هل صارت اللغة العربية عبئاً على الناطقين بها؟

ليون برخو

 

اليوم قد لا نستطيع تصور أي دراسة في العلوم الاجتماعية وغيرها إن لم يكن لوظيفة اللغة دوراً مؤثراً فيها.

ولا أظن هناك مفكر أو فيلسوف ينكر للغة تأثيرها في بناء المجتمعات وطريقة تفكيرها ونسيجها الاجتماعي وبنية ثقافتها وصيرورتها.

نحن لسنا إلا اللغة التي نستعين بها لفهم واستيعاب واقعنا الاجتماعي.

اللغة تحتلنا. وهذا معناه أننا نستوعب أنفسنا والعالم الذي نحن فيه من خلال اللغة.

واللغة أيضا لها مقدرة فائقة لتعريفنا وأنفسنا للعالم الذي حولنا.

إن أردت معرفة شعب أو ثقافة فما عليك إلا دراسة اللغة التي كتب هذا الشعب فيها عن نفسه واللغة التي حفظ فيها تراثه وثقافته وتاريخه.

عندما يغادر شعب لغته الأم أو يهمشها أو يرى فيها حملا ثقيلا ويحاول استبدالها، فإن هذا معناه التوجه صوب استبدال التاريخ والثقافة والفنون ـــ وهي أرقي ثمار الحضارة الإنسانية ودونها تفقد الأمة مقومات وجودها.

العربي الذي يرسل أولاده إلى مدرسة إنجليزية ـــ كما هو الحال في الخليج العربي مثلا ـــ ستكون الثقافة والتربية والفنون التي يحصلون عليها أنجلو ــ ساكسونية وليست عربية ـــ إسلامية.

سيقرأ الأولاد عن الأدب والثقافة الإنجليزية ــــ اللغة هي وعاء الثقافة والأدب والفنون. سيعرفون الكثير عن الثقافة الأنجلو ــ ساكسونية وروداها وشعرائها وكتابها ومفكريها وفلاسفتها.

بيد أنهم لن يعرفوا إلا النزر اليسير عن الثقافة والفنون العربية ـــ الإسلامية.

ومن خلال تجربتي ووجودي في بعض البلدان العربية ـــ والخليجية خصيصا ـــ صعقت لتدني مستوى الطلبة في اللغة العربية يرافقه جهل بالثقافة والأدب والفنون العربية-الإسلامية ويقابله معرفة لا بأس بها بالأدب والثقافة والفنون الأنجلو ـــ ساكسونية.

أسماء عربية وإسلامية لامعة في تاريخ الحضارة الإنسانية يجهلها الطلبة على المستوى الجامعي.

وأحداث وكتب عربية كان لها ولا يزال تأثير بالغ في الحضارة الإنسانية لم يسمع بها الطلبة أساسا.

وكل ما يملكونه من علم عن كونهم عربا ومسلمين لا يتجاوز ما يتناقله الإعلام العربي لا سيما المؤثر منه.

الحديث باللغة الفصحى ــــ التي يجب أن تشكل القلب المشترك للناطقين بها، كما هو شأن اللغات الحية الأخرى ـــ صار شبه مستحيل تقريبا.

والكتابة السليمة بهذه اللغة أمر أشد صعوبة وخطورة. قلما يمر المرء على مادة كتابية طلابية جامعية ولو من جمل محددة وليست مليئة بالأخطاء إلى درجة يصعب على المرء استيعاب الفكرة.

وهناك ظاهرة بارزة على مستويات كثيرة ومنها اللغة التي ترافق الإعلانات مثلا حيث قد ترى فيها ما أستطيع أن أطلق عليه Indo-Arabic language أي أن اللفظ والحرف عربي إلا أن التشكيلة والبنية والوظيفة "هندية".

وأكثر خطورة من كل هذا ما يحدث في الجانب الأكاديمي لا سيما في حقل العلوم الاجتماعية ـــ الذي يقع ضمن إطارها الاختصاص الذي أمارسه ــــ لا سيما الحقول الاجتماعية التي استقاها العرب من الغرب.

لنأخذ علوم الصحافة والإعلام. هناك كتب مترجمة ولكن التراجم لا تستند إلى معاجم يلتزم بتداولها المختصون. ولهذا ترى أن ترجمة المصطلح الإنجليزي الواحد تأتي بطرق مختلفة ليس فقط ضمن تراجم مختلفة بل ضمن الترجمة ذاتها.

وكم كانت دهشتي كبيرة عند قراءتي لترجمة عربية لعالم شهير في شؤون الصحافة والإعلام مشهود له بسلاسة وسهولة أسلوبه بالإنجليزية.

كنت أتصور أنني أقرأ العربية وأكتبها بطلاقة ولكن عند قراءتي لهذه الترجمة لم يكن بإمكاني التواصل مع أفكار الكاتب لصعوبة وتشابك المصطلحات واللغة.

كيف سيكون بإمكان الطلبة العرب قراءة كتاب كهذا إن فرضناه كتابا منهجيا عليهم؟

والتباعد الجغرافي بدأ ينخر في جسم اللغة العربية وذلك لغياب التنسيق بين مجامع اللغة العربية المختلفة وافتقار المكتبة العربية إلى معاجم متخصصة.

المصطلح والمفردة ذاتها لها ما يقابلها في العربية عدة مصطلحات ومفردات مختلفة طبقا للجغرافية.

تقييس وتوحيد المصطلح العلمي يقع في صلب مهمة الأكاديمي ولكن يبدو أن الأكاديميين العرب متباعدون وليس هناك شبكة تجمعهم وتوحدهم ضمن إطار يتخذونه معيارا أو نقطة إرشادية للاهتداء بها.

أما وضع المجلات العربية العلمية في هذا الحقل فهذا شأن له، من وجهة نظري، أثر بالغ أيضا لا يقل في سلبيته عما ذكرناه أعلاه.

الأمة التي تهمش لغتها وترى فيها عبئاً ثقيلاً تهمش نفسها وتحط من قدرها أولاً وأخيراً.

المصدر: http://www.aleqt.com/2016/04/01/article_1043502.html

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك