الخطاب الواجب الغائب

أحمد أبا زيد

«إنّها كلمة حقّ وصرخةٌ في واد، إن ذهبت اليوم مع الريح، فقد تذهب غداً بالأوتاد».

لم يلجأ الكواكبي إلى كلماتٍ أقلّ زخماً وأقل دلالةً على الخطر من تلكم الكلمات في تقدمة كتابه عن الاستبداد و الاستعباد، و لئن سُجّلت للكواكبي مأثرة شقّ صمت الشرق المطبق عن سياسات الإذلال وتغييب الأمّة عن الدولة زمن العثمانيين، ولئن استُدخل الكواكبي في كثير من المنظومات أو التأويلات القومية والعلمانية التي لا صلة له بها، ولئن كان منهج الكواكبي في التغيير ملهماً لكثيرٍ من المصلحين طيلة قرنٍ فات، رغم الإقرار بانفصال هذا النهج عن طبيعة حركات التغيير العربية الحاليّة، إذ موقف الكواكبي من ثورةٍ كالثورة السوريّة هو أنّها عمل أهوج يستبدل استبداداً باستبداد، لئن سلّمنا وتجاوزنا كلّ ذلك، فإنّ أهمّ إنجاز للكواكبي يهمّنا في هذا المقال تحديداً، هو تحويله الخطاب الإسلامي في زمنه من خطابِ السكوت والانسحاب من الفاعلية في الحياة إلى خطابٍ يرتكز عليه الاشتباك مع الحياة ومشاكلها السياسية والمجتمعية ويتأسّس عليه -كخطاب إسلامي- فعلُ التغيير، ويتحدّد بفضائه الذي تتخذ قيم الحرية والكرامة ومرجعية الأمة مواقع مركزيّة فيه، بعد أن كان الخطاب السائد من المؤسسة الدينية للعامة منشغلاً بتأكيد انفصال الأمّة عن الدولة في غير الطاعة والدعاء للسلطان، وبتنميط الطقوس واختزال الفعل الإسلامي بها.

ولهذا الإنجاز بالضبط، يمكن اقتباس كلمات الكواكبي أعلاه للدلالة على علّة ليست أقلّ خطراً…

بعد وفاة الكواكبي بحوالي عشرين عاماً، قامت الثورة على الاستعمار الفرنسي في عموم سوريا، لعلّ من الدلالات على تحوّل الخطاب الإسلامي وفاعليته في تنظيم المجتمع وتوجيهه لغايةٍ دينيّة تتجاوز الأوراد والأذكار وتجعل مهمّة التغيير محوريّة ضمن هموم المتديّن، هو حضور المشايخ الجليّ فيها، لإطلاق شرارتها أو للمحاربة في صفوف المجاهدين وتقديم خطاب إسلامي فاعل ومؤثّر كأساس للثوّار وعموم الناس، ولعلّ من المفيد نقلَ ما كتبه الشيخ علي الطنطاوي عن دور المشايخ في هذه الثورة إذ قال:

«وأنا أحبّ أن أعرض صفحة مطوية من تاريخ الشيخ بدر الدين، هي رحلته في سنة 1924 مع الشيخ علي الدقر، والشيخ هاشم الخطيب، من دمشق إلى دوما، إلى النبك، إلى حمص، إلى حماة، إلى حلب، هذه الرحلة التي طافوا فيها بلاد الشام (سورية) كلها.

وكانوا كلما وصلوا بلدة أو قرية، خرج أهلها على بكرة أبيهم، لاستقبالهم بالأهازيج والمواكب، ثم ساروا وراءهم إلى المسجد، فتكلموا فيه ووعظوا وحمّسوا، وأثاروا العزّة الإسلامية في النفوس، وذكّروا بالمجد الغابر، وحثّوا على الجهاد لإعلاء كلمة الله، فكانت هذه الرحلة هي العامل الأول والمباشر لقيام الثورة السورية التي امتدّتْ سنتين، وأذهلت ببطولتها أهل الأرض.

والثورة.. قد قامت في الغوطة، غوطة دمشق، قبل أن تقوم في الجبل جبل الدروز، وقد بدأت بخروج طلبة العلم بدافع الجهاد».

وبعيداً عن النقاش التاريخي حول بدء الثورة على الفرنسيين، متى كانت أوّل رصاصةٍ فيها، فهذا جدلٌ لم يُحسم حتى اليوم، فإنّ ما لا شكّ فيه أنّ مركز الثورة الأثقل والأكثر تأثيراً في غوطة دمشق ودمشق المدينة، كان قد بدأ ثورته بخطاب إسلاميّ ناجز ومرجعيّة شرعيّة حاضرة في صفوفه، مرافقة للشعور الوطني والانتماء إلى المجتمع المحلّي وحماية خصوصياته وثقافته، ولأدبيّات التحرّر من الاستعمار، لا منفصلةً عن ذلك؛ الأمر نفسه في عموم سوريا، دون أن نعزو ارتباط الثورة بالشعور الإسلامي وخطاب الجهاد إلى موقف المشايخ بقدر ما كان هذا الارتباط محصّلةً طبيعيّة لثقافة المجتمع وتديّنه، وطبيعة المؤسّسة الدينية في ذلك الوقت التي لا يمكن فصلها عن المجتمع أو معاملتها كنخبة مستقلّة تدير شؤونها كـ»مؤسسة»، وإنّما كانت أحد فئات المجتمع التي يعرّف بها نفسه وينظم فعالياته عبرها في سيرورة طبيعية مستمرة.

فيما تلا الاستقلال، ونشوء الأحزاب الإسلامية والعلمانية في سوريا، وتطوّر الجدل حول الدولة والدستور والقوانين، وما رافق ذلك من تحدّيات نظريّة وعمليّة للمشروع الإسلامي وللجميع، لم تنفصل المؤسّسة الدينية أو المشايخ أيضاً عن الوجود في المجتمع وتقديم خطاب متصل بقضاياه، ومحاولة تطوير أدوات هذا الخطاب لمواجهة التطورات الفكرية والسياسية التي لا تهدأ، يمكن أن نستذكر كتاب الشيخ مصطفى السباعي «الاشتراكية في الإسلام»، ويمكن أن نستحضر كذلك حرص الرؤساء المستمرّ على لقاء المشايخ، هذا دون إغفال أنّ أنماطاً أخرى من التديّن المنسحب من الحياة والمؤكّد على الأذكار والحضرات كجنّة المسلم كانت حاضرةً أيضاً ولها جمهورها وتأثيرها، ولكن ما يعنينا هنا هو وجود خطاب إسلامي متصل بالحياة العامة وفاعلٍ فيها، تلك الحياة التي كانت مسرحاً نشطاً لحراك سياسيّ وفكريّ هو الأنشط  والأوسع جمهوراً بالنسبة لكلّ التيارات الفكرية والسياسية الإسلامية والعلمانية فيما قبل الثورة السورية.

بدأت أحداث الثمانينيات، و ليس الغرض هنا سرد هذه الأحداث أو أسبابها أو تقييمها بقدر ما هو ملاحظة اتخاذها طابع «الجهاد» المؤسس على أدبيّات إسلاميّة مرتبطة بتديّن المجتمع وثقافته، ومتصل بمشروع إسلامي له خطابه المرتبط بالحياة العامّة والفعل في الحياة السياسية بغاياتٍ معلنة تتخذ مظهرها الوطني والشرعي معاً، أنتجت حركة التغيير ومواجهة النظام هذه أدبيّاتها الخاصّة وفنونها وأناشيدها المتسقة مع هويّتها الإسلاميّة والسوريّة معاً، بقدرِ ما كانت تعبيراً عن تآلف الانتماءين في انتماءٍ واحد مع طغيان الانتماء الإسلامي في خطاب الحشد أكثر تبعاً لطبيعته.

وبقدر ما كانت حركة التغيير هذه امتداداً لتديّن المجتمع وثقافةٍ حاضرةٍ فيه ولشعور بالظلم السياسي والطائفي معاً، مع الإقرار بظهور خطاب أكثر تشدّداً مع دخول الخط السلفي أيضاً مع اشتداد المعركة، ولكن تبقى حركة التغيير هذه –والأمر متعلّق هنا بالتوصيف لا بالاتفاق أو الاختلاف-  ظاهرةً ضمن النسق الثقافي والاجتماعي مؤسّسة على خطاب إسلامي ضمن النسق نفسه، وتتّكئ –قبل أدبيّات تنظيم الإخوان العالمي- على تراث متراكم لا يبدو فيه التديّن منعزلاً عن الفعل في الحياة بشتى مناحيها.

استطاع النظام البائد قمع ثورة الثمانينيات، وكانت نتيجة ذلك عدا ما دُمّر من مدن ومن قُتل من شهداء ومن عُذّب من أسرى، هو تجريم الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين ككلّ والحكم على من يشتبه به الانتماء إليها بالإعدام، لا للطليعة المقاتلة وحدها. أي إنّه كان تجريماً استهدف الانتماء إلى «فكر» ككلّ لا لـ«فعل» وحسب، ولم يكن التجريم متعلّقاً بالإخوان كخصم سياسيّ، بقدر ما كان لهذا الخطاب الإسلامي القادر على الحشد والتجييش والمؤسّس على ثقافة المجتمع وتديّنه والمحاكي لروحه العامّة، ما حصل، وما لم يُكتب، هو اتفاق –لا يهمّ إن كان اتفاقاً ضمنيّاً أم صريحاً- بين النظام ومن تبقّى من المؤسّسة الدينية على ما يمكن أن ندعوه بـ«طقسنة المؤسّسة»، أي تحويل الخطاب الإسلامي في سوريا إلى خطاب متعلّق بالطقوس والشعائر، واختزال الدين إلى عبادة.

ولم يكن مطلوباً من الجميع أن يقدّموا حججاً شرعيّة لطاعة وليّ الأمر، ولكن ما كان يجرّم به أيّ كان هو محاولة الخروج بالدين من المساجد. فارتاح النظام بذلك من قلقِ خصمه الإسلاميّ الصعب، ورأت المؤسسة الدينيّة ذلك خيراً من أن تُحرم من أيّ فضاء لممارسة الدين، فاهتمّت بالتربية والدعوة ودور تحفيظ القرآن، واختُزل الخطاب الإسلامي مذ ذاك في تدريس الفقه وعلوم الدين وفي الأخلاق الحسنة والأوراد والشعائر.

حلّت الثورة إذن وخطاب المؤسّسة الدينيّة الذي يعرفه الناس ويعرفه المشايخ هو هذا، خطاب السلامة، الذي فاجأته كما فاجأت الجميع جمعةُ الكرامة، أوّل جمعة في الثورة السوريّة وعنوان بدايتها الفعليّ، حيث كان الشيخ أحمد الصياصنة في درعا والشيخ أنس عيروط في بانياس حاضرين في مقدمة المظاهرات، بينما كان الشيخ البوطي ينسلّ مبتعداً عن مظاهرة الجامع الأموي التي هوجمت وقُمعت داخل المسجد.

وجد الناس أنّ المساجد هي رمز مقاومتهم للاستبداد وأفضل منطلق لمحاربته والدعوة للحرية والعدل والكرامة، إضافةً لإمكانية التجمع فيها، دون أن يكون ذلك صدفة إذ هذا أحد أسس عمارة المساجد وغاياتها، ومع كلّ نزيفِ شهيد كانت مساجد أخرى يُسمع فيها التكبير ثمّ جموع القائمين من صلاتهم لثورتهم ثمّ صوت الرصاص ثمّ تشييع الشهداء.

في كلّ ذلك، ومع زيادة حضور الحسّ الإسلامي وشعاراته مع تقدّم الثورة، لم يظهر من المؤسسة الدينية موقف منتمٍ لهذه الثورة كمؤسّسة، وإنّما كمواقف متفرّقة للمشايخ المعروفين منهم والمغمورين. قد يكون للأمر علاقة بمصالح أو نقصِ شجاعة أو اجتهادات لم تتحرّر من فقه الاستبداد، أسّستها ثلاثون عاماً من وأد الخطاب الإسلامي و«طقسنته».

تطوّرت الثورة إلى حراكٍ مسلّح، مشابه لما كان قبل ثلاثين عاماً ولما كان قبل تسعين عاماً، مع وضوح الحسّ الإسلامي في مقاومة الاستبداد وانتشاره أكثر، ومع غياب الخطاب الشرعي المرافق، أو ضآلة حضوره، بما أنّ المواقف المؤيّدة للثورة في أغلبها غادرت خارج البلاد.

يمكن لنا أن نميّز الآن في الثورة خطابين فكريّين ناجزين هما: الخطاب العلماني والخطاب السلفي، ودون الدخول في مناقشة أيّ من الخطابين ولا التعليق على حجم الاتفاق أو الاختلاف معه، فإنّه يمكن القول إنّ كليهما خطاب مستورد لم يولد من المجتمع نفسِه وليس متّصلاً بروحه العامّة، كليهما خطاب نخب يحاول تأسيس قاعدةٍ شعبيّة له، وإن كان الخطاب السلفي أقدر على تأسيس هذه القواعد بحكم مشاركته الضخمة في التحرير والعمل المسلّح، وهذا ليس قدحاً ولا يقلّل من صوابية هذه المشاريع، بينما الخطاب الأشبه بتديّن المجتمع وثقافته في مدنه الرئيسية والمفترض أن يكون الوليد الطبيعيّ لانتفاضه وتحرّكه للتغيير هو الوحيد الغائب، وهذه المفارقة لا يمكن فهمُها بمعزل عن تاريخ الخطاب الديني الذي سردناه باختصار، ولا يمكن تصنيفها ضمن المشاكل السهلة أو الصغرى.

يمكن أن يتوضّح أثر هذا الغياب أكثر في التفريق الحاصل في الثورة ما بين «الكتائب الإسلامية» و«الجيش الحرّ»، إذ يظهر وكأن كتائب الجيش الحرّ علمانية في هذا التوصيف، رغم النزعة المتديّنة الواضحة لدى كتائبه، ويحيل الانتماء الإسلامي إلى الكتائب السلفية لا لكونها هي من تنزع عن الآخرين وصفهم الإسلامي بقدر ما أنّ هؤلاء الآخرين ليس لديهم خطابٌ شرعيّ ناجز يتحدّدون به. وبقدر ما تجدر ملاحظة «سمت المجاهد» الذي أصبح مرتبطاً بلباس وأدبيّات وأناشيد من خارج المجال التداولي للبيئة المحليّة مقارنةً بسمت المجاهد وأدبيّات الجهاد في الثمانينيات.

إنّنا أمام حالةٍ من الحسّ الثوريّ والوطنيّ والمتديّن اليقظ لجماعة بشريّة كبيرة العدد وتشكّل الفاعل الأكبر في صياغة الواقع، لكنّه حسّ يواجه ضياعاً فكريّاً حين لا يجد الحاضن الذي يقدّم له الخطاب الأشبه به.

إنّها المفارقة الأغرب أنّ الجماعة الأكبر والمعبّرة عن تحرّر المجتمع المحلّي ويقظة الحسّ الإسلامي معاً، والتي يبدو أنّها من تحدّد شكل المستقبل بقدر ما قام على ثورتها شكل هذا الحاضر، لا تجد الأساس النظري والخطاب الشرعي وأدبيّات الجهاد والنهضة التي ينبغي حسب سيرورة الأمر للمراقب أن تولد بعفويّة معها وأن تكون تحصيلاً بدهيّاً لتفاعل مكوّنات الروح العامّة لأيّ مجتمع مع واقعه، بسبب مؤسّسة انفصلت عن واجباتها بعد أن فُصلت عن واقعها.

إنّه الخطاب الإسلامي الواجب… و الغائب

المصدر: https://alfajrmg.net/2013/06/03/%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%B7%D8%A7%D8%A8-%D8...

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك