النقد في الصراع السياسي

أحمد دعدوش

لماذا لا نتحمل النقد؟

يلخص لنا القرآن الكريم قصة وجودنا على هذه الأرض بصراع أولي بين الإنسان والشيطان، انتهى إلى صراع مع النفس ذاتها. فبعد أن أخطأ كلاهما، راجع آدم نفسه واستغفر ربه فتاب عليه، أما الشيطان فتحدى ربه، وقال “بما أغويتني” فعاقبه.

وما زال هذا الصراع الوجودي قائما حتى اليوم، وما زال الشيطان يبذل جهده لإغواء بني آدم بكل الشهوات، كما لا يزال باب التوبة إلى الله مفتوحا لكل من يراجع نفسه مهما كان خطؤه فاحشا، ولن يُحرم إلا صنف واحد من الناس وصفه القرآن بقوله “وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد” [البقرة: 206].

وإذا كان التكبر والتشبث بالرأي قد أودى بإبليس إلى هذا الغي، وأضل به حشودا من بني آدم ليقودهم إبليس إلى النار، فلا يخفى على عاقل ما ينتج عن هذا السلوك من أمراض نفسية اجتماعية تمس تفاصيل حياتنا كل يوم.

لقد تخطى الغرب الكثير من تبعات هذا التعصب، فبعد الضربات القاسية التي قام بها رواد الثورة الفرنسية وما بعدها ضد الكثير من المقدسات الدينية والسياسية والاجتماعية، استقر الأمر بعد قرون من الشد والجذب على التقبل النفسي للنقد وللآلية الديمقراطية واحترام الآخر مهما كان مختلفا.

ومن الملفت أن نرى اليمين المتطرف، وحتى النازية الجديدة والحركات الفاشية، ما زالت موجودة في الساحة السياسية بمعظم الدول الغربية، بل نجدها تمارس اللعبة الديمقراطية لتصل إلى السلطة والإعلام بالرغم من قيامها أساسا على عقلية شمولية متعصبة.

وربما تمثل الإدارة الجمهورية اليمينية في عهد بوش الابن مثالا صارخا لهذا التوجه، فالرئيس الذي نشأ في بيئة ريفية بولاية تكساس ولم يكن ليطمح إلى السياسة لولا تراث عائلته، والذي كان عقله مشبعا بالتعصب الديني والعسكري، كان -في رأيي- من أقدر الرؤساء على امتصاص النقد ببراعة، حتى قيل إنه أكثر رؤساء الولايات المتحدة تعرضا للنقد والسخرية في وسائل الإعلام والسينما، غير أنه مع ذلك لم يكترث لنقاده وانشغل بتنفيذ مشروعه الإمبريالي، وربما الصليبي على حد تعبيره.

صدمة حضارية

في المقابل، ما زال العرب يعيشون حتى الآن صدمة حضارية لم يستيقظوا منها منذ انهيار الخلافة، فلم يعرفوا طعم الحرية منذ عقود، وكانوا لا يلبثون أن يتخلصوا من اضطهاد حتى يرزحوا تحت احتلال أو استبداد، حتى جاءت النكسة لتدفن كل طموحاتهم.

ومع أن جيل اليوم انتفض في ربيع عربي مفاجئ، فربما ما كان ليفعل لولا أنه نشأ في ظل الإعلام الجديد وثورة المعلومات بعيدا عن تربية التخاذل والشك والانهزام، وهو لا يزال مثقلا بتراكم عبء الأجيال السابقة لقلة خبرته بتقبل الآخر.

وبعد سنتين من اندلاع الثورة السورية، وعندما أستعرض اليوم التسلسل التاريخي لأنشطة ومؤتمرات المعارضة وما تعرضت له من انشقاقات وانسحابات وخلافات منذ مؤتمرها الأول في أنطاليا، وذلك بالرغم من ضريبة التشتت الدامية وسخرية العالم، فإني لا أتفاءل كثيرا بأن يتفق يوما أقطاب المعارضة من الجيل الذي اعتاد التشكيك والحذر طوال حياته، وقد رأيت بنفسي في جلساتهم المغلقة، وضيقهم بأي نقد مهما كان بناءً، وخصوصا عندما يصدر عن الشباب الذين يحملون العبء الأكبر من الثورة حتى لو كانوا من التيار نفسه.

قد تعود هذه المشكلة إلى عدم اهتمامنا أصلا بالتربية الاجتماعية والسلوكية والتطوير النفسي، فجميع الحركات والتنظيمات والأحزاب السياسية كانت منشغلة طوال عقود بالتربية الحركية والفكرية، وربما اقتصرت تربيتها النفسية على تلقين النشء مبادئ الولاء للقادة لا أكثر.

لكن هذه المبادئ لم تجد قبولا لدى الجيل الذي أشعل الثورات مؤخرا، فهناك ظاهرة خطيرة تنتشر اليوم مفادها تمرد الشباب على كل ما يمت إلى المفكرين والمشايخ بصلة، وأصبحنا نسمع الكثير من الدعوات إلى الاستغناء عن المفتين والعلماء، مما أدى لظهور فتاوى عجيبة من قبل الثوار والمجاهدين في ظل انهيار الثقة بعلماء الجيل السابق ودعاته، وخصوصا مع تواطؤ بعض كبار المشايخ مع النظام أو صمت وتأخر البعض الآخر.

التيار الإسلامي

وتبدو مشكلة الانقطاع بين الأجيال والحساسية من النقد أكثر وضوحا بين الإسلاميين للأسف، وقد يكون لتداخل الشأن الديني بمثيله السياسي والشخصي والحركي لدى بعضهم دور كبير في ذلك، إذ نرى قدرة العلمانيين على استفزازهم السريع بمجرد إطلاق لسانهم بالسخرية من رموزهم أو تدينهم -وليس دينهم- حيث تتداخل في أذهان الكثيرين قداسة الدين مع وقار المتدين، فتغدو الإساءة للمتدين تعديا مفترضا على الدين مما يستلزم الاستنفار.

وهذا التداخل هو ما يسعى إليه العلمانيون ويسلطون عليه أضواءهم لانتقاد الفكر الإسلامي السياسي برمته، وقد بات أيضا محل نقد من قبل الجيل الصاعد المنفتح على قيم التعددية حتى لو كان متدينا، فلم يعد من المقبول اليوم تترس أحد من النقد بأي حجة، سواء كان رمزا للدين أو بطلا للمقاومة.

ومع وصول الإسلاميين للسلطة في مصر، ظهرت هذه المشكلات بوضوح أكبر في الشهور الأخيرة، فبعد أن أقر العلمانيون طوال عقود بأن الإسلاميين كانوا أكثر الناس تعرضا للاضطهاد على يد الطغاة، سرعان ما انقلبت الصورة الذهنية لدى نسبة كبيرة من المواطنين ليصبح الإسلاميون هم ممثلي الوجه الجديد للاستبداد، وقد استعان خصومهم المسيطرون على الإعلام بهفوات لا تحصى لترسيخ هذه الصورة في العقل الجمعي، بالرغم من التنازلات الكثيرة التي يقدمها الإسلاميون.

وبنظرة سريعة على وسائل الإعلام الجديد والبرامج الحوارية (توك شو) المصرية، سنجد كمّا هائلا من النقد للإسلاميين ولحركاتهم وأحزابهم وأفكارهم وسلوكهم بقدر غير مسبوق، وهو نقد متنوع بطبيعة الحال، وإن غلبت عليه السخرية اللاذعة، وقد لا يبرئه أحد من تهمة التحيز.

وهذه هي طبيعة السياسة في العصر الحديث، فالنقد والتقريع والسخرية باتت من مستلزمات الصراع السياسي في كل الديمقراطيات الحديثة، إذ تكاد لا تخلو صحيفة أو شبكة تلفزيونية في الغرب من مساحة مهمة للكاريكاتير والبرامج الكوميدية التي تخصص جزءا كبيرا من نقدها للسياسيين، وقد اعتاد السياسيون في المقابل على تجاهل هذا النقد والسماح له بامتصاص استياء الناس من أخطاء السياسة كوسيلة للترويح.

لكن يؤسفنا أن يضيق صدر بعض الإسلاميين بهذا النقد مهما كان لاذعا، وحتى لو كان ضمن حملة منظمة لتشويه صورتهم وإقصائهم، فإن قبول الإسلاميين بدخول لعبة السياسة عن طريق المنافسة الديمقراطية يلزمهم بقبول كل هذه التبعات، وعليهم أن يدركوا جيدا عبء حمل هذه الأمانة وما تقتضيه من تحمل لقدر هائل من السخرية والنقد، كما فعل كل الأنبياء.

وبما أنهم رضوا بتداول السلطة وفقا للآلية الديمقراطية وبالتعرض لكل تبعاتها، فلن يعذرهم خصومهم إن حملوا النقد على محمل السخرية من الدين نفسه، لأن كل من يدخل عالم السياسة سيتساوى مع الآخرين، ولا حصانة لأحد بحجة تدينه.

ويستدعي الكثيرون الآية التي نزلت في من سخروا من النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته بغزوة تبوك عندما حكمت بكفرهم “لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم”، لكن تدبر الآية يستدعي التوقف عند الخيط الرفيع الفاصل بين السخرية من الدين ورموزه وبين السخرية من الأشخاص.

وحتى لو حكمنا بكفر من يسخر من الإسلاميين، فإن ظروف المرحلة تستدعي أخذ الأمر على محمل السخرية السياسية لا أكثر، وأن يظل الرد محدودا في ساحة السياسة والإعلام دون نقله إلى ساحة القضاء والإفتاء، وهذا كله مستفاد من براعة النبي صلى الله عليه وسلم السياسية في التجاوز عن بعض الأخطاء التي لا تضر بكيان الدولة، ومن ذلك قوله لعمر بن الخطاب “معاذ الله أن تتسامع الأمم أن محمداً يقتل أصحابه” [أحمد]، وكذلك تساهله مع مزاح النعيمان بن عمرو الذي بلغ حد الكذب والإساءة في حق صحابي شهد بدراً، فظل يضحك منه عاما كاملا بدلا من محاكمته.

ومع تواصل الصراع الدموي في سوريا، وتزايد التساؤلات بشأن المستقبل السياسي للبلد الذي لم يعرف إلا الاستبداد البعثي والاضطهاد للإسلاميين، أعتقد أن المسؤولية ستكون مضاعفة على إسلاميي سوريا، فهم لم يخوضوا تجربة سياسية تذكر منذ عقود، كما أنهم يقودون اليوم قتالا عسكريا عنيفا دون أي منافس في الميدان، وسيأتي يوم يضطرون فيه لإلقاء السلاح والتنافس الحر على أصوات الشعب، وربما سيكون عليهم أيضا تحمل أخطاء من سبقهم من زملائهم إلى السلطة في دول الربيع العربي، فهل سيتعلمون من أخطاء من مهدوا لهم الطريق؟ وهل سيخرجون من ساحة المعركة بصدر أرحب لاستيعاب نقد وتجريح خصومهم أم أن طبع المحارب سيغلب على نفوسهم في المرحلة المقبلة؟.

المصدر: https://alfajrmg.net/2013/05/05/%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%82%D8%AF-%D9%81%D9...

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك