الحضور التُراثي في الفكر السياسي الإسلامي الحديث والمعاصر

الدكتور رضوان السيد

 

يتميز موضوع " الحضور التُراثي " أو حضور التُراث في الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر ؛ بالتشابُك والتعقيد . ولا يرجعُ ذلك إلى الإشكاليات المحيطة بقضية التُراث والمعاصَرة في الفكر العربي والإسلامي وحسْب ؛ بل وإلى الجوانب الأيديولوجية والاعتقادية والتي تسودُ منذ مدّة في النقاش حول العلاقة بهذا التُراث بما في ذلك الجوانب غير التعبدية وغير الشعائرية منه . وبدون الخوض في مفهوم التراث وتعريفاته ؛ أودُّ هنا ذكر تعريفٍ مقاربٍ للتراث السياسي الإسلامي الذي عملتُ فيه وعليه في هذا البحث . قصدْتُ بالتراث السياسي المؤلَّفات والرسائل المكتوبة على سبيل الاستقلال أو التضمين والمتصلة بالتفكير في الدولة والنظام السياسي ، وما يتعلق بهما من مؤسَّسات ورُتَب ووظائف ، وتصورات واقتراحات لرؤى أو سياسات وآليات . وأعتبرُ ( للدراسة أيضاً ) أنّ مفهومَ التراث يصلُ من الناحية الزمنية إلى حدود القرن الثامن عشر الميلادي / الثاني عشــر الهجري ؛ ولا مُشاحّـة في الاصطلاح .

 

وقد مرّ التعامُل في الأزمنة الحديثة مع التراث السياسي الإسلامي بمرحلتين : مرحلة الاقتباس والاستلهام ونهجهما ، ومرحلة أو نهج التعامُل مع ذلك التراث أو أجزاءَ منه باعتباره إلى جانب التجربة السياسية الإسلامية الأولى ؛ يمثّل نظاماً كاملاً متكاملاً بالمعنى المتعارف عليه للنُظُم السياسية والدستورية . وطريقتي في هذه الدراسة الأولية التركيز على المرحلة الأولى ، أو النهج الأول نهج الاقتباس والنحت والاشتقاق والاستلهام باعتبار تلك الطرائق أو الآليات هي التي تمثّل الحضور بالمعنى المقصود بالأولية في عنوان الموضوع . لكنّ ذلك لا يعني أنّ العقائديين وأصحاب الرؤية القائلة بالنظام الإسلامي الكامل ، لا يحضُرُ عندهم التراثُ السياسيُّ الإسلامي . فحضورُهُ قويٌّ أيضاً ؛ لكنّ نصوصَهُ المقتبسة أو المستلهَمة منتقاةٌ بحيث تدعَمُ مقولةَ النظام الداخل في الاعتقاد أكثر من دخوله في التفكير السياسي الخاضع للكون والفساد . ويعني ذلك أمرين : أنّ تلك النصوص ( مثل نصوص الماوردي وابن تيمية ) تحضُرُ وظيفياً باعتبارها رموزاً دالّةً لكنها ليست أُصولاً مؤثّرة . بل إنّ الطبيعة العقائدية للتفكير السياسي الإسلامي في عصر الإحيائية الإسلامية تقتضي اللجوء إلى القرآن والسنة وعصر الراشدين – والأمر الثاني   أنه لا يجوزُ اعتبارُها تفكيراً تُراثياً حاضراً في المنظومات العقائدية إلاّ تجوزاً . فالتفكير عرضٌ أو اجتهاد ؛ وتلك النصوص لا تحضُرُ باعتبارها أحد هذين الأمرين . ولذلك فَسَأعمد لقراءة حضور التراث السياسي الإسلامي في الفكر السياسي العربي الحديث والمعاصر في مرحلته الأولى أو بمعناه الأول . ثم أُحاولُ في القسم الثاني من البحث دراسة معنى الحضور لذاك التراث في المرحلتين الأولى والثانية ؛ أو بالمعنيين الأول والثاني . ثم أتطرق للمرحلة الحاضرة التي تسودُها إشكاليات أخرى.

 

I

 

يحضُرُ التُراثُ السياسيُّ الإسلامي في المؤلَّفات الحديثة بإحدى ثلاث صِيَغ : الاقتباس ، أو الاستلهام ، أو استخدام المصطلحات والمفاهيم محوَّرةً أو مؤوَّلة . وأقدمُ الأمثلة على الاقتباس ما لاحظْتُهُ أثناء عملي في تحقيق  كــتاب  قاضـي القُضـــاة الحنفـــي نجم الــدين إبراهيم بن علي الطرسوسي (-758هـ ) .  فقد لخَّص الكتاب كلّه وبلفظه أحياناً رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873م) في كتابه : " مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية "(1).  و طريقتُهُ في الاقتباس بدء أوائل الفقرات في الموضوع إيجازاً وبلفظه هو ، ثم يتتبع سائر الموضوع أو الفصل بالاقتباس الحرفي . هكذا فعل في باب أو فصل " منصب القضاء " في العصر المملوكي حول العلاقة بين القضاة الشافعية والحنفية من جهة ، والسلاطين المماليك ، كما فعل الشيء نفسهُ في الفصل الخاصّ باختصاص الفقهاء الأحناف بالتفضيل من جانب السلطان لاتفاق المذهب – فيما يزعُمُ الطرسوسي – مع مصالح السلطة . ويتلو ذلك اقتباسٌ طويلٌ من الطرسوسي عن الأوقاف ، وعن طرائق مراقبة السلطة السياسية للقُضاة والموظفين في الإدارات المختلفة . ويُدرجُ الطهطاوي ذلك كلَّه في سياق أبوابه الطويلة ، دونما ذكرٍ لمصادره أو مصادر معلوماته . ولذلك فأنا أحسبُ أنّ الطهطاويَّ استخدم في سائر مؤلَّفاته هذه الطريقة ، وقد يكونُ مفيداً تتبُّع هذا الأمر في  كتبه الأُخرى ، لمعرفة المصادر والمخطوطات التي كان يملكُها ، ومدى تأثير ذلك على صورته عن التاريخ الإسلامي ، وعن التنظيم القضائي ، وعن علاقات السلطات بالعلماء وبالموظفين وبالناس . والطهطاويُّ لا يحوّر ولا يؤوّل هنا ؛ ولذلك لا يمكنُ القولُ إنه يُمارسُ بوعيٍ عملياتٍ تحديثيةً من نوعٍ ما . لكنّ السياقَ مختلفٌ تماماً . فالاقتباساتُ التي يُوردُها عن الطرسوسي تُشعِرُ كأنما القضاةُ الأحناف كانوا مسيطرين على الإدارة والأوقاف في الدولة المملوكية الأُولى . بينما كان غرضُ الطرسوسي في كتابه الشكوى من أنّ السلاطين لم  يمنحوا الأحناف المنزلةَ التي يستحقونها رغم موافقة مذهبهم لأغراض السلطة والسلطان !

 

ما كان مقصدُ الطهطاوي إذن غير الاقتباس ظاهراً من أجل سدّ الثغرات في تأريخه لعلاقات النظام السياسي بالنظام القضائي في التجربة التاريخية الإسلامية . ومع ذلك فإنّ اختلافَ السياق ، أعطى تلك المقَتَبسات معنى أو معاني جديدة ، ما قصدها الطرسوسي في كتابه : تحفة الترك . أمّا الطريقةُ الثانيةُ ، طريقةُ الاستلهام ؛ فتقصد منذ البداية إلى البناء على الفكرة التراثية أو النصّ التراثي من أجل غَرَضٍ تأسيسيٍ في  سياقٍ مُعاصر . وأولُ مَنْ فعل ذلك فيما أعرف خير الدين التونسي (-1889م) في كتابه : " أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك " الصادر عام 1867(2) . فقد احتذى التونسي حذو ابن خلدون (-808هـ ) في العِبَر حين وضع لكتابه الكبير في أحوال الممالك  الأوروبية مقدّمةً تشبه  مقدّمة ابن خلدون على كتاب  العِبَر وديوان المبتدأ والخبر ؛ في أحوال العالَم الإسلامي في عصر التفوق والاستعمار الأوروبي ، وما هي السُبُل التي ينبغي أن يتــبعها المــسلمون لمـــواجهة ذلك " السيل الذي لا يمكنُ دفعُه " . وما اكتفى التونسي باستلهام الإطار العامّ ؛ بل أخذ عن ابن خلدون أفكار العصبية الدينية والنَسَبية أو القومية ، والعدل المعمِّر والظلم المدمر ، وأنواع الدول والحكومات الدينية والعقلية ، والسُنَن والقوانين التي تؤدي إلى العمران أو الخراب . كما أخذ عن فقهاء المالكية وابن قيم الجوزية (-751هـ) فكرة المصالح إذ " إنّ أمارات العدل إذا ظهرت بأي طريقٍ كان فـهناك شـــرع الله ودينه " (3) . ومع أنه لم يصرِّح بذكر الشاطبي (-790هـ) صاحب كتاب الموافقات في مقاصد الشريعة ؛ فإنّ ذكره لمصالح صَون النفس والعِرض والمال ؛ مؤذِنٌ بأنه كان يعرفُ إحدى مخطوطات الكتاب الذي عرفه الإمام محمد عبده (-1905م) واعتمد عليه هو وسائر النهضويين فيما بعد . 

 

رأى خير الدين التونسي إذن إنّ الممالك الأوروبية القوية إنما تأسَّس عمرانها المزدهر وتقدمها على التنظيم والإنجاز البشريين ، وليس على اعتدال المناخ أو الموارد الطبيعية أو الاستيلاء على ثروات الآخرين ؛ على الرغم من وجود ذلك كلّه أو بعضه .فأساسُ النهوض الأوروبي من وجهة نظره العدلُ والحرية ؛ وهما قاعدتان إسلاميتان عريقتان . وهنا عاد إلى الاستلهام التراثي أيضاً . قال إنّ العدلَ عمودُهُ التنظيم ؛ وهذا ما فعله المسلمون حين أنشأوا الدواوين . وفي هذا المجال يذكر عدلَ عمر ، لكنه يذكُرُ من ضمن عدالته إقامتُه لمؤسسة الديوان ؛ التي تقسّم الفيءَ بالعدل والقسطاس . أما الحرية فسوَّى خير الدين بينها وبين الشورى ، واعتبر الاستبداد أكبر أعداء الحرية ، وبالتالي أكبر أعداء العمران أو التقدم . وعلى الرغم من استشهاده بقَولة عمر لعمرو بن العاص :  "متى استعبدتُم الناسَ  وقد ولدتْهم أمهاتُهم أحراراً " ؛ فإنه اعتبر أنّ مؤسسة " أهل الحلّ والعقد " هي المؤسسة الشوروية ، التي أرادَها أن تكونَ مُنتخبةً لتحقيق المقاصد الكاملة لدولة العدل والحرية .

 

كان الاقتباسُ إذن الأسلوبَ الأولَ من أساليب الحضور التراثي في الفكر العربي الحديث . بيد أنّ الاستلهامَ هو اقتباسٌ وزيادة . فالاستلهامُ يعني استيعابَ المعنى الكلي لنصٍ أو مقصدٍ قديم في سياقٍ مختلفٍ ورؤيةٍ جديدة . وقد عرفنا من استلهامات خير الدين التونسي عشرات الكتب الفقهية المالكية والحنفية . بيد أنَّ أهمَّ ما عرفْناهُ فيما نحن بسبيله مقدمة ابن خلدون – التي قيل إنّ الإصلاحيين الأتراك استخدموها في القرن الثامن عشر (4) - ، والطرق الحكمية  لابن قيم الجوزية ، والموافقات للشاطبي ، والفــروق للقرافي .

 

وجاء الشيخ حسين المرصفي (1815-1890م) في رسالة " الكَلِم الثمان " المطبوعة عام 1881 م ليسلك في عملية الاستلهام والاستيعاب والتحويل والتأويل مسالك جديدةً تماماً . فالكَلِمُ الثمان أو المصطلحات الثمان عنده هي : الأمة ، والحكومة ، والحرية ، والعدل ،والظلم ، والوطن ، والسياسة ، والتربية . والمرصفي يسلُك في رسالته مسلكاً مختلفاً عن مسالك خير الدين ، والطهطاوي . فهو يبدأُ بذكر المعنى المعجَمي للكلمة ، ثم يمضي في تأمُّلاتٍ تطولُ أو تقصُرُ ، تكثُرُ خلالها الحكايات والنوادر المأخوذة من كُتُب اللغة وأدب السَمَر مثل الكامل للمبرّد أو عيون الأخبار أو العقد الفريد . ويمكن تمييز كتابين من كتب المعاجم اللغوية : مختار الصِحاح ، والقاموس المحيط . بيد أنّ أدنى الكتب التراثية لموضوعنا في هذا الصدد كتاب الماوردي : أدب الدنيا والدين . فمع أنّ المرصفي لا يذكر أياً من تلك الكتب التراثية بالاسم ؛ فإنّ الاستشهادات مأخوذةٌ  في أكثرها من " أدب الدنيا والدين " للتشابة وطريقة النقل ؛  مع إحاطة الأمر كلِّه بنزوعٍ أدبيٍّ مرسَلٍ وثريّ يدنو بالرسالة كلِّها من كتب السَمَر كما سبق قولُه . وهكذا فلا يمكن اعتبارُ رسالة المرصفي من رسائل المصطلحات السياسية والاجتماعية ؛ لكنّ تشديدَها على مفاهيم الوطن والأمة والحكومة والتربية ؛ يُوضح بما لا يدعُ مجالاً للشكّ أنّ تلك الموضوعات كانت يومَها موضع جدالٍ ونزاعٍ واهتمام – ودفع ذلك المرصفي إلى الخوض فيها بالعُدَّة التي كانت لديه . فاستلهامُهُ ما أتى من ضمن مشروعٍ واضحٍ مثلما كان عليه الأمر لدى خير الدين التونسي  .

 

ويختلف عنه في ذلك رفيق العظم (1867-1925م) الذي كان يملكُ مشروعاً واضحاً ذكر معالمَهُ في رسالته :" البيان في أسباب التمدن والعمران " (1889) ، وكتابه : " تنبيه الأفهام إلى مطالب الحياة الاجتماعية والإسلام " (1898) ، وكتابه الثالث : " الإصلاح الإسلامي بعدل القوام أو التكافل العام " ( الذي نشره على حلقات في مجلة المنار لدى صديقه محمد رشيد رضا ، 1899-1901) . يبدو رفيق العظم واسعَ العلم بالكتب التاريخية التراثية مثل تاريخ الطبري ، والكامل لابن الأثير ، ومروج الذهب للمسعودي ، وكتاب العِبَر لابن خلـدون ومقدمته طبعاً ؛ ويظهر ذلك في نقوله عنها جميعاً في كتابه الضخم : أشهر مشاهير الإسلام في الحرب والسياسة ( 4 أجزاء ) . وهو في كتبه الأولى السالفة الذكر يُكثر من الاستشهاد بمقدمة ابن خلدون ، مع ذكر قِصصٍ وحكايات من كتب التاريخ الإسلامي . لكنه بعكس خير الدين التونسي يحاولُ نحت كلماتٍ جديدةٍ لتلك المصطلحات والمفاهيم القديمة ، فيُسمّي العمران الخلدونيّ مدنية ، ويُسمّي العصبية الخلدونية تكافُلاً ، ويعتبر التكافُلَ ذاك مُفتاحَ فهم العالم الفكري والثقافي للإسلام الوسيط . وهو يعرفُ ويستبطنُ مصطلحاتٍ ونُظُماً أوروبيةً من كتب غوستاف لوبون ، ومما ترجمته مدرسة الطهطاوي من مؤلَّفاتٍ سياسيةٍ وتاريخيةٍ في تاريخ المسلمين ، وتاريخ الحضارة الأوروبية ، ومما كانت تنشره مجلة المقتطف . ومع أنه يستخدمُ ابن خلدون والماوردي ( ربما كان أول من استــعان بالأحكام السـلطانية له إلى جانب أدب الدنيا والدين ) والشاطبي ؛ فإنه يؤْثِرُ إلى  جانب المصطلح الأوروبي المترجَم ، الاقتباسَ من تلك الكتب المترجَمة أيضاً . ويرجعُ ذلك إلى أنه ، مثل قاسم أمين ،  ذو اهتمامات اجتماعية وسياسية . وقد عمد بعد عودة الدستور العثماني عام 1908 م إلى إنشاء حزب اللامركزية ، المطالب باستقلالٍ أو حكمٍ ذاتيٍ للبلاد العربية ضمن دولة الخلافة العثمانية . وهكذا فإنّ نقولَهُ عن المصادر التراثية ليست للتسويغ أو التأييد أو الاستلهام ؛ بل من أجل القبض على الروح العامّ للمدنية الإسلامية ، ومقارنته أو وضعه في مقابل الروح الأوروبي . وقد كانت فكرتُهُ أنّ الفرديةَ أو حرية الفرد هي عمادُ التقدم الأوروبي ، أمّا النهوض الإسلامي فعمادُهُ من وجهة نظره التكافُلُ العامّ أو الوعي الجمعي العامّ – وهذا أمرٌ يمكنُ استكشافُهُ من خلال استقراء التاريخ الإسلاميّ والتجربة الإسلامية ( أو كما قال هو : السياسات الإسلامية ) ، وليس من طريق هذا النصّ أو ذاك أو هذه الحكاية أو تلك . وبذلك نجدُ عندهُ البذرة الأولى لفكرة النظام أو المنظومة الإسلامية الذاتية (5) .

 

كان الطهطاوي يرى أنّ المسألةَ مسألةُ وعي ؛ ولذلك فقد رأى أنّ فكرةَ المنافع العمومية أو الوعي بها كفيلةٌ بالنهوض والتغيير . وأضاف التونسيُّ لذلك فكرة التنظيمات أو المؤسسات القائمة على العدل والحرية .  وقد رأى الرجلان – شأنهما في ذلك شأن سياسيي عصر التنظيمات – أنّ هذين التجديدين يحتاجان لشرعنةٍ أو تسويغ من طريق الاقتباس والاستلهام من التراث الفقهي والسياسي الإسلامي الوسيط . أمّا رفيق العظم ، وزملاؤه في مدرسة المنار من حول الإمام محمد عبده ؛ فتجاوزوا مرحلة التسويغ بالاستناد للتراث إلى الاستظلال بمظلة مقاصد الشريعة التي تسوِّغُ الأخذ بأسباب التقدم بشكلٍ عام ، وانصرف اهتمامُهُم إلى تأمل الأسرار الكامنة وراء الاندفاع والنهوض الأوروبي في شتى المجالات من طريق محاولة القبض على روح المنظومة أو النظام ؛ ولذلك ففي حين استمروا في توسيع معارفهم التُراثية ، اهتموا أكثر بالتعرف على المنظومة الأوروبية الجامعة ، وسرّ تقدم الأُمم الغربية . ولهذا ما قلّ الرجوع إلى المصادر الإسلامية ؛ لكنّ الاستلهامَ صار أوروبياً باعتبار أنّ الإسلامَ لا عيبَ فيه ؛ بل العيبُ في تخلُّف المسلمين ، الذين لن يتقدموا إلاّ بالتربية الحديثة التي عبَّر عنها المرصفي في الكلم الثمان ، ومحمد عبده في الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية ، ورفيق العظم في التمدن والعمران ، ورشيد رضا في السُننَ الكونية ، والغلاييني في روح المدنية ، وأحمد فتحي زغلول بترجمة سر تقدم الإنجليز السكسون ، والكواكبي في طبائع الاستبداد .

 

II

 

افتتحت مقالات السيد محمد رشيد رضا (1865-1935م) عن الإمامة أو الخلافة العظمى بمجلة المنار عهداً جديداً من عهدي حضور التراث السياسي الإسلامي في الفكر السياسي العربي الحديث والمعاصر (6)  . وكانت الحكومة التركــية بزعامة مصـطفى كمال قد قامت عام 1922 بفصــل السلطنة ( الحكومة المركزية ) عن الخلافة ( ذات المعنى الرمزي ) ، وسوَّغت ذلك بوثيقةٍ كتبها علماء أتراك ونشرها المجلس الوطني التركي بعنوان : الخلافة وسلطة الأمة(7) . وقد ترجمها إلى العربية عبد الغني سني بك ، ونشرتها المنار على حلقات ، ثم قام رشيد رضا بالردّ عليها في كتابه السالف الذكر ، إلى أن نُشرت مجموعةً بعد إلغاء الخلافة عام 1924 . استندت الوثيقة في اعتبار الخلافة رمزاً لوحدة المسلمين لا أكثر إلى التاريخ حيـث كانت هنــاك خلافةٌ ( صورية ) ، والقوة الحقيقية بيد السلطان ، و إلى النظرية السنية الأساسية التي تعتبر السلطة للأمة أو إجماعها . واستخدمت الوثيقة نصوصاً من كتب أصول الدين المتأخرة عند الأحناف ، والتي تعتبر الخلافة أو الشأن السياسي من الاجتهاديات ، وليس من التعبديات . أما السيد محمد رشيد رضا ، والذي كان شأن زملائه في مدرسة المنار وبخاصةٍ العظم والكواكبي والزهراوي ، قد تخلّى عملياً عن الخلافة بسبب استبداد السلطان عبد الحميد (1876-1909) وافتتانهم جميعاً بالدستور والحريات بعد العام 1908 ؛ فقد تقلَّبت عليه المشاريع عشية الحرب الأولى وأثناءها بسبب العصبية الطورانية لدى الحاكمين في اسطنبول ، ثم بسبب طمع الشريف حسين الثائر منذ العام 1916 بمؤازرةٍ من البريطانيين – بالخلافة . وجاء العام 1922 بإلغاء الخلافة عملياً ، وببدء  الشريف حسين بطلب البيعة له بها ؛ فانتصرت لدى رشيد رضا نزعة الفقيه ، وعاد للقول بها واعتبارها عملياً أصلاً من أصول الدين . والذي يعنينا هنا أنّ رشيد رضا كان أولَ من اعتمد على "الأحكام السلطانية " للماوردي لإعلان عودته للقول بضرورة الخلافة دينياً وسياسياً . فالخلافة أو الإمامةُ عند الماوردي ( - 450هـ ) " موضوعةٌ لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا " (8) . وكان المستشرق الألماني Enger قد نشر كتاب الأحكام السلطانية ببون عام 1854م ، وصار المستشرقون يعودون إليه في دراساتهم منذ ذلك الحين . ومع أنه طُبع بالقاهرة في ثمانينات القرن التاسع عشر ، فإنّ أحداً من المسلمين لم يلتفت إليه ، لأنه لم يكن مألوفاً لديهم لجوء الفقهاء للتأليف السياسي ؛ فيما عدا فن نصائح الملوك ، أو ما يسمّيه الغربيون مرايا الأُمراء   Furstenspiegel     ولذلك  رجع بعضُهم في ثمانينات القرن التاسع عشر إلى كتاب الماوردي الآخر : أدب الدنيا والدين ، وانفرد رفيق العظم بالعودة في مواطن قليلةٍ من كتبه إلى "الأحكام السلطانية " باعتباره من كتب التاريخ . على كلّ حال ، لخّص رضا الفصولَ الأولى من كتاب الماوردي حول وجوب الإمامة ، وواجبات الخليفة وحقوقه ، وطرائق تنصيب الخليفة ، وموقع أهل الحلّ والعقد أو أهل الاختيار والشورى ، والعمل عند ضعف الخليفة أو إمكان عزله وانعزاله ، أي صفات الإمام المؤهِّلة لتولّي السلطة . وما اكتفى رشيد رضا بذلك بل رجع للإيجي والتفتازاني وبعض شرّاحهما وكُتّاب الحواشي عليهما . ولا شكَّ أنه كان يقصد بذلك مُناقضةَ كتّاب الوثيقة التركية ، الذين رجعوا إلى بعض متكلمي الحنفية والشافعية من المتأخرين في خراسان وبلاد ما وراء النهر . وظلَّ رشيد رضا حذراً بعض الشيء . صحيحٌ أنه رأى ضرورةَ الخلافة لارتباط بعض الواجبات الدينية بها ، ولأنّ فيها توحيداً للمسلمين . لكنْ كان هناك من جهة أخرى تخلّي الأتراك عنها ، وطمع الشريف حسين بها ومن ورائه الإنجليز فيما ظنّ رشيد رضا آنذاك .و لذلك فقد راح يشدّد على الشورى التي اعتبرها مُلزِمةً للخليـــفة القائم ، كما راح يفكّـــر في صيــغةٍ تُشبهُ " الجامعة الإسلامية " أو الكونفيدرالية ، والتي ينبغي أن يتربَّى عليها قادةُ المسلمين – ومن ضمنهم المرشَّحون للخلافة من الترك وليس من العرب أو الهاشميين ! – في مدرسةٍ إسلامية وسياسية ؛ وهي معهدٌ كان رشيد رضا قد حاول إنشاءه عام 1912 ثم اختفى بقيام الحرب العالمية الأولى . وبدأت حينذاك – كما هو معروفٌ – المؤتمرات بين الحجاز الشريفي ثم السعودي وبين القاهرة في محاولاتٍ لاستعادة الخلافة استجابةً للصدمة  التي أصابت المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لسلوك مصطفى كمال غير المفهوم إزاء مؤسسة الخلافة التاريخية ، التي ما استطاعت الأكثرية الساحقة آنذاك تصَوُّرَ عالم الإسلام بدونها ؛ كما عبر عن ذلك أحمد شوقي وشعراءُ ومفكرون آخرون كثيرون ، وحركة إحياء الخلافة بالهند . وبرزت عقباتٌ كثيرةٌ كان يمكن أن تؤدي إلى تضاؤل الحماس ثم ذهاب المسألة برمّتها . فقد سيطر عبد العزيز آل سعود – الذي كان رضا شديد الميل إليه - على الحجاز   والحرمين وهرب الشريف حسين وأُسرته إلى  الخارج . وظهر أنّ الإنجليز ضدّ إحياء الخلافة بتاتاً . وتنافس عليها ابن سعود والملك فؤاد ؛ في حين كان الهنود ما يزالون يبحثون عن خليفةٍ من آل عثمان ! لكنْ في هذا الوقت بالذات ظهر كتاب الشيخ علي عبد الرازق (1925) : الإسلام وأصول الحكم ، والذي يعتبرُ أنّ الخلافة ليست من الدين في شيء ، بل إنّ الإسلام دينٌ ولا يملكُ نظاماً للحكم . وقد نكأ ذلك الجراح ، ودفع الجميع للردّ عليه ، ثم على طه حسين الذي ظهر كتابُهُ ( في الشعر الجاهلي ) بعد كتاب علي عبد الرازق بقليل . ومنذ ذلك الحين صارت الخلافةُ في وعي المسلمين جزءًا من الاعتقاد ، وتجلياً لمقولة أنّ الإسلام دينٌ ودنيا أو دينٌ ودولة باستثناء مقالاتٍ لعبد الرحمن الشهبندر في المقتطف في عامي 1934 و1935 ؛ وباستثناء أطروحة عبد الرزاق السنهوري عام 1926 والتي تقترحُ تحويلَ الخلافة إلى " عصبة أُمَمٍ شرقية  " . والجدير ذكره أنّ السنهوري الذي كتب أطروحته بالفرنسية في باريس أكثر من الرجوع إلى  الماوردي أيضاً .

 

انشغل المفكرون المسلمون خلال العقدين اللاحقين على كتاب علي عبد الرازق إذن  بالردّ عليه ، وتفنيد أطروحته ، وتثبيت مقولة الاندماج أو التلازم بـين الدين والدولة في الإسلام . لكنْ في أواخر الأربعينات من القرن العشرين ، ومع ازدهار الإحيائية الإسلامية ، والحركات السياسية الإسلامية ، ظهر كتاب الأستاذ عبد القادر عودة : الإسلام وأوضاعُنا السياسية . وقد أصّل فيه استناداً إلى القرآن والسنة لمقولتي الاستخلاف والتكليف . وقد جاءت رسالتُهُ هذه بعد كتابه الضخم المقارن بين الفقه الإسلامي والقانون الوضعي في مسائل الجنايات . ولذلك كانت هناك من جهة فكرة القانون الإلهي أو الشريعة التي يُعتبر المسلمُ مكلَّفاً بتطبيقها ؛ وبذلك صارت الشريعةُ هي جوهرُ نظام الحكم في الإسلام . ويعني ذلك أنّ فكرة " النظام الإسلامي " القائم على تطبيق الشريعة هي المقصدُ والغايةُ بغضّ النظر عن التسميات . وتُرجمت بعد ذلك كُتُب المودودي والندوي التي شدَّدت أيضاً على مسألة النظام الشامل والكامل . وبذلك لم يبق لنظام الخلافة التاريخي دُعاةٌ غير حزب التحرير الإسلامي ، وبعض الجماعات الصغيرة التي ظهرت في السبعينات من القرن العشرين . أمّا سائرُ الحركات الإسلامية وكتاّبُها فتدورُ رسائلهم ذات الطابع التربوي والعَقَدي على إقامة النظام الإسلامي الذي يكتسبُ مشروعيته من خلال تطبيق الشريعة كاملةً .

 

قصدْتُ من هذا الاستطراد الطويل بعض الشيء إلى القول إنه مع توقُّف الفكر السياسي الإسلامي لدى حركات الإحياء والتأصيل عند مسألة الخلافة فالشريعة باعتبارهما على التوالي جزءًا من الاعتقاد ، قلَّ الاعتمادُ على الكتابات السياسية الإسلامية القديمة ، وجرى اللجوء إلى القرآن والسنة ، وتجربة الخلافة الراشدة . وقد اقتضى ذلك نهج التأصيل الذي ساد ويسودُ ذاك الفكر ، باعتبار النظام الإسلامي ، والدولـة الإســلامية ؛ أمرين اعتقاديين لا تفيدُ فيهما كتب الأحكام السلطانية أو الخراج أو الآداب السلطانية أو رؤى الفلاسفة شيئاً كثيراً . فالحضورُ التراثيُّ قويٌّ جداً في  كتب الحركيين الإسلاميين ، لكنه حضورُ التراث النصيّ والاعتقادي ، وليس تُراث التجربة التاريخية أو تُراث الفقهاء والفلاسفة وكتاّب مرايا الأمراء . ولكي يكونَ ما أقصِدُه  واضحاً حول موقف الإسلاميين الحركيين أو رؤيتهم ؛ أذكُرُ تأكيدهم على  التجربة المجهَضة بعد الخلافة الراشدة استناداً إلى الأثر القائل : تكونُ الخلافة ثلاثين عاماً ، ثم يكونُ مُلْكٌ عَضوض . وإذا كانت التجربةُ كلُّها منذ عهد معاوية مُلكاً عَضوضاً ، فما الحاجة للرجوع إليها أو استحضارها ما دُمنا بصدد الحديث عن النظام الكامل ، وعن التطبيق الصحيح للرؤية الإسلامية في الحكم ؟!

 

وإذا كان الإسلاميون لا يعودون إلى التراث السياسي الإسلامي في مجال النظرية والتطبيق ؛ فإنّ عودتَهم إلى ذلك التراث في الجزئيات الأُخرى متفاوتةٌ ولكنها قليلةٌ  على العموم ؛ لعدم ملاءمة تلك المصادر لمقاصدهم .

 

-           ففي مسألة الشورى تراوحت التصورات والآراء بين القول بأنها مُلزِمة أو غير مُلزِمة (9) . وكلا الحكمين فقهيٌّ يستند إلى النصوص وتصرفات النبي (ص) والراشدين وليس إلى كتب التُراث السياسي وكتب السياسة الشرعية التي تربطُ الشورى بالاستشارة والنصيحة ، وتعتبرُها أمراً أخلاقياً ، المعنى السياسي والاعتقادي فيها ضئيل . أما الذين قالوا من الإسلاميين إنّ الشورى هي أصلُ النظام الإسلامي (10) باعتبار ما ورد عنها في القرآن الكريم ؛ فإنهم أيضاً لا يعودون إلى التجربة التاريخية التي تمثّلُها كتب التراث السياسي لانعدام الشورى فيهـا ، ولأنّ أساسَ المشروعية لديهم ليس الأمة في أعرافها وإجماعاتها ؛ بل هي الشريعة المتجلية بدورها في القرآن والسنة والتجربة الراشدة ، والتي يفيدُ فيها الرجوعُ لسيرة ابن هشام أو تاريخ الطبري ، أكثر مما يفيد الرجوع إلى الماوردي أو أبي يعلى . وهناك رجوعٌ ملحوظٌ لابن تيمية لكنْ في فتاويه أكثر من الرجوع لكتابه في السياسة الشرعية . على أنّ الرجوعَ لكتاب السياسية الشرعية له أسبابٌ أيديولوجيةٌ ، وليست سياسية .

 

-           وفي المسائل الاقتصادية والمالية هناك كتب الخراج والأموال التي تُحدِّدُ موارد الدولة الإسلامية بعد مقدمةٍ تاريخيةٍ حول الفتوحات . وهذه المواردُ لم تَعُدْ حاضرةً اليوم ، والإسلاميون الحركيون لا يكتبون دراساتٍ تاريخيةً لكي يهتموا بما كانت عليه الدولةُ في عصورها المختلفة ؛ بل إنما يستحضرون التراث للإفادة منه في برامجهم الحاضرة ؛ ولذلك تكثُرُ الدراسات عندهم عن الزكاة وعن الوقف وعن الحسبة ، وما يتصل بذلك من ممارسات الدولة في العصر الأول . ولأنَّ الممارسات التي يمكن أن تتحول إلى تشريع منحصرة بصدر الإسلام ؛ فإنّ النزعة هنا تكونُ انتقائية ، وتقتصر على استحضار ما يتصل بعصر الفتوحات من التصرفات المالية والإدارية .  

 

 

-           ويحضر التراث السياسيُّ الإسلاميُّ بصورةٍ ملحوظةٍ نسبياً لدى الإسلاميين عندما يتعلق الأمر بأهل الذمة ، وبداري السِلْم والحرب . فالأمور المتعلقة بالموضوعين لا تفاصيلَ فيها في القرآن والسنة من جهة ، ثم إنها أمورٌ تتعلق بالاعتقاد عندهم وليس بالتاريخ من جهةٍ ثانية . لكنّ مباحث أهل الذمة لا تحضُرُ كثيراً في كتب التُراث السياسي ، بل في كتب الفقه . أمّا مباحثُ الدارَين فهناك عودةٌ بشأنها إلى كتاب السِيَر للشيباني ؛ لكنْ هناك عودةٌ أكبر لكتب التفسير ، ولابن تيمية ؛ لتعلُّق ذلك عندهم بالإيمان  والكفر ، أكثر من تعلقه بالعلاقات الدولية .

 

II

 

… ويحضُرُ التراثُ السياسيُّ الإسلامي بقوةٍ في أعمال الأكاديميين والدارسين العرب المحدَثين والمعاصرين من ثلاث فئات ؛ الأولى الأساتذة والفقهاء المعنيون بالفقه الدستوري ، ونظرية الدولة ، والقانون الدولي أو العلاقات الدولية . والثانية الأكاديميون المعنيون بتدريس مادة أو رصيد الفكر السياسي الإسلامي أو تاريخ الفكر السياسي في الجامعات والمعاهد . والثالثة المحققون المعنيون بنشر النصوص والرسائل السياسية أو كتابة دراساتٍ عنها .

 

والواقعُ أنه في مجال الفقه الدستوري ؛ فإنّ كتاب الماوردي في الأحكام الســلطانية والولايـــات الديـــنية فريــدٌ من نوعه . فكتابُ أبي يعلى (-458هـ ) المعاصر له ربما كان من صناعة حنبليٍّ متأخّر ؛ إذ لا زيادةَ فيه غير أقــوال أو آراء الإمـــام أحمــد ومدرسته . أمّا كــتاب ابن جمـــاعة (-733 هـ ) " تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام " فهو اختصارٌ للماوردي مع إضافاتٍ طفيفة تتعلق بعصره . وما قاله الأستاذ نصر عارف من أنّ كتاب الماوردي الآخر " تسهيل النظر وتعجيل الظفر " أهمُّ منه ، غير دقيق (11) . فقد حقّقتُ ذلك النصّ وفيه نظريةٌ في الدولة وأشكال الحكومات ، ربما استفاد منها ابن خلدون ، لكنّ النصف الآخر من الكتاب معنيٌّ مثل " أدب الدنيا والدين"  ، وأكثر فصول " قوانين الوزارة "  بالمسائل الأخلاقية العامة والفردية لذوي السلطة والسلطان . وحده إمام الحرمين الجويني (-478هـ ) في " غياث الأُمم " (12)  وفي رؤيةٍ مخالفةٍ لرؤية  الماوردي ، يحاولُ أن يعرضَ جديداً في فقه التغيير والإصلاح ، وليس في مشروعية الدولة والخلافة . فهو يقترح بسبب الافتراق الحاصل بين الخلافة والقوة السياسية ؛ الدمج بين الخلافة والسلطنة ليهبَ ذلك سلطةَ الأمر الواقع شرعيةً جديدة .

 

ما قَدَر المستشرقون ، الذي نشر أحدُهُم كتاب الماوردي منتصف القرن التاسع عشر الكتاب حقّ قدْره . فقد اعتبروه تبريراً لسلطة الأمر الواقع ، واعتبروا حلولَهُ للمشكلات البنيوية في النظام شكلية ، ومن حِيَل الفقهاء ؛ وإن عرضوه عروضاً مُسْهبةً من مرغليوث وتوماس أرنولد وإلى هاملتون غب وتلمان ناغل . أما الباحثون المسلمون فقد عُنوا به عنايةً فائقةً منذ رشيد رضا والسنهوري وإلى صلاح دبوس وعبد الحميد متولّي ومحمد عبد الله العربي ومحمد طه بدوي ومحمد ضياء الدين الريّس ومحمود حلمي ومصطفى حلمي والشيخ يوسف القرضاوي وثروت بدوي وسليمان الطماوي وفتحي عبد الكريم ومحمد عمارة ومحمد فاروق النبهان وصولاً للكتاب البالغ الأهمية للأستاذ محمد سليم العوّا (14) . وما لقي كتابُ الماوردي الآخر " تسهيل النظر وتعجيل الظفر " الاهتمام الذي يستحقُّه بعد ، لأنه طُبع متأخّراً . وكان ممكناً الاستعانةُ به في مجال نظرية الدولة ، التي انصرف المنظِّرون السياسيون ، والفقهاء الدستوريون ، والمؤرّخون للإفادة في مجالها من نظرات ابن خلدون في مقدمته ، وأحياناً من ابن تيمية في السياسة الشرعية (15) . ولذلك فقد صارت الكتب الثلاثة : الأحكام السلطانية ، والسياسة الشرعية ، ومقدمة ابن خلدون أهمّ مصادر الاقتباس والاستشهاد في العقود الثلاثة الأخيرة . وبالإضافة لذلك فقد صدرت عشراتُ الدراسات المستقلة عن الماوردي وابن خلدون وابن تيمية باعتبارهم مفكرين سياسيين أو فقهاء سياسيين ودستوريين .

 

ومــا لقيـــت كُــتُبُ الخراج والأمـــوال مثـــــل الخـراج لأبـــي يوسف (-182هـ ) ،  والخـــراج ليــحيى بـــن آدم (-206هـ ) والأموال لأبـــي عبيد (-224 هـ ) ، والأموال لابن زنجويه (-319هـ ) ( الذي أفاد كثيراً من أبي عُبيد ) اهتماماً مُماثــلاً من جانب الدارســـين العرب والمسلمين . لكنّ الاقتباس منها ( وليس استلهامَها ) ازداد زيادةً ملحوظةً في الدراسات التي تُعنى بالتأريخ للدولة الإسلامية ، باعتبارها كتباً في التاريخ الاقتصادي . فالمعروفُ أنّ هذه الكتب تعرضُ لموارد الدولة الإسلامية منذ النبي (ص) وعصر الفتوحات وصولاً للقرن الثالث الهجري - بالإضافة إلى أبوابٍ في الزكاة والجزية والمسائل الاقتصادية الأخرى الموجودة في كتب الفقه . 

 

وظهر اهتمامٌ متجدّدٌ بفرعٍ سياسيٍّ ما كان بارزاً من قبل ؛ أو أنه ما كان معتبراً من موضوعات الفكر السياسي ، بل من موضوعات الفقه ؛ هو موضوع السياسة الشرعية ، والتي تعني عملياً صلاحيات الحاكم أو الإمام إزاءَ الشريعة أو تحت مظلّتِها . ومصادر الموضوع المستقلّة في كتب التراث السياسي أو السياسي / الفقهي هي السياسة الشرعية لابن تيمية ، والطرق الحكمية ،  وإعلام الموقعين لابن قيم الجوزية ، وتبصرة الحكّام لابن فرحون . وبالعودة إلى هذا الكتب ،وكتب الفقه العامّ ظهرت دراساتٌ لعبد الوهاب خلاّف (1932) ،وعلي الخفيف (1935) ، ومحمد البنا (1937) ، وعبد الرحمن تاج (1953) ، ويوسف القرضاوي (1998) . لكنْ في عصر الإحيائية الإسلامية ؛ فإنّ موضوعات الاهتمام تشعّبت وامتدَّت بحيث صارت بحوث السياسة الشرعية لدى الإسلاميين هي بحوث ما يُعرف بفقه الدولة في الإسلام ، ويبدو ذلك على خير وجــهٍ في كتابي الشيخ القرضاوي : من فقه الدولة ، والسياسة الشرعية .

 

أمّا الفلسفة السياسية في الإسلام فقد لقيت اهتماماً كبيراً من جانب المستشرقين الـذين اعتبروا في القرن التاسع عشر وحتى أواسط القرن العشرين ؛ أنّ التفكير السياسي مقصورٌ في العصر الإسلامي الوسيط على الفلاسفة الإسلاميين الذين استمدُّوهُ من أفلاطون وارسطو والهلينيين الآخرين . ولذلك لقي الفارابي (-339هـ ) عنايةً خاصّةً من جانبهم لكثرة كتاباته في هذا المجال وبخاصةٍ كتابُهُ : آراء أهل المدينة الفاضلة – مع الاهتمام أيضاً بابن سينا ( الذي له فصولٌ سياسيةٌ في الشفاء والنجاة والحكمة العروضية ) . ويتجدَّدُ الاهتمامُ في السنوات الأخيرة بسياسات ابن رشد بعد أن ظهر شرحه على جمهورية أفلاطون بالإنجليزية والعربية نقلاً عن العبرية لضياع أصله العربي .

 

ويبقى جانبُ مهمٌّ يستحقُّ الذكر ، وهو المتعلّق بنشر النصوص السياسية نشراتٍ علميةً سواءٌ أكانت مطبوعةً من قبل طبعات غير علمية ، أو أنها كشوفٌ جديدة . والواقعُ أنّ أكثر المؤلَّفات السياسية العربية القديمة تدخُلُ في باب الأدب السياسي أو آداب ونصائح الملوك أو ما يُعرَفُ باسم " مرايا الأُمراء " كما سبق ذكره . وفي هذا المجال ، أو هذا الفرع من فروع الاهتمام العربي والإســلامي الـــقديم انضمّت كتبٌ جديدةٌ كثيرةٌ إلى الكتب المعروفة مثل سر الأسرار المنسوب لأرسطو والتاج المنسوب للجاحظ ، وسلوك المالك لابن أبي الربيع ، والتبر المسبوك للغزالي . والمعروف أنَّ الدكتور  حامد ربيع افتتح الاهتمام تقريباً بهذا الأمر بتحقيقه لكتاب ابن أبي الربيع " سلوك المالك " مع كتابة مقدمةٍ ضافيةٍ ومفيدة . لكنه اعتبر الكتاب من كتب الفكر السياسي والفقه الدستوري وهو ليس كذلك كما اعتبره من عصر المعتصم (218-227هـ) وهـو في الواقع من عصر المستعصم (-656هـ ) آخر خلفاء بني العباس . وهو كتابٌ يدور بين النصائح وتراث الفلاسفة الإسلاميين ؛ وفصوله الجدّية منقولة عن تسهيل النظر للماوردي (-450هـ ) . وقد نشرت عشرات الكتب المتشابهة  من هذا الفنّ ودُرست من جانب عدة باحثين من مثل أستاذنا الدكتور علي سامي النشار ومحمد جاسم الحديثي وجليل العطية وفؤاد عبد المنعم أحمد ورضوان السيد . كما أنّ دراساتٍ عدةً كُتبت عنها . ولستُ أرى إضافاتٍ وكشوفاً حقيقية في مجال مخطوطات الفكر السياسي الإسلامي في السنوات الأخيرة غير غياث الأُمم في التياث الظلم للجويني ، والذي اكتشفه الدكتور عبد العظيم الديب ، ونشره ، في الوقت الذي صدرت منه نشرةٌ محقّقةٌ أُخرى على يد الدكتور فؤاد عبد المنعم أحمد . وهناك أيضاً تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك وسياسة المُلْك للمارودي ، الذي نشره هلال محيي السرحان ، ونشرتُهُ أنا . وأخيراً شرح ابن رشد لجمهورية أفلاطون الذي ترجمه أحمد شحلان عن العبرية ، ودرسه الدكتور محمد عابد الجابري .

      *           *          *

ما استطعتُ في هذه العجالة ، الاهتمامَ بكلّ وجوه حضور التراث السياسي الإسلامي في الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر . فهناك مثلاً التأليف في السياسيات لدى الإمامية والزيدية والإباضية . وأعرف لدى الزيدية بالذات كتباً ومخطوطاتٍ قيمةً في الفقه السياسي وفي السياسة الشرعية ، وفي نصائح الملوك . ثم إنّ هناك حضوراً تُراثياً ملحوظاً في بعض البحوث شبه السياسية التي تَرِدُ في كتب الفقه مثل باب أحكام البُغاة ، والتي يستخدمُها بعضُ الباحثين في مسائل المعارضة السياسية في الدولة الإسلامية . كما أنّ كتب كُتّاب الديوان مثل الخراج وصنعه الكتابة لقُدامة بن جعفر ، أو الخراج لأبي يوسف أو صبح الأعشى للقلقشندي ، حاضرةٌ في الفكر المعاصر ، وتستحق اهتماماً أكثر . وكذا الأمر بالنسبة للوزارة التي كتب فيها كثيرون منهم الجهشياري والجاجرمي والصابي والماوردي كتباً مستقلة . لكنني أحسبُ أنني ألممتُ بجوامع تحتاج إلى مزيد تأمُّل . فالموضوع جديدٌ جدَّةَ كل الموضوعات التي تتعرض لمتغيّرات المناهج والمذاهب ، ولعلائق التراث والمعاصرة في مجالنا الحضاري .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)        الطرسوسي : تحفة الترك فيما يجب أن يُعمل في المُلْك . تحقيق ودراسة رضوان السيد . بيروت 1992 ؛ ص ص 48-50 . وقارن بالطهطاوي : كتاب مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية ؛ في الأعمال الكاملة لرفاعة رافع الطهطاوي ، التمدن والحضارة والعمران ، الجزء الأول ، تحقيق ودراســة محمد عمارة ، ص ص 243-585 ، بيروت ، الطبعة الأولى ، 1973 .

(2)        خير الدين التونسي : أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك . تحقيق ودراسة معن زيادة ، بيروت 1978 .

(3)        لابن القيم كتابان في السياسة الشرعية والمصالح هما : الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ، وإعلام الموقّعين عن ربّ العالمين . والغالب أنه رجع للطرق الحكمية .

(4)        الشيخ حسين المرصفي : رسالة الكلم الثمان ؛ رؤية في تحديث الفكر المصري ، دراسة ونشر أحمد زكريا الشلق ، القاهرة 1984 ، والشيخ حسين المرصفي : رسالة الكلم الثمان . تحقيق ودراسة خالد زيادة ، بيروت 1982 .

(5)        قارن بتحليلٍ مختلفٍ بعض الشيء لأفكاره عند فهمي جدعان في : أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث ، 1979 ؛ ص ص 494 – 506 .

(6)        الشيخ محمد رشيد رضا : الخلافة أو الإمامة العظمى . الزهراء للإعلام الإسلامي ، القاهرة 1988 ، ووجيه كوثراني : الدولة والخلافة إبّان الثورة الكمالية في تركيا : رشيد رضا ، علي عبد الرازق ، عبد الرحمن الشهبندر . دراسة ونصوص . بيروت 1996 . وقد نشر الدكتور كوثراني كتاب السيد رشيد رضا على الصفحات 47-249 .

(7)        عند كوثراني في الدولة والخلافة ، ص ص 209 – 248 .

(8)        بين يديّ ثلاث نشرات للأحكام السلطانية : النشرة الألمانية (1854) ، والنشرة المصرية (1909) ، والنشرة اللبنانية (1989 ) . وقد رجع رشيد رضا إلى الطبعة المصرية .

(9)        قارن بمحمد سليم العوا : في النظام السياسي للدولة الإسلامية ، دار الشروق بالقاهرة ، 1989 ، ص ص 179-211 ، وعبد الرحيم بن حاج أحمد : الشورى والديمقراطية دراسة مقارنة ، بيروت 2001 (أطروحة ماجستـير بالمعهد العالي للدراسات الإسلامية ببيروت ) ص  ص 43-85 .

(10)      مثل توفيق الشاوي وجمال البنا وصبحي الصالح وخالد محمد خالد .

(11)      نصر محمد عارف : في مصادر التراث السياسي الإسلامي ، تقديم الدكتوره منى أبو الفضل . المعهد العالمي للفكر الإسلامي ، 1994 ، ص 65-66 .

(12)      الجويني : غياث الأُمم في التياث الظلم ، تحقيق عبد العظيم الديب ، قطر . 1400هـ .

(13)      اكتشفه الدكتور عبد العظيم الديب ؛ لكنْ نشره أولاً الدكتور مصطفى حلمي ، والدكتور فؤاد عبد المنعم أحمد – ثم نشره الدكتور الديب .

(14)      قارن بالعوّا في ثبته للمراجع بكتابه : في النظام السياسي للدولة الإسلامية ، والشيخ يوسف القرضاوي : السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها . مكتبة وهبة بالقاهرة 1998 ؛ ص ص 22 – 23 .

(15)      هناك عرضٌ مُسْهَبٌ له بالألمانية (1989) كتبه تلمان ناغل . واختصره محمد شاكر الشريف في " الطريق إلى الخلافة " 1992 . وكتب رفيق يونس المصري عن فكر الجويني الاقتصادي (2001 ) . والطريف أن أول من استخدمه مخطوطاً كان اليساري المعروف هادي العلوي في كتابه : في السياسة الإسلامية ، بيروت 1974 ، ص  ص164-174 .

المصدر: http://www.ridwanalsayyid.com/ContentPage.aspx?id=77#.V0NQgLgrLIU

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك