لا تحكوا بالسياسة

عابدة العظم

لو اجتمع الأهل والأحباب يتسامرون فبأي حديث يتكلمون؟

يبدؤون بالصحة والطقس والعمل… ثم علام سينتهون؟

سيصلون للحديث عن أنفسهم وأهلهم والقضايا المهمة المشتركة بينهم، أليس كذلك؟

والحديث الغالب ما يحدث في مصر وسوريا وغيرهما والواقع اليومي المعاش؛ من الغلاء والمعاناة، وصعوبة الحركة وسوء المعاملة، والضغط النفسي… إلى القتل والتشريد والتعذيب، وما منا إلا وأصابه بلاء منه في أهله وقرابته، فإذا فتحنا الموضوع بشكل طبيعي (لأنه مصابنا وحياتنا وآمالنا وآلامنا وأهلنا)، وجئنا لنصف الوضع قالوا لنا: “لا تحكوا بالسياسة”!؟

وفي إحدى المناسبات طلبت مني الحاضرات كلمة صغيرة، فأمسكت الميكرفون وبدأت أقول: “إن المسلمين محاصرون في الأرض في سوريا وفي كل مكان، ويجب علينا ألا ننساهم وأن نشعر بآلامهم مهما كان حالنا”، وإذا بصوت فيروز يصدح في الصالة، وتأتيني المسؤولة مهرولة تحذرني من الكلام في السياسة!؟ قلت لها بجرأة وقوة: “وأي سياسة؟! هذا الإسلام!؟ وإن التكافل وإغاثة الملهوف شرع الله؛ وإني -وللأسف- لا أذم طاغية، ولا أعُرّض بقانون، ولا أجمع المال، ولا أدعو إلى الجهاد، ولا أحرض ضد الحكام، فقط أَذْكر المعذبين في الأرض بكلمات!؟ وأُذكر الناس بشعوب مكلومة مظلومة لكي يعلموا بمعاناة إخوانهم، فيفعلوا أقل شيء وهو الدعاء”، قالت بكل صرامة (وهي سورية): “ممنوع! وهذه الأوامر”.

ولا تظنوا أني سأتكلم في مقالي هذا عن السياسة! فإني لا أحبها، ولن أخوض فيها، وإنما سأتكلم عن الناحية الاجتماعية التي سموها سياسة، والتي جعلوها سياسة، وقالوا لنا: “إياكم والخوض فيها”، فصدقناهم؛ فظلمونا وجاسوا خلال الديار، واستباحوا حرماتنا.

وإن الأصل أننا في عصر التخصصات، وكل قوم توجهوا لعلم من العلوم وتعمقوا فيه، وبعض العلوم يرتبط بعضها ببعض، ولكن الأمر الذي يستحق وقفة أن علم السياسة -في عرفهم- يرتبط بكل شيء: الدين والجغرافية والتاريخ والاقتصاد… ويرتبط بعلم الأجناس البشرية وعلم النفس وعلم الاجتماع. وكل هذا ليس من أجل صلاح الفرد، وخير الأمة، وإنما من أجل تجهيل الشعوب وجعلهم كالقطيع، فنرى الحكومات تستعين بهذه العلوم لتتعلم كيف تشكل قناعات الناس، وتريهم الأبيض أسود، وتجعلهم يصدقونها!

وإن السياسة بالتعريف العلمي: “علم يهتم برعاية شؤون الدولة داخلياً وخارجياً وتقوم به الدولة، وهو من اختصاصها، ولكن المفروض أن تحاسب الأمة الدولة حين تخطئ، وأن تكون على متابعة ودراية بالمستجدات”.

 

ولكن السياسة على أرض الواقع غير ذلك الوصف الجميل؛ فالسياسة تتدخل في كل شيء، وسواها من العلوم مقصور ومحصور، ويخالف قولهم فعلهم؛ فيقولون لنا لا دخل للدين بالسياسة، ثم يُدخلون السياسة في الدين وفي الفتوى! ولكل حاكم عالم سلطة يسيس له الفتوى. ولم يسلم الدين من التحجيم وتم اختزاله في العبادات وحفظ القرآن، وابتعد عن المعاملات.

وجعلت السياسة الاعتراض على الطغاة ممنوعاً، والاستبداد مطلوب، وجعلت عقيدة الحاكم  الفاسدة شريعة الدولة وقانونها، وأجبرت الناس على ذلك، وإنا لما تركنا السياسة وقلنا نعيش حياتنا وما لنا وللحاكم، وضعت لنا الدول الاستعمارية ومحاور الشر “أعتى الطغاة” فاستبدوا بنا، وتبين -بعد التجربة- أنهم كاذبون والسياسة تتدخل في كل شيء:

فالسياسة من يحاصر المفكرين ويضيق على المتعلمين الواعين، وهي من يرميهم في السجون ويعذبهم العذاب الأليم أو ينفيهم من الأرض ويتسبب بهجرة العقول.

والسياسة من يُغلي الأسعار، وينشر البطالة ومن يفقر الشعوب ويجعلهم طبقتين.

والسياسة من بعث الطائفية، ومن أدخل الشيعة ومكن لهم في البلاد.

والسياسة من رفع الأذلة ووضع الأخيار، وسهل الرذيلة وزينها للجيل، وهي من دحر الأخلاق وسحقها، ونشر الفساد والأمراض الاجتماعية من الغش والرشوة والخوف والخنوع…

والسياسة من جرت المصائب والويلات للشعوب الآمنة؛ ومن أسقطت الدولة العثمانية، وتسببت بالحروب العالمية، فقتلت المدنيين، الذين لم يفعلوا أي شيء يضر أو يفسد أو يهدد وجود الدول الكبرى.

والسياسة من جعلهم يحرصون على أمن الدولة ولا يبالون بأمن الأمة؛ فيُسرق مال الأفراد في وضح النهار ويُعتدى على أملاكهم ومتاعهم، ويَظلم بعضهم بعضاً… ولا ينتصر للمظلوم حاكم أو قاض أو شرطي!؟ وإذا دفع المعتدي رشوة أو استمال رجل دولة ذهب الحق إلى غير رجعة. وأما إن جاء بلاغ كاذب واتهموا رجلاً بريئاً (لثأر أو حسد) قضى في معتقلاتهم سنين عدداً.

وقالوا للأمة (وهي القوة العظمى): “السياسة بعيدة عن الحياة اليومية، ويمكنكم الحياة بشرف وأمان دون التكلم عنها أو التعرض لها”، هكذا قالوا، فتركنا الدولة للحاكم فأفسد القضاء، وحطم الاقتصاد… وإن السياسة لم تقتصر على الحكم وسياسة أمور الدولة، وأصبح ما يسمونه سياسة يمس الحياة اليومية للأفراد، ويقيدهم في طعامهم وشرابهم وسكنهم وفي قوتهم وفي أعمالهم فإن لم يشارك الإنسان رجلاً مسؤولاً لا يستطيع أن يتاجر وأن ينجح في عمله وإن لم يكن حزبياً لا يجد وظيفة، وإن لم يكن علوياً قد لا ينجح بالبكالوريا، وإن لم يكن مؤيداً لا يجد لنفسه مقعداً بالجامعة…

وبقينا نردد قولهم: “سياسة ولا علاقة لنا بها” رغم وصول الأمر لأمننا وأماننا وأملاكنا وأرزاقنا، وتغيرت بلدنا وأصبح الفساد العام في المؤسسات، والفساد الأخلاقي في الطرقات، حتى وصل الأمر للقتل والحصار والتجويع ومنع الإغاثة، وما زالوا يقولون: “لا تحكوا بالسياسة”!

والمشكلة الكبرى أن الناس يدركون ما يضر مصالحهم الخاصة بسرعة، ولكنهم لا يدركون المصلحة الكبرى إلا بعد فشو الفساد وظهور شره، ولذا تهتم كل دولة في بداية حكمها بإرضاء الشعوب، فنرى بعض الفرجات… حتى إذا ثبتت أقدامها، وصنعت أتباعها، وكبلت خيار أهل المدينة ضربت ضربتها، فيصل بأسها لكل بيت ويتضرر أتباعها والمصفقين لها ولا ينتبهون أن رئيسهم يخذلهم، ويظنون أنها ظروف خارجية!؟

وأما الواعون فلا يملكون دفع بطشها وقد تمكنت وتأصلت.

لقد أصبحت السياسة حرباً أقوى وأشرس من الحروب العسكرية، وأصبحت تستعبد الشعوب وتسرق أموالها، وتغير تركيبتها وتبدل اتجاهاتها كيف تشاء، ولذلك أبعدوا الجيدين والوطنيين عن السياسة، وأقنعوهم بأن العمل السياسي مكر وخداع لا يليق بالشرفاء، ثم تخيروا لها شرار الناس.

استخفوا بنا فأطعناهم، فاستضعفونا وقتلونا وهددوا وجودنا، وهنا القضية.

وتفضلوا وانظروا ماذا فعل ابتعادنا عن السياسة: قطعوا بقولهم “لا تحكوا بالسياسة” الإغاثة وأكلوا أموالها في بطونهم، وقتلوا بها الإنسانية في قلوب الناس وقضوا على التكافل الاجتماعي، وتخيلوا أنهم أصبحوا يمنعون الرجل من إرسال النفقة لقرابته في الداخل؟! وأعرف رجلاً ذهب ليحول بعض المال لعمه وأمه وأخواته فقالوا له: أي إعانة يجب أن تكون عن طريق الحكومات! فقال لهم: هذه ليست إعانة هذا مصروف يومي لأهلي الذين أصبحوا عاطلين عن العمل، فمنعوه من تحويلها، وقالوا أي تحويل يجب أن يكون بعلمهم وعن طريقهم، ثم يجمدون المال في مصارفهم، أو يسرقونه أو يعطونه لمن شاؤوا من غير الذين جُمع لأجلهم.

والخلاصة:

إن مصالح كل فرد تتأثر بسياسة بلده وتوجهات حاكمها، ويتأثر رزقه ويتهدد أمنه ويفقد هويته.

وافصلوا لي السياسة عن الإنسانية، أو السياسة عن الاقتصاد، أو السياسة عن النهضة الفكرية والعلمية والحضارية… ثم قولوا: “لا تحكوا بالسياسة”.

 
الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك