التغيير في خطاب الخلاف وآدابه

د. محمد خلف الشهاب

سنتحدث عن التغيير في الخطاب وأدب الاختلاف، حيث نحاول من خلالها الربط بين مفهوم التغيير الإيجابي وموروثنا الذي نعتمد عليه في أدبياتنا وأفكارنا ومشاريعنا المستقبلية، و بين الأدب في الاختلاف مع الآخر.

 

فمما لا شك فيه أن الأمة الإسلامية اليوم تعيش مرحلة تحول تاريخية ستتدارسها الأجيال، وتقتبس منها الحضارات والأمم، في انتفاض الشعوب العربية على جلاديها للوصول للحرية المنشودة التي كانت العامل المشترك بين الشعوب العربية المنتفضة.

فالمتابع لطبيعة التحولات التي تعصف بأمتنا على مستويات عدة، يلحظ أن هذه التحولات طالت النفوس والطبائع والقناعات والأفكار، وحتى المشاريع الخاصة والعامة في حياة الكثير من أبناء الأمة، ولم تنل فقط من طبيعة الأنظمة التي تغيرت أو تتغير أو ما تزال تنتظر دورها القريب للتغير مهما حاولت مقاومته والتهرب منه، وذلك لأن التغير طرأ على نفوس الكثير من أبناء هذه الشعوب والمنطقة بشكل لافت ملاحظ.

وهنا وجب على أبناء الأمة الأخاير -وخاصة من مفكريها ودعاتها- التماس أفضل الخطاب وأطايب الكلمات للتودد لأبناء الأمة من مختلف الأفكار والتيارات، بعيداً عن مصطلحات التكفير والتشهير والتجريم والإساءة، تحت عنوان احتكار الحقيقة أو الدين والتحدث باسمه، فالشعوب تزداد وعياً يوماً بعد يوم وستغدو قادرة على تقييم مدى تطابق الشعارات بالأعمال والتصرفات وبواقع حياتها التي تعيش حتى تصل لمرحلة البحث عن البديل للتيار الإسلامي الصاعد، وهذا ما لا نرجوه ولا نريد الوصول إليه.

الخلاف والاختلاف: 

إن من أخطر ما أصيبت به أمتنا من مصائب النفوس هو الاختلاف، الاختلاف في كل شيء، حتى شمل الأذواق والسلوك بل تجاوز ذلك ليطال الأفكار والتصورات والآراء وحتى العقائد. وتعدى الاختلاف كل ذلك حتى بلغ أساليب الفقه وفروض العبادات، وكأن كل ما لدى أمتنا من أوامر ونواه يحثها على الاختلاف أو يدفعها إليه، في حين أن الحقيقة عكس ذلك تماماً؛ حيث لم يؤكد القرآن الكريم أو السنة النبوية المهداة على شيء بعد التوحيد أشد من تأكيده على وحدة الأمة الإسلامية ونبذ الاختلاف بين أبنائها، بل عمل على معالجة كل شيء من شأنه أن يعكر صفو العلاقة بين المسلمين أو يخدش أخوة المؤمنين من أساسها.

وقد حاول الكثير من علماء الأمة ومفكريها التفريق بين مصطلحي الخلاف والاختلاف، حتى إن بعضهم جعل أحدهما محموداً والآخر مذموماً، ولكن غالب الظن أن أحدهما مدخل للآخر، وهو أمر فلسفي وربما مصطلحي بحت ليس هذا موطنه. ولمزيد من التوضيح والتبصر سننقل تصوراً ميسراً عن أنواع الخلاف لعله يهيئنا لمزيد من البحث في الأمر، حيث يتسع بابه كلما اتسع الحديث فيه.

أولاً: خلاف مرده هوى النفس وشهوتها: قال تعالى: “ولا تتَّبِع الهوَى فيُضلَّكَ عن سبيل اللهِ” [ص: 26].

ومن نعم الله تعالى علينا أنه يكشف للعبد مدى ارتباط مذاهبه وأفكاره ومعتقداته بهوى نفسه، قبل أن تهوي به في مزالق الهوى والضلال -إن هو بحث أو حرص على التجرد للوصول إليها- حتى يضيء الله مشاعل الإيمان في قلبه فيكتشف زيف تلك الأفكار أو المعتقدات، ذلك لأن حسنها في نفسه لم يكن له وجود حقيقي، بل هو وجود ذهني أو خيالي خادع! وهذا النوع من الخلاف هو الذي نحذر منه، ووجب على كل منا أن يربي نفسه وأهله على تجنبه والفرار منه فرار الصحيح من المجذوم، وإلا وقعنا في المهالك وكنا من المجادلين المرائين لا سمح الله.

ثانياً: خلاف مرده الحق: قال تعالى “ادعُ إِلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسنُ” [النحل: 125].

وهذا النوع من الخلاف لا يكون للنفس فيه حظ أو عليه سلطان من الهوى، فهو خلاف أملاه الحق، ودفع إليه العلم واقتضاه العقل. فمخالفة أهل الإيمان لأهل الكفر والشرك والنفاق خلاف واجب لا يمكن لمؤمن مسلم أن يتخلى عنه، أو يدعو لإزالته لأنه خلاف سداه الإيمان ولحمته الحق. وكذلك اختلاف المسلم مع أهل العقائد الكافرة والملحدة، كاليهودية والنصرانية والوثنية والشيوعية.

ولكن الاختلاف مع أهل تلك الملل وهذه العقائد لا يمنع من الدعوة إلى إزالة أسبابه بدخول الناس في دين الله أفواجا، وتخليهم عن دواعي الخلاف من الكفر والشرك والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق والإلحاد والبدع والترويج للعقائد الهدامة. وليس هذا موضوعنا ونقطة بحثنا في مقالتنا هذه.

ثالثا: خلاف يتأرجح بين الخير والشر أو بين المذح والذم: وأمثلة هذا التقسيم كثيرة ومتشعبة في مناح عدة، كاختلاف العلماء في انتقاض الوضوء من الدم الخارج من الجرح، والقيء المتعمد، وهذا النوع من الاختلاف مزلة الأقدام.

ومن أنواع هذا الخلاف أو الاختلاف هو ما يجري بين سياسيين، كل يرى الحق معه وفي وجهة النظر التي يطرحها، فمنهم صادق مخلص لوطنه ودينه ومنهم غير ذلك، إذ يمكن فيه أن يلتبس الهوى بالتقوى، والعلم بالظن، والراجح بالمرجوح والمردود بالمقبول، ولا سبيل إلى تحاشي الوقوع في تلك المزالق إلا باتباع قواعد يحتكم إليها في الاختلاف، وضوابط تنظمه، وآداب تهيمن عليه، وإلاّ تحول إلى شقاق وتنازع وفشل، وهبط المختلفان فيه عن مقام التقوى إلى درك الهوى، وسادت الفوضى، وفُتحت للشيطان أبواب لا توصد إلا بالعود عن هذه الخلافات.

وحتى نخرج مما تقدم بخلاصة عن أدب الخلاف أو الاختلاف نوجز نقاطا سريعة يجب علينا أن نعيها ونفهمها ونمتثل لها، وأبرز هذه النقاط هي:

• التجرد لله عز وجل في الأفكار والمعتقدات والآراء والمواقف، لتكون عامل ضبط وكبح لهوى النفس وشهوتها.

• تجنب الخوض فيما لا ينفع النفس والفكر والدين والعلم والعمل والأمة، فغير ذلك يعد من الجدال المنهي عنه.

• أن يكون الخلاف مبنيا على العلم بالشيء، وأن لا يكون المراد منه مخالفة الآخرين لأجل المخالفة:

قل للذي يدعي علما ومعرفة .. علمت شيئا وغابت عنك أشياءُ

• التزام آداب الإسلام من انتقاء أطايب الكلم وتجنب الألفاظ الجارحة بين المختلفين مع حسن استماع كل منهما للآخر وعدم الجلوس في مجلس يساء فيه لله ورسوله والمؤمنين.

وفي نهاية مقالتنا هذه نؤكد على أركان يستوجب تكاملها لتجنب الخلاف والاختلاف، أولها الفهم والإخلاص والعلم والتجرد، وليس آخرها البحث عن الحق والحقيقة والتطوع له.

المصدر: https://alfajrmg.net/2013/03/21/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%BA%D9%8A%D9%8A%D8%...

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك