟ القضية في هذه المرحلة لا تكمن في معرفة الحدود الرسمية لحقوقنا، بل في التواصل مع حساسيات الآخر، وقيمه، وشكوكه، ومطالبه. في هذه الطريق يواجه المرء مسارات جديدة كما يواجه الجهود التي يبذلها الآخرون للانتماء إلى أنفسهم، للوصول إلى التوازن والسلام. يحصل المرء على التعاطف ويصبح قادراً على تحديد المساحات المقدّسة لدى «الآخر»، جارنا – وأهمية قيمه/ قيمها، ما يحب/ تحب، قناعاته/ قناعاتها، وحتى جغرافية نفسيته ووعيه/ نفسيتها ووعيها. يجب أن نتعلم من جديد كيف نقول «نحن»! تماماً كما أستطيع أن أقول «أنا» عندما أنتمي إلى نفسي، يجب أن نكون قادرين على قول «نحن» ونحن ندرك انتماءنا المشترك.

المصدر: http://feker.net/ar/2014/03/04/225563/

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك