المسيري وتطبيق المجاز اللغوي كرؤية للعالم والدين والسياسة

محمد عبد الحميد

 

يرى المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري في كتابه “اللغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود”، أن اللغة وما تتميز به من جماليات يُمكن أن تُعبِر عن ما نشأ وما أُنتِج من قِبلْ الحضارات والفلسفات المختلفة في الأفكار الوجودية والميتافيزيقية، فخاصية مثل المجاز يمكن أن تُعبِر عن إمكانية التواصل بين البشر بكل مايحملون من أعباء وأفراح وأحزان. فهو كما قال في محاولة تطبيق المجاز كرؤية لتلك الأمور، أنه يضيق المسافة الإدراكية التي تفصل بين الخالق والمخلوق وبين الإنسان وأخيه الإنسان، وأن اللغة بوسعها من خلال تلك الفكرة أن تشير إلى الوجود الإلهي المتجاوز والوجود الإنساني المركب الذي يُردْ إلى عالم المادة. وأن عدم أو ضعف فكرة المجاز في اللغة يمكن أن تشير إلى عدم وجود تلك العلاقة أو وجودها بطريقة إلتحام كامل كوحدة الوجود والحلولية، وأن بهذه الفكرة يمكن أن تكون مفتاح لتفسير وتحليل بعض السياسات لبعض الحقب التاريخية والمنظمات الدولية كما في الصهيونية والنازية.

وعن الصورة المجازية الإدراكية، يلجأ الإنسان إلى إستخدام المجاز لزيادة التعبير قوة وتأثيراً، فقد يكون مجرد زخارف في بعض الأحيان ولكنه في أكثر الأحيان جُزءاً أساسياٌ من التفكير الإنساني، يقوم المجاز بعملية زيادة في نطاق اللغة الإنسانية ويجعلها أكثر مقدرة على التعبير عن الإنساني المركب واللامحدود عن طريق ربط المجهول بالمعلوم والإنساني بالطبيعي والمعنوي بالمادي واللامحدود بالمحدود، أي أن الحركة العامة للمجاز هي ربط علم الشهادة المحسوس بعالم الغيب الغير محسوس حتى يصبح غير المعروف وغير المحسوس أكثر قرُبا منا نحن البشر التي تعيش في عالم المادة وداخل حدوده، وإن كنا دون الطموح إلى الوصول إلى الحقيقة النهائية ودون السقوط في العدمية المطلقة، فيصبح المجاز اللغوي أداة الإنسان للتعبير عن أفكار ورؤى يُمكِن التعبير عنها لغويا بهذه الطريقة. تُكوّن الصورة المجازية في كل أشكال المجاز، حيث أنها تقوم كوسيلة إدراكية لا يمكن للمرء أن يدرك واقعه دونها، ويمكن أيضاً إستخدامها كوسيلة لتمرير التحيزات وفرضِها بشكل خفي، فالمجاز يقوم بترتيب تفاصيل الواقع بنقل رؤية معينة، ومثال على ذلك إثارة إصطلاح “رجل أوروبا المريض” الذي كان يتواتر في الخطاب السياسي الغربي في أواخر القرن التاسع عشر كإشارة واستخدام لذلك المعنى من جانب أعداء الدولة العثمانية، وهي رؤية لا علاقة لها من قريب أو من بعيد برؤية شعوب هذه المنطقة، وبناء على تلك الفكرة وما تُنتجِه من تأثيرات، يمكن أن يكون للمجاز اللغوي إستخدامات في تحيُزات مختلفة لحمل معاني وتهميش وتناسي أفكار وتوجهات.

54fd60deabdaa

تحدث أيضاً المفكر عن الحضارة الغربية من خلال الرؤية المجازية، فقال أنها تتكون من صورتان مجازيتان أساسيتان، وهما الصورة الألية والصورة العضوية، فالصورة الألية تذهب إلى أن العالم في حركة دائمة اي فالعالم هنا يشبه الألة، والصورة العضوية وهي أن العالم يشبه الكائن الحي، والذي يكون في حالة حركة دائمة، يعوِّل النموذج الألي على الفكر اليوناني القديم والذي إكتسب مركزية مع الثورة التجارية، وأيضا في عصر النهضة، أما الصورة المجازية العضوية، فيشغل مكان أكثر مركزية في عصر أفلاطون وأرسطو ولونجينوس، ولكنه إكتسب مركزيته في القرن التاسع عشر، وقد تُعبِر أيضا تلك المجازية العضوية عن إزدياد الحلولية الكمونية والعلمنة. ثم يتجه المفكر إلى توصيف الحضارة الحديثة بناء على الرؤية فيصفها بأنها خليط من العضوية والألية أو تاريخ بينهما، ويتم التشبيه في ذلك المعنى بأسطورة بروميثيوس والتي يراها الكثيرين الصورة المجازية العلمانية الأساسية، فهو يعبر عن رمز الإنسان الذي يتمرد على القوى الغيبية والذي يفرض هيمنته عليها ويطور العلم ليهزم الطبيعة، ويصبح بذلك هو ذاته إلها مكتفياً بذاته.

ثم يرى المفكر أن مع تصاعد معدلات الحلول والكمون تم توليد صورة مجازية عضوية تتكون من صورتين مجازيتين عضويتين معبران عن رؤية الإنسان الغربي وهما الجسد والجنس، فيرى أن الجنس كصورة مجازية قد حقق شيوعاً غير عادي في الأونة الأخيرة في العالم الغربي، فيرى أن الحلولية تترجم نفسها إلى النزعة الجنينية وهي محاولة الإنسحاب من العالم المركب وإدراكه من خلال صور مجازية ومقولات مادية بسيطة إختزالية تفيد معنى الإلتصاق وذوبان الذات وإختفاء الهوية والحدود، ثم تستمر عملية إختزالية الجسد بشكل متتابع تكون الأرض هي أهم عناصر هذا الإختزال متمثلة في القوميات العلمانية التي تنتج بدورها تفسيرات وتطبيقات تتمثل في عدة أشياء مثل نظرية داروين والنازية والصهيونية، ثم تستمر عملية الإختزال من الجسد إلى النشاط الجنسي ثم إلى أعضاء التذكير والتأنيث، فقد مُنح الجسد والجنس تدريجياً أسبقية معرفية وأخلاقية على كل شيء، فأصبحا المرجعية الكامنة في المادة فحلّا محل الإله في المنظومات التوحيدية الروحية، ثم يتم تجديد فكرة مركزية الجسد في فسلفة كثير من الفلاسفة المحدثين مثل برجسون وروسو ونيتشة وأيضاً في فكر فرويد وماركس، وفي تطوير ذلك الإتجاه أيضاً يُعبِر المفكر عن ذلك في أن الجنس أُعطي أسبقية معرفية على كل شيء في الفلسفة الغربية وأن الجنس قد بدأ أيضاً يحل محل اللغة، وأن تلك الفلسفة المادية تتبناها الفلسفة الغربية والتي ليس لها أصل رباني أصبحت هي المرجعية المادية الكامنة والتي لاتعرف أي تجاوز والتي نجحت في تحقيق ثنائية الذات والموضوع وكل الثنائيات لتصل بالإنسان إلى العلم الجنيني الواحدي.

ثم ينتقل المفكر من المجال المعرفي والإدراكي إلى المجال السياسي من خلال تطبيق منهج تحليل الصور المجازية على الفكر الصهيوني كمثال، فالصورة الأساسية في الوجدان الصهيوني هي أن العالم بأسره مجرد سوق، فالأرض عقار ليس لها قيمة غير ذلك وعلاقة الإنسان بالإنسان علاقة نفعية تعاقدية، فكل شيء بناء على الرؤية الصهيونية له سعر، وبناء على تلك الرؤية فإن السلعة التي تقدمها الدولة الصهيونية هي وظيفتها ونفعها فحتى وقت قريب كانت الوظيفة القتالية هي المسيطرة وبالتالي فإن القيمة الأساسية التي تنتجها هي القتال مقابل المال، ثم يتم الإشارة إلى كون الدولة الصهيونية في صورتها المجازية وهي تبعيتها للغرب تتجسد في عدة أوصاف مثل الحارس الأجير ومخلب القط وما إلى ذلك، فيرى أن صهيونية الكيان هي السبب في عدم أمنه وهي السبب في الزج بجماهيرها في حروب متتالية، وأن لا أمن للكيان إلا من خلال إطار يشمل كل سكان المنطقة ولا سيتبعد الإسرائيليين أو الفلسطينيين، أما الأمن الذي يتجاهل الواقع هو أمن صلح مؤقت، وهو سلام مبني على الحرب يهدف فقط إلى فرض الشروط، ثم يشير إلى الصور المجازية التي تم رصدها عن إستجابة المستوطنين الصهاينة لإنتفاضة 87 من خلال مقولتين وهما “الإعتدال والتشدد” الذي يشار لهما من خلال صوورتين مجازيتين هما “الحمام والصقور”، ثم يرى أنه من المفيد توسيع النموذج الإدراكي لتضم الدجاج والنعام، فكل صورة لها خصائصها ومن يمثلونها، ثم ينتقل إلى الإنتفاضة فيرى المفكر أن من أهم الوقائع التي تُجسِد الصورة المجازية والنموذج الكامن وراء الإنتفاضة “نموذج التدوير”، وقد لجأ إليه الفلسطينيون من خلال حيلة البطيخة والتي تشير إلى العلم الفلسطيني عندما يتم قطعها إلى نصفين، وأن ذلك السلاح في نهاية الأمر يُعبِر عن الهوية، فالهوية كما يعبر المفكر هلي حلبة الصراع الحقيقية.

ثم يبدأ المفكر بربط اللغة بفكرة الدال والمدلول، وهي أن اللغة كأي ظاهرة يجب أن يكون لها مركز فإن لم يكن لها مركز تكون الكلمات في حالة فوضى كاملة، ثم لضمان هذه الفكرة يثبت المفكر مصداقيتها بقاعدة أن الضمان الوحيد هو وجود شيء متجاوز للحاضر والمستقبل ويكون هو المركز والركيزة الأساسية لكل الدوال، ثم يثبت أن هذا المركز يقف خارج كل الدوال كمتجاوز مفارق وهو الإله في المنظومات الدينية وهو الكل المادي الثابت المتجاوز في اللادينية، وأن علاقة هذا الدال بالمدلول تأخذ ثلاثة أشكال أساسية وهي الإنفصال الكامل والإلتحام الكامل والإنفصال والإتصال، ثم يشير إلى أن علاقة الدال بالمدلول في واقع الأمر علاقة العقل بالواقع والإنسان بالطبيعة/المادة، والإنسان بالإله، وهي تأخذ شكلين وهما علاقة بسيطة وعلاقة مركبة بين الدال والمدلول، ثم يبدأ في إعطاء الأمثلة عن علاقة الدال بالمدلول، فيقول أن جوهر النسق التوحيدي الإسلامي يؤكد على فكرة المسافة فهي علاقة إتصال وإنفصال بحيث لايلتحم الدال بالمدلول، فالمدلولات متشابكة وفضفاضة فاللغة هنا تصبح كذلك وتصلُح للتواصل بين البشر رغم عدم كمالها، ثم إنفصال الدال عن المدلول في الخطاب الفلسفي الغربي، والذي يؤدي إلى أن اللغة الإنسانية تسقط في قبضة الصيرورة شأنها شأن الظواهر الطبيعية وتصبح نظاماً مستقلاً له قواعده المستقلة عن إرادة الإنسان. ثم يتوصل أيضاً إلى أن المنظومة الحلولية والتي تكوْن في ظل فصل الدال عن المدلول تؤدي إلى تحطيم اللغة، وتحطيم الثنائية التكاملية وإطلاق الصيرورة وإنكار الأصل الرباني للإنسان والطبيعة بحيث يسقط كل شيء في قبضة الصيرورة.

ثم عن اللغة المجازية واللغة الحرفية فيوضح المفكر محاولة إدراك الإنسان للإله في الإطار التوحيدي، حيث يعرِف أنه لن يدركه في كل جوانبه رغم محاولاته لعجز كل الدوال عن إدراك الإله لأن المدلول الرباني متجاوز لكل ماهو مادي، فإن في تلك النظرة تكون اللغة النثرية المحايدة عاجزة عن إدراك المدلول المتجاوز الرباني، وأيضاً علاقة التواصل بين الإنسان وأخيه الإنسان، ثم الإنتقال إلى فكرة التأيقن والحرفية والتي تتسم بالواحدية وعدم تعدد المستويات ومحو الثنائيات والمسافات وسد الثغرات، فالتأيقن في محاولته الوصول إلى دال بدون مدلول يؤدي إلى أن الناتج هو نفسه، وفي ذلك يكون عكس المجازية التي تؤكد على الإتصال والإنفصال بين الدال والمدلول وتأكيد المسافة التي تفصل بينهما، فمعنى الأيقنة والحرفية تعبر عن عالم متكون من كلمات ليس لها علاقة بالواقع، وأيقونات بلا إله ولا معنى متجاوز فهي ذرات متناثرة بعكس المجاز الذي يؤكد على الإتصال والإنفصال في الوقت ذاته، النص المقدس يشير إلى الدنيا والأخرة، والنص العلماني الدقيق يعبر عن الدنيا ويستبعد الإنسان، والإحتياطات التي يصل إليها الإنسان هي ليست النص المقدس ويعبر عن ذلك المعنى النص الأصولي الديني، على عكس ذلك الأمر يوجد النص الحرفي المقدس الذي لا يشمل إجتهاد وإعمال العقل، فكما يعبر أبضا المفكر في أن هذا النوع من النصوص نص أيقوني جبري لاعضوي مصمت لا ثنائيات فيه ولا أسرار، فالأصولية إذن تُعبِر عن إله متجاوز ويتمثل ذلك في النص المقدس، أما التفسيرات الحرفية الواحدية تعبر عن رغبة جنينية كمونية تهرب من التركيب والثنائيات الفضفاضة ومن تفسير عالم مركب، ويمكن تطبيق ذلك على المسيحية وفكرة الجماعات المتنوعة لها في الولايات المتحدة كمثال.

يرى المفكر أن عند تطابق الدال والمدلول تكون اللغة المعبرة عن ذلك لغة جبرية صارمة فلا داعي للتطابق إذن فهنا لايوجد مدلول بالأساس والدال يختفي، ثم أن اللغة التي تعبر وتكون معانيها وتركيبتها تشير إلى دوال بدون مدلولات تتعدى لغة مدلولات دون دوال تعبِر عن نقطة الحلم المطلق وهي كما عبر النقطة البريئة عن الواقع المكتفية بذاتها، وتشبيها بالفكرة يستعين المفكر بمقولة “كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة”، ثم يبدأ المفكر بعرض أفكاراً تًعبِر عن تلك الرؤية الإنسانية والتي تكون فيها النصوص تشير إلى ذلك المعنى لغوياً، حيث أنها تشير إلى الظواهر والعلاقات في الواقع والتي تكوِّن علاقات داخلية تشاكل الواقع والتي تكون في تلك الحُلّة مدلول فقط، يعبر المفكر بطريقته فيقول أن مابين النقطتين المستحيلتين وهي لغة الجبر والصمت ومابين النقطتين المتخيلتين وهي لغة الجبر والصمت ومابين النقطتين البريئتين من الواقع والإنسان ومابين النقطتين المتجردتين من الزمان والمكان ومابين النقطتين المصمتتتين يكون البحث في ذلك المعنى، وتوضيحاً لفكرة الدال والمدلول أيضا يقول المفكر أن ثمة جوانب مركبة عديدة للإنسان المتجاوز للنظام الطبيعي بصفته مستخلف من الإله فلا يمكن للغة مهما بلغت من دقة أن تعبر عنه، حيث أن الإنسان يلجأ إلى إستخدام لغة بسيطة للتواصل مع إنسان مثله ولكنه يلجأ إلى إستخدام المجاز للتعبير عن حالاته الشعورية وتركيبته الجوّانية المتجاوزة.

“وأين تفاحة الفردوس الحمراء المغروسة في أحلامي من تلك الموجودة عند طرف إصبعي؟! “هاتان تفاحتان حمراوان” وشتان شتان بينهما! ”

بتلك العبارة وإستخدامه للمجاز بها يحاول المفكر التعبير عن فكرة كتابه بشكل جمالي، فيقصد بتفاحته الأرضية تلك التفاحة المصمتة المُعبِرة عن الوجود المادي الواحدي الذي يمكن أن لا يشير إلى مدلولات وإلى إله متجاوز، فتلك التفاحة الأرضية التي لم تتحرك من طرف إصبعه مرئية تنتظر فنائها لاتشير إلى معنى متجاوز، أما تلك التفاحة الفردوسية والتي بحث عنها في أرجاء الدنيا وعواصمها، لم يجدها إلا في أحلامه فهي مثل الخطوط العربية الجمالية والمباني القديمة التي إختفت، مثل جماليات ومجازات إختفت ولا تزال تختفي هي الأخرى، لكن المفكر يعبر عن عدم إستسلامه لذلك الفقد والمعاني الدنيوية المصمتة التي لاتشير إلى مدلول متجاوز، فيبحث عن تفاحته بذلك الرفض البطولي باحثاً عن حلمه وعالمه الأصلي الذي فُقِد ولم يبقى إلا في أحلامه.

المصدر: http://feker.net/ar/2016/05/30/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%8A%D8%B1%D9%8...

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك