مصادر الفكر السياسي الخلدوني

الدكتور رضوان السيد

 

حدَّد ابن خلدون مشروعَهُ في مستهلّ مقدمته بأنه يريد من ورائه استقصاء (أخبار الجيلين اللذين عمروا المغرب في هذه الأعصار، وملآ أكنافَ الضواحي منه والأمصار، وما كان لهما من الدول الطوال أَو القِصار، ومن سلف لهما من الملوك والأنصار- وهما العربُ والبربر)(1)؛ وعلَّل سبب اهتمامه بهما بأنهما (الجيلان اللذان عُرف بالمغرب مأواهُما، وطالَ فيه على الأحقاب مثواهُما، حتى لا يكاد يُتصوَّرُ عنه مُنتواهُما، ولا يعرفُ أهلُهُ من أجيال الآدميين سِواهُما)(2).

ويمكن القول بأن اكتناهه لأخبار هذين الجيلين وراء نظريته في العصبية وعلاقتها بالدولة، كما علاقتها بالدعوة الدينية. بيد أنّ المشروع اتّسع بين يديه فيما بعد، ولجهتين: لجهة المضمون، ولجهة المنهج. أمّا لجهة المضمون؛ فإنه عندما جاء إلَى المشرق، ضمَّ إلَى أخبار الجيلين تاريخ وأعمالَ جيلٍ ثالثٍ هو جيلُ التُّرك، أَو كما قال: (أفدْتُ ما نقصني من أخبار ملوك العجم بتلك الديار، ودول التُّرك فيما ملكوه من الأقطار..)(3).

وأمّا لجهة المنهج؛ فقد تجاوز الأَمرُ التوسُّعَ إلَى رؤيةٍ أُخرى للعالَم سمّاها (العمران البشريَّ والاجتماعَ الإنساني)(4).

و(ما يَعْرِضُ فيه من العوارض الذاتية، ومن المُلْك والسلطان والكسْب والمعاش والصنائع والعلوم وما لذلك من العِلَل والأسباب)(5).

وبذلك يُصبحُ علمُ التاريخ ليس قصّاً لأحداثِ حيوات الأجيال الثلاثة التي تَتَبَّع ابن خلدون مسارَها التاريخي أَو أعمالَها في إنشاء المجتمعات والدول في التاريخ؛ بل هو في الأساس: (خبرٌ عن الاجتماع الإنساني الذي هو عُمرانُ العالَم، وما يعرضُ لطبيعة ذلك العُمران من الأحوال، مثل التوحُّش والتأنُّس، والعصبيات وأصناف التغلُّبات للبشر بعضِهِم على بعض، وما ينشأُ عن ذلك من المُلْك والدول ومراتبها، وما ينتحلُهُ البشرُ بأعمالهم ومساعيهم من الكسْب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدُثُ في ذلك

العُمران بطبيعته من الأحوال)(6).

العُمرانُ هذا بحسب ابن خلدون، له طبائعُ أَو قوانين تجري عليها أحوالُهُ التي ذكر بعضَها في عبارته السالفة الذكر. وهكذا تكونُ مقولةُ (الإنسان مدنيٌّ بالطبع) مثلاً قانوناً من قوانين العُمران، وكذلك مقولة الدولة، ومقولة المدينة، ومقولة العصبية.. إلخ. بيد أنّ هذه المقولات ليست متساويةً من حيث الأهمية في فهم العُمران أَو الاجتماع الإنساني. وهنا يستعين ابن خلدون لإيضاح ما يقصِدُهُ بثقافته الأصولية، أي باللجوء لاعتبار المقاصد(7).

والمعروف أنّ مُعاصِرَهُ الفقيه المالكيَّ أبـا إسحاق الشاطبي (ت. حوالي790هـ) قد قسّم المقاصدَ أَو الغايات التي أُنزلت الشرائعُ لصونها إلَى ضروريات وحاجيات وتحسينيات(8).

وبذلك تَكُونُ لعلم التاريخ، أي علم العلوم كلّها لأنه علمُ العمران الإنساني، ثلاثُ وظائف:الكشف، والفهم، والتقدير. في الكشف تجري مُعاينةُ الواقعة، وفي الفهم يجري النظرُ في تجريدها وصولاً لقراءتها قراءةً صحيحة، أي تبيان علائقها بطبائع العُمران، وفي التقدير تجري المُقايسة ويجري الاعتبار(9) بحثاً عن الإمكانات المستقبلية. يقول ابن خلدون إنه في الأخبار عن الواقعات لا بُدَّ من اعتبار المطابقة والمطابقةُ هنا ذهنية، وتهدُفُ إلَى إلحاق الواقعة أَو الحدث بإحدى خانات طبيعة العمران، أَو رفضها لمخالفتها لتلك الطبيعة، أي أنّ الخبر عن واقعةٍ ما يمكن أن يتمثّلَها بوصفها من مقتضيات العُمران أَو حالاته أَو عوارضه أَو لوازمه أَو لواحقه فيقبلها، أَو يعتبرها بناءً على المقياس السابق (الذي يعتبرُهُ تجريداً استقرائياً طبعاً) من مضادات طبيعة العمران، فيرفضها. يقول ابن خلدون: (إنّ القانونَ في تمييز الحقّ من الباطل في الأخبار بالإمكان والاستحالة أن ننظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران، ونسمّي ما يلحقُهُ من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه، وما يكونُ عارضاً لا يُعتدُّ به، وما لا يمكنُ أن يَعرِضَ له. وإذا فعلْنا ذلك، كان ذلك لنا قانوناً في تمييز الحقّ من الباطل في الأخبار، والصدق من الكذب بوجهٍ بُرهانيٍّ لا مدخل للشكّ فيه)(10).

إنّ اعتقاد ابن خلدون في طبائعيته القوية - أنه إنما يُنشئُ علْماً برهانيّاً، هو موضعُ النظر في هذه المقالة. إذ ليس المقصود بمصادر فكره السياسي الكتبَ التي اقتبس منها وحسب. فما دام التاريخُ خبراً عن البشر، فليست هناك طريقةٌ لولوج رحابه إلاّ التوسُّل بالأخبار المدوَّنة عن الواقعات. وهو يقتبسُ كثيراً بالفعل؛ لكنه لا يهتمُّ بذكر مصادر ومراجع اقتباسِه غالباً إلاّ إذا كان يُريدُ الإنكارَ لها أَو عليها(11).

فبناءً على ذلك المقياس الصارم، أي وجود الطبيعة أَو الجوهر الكامن وراء كلِّ ما في العالم، تُصبح الظواهرُ الإنسانيةُ التي هي موضوعُ علم التاريخ - مثلَ الظواهر الطبيعية. وابنُ خلدون لا يخشى الاتّهامَ بالجبرية في هذا السياق؛ إذ يصرّح بأنّ العمران والدولة هما بمثابة الصورة، والوقائع والأحداث أَو الظواهر هي بمثابة المادّة(12). ولا مُشْكلةَ لديه بوصفه فقيهاً وعالماً أشعرياً؛ لأنّ الله –سبحانه- هو خالقُ هذا الكون، وسانُّ طبائعه وقوانينه، ولذا فإنّ الدين الإلهيَّ يتضح مع آثاره في عالم الإنسان في الصورة والمادّة معاً وبمشيئة الله تأثيراً وتأثُراً(13). ولا شكَّ أنّ هذا المخرجَ الشكليَّ الذي يقترحُهُ للخروج من مُشكل علائق الدين بالاجتماع الإنساني ليس أكبر قضاياه؛ بل أكبرُها بالتأكيد مسألة العمل الإنساني مبادرةً وحدوداً وآفاقاً وحرية. وكما سبق القول، سوف نتتبَّعُ تأثير هذه الرؤية للعالَم والتاريخ عنده، على جدليات العلائق مع مصادره الفكرية والتاريخية في قضيتين كُبريين ذَوَي مغزًى سياسيٍّ هما مقولةُ: العُمران البشري والاجتماع الإنساني الذي اعتبره (علماً مُستنبَطَ النشأة)(14)، أي أنه هو الذي أبدعه. وقضية الصيغة الإسلامية للملك، أي الخلافة أَو الإمامة.

أولاً: الاجتماع الإنساني والمُلْك: يقول ابن خلدون: (وهذا الفنُّ الذي لاحَ لنا النظرُ فيه، نجدُ فيه مسائلَ تجري بالعَرَض لأهل العلوم في براهين علومهم، وهي من جنس مسائله بالموضوع والمطلب، مثل ما يذكره الحكماء في إثبات النبوة.. ومثل ما يُذكَرُ في أصول الفقه.. أنّ الناسَ محتاجون للعبارة عن المقاصد بطبيعة التعاوُن والاجتماع.. ومثل ما يذكُرُهُ الفقهاءُ في تعليل الأحكام الشرعية بالمقاصد..)(15). هذه هي الفئةُ الأولى، وهم علماءُ الدين، والذين يرى ابن خلدون أنهم تناولوا بالعَرَض جزءًا من مسائل العلم المُقْبل على التأسيس له. أما الفئةُ الثانية فهم الذين يسمّيهم الحكماء، أي الفلاسفة. يقول: (وكذلك أيضاً يقعُ إلينا القليلُ من مسائله في كلماتٍ متفرقةٍ لحُكماء الخليقة لكنهم لم يستوفوه. فمن كلام الموبذان لبهرام بن بهرام في حكاية البُوم التي نقلها المسعودي: إنّ المُلْك لا يتم عزُّه إلا بالشريعة.. ولا قِوَامَ للشريعة إلاّ بالمُلْك، ولا عزَّ للمُلْك إلاّ بالرجال، ولا قِوامَ للرجال إلاّ بالمال، ولا سبيل إلَى المال إلاّ بالعِمارة، ولا سبيل إلَى العمارة إلاّ بالعدل. والعدلُ الميزانُ المنصوبُ بين الخليقة..)(16). ثم ينقُلُ عن المسعودي أيضاً كلاماً مُشابهاً منسوباً لكسرى أنوشِروان(17)؛ إلَى أن يأتي على ذكر الكتاب المنسوب لأرسطو في السياسة، كما يقول: (والمتداوَل بين الناس جزءٌ صالحٌ منه، إلاّ أنه غيرُ مستوفٍ ولا مُعطًى حقَّه من البراهين ومختلطٌ بغيره. وقد أشـار في ذلك الكتـاب إلَى هذه الكليـات التي نقلناها عن الموبـذان وأنوشِروان، وجَعَلَها في الدائرة الغريبة التي أعظمَ القولَ فيها، وهي قوَلُه: العالمُ بستانٌ سياجُهُ ُالدولة، الدولةُ سلطانٌ تحيا به السنة، السنة سياسةٌ يسوسُها المُلْك، المُلْك نظامٌ يَعْضِدُهُ الجند، الجندُ أعوانٌ يكفلُهُم المال. المالُ رزقٌ تجمعُهُ الرعية. الرعيةُ عبيدٌ يكنُفُهُم العدل. العدلُ مألوفٌ وبه قِوامُ العالَم. العالمُ بستانٌ.. ثم يرجعُ إلَى أول الكلام..)(18). ويتلو ذلك رسمُ دائرة منقولة عن الكتاب المنحول والمنسوب لأرسطو تحت اسم: (سرّ الأسرار) أَو (السياسة في تدبير الرياسة)، ويعلّقُ بأنها ثماني كلمات حِكْميِّة سياسية ارتبط بعضُها ببعض، لكنْ لا براهينَ عليها، ويقول: إنه فَعَلَ ما هو أفضلُ من ذلك بكثيرٍ في فصول مقدمته عن المُلْك والدول، وهو علمٌ أطْلعه الله عليه من غير تعليم أرسطو ولا إفادة موبذان.

أمّا الفئةُ الثالثةُ التي يرى ابنُ خلدون أنها قاربتْ موضوعَ العُمران دون أن توفّيه حقَّه فهي تلك التي يسمّيها الدارسون فئة كُتاّب (مرايا الأُمراء) أَو (نصائح الملوك)، وهو يذكُرُ من أعلامِها كلاًّ من ابن المقفَّع في الأدب الكبير وربما اليتيمة، وأبي بكر الطرطوشي صاحب كتاب سِراج الملوك. أما ابنُ المقفع فمأخذُهُ عليه أنه يوردُ المسائل على منحى الخطابة في أسلوب الترسيل وبلاغة الكلام. وأمّا الطرطوشي فلأنّ كتابَهُ نقلٌ شبيهٌ بالمواعظ (وكأنه حوَّم على غرضٍ، ولم يُصادفْهُ ولا تحقّق قصده، ولا استوفى مسائله)(19).

وتأتي الفئةُ الرابعةُ المنقودةُ، وهي فئةُ كُتاّب السياسات المدنية وكُتاّب الخطابة، على الطريقة الأرسطية. أمّا كُتّاب الخطابة فيرفضهم ابنُ خلدون لأنهم غير علْميين بتعبيرنا اليوم، وأمّا كُتاّبُ السياسة المدنية -ويمكن أن يقصد بذلك أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد- فلأنهم يُعْنَون بتدبير المنزل أَو المدينة، بما يجبُ بمقتضى الأخلاق والحكمة(20)! وهكذا فذنبُهُم أنهم إرادويون أَو رغباتيون، أي أنهم مثل الفقهاء ذوو أهداف تربوية وأخلاقية؛ بينما لا يكونُ العلمُ علماً من وجهة نظره إلاّ إذا كان هرمونوطيقياً أَو وصفياً وتفسيرياً ولا شيءَ غير.

والواقعُ أنّ تحديد ابن خلدون لأهداف الفقهاء سليم؛ فهم يعتبرون أنّ الشرائع إنما أُنزلت لصون مصالح العباد، ولذلك فهم يُعْنَون باستكشاف المقاصد والحِكَم، كما يُعْنَونَ باستكشاف عِلَل الأحكام؛ ولذا فإنهم لا يتناولون بالبحث إلاّ ما اقتضى حكماً شرعياً بحثاً عن وجه المصلحة فيه، من أجل القياس والاطّراد(21).

وغرضُ كتاب مرايا الأُمراء ونصائح الملوك مختلفٌ بعضَ الشيء. إذ هم يقصدون لخدمة مصالح السلطان، وتبيان الوسائل المؤدية لاستمرار السلطة، ولكنْ أيضاً لاستمرار الاستقرار(22)؛ ولذا فهم ينصحون بإقامة العدل والتوازن في السياسات بين فئات الرعية. وقد لا تُحقّقُ نصائحُهُم شيئاً. وقد يتهمون بممالأة السلطات؛ لكنّ عَمَلَهُم هذا، ومن بينه اعتبارُهُم أنفُسَهُم عقلَ السلطان وضميرَه، هو عملٌ أخلاقيٌّ من وجهة نظرِهِم. إنما المعنى العميق لفنّ الآداب السلطانية هذا الاقتناعُ بقدرة العقل الإنساني، والإرادة الإنسانية على التغيير والتطوير، والاقتناعُ بإمكان التعاوُن المثمر بين المثقَّف والسلطان. وابنُ خلدون يقطعُ مع هذا الجنس الأدبي - الذي عمل فيه صديقُهُ ابنُ رضوان المالقي (صاحب الشُهُب اللامعة في السياسة النافعة، وهو يشبه سراج الملوك للطرطوشي)، والذي اهتمّ به مستلهِمُهُ ابن الأزرق بحيث حوَّل المقدّمة إلَى كتاب نصائح - لسببين: تجربته الطويلة في العمل مع السلطان، والتي انتهت إلَى فشلٍ في تونس كما في مصر، واقتناعُهُ العميق بأنّ الرغبات الطيبة والنصائح مهما كانت صادقةً، لا تستطيعُ الوقوفَ في وجه طبائع المُلْك الذي القهرُ قانونُه وديدنُه، إلاّ ما كان من خلافةٍ راشدةٍ سُرعان ما زالت لمضادّتها أيضاً لطبائع السلطة والسلطان.

ويُحْسَبُ لابن خلدون أنه أدرك حتى ما لم يدركْهُ ابنُ رشد، عندما ضعّفَ نسبة كتاب سرّ الأسرار إلَى أرسطو. إذ الواقعُ أنه أثرٌ منحولٌ، وأدنى إلَى جنس مرايا الأُمراء. وقد كان عظيمَ التأثير في العصور الوسطى الإسلامية والأوروبية، وأفاد منه ابنُ خلدون نفسُه في فصوله عن السحْر والطِلّسْمات وعلوم الأعداد. بيد أنّ الكتب الأفلاطونية والأفلوطينية المنحولة مثل سر الأسرار والخير المحض والأثولوجيا، تشترك مع كتب (السياسة المدنية) في المقولة الرئيسة التي تبنّاها ابن خلدون من أنّ الإنسان مدنيٌّ بالطبع، وأسَّس عليها علم العمران البشري والاجتماع الإنساني كما قال.

يبدأُ أبو زيد الفصل الأولَ من الكتاب الأول في العُمران البشري بقوله: إنّ الاجتماعَ للإنسان ضروري. ويعبّر الحكماءُ ويقصد الفلاسفة - عن هذا بقولهم(23): الإنسانيُ مدنيٌّ بالطبع، أي لا بُدَّ له من الاجتماع الذي هو المدينةُ في اصطلاحهم. ويضيف هو: وهذا معنى العمران. ثم يمضي مثلما فعل كلُّ القائلين بهذه المقولة من الفلاسفة والمتكلمين والأخلاقيين في عالم الإسلام تبعاً للدثائر الموروثة عن أفلاطون وأرسطو وجالينوس وثامسطيوس وبروسن، للتفصيل بأنّ الفرد لا يستطيع القيام بكل حاجاته، ولذا يحتاج للاجتماع الصغير ثم الكبير لتبادُل الضروريات من أجل المعاش، ولكي يُكملَ كلٌّ ما ينقصُ الآخر. وحتى لا تنشب النزاعاتُ نتيجةَ الغرائز والرغبات تظهر النواميس والسُّنَن والشرائع الطبيعية والإلهية، ويأتي السانُّ أَو الشارعُ أَو الحاكمُ فيحرُسُ الناموسَ ويُطبقُه. هذه هي الطبيعةُ الثابتةُ للوجود الإنساني، وهذا هو علمُ السياسات المدنية، كما أنه هو نفسُه علمُ العُمران الخلدوني. وليس في ذلك انتقاصٌ من عمل ابن خلدون، ولا من أهمية كشوفه التي تتناولُ مادة الاجتماع، بعد أن جرى الاتفاقُ على الصورة، بحسب تعبيره. لكنْ حتى في (المادّة) أَو مقتضيات الاجتماع الإنساني وحالاته ولوازمه، لا اختلاف بين الفارابي وابن رشد وابن خلدون في أنَّ المُلْك هو غايةُ الاجتماع أَو ذِروتُه الضرورية. أمّا الاختلافُ فهو في جزءٍ منه مورفولوجي، ويدور حول علاقة البادية بالحاضرة، والتي قد يقتصرُ الأَمْرُ فيها على الجيلين اللذين درس ابنُ خلدون تجربتَهما، أي العرب والبربر. على أنه حتى لدى العرب والبربر اضطرّ أبو زيد لعقد فصلٍ (في أنه قد يحدُثُ لبعض أهـل النصـاب الملكي دولـةٌ تستغني عن العصبية)(24). والاخـتلافُ الآخرُ بين ابن خلدون وأرباب السياسات المدنية أنّ أولئك -بعد القول بضرورة السلطة- يذهبون إلَى أنّ لها مشروعيةً غائيةً تتجاوزُ مسألة (القهر) اللازمة لبقاء النوع الإنساني، ومَنْع الفوضى، وكسْر الفتنة، والدفاع ضد الخارج: إنها تحقيقُ السعادة؛ ولذلك يتحدثون عن أشكال الحكومات أَو أنواعِها، ليس من أجل تبيان صيغة التنظيم فقط؛ بل من أجل البحث في الصيغة الملائمة لتحقيق الغاية.

وإنصافاً لابن خلدون؛ نقولُ: إنه كان في هذا الصدد أكثر منطقيةً من زملائه الألِدّاء. إذ ما دام المُلْكُ هو مادّة الاجتماع الإنساني؛ فإنه غايةٌ في حدّ ذاته. أما الأمور الأُخرى المتعلقة بالسياسات، أي إدارة الشأن العامّ؛ فإنها في أفضل الأحوال من اللواحق، ولا يمكنُ الحديثُ عن شرعيةٍ إضافيةٍ تأتي نتيجة سلوكٍ معيَّنٍ ما دامت ضرورةُ بقاء النوع هي الحاكمة. وقد كان ذلك في الواقع رأي الفارابي عندما قال: (يكونُ الرئيسُ ثم تكونُ المدينةُ وأجزاؤُها)(25).

وهكذا فإنه فيما يتصل بالاجتماع الإنساني تأسيساً ولوازم، يستبطنُ ابن خلدون رؤية الفلاسفة تماماً؛ لكنه يُنافرهم لعدة أسبابٍ، منها الاختلافُ حول وظائف السلطة،وحول غاياتها، بل وحول بنية الاجتماع المؤدي إليها.

ثانياً: الخلافة والمُلْكَ: تحدث ابنُ المقفع في (جُمَله القِصار) عن ثلاثة أشكالٍ للسلطة: مُلك الدين، وملك الحزم، وملك الهوى(26). أما الماوردي فتحدث عن تأسيس الدين، وتأسيس القوة، وتأسيس المال(27). وقال ابن خلدون بثلاثة أنواعٍ أيضاً: المُلْك الطبيعي، وهو حملُ الكافة على مقتضى الغرض والشهوة، والمُلْك السياسي، وهو حملُ الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضارّ. والخلافةُ، وهي حملُ الكافّة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأُخروية والدنيوية الراجعة إليها... فهي في الحقيقة خلافةٌ عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به(28).

اقتبس ابن خلدون الأجزاء الأساسيّةَ الخاصة بالخلافة في مقدمته من كتاب (الأحكام السلطانية) للماوردي(29). وقد ذكر النقلَ عنه في عدة أماكن؛ لكنه اقتبس كثيراً أيضاً دون أن يذكره في مواطن أُخرى. بيد أنه ما اقتصر عليه. وتتمثل إضافاتُهُ في الرجوع إلَى أبواب الإمامة من كتب المتكلمين الأشاعرة. والمعروف أنّ هؤلاء -ومنذ أبي الحسن الأشعري- يختمون كتبهم بفصلٍ قصيرٍ في الإمامة أَو الخلافة، يذكرون فيه أنها ليست من التعبديات أَو الضروريات في الدين خلافاً للشيعة؛ بل هي من الاجتهاديات والمصلحيات. وقد سلك ابن خلدون مسلك هؤلاء حين عقد فصلاً في آراء الشيعة في الإمامة، وعرض مذاهبَهم بإيجاز. أمّا الزياداتُ الأُخرى على الماوردي فتأتي من نظرية ابن خلدون في العصبية، والتي يعودُ إلَى الحديث فيها عند كلّ مناسبة، ولتفسير ظواهر يعتقد أنّ الماورديَّ وغيره من الفقهاء أخطأوا فيها لأنهم لا يعرفون طبائع العمران البشري، أَو لا يهتمون بها(30).

إن الواقعَ أنّ الاختلافَ بين ابن خلدون وكُتّاب الأحكام السلطانية أَو الفقه الدستوري في الإسلام - مصدرُهُ المفهومُ الخاصُّ الذي يصطنعُهُ ابنُ خلدون للخلافة الإسلامية أَو للنظام السياسي وعلاقته بالدين، وليس إلَى اختلافهم معه في طبائع العُمران والسلطان. فهو منذ البداية يعرّف الإمامةَ بأنها (خِلافةٌ عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به)(31)، أي سياسة الدنيا بالدين أيضاً. وهذه الـ (به) ليست موجودةً في تعريف الماوردي للخلافة؛ بل إنّ الماورديَّ لا يعتبرُ الخليفةَ مسؤولاً عن المصالح الأخروية والدنيوية معاً؛ بل عن المصالح الدنيوية فقط. فالشريعةُ عنده تأديةُ الفرض، والسياسـةُ عمارةُ الأرض. والخليفـة أَو السلطان مسؤولٌ عن (حراسة الدين)؛ في حين أنه في المصالح الدنيوية (ومنها الخلافة أَو الإمامة أَو السلطة) مسؤولٌ عن تدبيرها، أي سياستها. وهكذا فعملُهُ في الشأن الديني الحمايةُ وحسْب، بينما عملُهُ في الشأن الدنيوي تأسيسي. ولنختبر ذلك في أربع مسائل:

المسألة الأولى: الاختلافُ بين الصحابة على السلطة. ابن خلدون يدافعُ هنا بحرارةٍ عن سائر الصحابة، سواءٌ الذين كانوا مع عثمان أَو ضدّه، ومع عليٍ أَو ضِدّه. هو يقولُ شأن سائر أهل السنة إنَّ الحقَّ مع عثمان ومع عليّ. لكنّ الذين اختلفوا معهم إما أنهم أخطأوا وتابوا، وإمّا أنهم اجتهدوا، وبذلك فهم مأجورون غير مأزورين(32). وليس هذا رأي المارودي؛ وإن يكن متردداً بين أمرين؛ الأول: اعتبار الذين خرجوا على عثمان وعلي بُغاةً تسري عليهم أحكامُ البُغاة، أي الذين عندهم تأويل، فلا يُتْبعون ولا يُلاحَقون إن لم يحملوا السلاح، أَو لا يُتْبعون ولا يُلاحَقون ولا تُصادرُ ممتلكاتهم إذا ألقَوا السِلاح. والثاني: اعتبارُ الذين خالفوا عثمانَ أَو عليّاً معارضين عاديين؛ فإن لم يصيبوا دماً أَو مالاً كانوا مجتهدين مخطئين؛ وإن أصابوا دماً أَو مالاً خضعوا للقصاص. وهو يميلُ إلَى الرأي الأول. والطريفُ أنّ ابن َخلدون كان في هذا الصدد سنياً متشدِّداً، ونَسي طبيعةَ المُلْك ودعوى الانفراد بالمجد لدى عثمان وعلي ومعارضيهما، أي أنه لم يعتبر الاختلاف الدمويَّ بينهم صراعاً على السلطة؛ وذلك لدخولهم في الزمن الاستثنائي في نظره، أي عندما كان الوازعُ الدينيُّ غالباً. ويزدادُ الأَمْرُ عُسْراً في قضية تمرد الحسين بن علي على يزيد بن معاوية، واستشهاده. ابن خلدون ينصرفُ لمناقشة كلّ الآراء بما في ذلك رأي أبي بكر ابن العربي الذي اعتبر أنّ الحسين خرج على سلطةٍ شرعية(33). ولا مُشكلةَ لدى الماوردي هنا أيضاً. فهو يرى أنّ يزيد كان سلطاناً ظالماً دفع الناسَ ومنهم الحسين وابن الزبير -وبسبب طغيانه- للثورة والخروج. على أنّ ابن خلدون يعود فيتذكّر العصبية في تمرد ابن الزُبير على يزيد(34). فالحسين من وجهة نظره كان من أهل العصبية والمُلك، وهكذا فدعواه ودعوى يزيد متساويتان في الناحية. أمّا ابنُ الزبير فقد قال ابن خلدون إنّ غَلَطه في أمر الشوكة كان عظيماً، لأنّ بني أسد (ابن عبد العزى، البطن القَبَلي القُرشي الذي ينتمي إليه عبد الله بن الزبير بن العوام) لا يقاومون بني أمية في جاهليةٍ ولا إسلام!، ولذا فقد كان عليه أن يعرفَ موقعَه المتدنّي فلا يثور، أَو لا يطمح للمُلْك، مع أنّ الوازعَ الدينيَّ الذي يُطنطنُ به ابن خلدون كان بارزاً لديه! وهكذا لا يضطربُ لدى ابن خلدون في عصر الصحابة مفهومُهُ للعلاقة بين الدين والدولة وحسْب؛ بل مفهومُهُ للشرعية أيضاً. أمّا عند الماوردي فالأمر واضح: فكلُّ مَنْ بايعه الناس من قريش فهو شرعي، ولا عبرةَ بالبطن الذي ينتمي إليه، وابنُ الزبير بايعه أهلُ الحرمين والعراق وبعض الشام؛ ولذلك فهو شرعي. وقد ظلَّ كذلك حتى تغلّب عبد الملك على أطرافه، وسقطت أكثر الجهات التي بايعتْه في يد خصمه.

والمسألة الثانية: انقلاب الخلافة إلَى مُلْك. وقد حدث ذلك في نظر ابن خلدون عندما تغلّب وازعُ العصبية على وازع الدين. وقد تمّ ذلك بالتدريج، حتى انتهى الأمرُ إلَى غَلَبة اعتبارات المُلْك الذي هو غايةٌ طبيعيةٌ للعصبية (ليس وقوعُهُ عنها باختيار، إنما هو بضرورة الوجود وترتيبه كما قُلناهُ من قبل)(35). والماورديُّ لا يتجاهلُ متغيّرات ما بعد عصر الراشدين، فهو يعرفُ الأثر الذي لا يذكره ابن خلدون، والقائل: (تكونُ الخلافةُ ثلاثين عاماً، ثم يكونُ مُلْكٌ عَضوض)(36). لكنْ كما سبق القول؛ فإنّ الماوردي الفقيه يملكُ مفهوماً للشرعية لا يعترفُ ابنُ خلدون بجديته رغم ذكره له(37)، وهو البيعةُ والإجماع. وصحيحٌ أنَّ الماورديَّ، وبعد ضَعف الخلافة وانقسام أقطارِها بين الأُمراء والملوك، يتشبَّثُ بشكلياتٍ ضعيفةٍ للشرعية والمشروعية؛ لكنه يملكُ حسّاً عميقاً بقيمة العُرف والإجماع، هو الذي أبقى على الخلافة في بني العباس، رغم زوال العصبية ولواحقها. بينما تضطربُ رؤيةُ ابن خلدون للمسألة بعد العصر العباسي الثاني: إذ بقي بنو العباس رغم زوال عصبيتهم، ورغم عدم عودة الوازع بالمعنى الديني. فانقلابُ الخلافة إلَى مُلْكٍ عند ابن خلدون هو الأمرُ الطبيعي، وبقاءُ السلطة المرجعية لبني العبّاس غير مفهومٍ لأنه يعني عدمَ اطّراد ما اعتبره بمثابة القانون الذي لا يختلُّ لأنه من طبائع المُلْك، وطبائع الوجود الإنساني!

والمسألة الثالثة: مسألة الشورى وأهل الحلّ والعقد: يقول ابن خلدون: (ربما يظنُّ بعضُ الناس أنّ الحقَّ فيما وراءَ ذلك، أنّ فعلَ الملوك فيما فعلوهُ من إخراج الفقهاء والقُضاة من الشورى مرجوح، وقد قال (ص): العلماءُ ورثةُ الأنبياء. فاعلم أنّ ذلك ليس كما ظنَّه، وحُكْمُ الملك والسلطان إنما يجري على ما تقتضيه طبيعةُ العُمران، وإلاّ كان بعيداً عن السياسة. وطبيعةُ العمران في هؤلاء لا تقضي لهم بشيء من ذلك؛ لأنّ الشورى والحلَّ والعقد إنما يكونُ لصاحب عصبيةٍ يقتدرُ بها على حلٍ أَو عقدٍ أَو فعلٍ أَو تَرك. وأمّا مَنْ لا عصبيةَ له.. فأيُّ مدخلٍ له في الشورى؟)(38). والواقعُ أنّ أحداً من الفقهاء لم يزعُمْ أنّ العلماء كانوا يختارون الخلفاء أَو السلاطين أَو يرشحونهم للبيعة. وأهلُ الشورى الذين اختارهم عمر للترجيح في الاختيار بين عثمان وعلي بعد وفاته، ما اختيروا لأنهم من الفقهاء؛ بل لأنهم من الصحابة أهل السابقة مع الرسول(ص). وفي (الأحكام السلطانية) تحديدٌ لأهل الشورى والاختيار، لا يظهرُ منه أنهم كانوا من الفقهاء؛ إذ ذكر الماورديُّ لهم ثلاثة شروط(39): العدالة الجامعة لشروطِها (أي أن يكونوا من أصحاب السُّمعة الحسنة)؛ والشرط الثاني: العلم الذي يُتوصَّلُ به إلَى معرفة مَنْ يستحقُّ الإمامة. والشرط الثالث: الرأيُ والحكمةُ المؤديان إلَى اختيار مَنْ هو للإمامة أصلَح، وبتدبير المصالح أقْوَم وأعرَف. ولا يظهر من هذه الشروط أنّ هؤلاء من الفقهاء أَو القُضاة؛ بل هم بالأحرى من وُجهاء المجتمع وأشراف الناس. وعلى أيِّ حالٍ؛ فبعد عصر الصحابة، صار العُرفُ أن يعقد الخليفةُ أَو الملكُ أَو السلطانُ في حياته لمن يلي الأمر من بعده؛ وقد كان المعقودُ له في الأعمّ الأغلب ابن الخليفة أَو السلطان. وفي حين اعتبر الماورديُّ هذا التطور -الذي اعترف بنتائجه- غير مُرْضٍ ورَجَا زَوَالَهُ، ذهب ابن خلدون في فصله عن (ولاية العهد) إلَى اعتبار ذلك من طبيعة المُلْك؛ بل نهانا نحن القُرّاء المتذاكين لمقدّمته عن اتّهام معاوية بالتحيز أَو بتوريث السلطة في اختيار يزيد، وكذلك الأمر مع عبد الملك ابن مروان في ابنه الوليد، ومع المنصور العبّاسي في استخلافه ابنه المهدي!

بيد أنّ بُعْد الفقهاء عن المشاركة في اختيار الخليفة، ينبغي ألاّ يدفعنا إلَى القول بهامشيتهم؛ إذ استأثروا بالتشريع، وصار الخلفاءُ والأُمراء مضطرين لاتخاذهم مستشارين أَو خبراء في لغتنا الحديثة. وهذا هو شأن صنيع الرشيد مع أبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني، والمأمون مع يحيى بن أكثم، والمستنصر مع ابن هُبيرة، ونظام المُلْك مع إمام الحرمين الجُويني. وكذلك الأمر مع (الفقهاء المُشاوَرين) بالأندلس الذين كانوا يشاركون بهذه الطريقة في إدارة الشأن العامّ، والذين استطاع بعضٌ منهم - بحكم قوة البيروقراطية الفقهية هذه بالأندلس وبعض مدن المغرب الإسلامي الطَرَفية، أن يكوِّنوا أُسَراً حاكمةً لبعض الوقت، ودون حاجةٍ إلَى العصبية أَو للدعوة الدينية. وأياً يكن ما يقصدُهُ ابن خلدون؛ فإنّ الفقهاء ما كانوا من أهل الشورى لندّعي أنهم أُخرجوا منها بسبب استيلاء العصبية - إلا إذا كانت تشاؤمية ابن خلدون بشأن هامشية الفقهاء والقُضاة ناجمةً عن تجربته السلبية في هذا الصدد بتونس ومصر.

والمسألة الرابعة، وهي الأهمُّ بعد الأُولى؛ تتصل بالافتراق بين الوظائف الخليفية والأُخرى السلطانية في العصور المتأخرة. يذكر ابن خلدون أربع خططٍ دينيةٍ خليفية وهي: الإمامةُ في الصلاة، والفُتيا، والقضاء، والحسبة والسكّة(40). كما يذكر خُطَطاً سلطانية وهي: الإمارة، والوزارة، والحرب، والخراج، والجهاد(41). ويُعَقّبُ على ذلك بالقول: (لقد اندرجت رسومُ الخلافة ووظائفُها في رسوم المُلْك والسياسة في سائر الدول لهذا العهد..)(42). ثم يُنوّهُ بالانفصال التامّ في عمله بين الأمرين الديني والسياسي فيقول: (إنّ كلامنا في وظائف المُلْك والسلطان ورُتَبِه إنما هو بمقتضى طبيعة العُمران ووُجود البشر، لا بما يخصُّها من أحكامِها الشرعية؛ مع أنها مستوفاةٌ في كتب الأحكام السلطانية مثل كتاب القاضي أبي الحسن الماوردي وغيره من أعلام الفقهاء. فإنْ أردْتَ استيعابَها فعليكَ بمطالعتِها هنالك. وإنما تكلمنا في الوظائف الخلافية وأفردْناها، لنميّز بينها وبين الوظائف السلطانية فقط، لا لنحقّق أحكامَها الشرعية. فليس من غرض كتابِنا؛ فإنا إنما نتكلم في ذلك بما تقتضيه طبيعةُ العمران في الوجود الإنساني)(43). هكذا يعودُ ابن خلدون هنا إلَى مفهومه الخاصّ للخلافة بوصفها مؤسسة تتولى إدارة الشأنين الديني والدنيوي معاً، وبالشرع، أي بالدين. وأنّ رسومها وصلاحيتها قد اندرجت في وظائف السلطنة والمُلْك في العصور اللاحقة على الراشدين. والواقعُ أنّ الماورديَّ كان واضحاً في التمييز بين الشأنين باعتبار الخليفة واستطراداً السلطان حارساً للدين وسائساً للدنيا. وفي الحراسة إنما تحرسُ موجوداً دون أن تتدخَّل فيه، وإنما تلي السلطةُ الأمر الديني من الناحية المرجعية، ويتولى آخرون إدارته، وهم في هذه الحالة الفقهاء والقُضاةُ. أمّا السياسة أَو إدارة الشأن العامّ فإنّ الخليفة مدبِّرٌ أصيلٌ، وسلطتُهُ فيها شبه مطلقة. وهذا التمييز وضعه الماورديُّ في تعريف الخلافة ومهامّها، كما وضعه في عنوان كتابه الذي سمّاه: الأحكام السلطانية، والولايات الدينية. وقد ذكر الماروديُّ الولايات السلطانية التي نقلها ابن خلدون عنه، وهي: الوزارة بنوعيها، والإمارة بنوعيها، والإمارة على الجهاد، وولاية الفيء والغنيمة، وولاية الجزية والخراج. ثم ذكر الولايات الدينية وهي: القضاء، وولاية المظالم، وولاية الإمامة في الصلوات، والولاية على الحج، وولاية الصدقات، وولاية الحسبة(44). كما أوضح الماورديُّ الفرقَ بين نوعي الولاية؛ فالأُولى، أي الولايات السياسية أَو ولايات المصالح، سلطةُ وليّ الأمر فيها شبه مطلقة، لتعلُّقها بالمصالح، وعدم وجود أحكامٍ شرعيةٍ نافذةٍ فيها في الغالب. والثانية فيها أحكامٌ شرعيةٌ نافذةٌ، ويتولاّها القُضاة في الغالب، والفقهاء أَو العلماء؛ وللسلطان فيها الإشرافُ الأعلى، وليس الأمر المباشر.

إنّ اختلاف ابن خلدون مع الماوردي علتُه فهمُهُ الخاصُ للخلافة بوصفها مؤسسةً يندمج فيها الدينُ والدولة في قبضةٍ واحدة؛ بينما يرى الماورديُّ أنّ القبضة واحدةٌ، لكنّ الشأنين كانا متمايزين منذ البداية. ومع أنّ الخلافة اختفت، وخفّ اعتبارُ الجانب الديني أَو أنه خضع لطبيعة المُلْك ومقتضياته؛ فإنّ الأمر بقي على المنحى نفسه لدى ابن خلدون. أما لدى الماوردي فإنّ نظر الفقهاء في الشأن الديني صار أقوى لعدم قدرة السلطان على التدخل فعلاً في الشأن الديني (بسبب حرمانه من سلطة الاشتراع)، واقتصر الأمر على التشرُّف بالانتساب إلَى الإسلام، والتنطُّح لقيادة سطوته وإمتداده.

إنّ الذي أراه أنّ مقولَتْي: (الإنسان مدنيٌّ بالطبع) و(الدولة غايةٌ للعصبية)، هما المقولتان الفلسفيتان الرئيسيتان في الأقسام السياسية من المقدِّمة. وقد استخدم ابن خلدون مصادر كثيرةً للاستدلال على تلك الرؤية. وفي حالة المقولة الأُولى حدثت استعاراتُ أسلحةٍ؛ في حين أنه في المقولة الثانية، ورغم كثرة نقوله، ظلّ على مسافةٍ من كلّ المصادر، لكنه عجز عن إثبات اطّرادها.

والحقُّ أنّ هذا النموذجَ التفسيريَّ الخلدونيَّ الرائع والمروِّع في الوقت نفسِه يظلُّ متفرّداً رغم وجود المصادر التي تقول بإحدى المقولتين؛ أي مقولة الطبيعة الثابتة للاجتماع الإنساني، ومقولة المُلْك القائم على قهر العصبية. تفرده يعود إلَى أمرين اثنين: اقترانُ المقولتين فيه، وتطبيق ابن خلدون له بجَهدٍ كبيرٍ في مقدمته وتاريخه. وهناك من الباحثين -الجابري ونصّار مَثَلاً- من يرى أنّ النظام الخلدوني يظلُّ مفتوحاً لسببين: قولُهُ بتجاوز النموذج الاستثنائي للخلافة الإسلامية (نتيجة انضواء المؤسسة الدينية في بنية المُلْك) وتلميحُهُ ثانياً إلَى أنّ هناك (نشأةً مستأنَفَة) في أواخر العصور الوسطى الإسلامية، والاستئنافُ في البحوث الكلامية والأصولية الإسلامية ناجمٌ عن انقطاع وليس عن تواصُل.

لقد حاولْتُ في هذه المقالة، أنّ أُناقش هذا النموذج الخلدونيَّ في ضوء مصادر رؤيته وتطبيقاتها. وليست هذه هي المرة الأولى التي يُجادَلُ فيها أبو زيد، ولن تكونَ الأخيرة. وهو، كما قال إرنست غلنر(45)، مستمرٌّ في التجدُّد، لكنْ ليس بالضرورة أن يكونَ مستمرًّا في التعدُّد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- رجعت في مقالتي هذه إلَى نشرة التاريخ التي بدأها الأستاذ إبراهيم شبّوح. تونس 2006م. والاقتباس من الكتاب الأول من العبر: المقدمة 1/5.

2- العبر: المقدمة 1/5.

3- العبر: المقدمة1/7.

4- العبر- المقدمة1/6.

5- العبر- المقدمة1/60،6.

6- العبر: المقدمة1/55.

7- العبر- المقدمة1/62.

8- الشاطبي: الموافقات، ضبط وتعليق عبد الله دراز، 2/393-414.

9- قدّم الأستاذ شبّوح في مقدمته على نشرة التاريخ عرضاً بديعاً لمعاني العِبَر والاعتبار عند ابن خلدون: المقدمة1/134-138.

10- العبر- المقدمة 1/60.

11- يصرّح ابن خلدون - وفي المقدمة فقط - بالنقل عن مروج الذهب للمسعودي في عشرة مواطن؛ لكنه ينقل عنه في واحدٍ وعشرين موطناً بدون أن يذكره. وهو في أكثر تلك المواطن شديد النقد له؛ قارن بالمقدمة 1/58، 62، 63، 154، 192، 310، 358، 362. وكذلك يفعل مع البكري (ص58) والباقلاّني (ص341)، وأبي إسحاق الإسفراييني (ص169،338)، وإمام الحرمين (ص338). ويَسْلَمُ الماورديُّ من نقده، لكنه يعتبر كتاباته فقهيةً ودينيةً لا تعنيه كثيراً (334 – 340، 386 -383، 409).

12- العبر: المقدمة 1/60.

13- العبر- المقدمة1/61.

14- العبر: المقدمة 1/61.

15- العبر- المقدمة 1/62.

16- العبر- المقدمة1/62-63.

17- العبر: المقدمة1/63.

18- العبر- المقدمة1/63-65.

19- العبر: المقدمة1/65.

20- العبر: المقدمة1/60-61.

21- قارن بجمال الدين عطية: التنظير الفقهي، مطبعة المدينة، 1987م، ص36-54، وعبد المجيد تركي: مناظرات في أصول الشريعة بين ابن حزم والباجي، ترجمة عبد الصبور شاهين، بيروت 1986م، ص218-237.

22- صارت لدينا بالعربية مجموعة من الدراسات الجيدة عن الجنس الأدبي المسمَّى (مرايا الأمراء) أَو (نصائح الملوك). قارن بعز الدين العلاّم: الآداب السلطانية عالم المعرفة، 2006م. وللمؤلف دراسة جيدة في الموضوع نفسه بمجلة (التسامح) العُمانية: مورفولوجية الأدب السياسي؛ مجلة التسامح، عدد 14، 2006م، ص90-124، وكمال عبد اللطيف: في تشريح أصول الاستبداد، دار الطليعة، 1999م، ومحمد أحمد دمج: مرايا الأمراء، بيروت، 1994م.

23- العبر: المقدمة1/69. وقارن بـ1/60، 66، 519.

24- العبر: المقدمة 1/274 – 275.

25- الفارابي: آراء أهل المدينة الفاضلة. نشرة البير نصري نادر، بيروت 1973م، ص117 – 119. وقارن بكلامٍ مُشابهٍ للفارابي في: كتاب الملة ونصوص أخرى، تحقيق محسن مهدي، بيروت 1968م، ص53-54، وكتاب السياسة المدنية، تحقيق فوزي النجار، بيروت 1969م، ص69 – 70.

26- ابن المقفع؛ في رسائل البلغاء، نشر محمد كرد علي، 1954م، ص49. وأول من نقل هذا التقسيم إلَى المغرب الإسلامي محمد ابن الحسن المرادي الحضرمي في: الإشارة إلَى أدب الإمارة، تحقيق رضوان السيد، 1981م، ص145.

27- الماوردي: تسهيل النظر وتعجيل الظفر، تحقيق رضوان السيد، بيروت 1987م، ص203- 205.

28- العبر: المقدمة 1/332 – 334.

29- الماوردي: الأحكام السلطانية والولايات الدينية، بيروت 1999م، ص29- 31.

30- العبر: المقدمة 1/394، 409.

31- العبر: المقدمة 1/334.

32- العبر: المقدمة 1/375 – 378.

33- العبر: المقدمة 1/379.

34- العبر: المقدمة 1/379 – 380.

35- العبر: المقدمة 1/354- 358.

36- الأحكام السلطانية، مرجع سابق، ص16، والماوردي: أدب الدنيا والدين، تحقيق مصطفى السقا، 1972م، ص238.

37- العبر: المقدمة 1/365 – 369.

38- العبر: المقدمة 1/384. ويذكر ابن خلدون في معرضٍ آخر رجالاً كابن أبي عامر كانوا قُضاةً وصاروا وزراء متسلّطين؛ إنما كان ذلك بسبب تغيُّر الزمان!

39- الأحكام السلطانية، مرجع سابق، ص31.

40- العبر: المقدمة 1/382- 394.

41- العبر: المقدمة 1/410 – 442.

42- العبر: المقدمة 1/394.

43- العبر: المقدمة 1/409.

44- الأحكام السلطانية، ص64 وما بعدها.

45- Ernest Gellner, Muslim Society,1981, PP. 86 -99, 221- 231.

المصدر: http://www.ridwanalsayyid.com/ContentPage.aspx?id=92#.VykDplWDGko

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك