الفكر السياسي الإسلامي مدارسُهُ واتجاهاتُه

الدكتور رضوان السيد

 

يُعلنُ الكتابُ الذي وضعه النبي (ص) بيثرب " بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم – أنهم أمةٌ واحدةٌ من دون الناس … " (1) عن قيام الدولة الإسلامية . فهناك جماعاتٌ من الناس التقت على بقعةٍ من الأرض ، وتعاقدت على عيشٍ اجتماعي وسياسي واحد ، ووضعت وثيقةً تنظّم علاقاتِها الداخلية ، كما تُنَظِّمُ علاقاتِها الخارجية (2) .  بيد أنّ هذا المشروع كان له منذ البداية وجهان أو جانبان ، جانب إمارة المؤمنـين ، والمتعلّق مباشرةً بأولئك المتعاقدين ، وجانب الخلافة ، والمتعلق بالمهمات العالمية للإسلام ، وللدولة المرتبطة به . يدلُّ على ذلك تلقيبُ رئيس الدولة تلك نفسه بعد وفاة الرسول (ص) باللقبين ، ومخاطبة المسلمين له باللقب الأول ، لقب أمير المؤمنين ؛ بينما ارتبط اللقبُ الثانــي بالجهاد في عصــر الفتـــوحات والعــصور الـتي تلت (3) . فمنذ أيام عبد الملك بن مروان (65-86) يظهر على النقد المعرَّب لقبُ خليفة الله . ومنذ عصر الفتوحات يستشهد الفاتحون بآيات الإظهار والتمكين والاستخلاف والتوريث والوعد (4) . ويبدو أنّ الرؤى المختلفة للمشروع ومقتضياته كانت وراء الأفكار السياسية الأولى حول الدولة والسلطان ، وعلاقة السلطان بالأمة والمجتمع . فأمير المؤمنين عثمان يقول عنـدما ثاروا عليه وطلبوا منه الاستقالة : لا أنزِعُ قميصاً سربلنيه الله ! والصحابي حنظلة الكاتب يقول عندما اضطربت الأمور على عثمان (5) :

عجبتُ لما يخوضُ الناسُ فيه                  يرومون الخلافةَ أن تزولا

ولو زالت لزال الخيرٌ عنهم                       ولاقَوا بعدها شراً وبيلا

فالخلافةُ في هذا التصوُّر تتجاوزُ الإرادةَ العاديّة للناس ، بل – وكما ذكر الأمويــون فيــما بعد – تتجــاوزُ الشورى بالنظر لمهماتها العالـــمية والمهدويـــة (6) . بينما ظــلَّ الإمـــامُ عليٌّ (ومثله فيــما بــعد عمر بــن عبد العزيز ) يعتبرُ أنّ المسألةَ مسألةُ حكمٍ صالحٍ ومتواضع (7) : " الحكمُ لله وفي الأرض حكاّم . لا بُدَّ للناس من أمـيرٍ برٍ أو فاجر ، يضمُّ الشعث ، ويجمعُ الأمر ، ويقسم الفيء ،ويجاهدُ العدوَّ ، ويأخذ للقوي من الضعيف ، حتّى يريحَ بَرٌّ ويُستراحَ من فاجر " . ويقابل هذا التصور للسلطة ومهماتها وعلاقاتها برعاياها ، التصور الأُمويُّ الذي يعتبرُ الخلفاءَ " خلفاءَ الله " الذين ولاّهم الله " لإنفاذ حكمه وإقامة سننه وحدوده والأخذ بفرائضه وحقوقه … ودفعاً بهم عن حريمه ، وعدلاً بهم بين عباده وإصلاحاً بهم لبلاده …" (8) . وبذلك فإنّ الخلفاء إنما هم جزءٌ من نظام الكون القائم على الإخبات والطاعة . ولذلك فإنّ الذي يخرج على طاعـــة الخليــفة فإنمـــا يخرُجُ على طـــاعة الله عزَّ وجلَّ ؛ إذ يكون بــذلك قد " عصى ربّه، وخسِرَ دنياهُ وآخِرتَه … " . في حين يرى عمر بن عبد العزيز ويزيد بن الوليد ، وكلاهما من بــني أمية أنه ليست للــخلافة مهــماتٌ دينيــةٌ تجعل الخليفة يتـميز عن الرعيـــة . بل ويضيــفُ يزيدُ بنُ الوليد أنه لا خــلافةَ دونما شورى ومُبايعة (9) .لكنْ كما كانت هناك خلافاتٌ في وجهات النظر حول الخلافة والدولة وطبيعتهما ، وحول الشورى وحدودها ومن تتناول وعلائقها بأهل الحلّ والعقد ؛ كانت هناك اختلافاتٌ حول مفهوم الجماعة . فقد كان الأمويون يرون أنها الاجتماع على الإمام ؛ بينما كان آخرون يعتبرون الجماعة اجتماعَ الناس وائتلآفَهم وإجماعهم (10) .

والمعروفُ أنّ التبايُنَ في فهم ماهية السلطة ودورها ووظائفها ، والتي كانوا يعبّرون عن إساءة استخدامها بالاتهام بالتجبر في الدين  ، والظلم  في قسمة الفيء ، كان موجوداً ، وأفضى في كثيرٍ من الأحيان إلى ثوراتٍ وأسبــاب اضطراب . كما أنّ الصراعَ على السلطة للاختلاف حول صلاحيات أمير المؤمنين ، وواجبات الرعية وحقوقها أدى إلى الفتنة المعروفة على عثمان ، وظهور الأحزاب السياسية الدينية ، والتي أضيف إليها أيام الأُمويين والعباسيين الأوائل أحزابٌ أخرى ، وفِرَقٌ دينيةٌ وكلامية. وكانت تلك الفرقُ والأحزابُ جميعاً تمتلكُ رؤىً وبرامجَ سياسية بما في ذلك السلطة نفسُها أيام الأُمويين والعباسيين . فالأمويون كانوا يملكون رؤيةً للسلطة عبَّروا عنها عن طريق خطبائهم وشعرائهم وكتاّب ديوانهم .  والنصُّ الذي ذكرناهُ سابقاً مأخوذٌ من رسالةٍ للوليد بن يزيد ربما كتبها له عبد الحميد الكاتب أو سالم أبو العلاء ؛ وكلا الرجلين كان كاتباً بالديوان . ويذكر المؤرخون في معرض الحديث عن الثوار أن هذا الخارج أو ذاك وقف أو صعد على المنبر فقرأ عليهم سيرته . والمعنيُّ بالسيرة هنا برنامجه السياسي ، أو الأسباب التي يذكُرُها لمعارضته أو ثورته (11) .  ومع تبلور الاختلافات في مفاهيم الدولة وتدبير شؤون الناس ، بدأ كلُّ فريقٍ يعبِّر عن نفسه كتابةً . وظهرت مع الوقت ، وبعد منتصف القرن الثاني الهجري وما بعد الأجزاء الكلامية ودواوين الحديث والشعر ، وكتب التفسير ، ورسائل الإمامة ، والتي عُنيت جميعاً بالسلطة والدولة حسب وجهة نظر أصحابها . فكلُّ تفكيرٍ في الشأن العامّ هو تفكيرٌ سياسيٌّ . وكل تفكيرٍ سياسيٍ هو تفكيرٌ في السلطة والدولة . وسأُحاولُ فيما يلي من صفحات رَسْمَ خريطةٍ للمدارس والاتجاهات السياسية من خلال أدبياتِها السياسية عبر العصور الوسطى الإسلامية . 

I

أولى الكتــابات الــسياسية في الإسلام هي تلك التي ظهرت لدى كُتاّب الديــوان الأُموي ، وتمحـورت حول ثلاثة أشخاص هم سالم أبو العلاء ، وعبد الحميد بن يحيى الكاتب ، وعبد الله بن المقفَّع (12) . فقد وصل إلينا جزءٌ ضئيلٌ مما كتبه سالم أبو العلاء من رسائل عندما كان موظفاً رئيسياً في الديوان . ويقال إنه كان يعرفُ اليونانية ؛ وقد ارتبط اسمُهُ هو وعبــد الحميد بالرسائل المنحولة والمسمَّاة رســـائل أرسطو إلى الإسكندر (13) ، والتي نجدُ شذراتٍ كثيرةً منها في كتب الآداب السلطانية ، أو نصائح الملوك . والرسائلُ التي وصلتنا لعبد الحميد أكثرُ عدداً ، ومن أشهرها رسالته في الحرب لولي العهد ( عبيد الله بن مروان ) ورسالته في الصيد ( وتظهر فيها آثارٌ بيزنطية ) ، ورسالته إلى الكتاّب . ويقال إنه في هذا المحيط نشأ النثر الفني العربي . لكنّ همَّنا هنا قراءة الدلالات السياسية لتلك الرسائل . فلا شكّ أنّ رسائلَ الرجلين باسم الخلفاء هي رسائلُ رسميةٌ تمثل أيديولوجيا السلطة في صورتها عن نفسها ، وخطابها لرعيتها . لكنْ من جهةٍ ثانيةٍ فإنّ الرسالة في أدب الحرب تشبه أدبيات البيزنطيين في ذلك، وكذلك في الصيد . ثم إنّ هناك عبارات حتى في الرسائل الديوانية تظهرُ فيها فقراتٌ ملحوظة في الوقت نفسه في الرسائل المنحولة ، والمسمَّاة رسائل أرسطو إلى الإسكندر . فالترجماتُ عن اليونانية مبكّرةٌ ، ولا تقتصر على الطب والفلك والكيمياء ؛ بل تشمل الأدب السياسيّ أيضاً . والنوعُ الأدبيُّ الذي تنتمي إليه هو نوع مرايا الأُمراء Furstenspiegel  أو نصائح الملوك (14) . وهو نوعٌ أدبيٌّ قديمٌ عرفته الشعوب الآرية الغابرة : اليونان والرومان والفرس . وإذا كان سالم وعبد الحميد قد نقلا عن اليونانية أو تأثرا بالمأثورات عنها ؛ فإنّ ابن المقفع – الإيراني الأصل – كان فعلاً أكثـر تأثيراً في هذا المجــال ونقل عن الفهلوية كليلة ودمنة ، وكتاب التـاج ( في آداب الملــوك ) . كما ألّف الأدب الكبير ، ورسالة الصحابة في نفس المنحى تقريباً (15) . وقد انتشر فنُّ النصائح انتشاراً عظيماً في المشرق العربي الإسلامي الوسيط ، كما في أوروبا العصور الوسطى (16) . وتشكّل المؤلَّفاتُ فيه حوالي الـ 60% من مجموع التراث السياسي الإسلامي . وله إحدى ثلاث صِيَغ :

- صيغة الرسالة الموجهة من المعلِّم لتلميذه الملك أو الأمير . أو الوصية الموجهة من الملك إلى وليّ عهده . ومن ذلك رسائل أرسطو إلى الإسكندر ، وعهد أردشير ، والعهود اليونانية .. الخ .

-   وصيغة الحكاية على ألسنة الحيوانات . وتكونُ فيها حكايةُ إطار (باب الأسد والثور مَثَلاً في كليلة ودمنة ) ، وتتلو ذلك قصص وحكايات جزئية تعودُ دائماً إلى الحكاية الرئيسية . ومن تلك الحكايات لدى المسلمين ثُعلة وعفرة لسهل بن هارون ، وتداعي الحيوانات على الإنسان ، والأسد والغوّاص المجهولة المؤلّف .

-           وصيغة الكتاب المستقلّ في النصائح والمقسّم إلى فصولٍ وأبواب . تبلغ في أكثر الأحيان عشرين باباً . والمؤلَّفات بهذه الصيغة كثيرةٌ جداً . بيد أنّ أشهرها ، وربما كان هو المؤسّس في المجال العربي كتاب سرّ الأسرار  المنحول والمنسوب إلى أرسطو أيضاً ؛ والذي بقيت منه مئات المخطوطات بالعربية واللاتينية (17) .

تملكُ كتب النصائح هذه هدفاً معلناً هو إرشاد الأمير أو الملك إلى الأسلوب الذي يتمكنُ به من إرضاء رعيته وحكمها بالحُسنى بحيث يطول عمره وعهده . ورؤيتها للسلطة أنها منحةٌ إلهيةٌ وحظٌّ وكفايةٌ أيضاً . فكلّ سلطانٍ بالنسبة لها شرعيٌّ لا دالّةَ لأحدٍ عليه ؛ وإنما يُنصَحُ بسياساتٍ معيَّنةٍ من أجل استمرار مُلْكه . ولأنَّ أصل ذلك النوع هندو أوروبي ؛ فإنه كما يقول بتفرد الملك ليس لشيء إلاّ لأنّ سعادته أو جَدَّه أوصله للمُلْك ، يقول أيضاً بطبقية المجتمع أو انقسامه إلى طبقات أو عوامّ وخواصّ ، على الملك أن يسوس كلاً منها بما يلائمُها من سياسات .

وقد كان هذا النوعُ من التأليف ، بالإضافة إلى أدب الســمر أو كتب الأسمار والحكايات محبوباً ومألوفـاً للناس فيما يبدو ؛ ولذلك كثُر التأليفُ فيه . وهناك من يقول إنه أسَّس للاستبداد في التجربة التاريخية الإسلامية بسبب نظرته السالفة الذكر للسلطة والدولة (18) ! بيد أنّ الأمر مُبالَغٌ فيه ولا شكّ ؛ فهذه الكتب كانت للإطراف ، ولا أحسبُ أنّ أحداً خضع للسلطة اقتناعاً بما تقوله ؛ وهذا فضلاً عن أنّ الملوك في الأزمنة القديمة ما كانوا ينتظرون أن يُقنعهم هذا أو ذاك بأحقيتهم وعظمتهم وتفردهم . وتبقى إلى ذلك أسئلةٌ وإشكالياتٌ تتعلق بطبيعة جاذبية هذا الأدب المكرور ، وموقـــع المثقف الذي يصوِّرُ نفســه في هذه الأدبيات باعتبـــاره ناصحاً للسلطان أو مستشـــاراً له (19) ؛ ومدى حقيقية أو عملية هذا النوع الأدبي ما دام يمثّل تناسُخاً دائماً .

أما المؤلفون فكانوا في البداية من كتاّب الديوان ، أي موظفين رسميين . لكنهم فيما بعد صاروا من الأدباء والفقهاء والمعلِّمين وقُصّاد الأُمراء والمتقربين إليهم .

II

.. والمدرسةُ الثانيةُ من مدارس التفكير السياسي الإسلامي هي مدرسةُ الفلاسفة الإسلاميين الذين اتخذوا من أفلاطون في سياسياته أو مدينته الفاضلة نموذجاً لهم احتذوه (20) . والمعروف أنّ المتفلسفين المسلمين عرفوا مجموعة أرسطو الفلسفية منذ أيام الكندي ( - 252هـ) . وقد تُرجم منطق أرسطو قبل الكندي ، وانصرفوا طوالَ القرنين الثالث والرابع الهجري لترجمة سائر الأعمال الأرسطية وغير الأرسطية . وتأتي بعد الترجمة الشروحُ والجوامعُ والمختصرات . لكنهم عندما وصلوا إلى كتاب السياسة لأرسطو لم يجدوه ، أو لم يجدوا مخطوطةً له لدى البيزنطيين والسريان . لذلك عمدوا لترجمة جمهورية أفلاطون ونواميسه . واعتبروا أنّ الجمهورية مُغْنيةٌ عن سياسيات أرسطو . والذي يبدو أنه كما لم يُدركوا الاختلافات بين فلسفتي الرجلين ، فنسبوا أفلاطونيات منحولة إلى أرسطو ؛  كذلك فعلوا مع السياسيات التي رأوا وجودَ تطابُق بينها وبين الجمهورية المترجمة (21) . ولا شكّ أنّ أكثر من ألّف وشرح واختصر في الجانب السياسي كان الفارابي الذي له آراء أهل المدينة الفاضلة ، والسياسة المدنية وغيرها (22) . وللرازي وابن سينا رسائل في السياسة ، وكذا للبلخي ويحيى بن عدي وأبي سليمان المنطقي (23) . لكنّ الفارابي يبقى المعلِّم الثاني في السياسيات أيضاً ، يتلوه ابن رشد صاحب أفضل شرحٍ نعرفُهُ للجمهورية في العصر الوسيط (24) .

غايةُ السياسة لدى الفلاسفة الإسلاميين السعادة. وهي لا تتمُّ إلاّ في المدينة الفاضلة التي تسودُها الحكمة ، ويحكمها حكيمٌ أو فيلسوف . ومجتمع المدينة الفاضلة مجتمعٌ طبقيٌّ مثل مجتمع كتّاب مرايا الأُمراء . فالسعادةُ تتحقَّقُ بأن يسعى كلُّ امرىءٍ لتحقيق أقصى درجات الكمال التي تتيحُها طبقتُه . ورئيس المدينة متفردٌ بطبيعته وبحكمته لأنه يوشِكُ أن يكونَ عقلاً لصدوره عن العقل الفعّال . ويبدو أنّ الفلاسفة ماثلوا بينه وبين النبي ، وسمَّوه تارةً الإمام وطوراً السانّ أو الشارع (25) . ويربط الفلاسفة السياســة بالأخلاق ، لأنّ كتاب السياسة يأتي بعد كتاب الأخلاق عند أرسطو . والمؤلَّفات في السياسة أو الحكمة العملية عند الفلاسفة لــيست كثيــرة ؛ لكنــها واســعةُ التـــأثير لدى كُتاّب مرايا الأُمراء ، ولدى كُتاّب السَمَر ، وكتاّب الرسائل الأخلاقية (26) . وقد حاول بعضُ الكتّاب المحدثين الدفاعَ عن " أصالة " الفكر السياسي الفلسفي وبالذات عند الفارابي وابن رشد ، فقالوا إنهما تجاوزا أفلاطون ، وبَيَّئوا الكــتب التي ترجموها أو شرحوها . والواقع أنهم فعلوا ذلك ؛ لكنهم ظلوا يعتقدون أنهم النخبة لامتلاكهم الفلسفة الكلاسيكية . لكنْ يبدو أنّ تأثيرهم ظلَّ أضعفَ من تأثير كُتاّب مرايا الأُمراء .

III

.. والمدرسةُ الثالثةُ من مدارس الفكر السياسي الإسلامي هي مدرسةُ المتكلمين من أهل السنة . وهؤلاء في الأصل ليسوا من الكتاّب السياسيين ، ويبحثون في الأمور الاعتقادية ؛ والإمامةُ عند أهل السنة ليست من الاعتقاديات أو التعبديات بل هي من الاصطلاحيات أو الاجتهاديات (27) . لكنّ الشيعة انصرفوا للتأليف في الإمامة ، والردّ على خصوم الإمام علي ،  وإنكار شرعية الخلفاء الراشدين الثلاثة ، والتدليل على صحة النصّ والوصية . ولذلك فقد احتذى المتكلمون السنة حذوهم فعقدوا في كتبهم الكلامية فصلاً أخيراً للإمامة ردّوا فيه عليهم ، ودافعوا عن الشيخين ، ونفوا النصَّ والوصية . وكان منهم من زاد على ذلك البحث في وجوب الإمامة أو ضرورة السلطة ؛ كما كان هناك من أفرد الإمامة بالتأليف مثل الباقلاَّني (-403هـ ) الذي كتب في مناقب الأئمة راداً بشكلٍ مطوَّلٍ على الشيعة ، وذاكراً فضائل الشيخين وعثمان ، كما يذكر أولئك الإمام علياً وأولاده.  وما دام الأمر بهذه المثابة ؛ فهل يمكن اعتبارُ فصول المتكلمين في الإمامة فصولاً سياسية ؟

IV

... والمدرسةُ الرابعةُ من مدارس الفكر السياسي الإسلامي أو فقه السياسة في الإسلام هي مدرسةُ  الفقهاء . وقد بدأوا يتحدثون في السياسة في كتــبهم عَرَضاً في زمنٍ مبكرٍ مثل الحديث عن الجماعة ، وعن شرعية الراشدين ، وعن مدى شرعية الأُمويين . ولا ننسى أنّ الأئمة الأربعةَ كانت لهم مواقف من السلطــات الــقائمة ، كما رووا أحاديثَ في الطاعة ، والجماعة هم ومــؤلفو دواوين الحــديث النـــبوي المخــتلفة (28) . وقد ذكر الشافعــي (-204هـ ) في الرســالة أنّ الإمامَ ينبــغي أن يكـــونَ واحـــداً (29) . وذكر المحاسبيُّ (-243هـ ) في المكاسب شذراتٍ من رؤية الراشدين ، وضرورات الوحدة ، وطاعة الإمام ، وعدم الطاعة في معصية الخالق (30) . وكان الشافعيُّ قد سبق إلى عقدٍ بابٍ في الأُمّ لأحكام البُغاة ، وهم المعارضون السياسيون . لكنْ في عصر الشافعي والمحاسبي وأبي عُبيد القاسم بن سلاّم (-224هـ ) بدأ التأليف في السيَر والخراج والأموال ، وهذه جميعاً من السياسيات التي تدخَّل فيها الفقهاء . فقد كتب أبو يوســـف (-182هـ ) في الخراج لهارون الرشـــيد ، وقــدّم بمقدمةٍ قصيرةٍ في الطاعة ، والجماعة . وفعل الشيء نفسه أبو عبيد (-224هـ ) . لذا  فإنّ فكرة المشـــروعية وشروطها كانت وراء اتجاه الفقهـــاء للعناية بالفقه السياسي ، إلى أن ظهر الماوردي (-450هـ ) في الأحكام السلطانية ، وتسهيل النظر ، وقوانين الوزارة وسياسة المُلْك . وأبو يعلى (-457هـ ) الذي كتب في الأحكام السلطانية أيضاً . وإمام الحرمين الجويني (-478هـ ) الذي كتب غياث الأُمَم . وابن جماعة (-733هـ ) فيما بعد  والذي كتب "تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام " . ثم هناك كتاّب " السياسـة الشرعية " وأهمُّهم ابن تيمية (-661هـ ) وابن قيم الجوزية (-751هـ ) .

يعرّف الفقهاء الإمامة بأنها موضوعةٌ لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا (31 ) . ويذكرون أنها واجبةٌ بالعقل والنقل . ثم يتحدثون عن مواصفات الإمام ، وعن شروط عقد الإمامة ، وعــن الشورى وأهل الحلّ والعقــد ، وعن دواوين الدولة ووظائفها مثل الزكاة والأوقاف ، وعن الجهاد ، وقبل ذلك عن الوزارة بقسميها التفويض والتنفيذ . وهم بذلك يعتبرون التجربة السياسية الإسلامية مشروعةً بسبب أصلها من جهة ، ولأنّ أمة النبي (ص) لا تجتمع على ضلالة . ومع أنّ مؤلَّفات الفقهاء ليست كثيرة ؛ فإنها تركت آثاراً واسعةً وصارت هي مناط التفكير السياسي والتاريخي لدى المسلمين . فغرضُ النظام كلِّه كما عَبَّر عنه ابن خلدون : حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي .

***          ***         ***

أوضح ابن خلدون (-808هـ) أنّ للدول ثلاثة أشكالٍ رئيسية هي : الملك الطبيعي ، والملك السياسي ( دولة الفرس والروم مثلاً ) ، والخلافة الإسلامية (32) . وكان الماوردي (-450هـ ) قد تحدث في " تسهيل النظر" عن تأسيس الدين ، وتأسيس القوة ، وتأسيس المال والثروة (33) . فالشرعية الكاملة تتحقق في دولة الخلافة ، والدولة العقلية دولةُ ضرورةٍ لدى غير المسلمين ؛ أمّا دولةُ المال والثروة فباطلة من الأساس . أما كتاّب مرايا الأمراء فَعنوا بالسياسات العملية المؤدية إلى الاستقرار والنجاح ، ولم يبحثوا مسألة الشرعية ؛ في حين ماثلَ المتكلمون بين العقيدة والتاريخ ، وظلَّ المتفلسفون يؤكدون على سياسات المدينة الفاضلة . وقد كان المنتظر أن يشكل موظفو الدولة الكبار ؛ وقد كانوا مثقفين كباراً مدرسةَ الفقه الدستوري المعتبرة . بيد أنّ الواقع أنّ الفقهاء هم الذين تولَّوا هذه المهمة ؛ بينما تحول كتاّب الديوان إلى تسجيليين مثل صاحب صبح الأعشى وصاحب قوانــين الدواوين . وكان يمكن الحديث بشكلٍ أكثر تفـصيلاً عن فئــتين أخريين : فقهاء السياسة الشرعية ، وفقهاء الحسبة – وأنا أميل إلى إدخال هذه الكتب والرسائل بما في ذلك مؤلفات الخراج والسيَر ضمن مدرسة الفقهاء للاتفاق في الإشكالية : الخلافة والشرعية ؛ على أنّ ذلك يحتاج لدراسةٍ مستقلّة .

إنّ الاتجاهات التي ذكرناها هي الاتجاهات الرئيسية في الفكر السياسي الإسلامي .  وقد لا يصحُّ دائماً إطلاقُ اسم المدرسة على إحداها ؛ لكنها فعلاً اتجاهاتٌ تحكم كلاً منها إشكاليةٌ من الإشكاليات التي ذكرناها ، والتي يمكن دراستُها على أساسٍ منها . واستناداً إلى هذا الأساس أجريتُ هذا التصنيفَ الأولى .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)        انظر عن كتاب المدينة محمد حميد الله : مجموعة الوثائق السياسية للعهد النـــبوي والخلافة الراشدة ، دار النفائس ببيروت ، الطبعة السابعة ، 2001 ، ص ص 57-64 .

(2)        انظر عن المعاني الاجتماعية والسياسية للوثيقة أو الكتاب محمد سليم العوا : في النظام السياسي للدولة الإسلامية ، القاهرة 1989 ، ص ص 55 – 64 ، ورضوان السيد : الأمة والجماعة والسلطة ، بيروت 1985 ، ص ص 53-57 .

(3)        انظر عن الإشكاليات المتعلقة بذلك رضوان السيد : رؤية الخلافة وبنية الدولة في الإسلام ؛ في " الجماعة والمجتمع والدولة" ، بيروت 1997 ، ص ص 29-33 ، 93-104 . وقارن برؤية ابن خلدون لمسألة الألقاب في المقدمة ، م2 ، نشرة علي عبد الواحد وافي ، ص 262-264.

(4)        الجماعة والمجتمع والدولة ، مرجع سابق ، ص ص 23-26 .

(5)        تاريخ الطبري 1/3010-3011 .

(6)        أبيات عبد الله بن همّام السلولي في تاريخ الطبري 1/3355 ، والموفقيات ، ص 511 ، وتاريخ اليعقوبي 2/266 . وقارن بالاختلاف حول معنى الشورى ؛ رضوان السيد : الجماعة والمجتمع والدولة ، مرجع سابق ، ص ص 35-38 .

(7)        قارن برواياتٍ مختلفة لقول الإمام علي في المصنف لعبد الرزاق 1/150، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2/307، والكامل للمبرد 3/206.

(8)        النص من رسالة كتبها الوليد بن يزيد عام 125 هـ في البيعة لابنيه من بعده ؛ قارن بتاريخ الطبري 2/1725-1726 . ويرجّح إحسان عباس أنّ كاتب الرسالة سالم أبو العلاء ؛ قارن بإحسان عباس : عبد الحميد بن يحيى الكاتب وما تبقّى من رسائله ورسائل سالم أبي العلاء . بيروت 1988 ، ص ص 311-317 .

(9)        سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم ، ص 41 ، ومناقب عمر لابن الجوزي ، ص 75 ، ص 145 . وانظر عن يزيد بن الوليد ، تاريخ الطبري 2/1843-1845 .

(10)      قارن بالأمة والجماعة والسلطة ، مرجع سابق ، ص ص 38-42 .

(11)      قارن عن ذلك تاريخ الطبري 2/1687-1688 ، والأغاني 23/224 .

(12)      انظر عن سالم وعبد الحميد إحسان عباس : عبد الحميد الكاتب وما تبقى من رسائله ورسائل سالم أبو العلاء ، مرجع سابق ، ص 23 وما بعدها . وقارن بدراستي : الكاتب والسلطان : دراسة في ظهور كاتب الديـوان في الدولة الإسلامية ؛ في : الجماعة والمجتمع والدولة ، مرجع سابق ، ص 128 وما بعدها .

(13)      درسها Grinaschi  في BEO XIX, 1979

(14)      انظر دراسةً أوليةً عن " مرايا الأُمراء " لمحمد أحمد دمج : مرايا الأُمراء ، الحكمة السياسية والأخلاق والتعاملية في الفكر الإسلامي الوسيط ، مع تحقيق كتاب " قابوس نامه " ( النصيحة ) . بيروت ، 1994 . وقارن  G. Richter, Studien zur Geschichte des alteren arabischen Furstenspiegel (1932 ) .

(15)      قارن عن ابن المقفع ومؤلَّفاته : وفيات الأعيان لابن خلّكان 2/151-155 ، وعبد اللطيف حمزة : ابن المقفع ، القاهرة 1937 ، ص 144 ، وعبد الرحمن بدوي : من تاريخ الإلحاد في الإسلام ، بيروت 1980 ، ص ص 40-65 .

(16)      انظر عن ذلك Pseudo-Aristotle, The Secret of Secrets. Sources and Influences. London 1982 .

(17)      نشره الدكتور عبد الرحمن بدوي من مخطوطةٍ بعنوان : كتاب السياســة في تدبير الرياسة المعروف بسـر الأسرار ، القاهرة 1954 ؛ ضمن مجلد بعنوان : الأصول اليونانية للنظريات السياسية الإسلامية . وقارن بالدكتور إحسان عباس : ملامح يونانية في الأدب العربي ، ص ص 12-13 . وقد ذهب بدوي وعباس إلى أنه كان هناك صراعٌ بين التراثين اليوناني والفارسي في العصر الأموي في مجال الآدابيات السياسية ؛ وقد فاز فيه الفرس . لكنني لا أعرفُ شواهد على ذلك ؛ فقد كان عبد الحميد ( اليوناني الميول ؟! ) وابن المقفع ( الفارسي الميول ) يعملان معاً . وانظر عن النموذجين كتابي : الأمة والجماعة والسلطة (1985) ، ص ص 89-123 .

(18)      كمال عبد اللطيف : في تشريح أصول الاستبداد . قراءة في نظام الآداب السلطانية ، بيروت ، 1999.

(19)      قارن بالجماعة والمجتمع والدولة (1997 ) ، مرجع سابق ، ص ص 151-157 .

(20)      قارن بـ Erwin Rosenthal, History of Islamic Political Thought, 1953.

(21)      قارن عن ذلك تلخيص السياسة لابن رشد . ترجمة حسن مجيد العبيدي وفاطــمة الذهبي ، ومقدمة ليرنر للنشرة  الإنجليزية مترجمة (ص 51-60 ) . بيروت 1998 .

(22)      وله أيضاً كتاب الملة ونصوص أخرى ، وتحصيل السعادة ، وفصول منتزعة .

(23)      قارن برضوان السيد : ابن سينا المفكر السياسي والاجتماعي ؛ في : الأمة والجماعة والسلطة (1985) ، ص 201-222 .

(24)      إلى جانب ترجمة تلخيص ابن رشد أو جوامعه للجمهورية عن الإنجليزية من جانب حسن مجيد العبيدي ؛ قام أحمد شحلان بترجمة الكتاب عن العبرية مباشرةً ، ونشره بعنوان : الضروري في السياسة ، مختصر كتاب السياسة لأفلاطون ، بالتعاون مع الدكتور محمد عابد الجابري ، 1998 .

(25)      قارن بعبد السلام بنعبد العالي : الفلسفة السياسية عند الفارابي ؛ بيروت ، 1987 ، Miriam Galston, Politics and Excellence. The Political Philosophy of Alfarabi, 1990.

(26)      يحيى بن عدي : تهذيب الأخلاق ، بيروت 1968 ، وتهذيب الأخلاق لمسكويه ، بيروت 1966.

(27)      هكذا قال الجويني في الشامل والإرشاد ، والغزالي في الاقتصاد في الاعتقاد .

(28)      قارن برضوان السيد : الجهاد والجماعة وأهل السنة  في : الجماعة والمجتمع والدولة (1997) ، مرجع سابق ، ص ص 207-245 ، وبرنارد لويس : لغة السياسة في الإسلام . ترجمة إبراهيم شتا . دار قرطبة 1993 ، ص ص 139-160 .

(29)      الشافعي : الرسالة ، تحقيق أحمد شاكر ، 1940 ، ص 419 .

(30)      المحاسبي : كتاب المكاسب ؛ في مجموعة : المسائل في أعمال القـــلوب والجوارح . تحـــقيق عبد القادر عطا ، القاهرة 1971 ، ص 207-208 .

(31)      هذا تعريف الماوردي وتابعه عليه الآخرون .

(32)      قارن بمحمد عابد الجابري: العصبية والدولة . نشرة الدار البيضاء ، 1971 ، ص 302 .

(33)      الماوردي : تسهيل النظر وتعجيل الظفر ، تحقيق رضوان السيد ، الدار العربية للعلوم ، بيروت 1997 ، ص ص 212 –214 .

المصدر: http://www.ridwanalsayyid.com/ContentPage.aspx?id=83#.VzeC9LgrLIU

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك