جوانب من الدراسات القرآنية الحديثة والمعاصرة في الغرب

الدكتور رضوان السيد

 

أولاً: مواريث القرنين التاسع عشر والعشرين: ما بدأ التفكير الأوروبي في القرآن في القرن التاسع عشر. بيد أنَّ البحوث ذات الصبغة شبة العلمية، والتي بدأت في القرن الثاني عشر الميلادي، كان الغرض منها، سواء عن طريق الترجمة أو عن طريق التحليل والمقارنة - الردَّ على القرآن والإسلام، لصالح الدفاع عن العقائد المسيحية، والتساوق مع جولات الكرّ والفرّ بين الأوروبيين والمسلمين في حقبة الحروب الصليبية، وحرب الاسترداد الأسبانية، والحروب مع العثمانيين. ويريد بعضُ الباحثين تقسيم التعامل مع القرآن من جانب الأوروبين حتى القرن الثامن عشر، إلى مرحلتين كبيرتين: مرحلة العصور الوسطى المتأخرة (12-16م)، ومرحلة عصر النهضة والأنوار في المرحلة الأولى كانت المقاربات لاهوتية الطابع، وذات صبغة نقضية. وفي المرحلة الثانية صارت المقاربات شاملة تتعلق برؤية العالم، وعلاقات الشرق بالغرب والإسلام بأوروبا المسيحية.

في القرن التاسع عشر، ما عاد هدفُ الاهتمامات بالقرآن عند كل من أبراهام غايغر وغوستاف فايل وشبرنغر وهرشفلد وموير الردَّ على القرآن أو نَقْضه، بل قراءته قراءةً فيلولوجية تاريخانية، باعتبار ذلك المنهج السائد في سائر العلوم الإنسانية آنذاك. وللمنهج التاريخاني خاصّتان بارزتان: أنه من نتاجات إنسانويات القرن الثامن عشر، وأنه مذهبٌ وضعي. لكنّ فيه -بسبب من هذين الأمرين- عِرْقاً مُعادياً للدين، أو لنقل إنه سلبيٌّ تجاه النصوص المقدَّسة - وهذا الشأن من مواريث عصر النهضة، والانقسامِ والصراع الديني في أوروبا. وقد أقبل علماءُ اللغات القديمة، وبعض اللاهوتيين الليبراليين على الفَتْك بالعهدين القديم والجديد بالطرائق التاريخانية والفيلولوجية المتعارَف عليها في دراسة سائر النصوص والوقائع الكلاسيكية. ولستُ هنا في معرض قراءة آثار ذلك على اليهودية والمسيحية، بل ما أقصده من وراء هذه الملاحظات الموجزة التوصل إلى أنه ما كان من المنتظر أن يكون الفيلولوجيون والمستشرقون الصاعدون من بَعد أكثر رأفةً بالإسلام والقرآن منهم بنصوص العهدين. وذلك ليس فقط بسبب الموروثات الباقية في الوعي بالإسلام، بل للطبائع المنهجية للطرائق الفيلولوجيّة، والتي لا تقرأُ نشيد الإنشاد أو موعظة الجبل بوصفهما نصّين ذوي بنية، بل بوصفهما مفردات وكلمات مستعارة أو ملفّقة أو مركّبة، تُدرسُ أصولها، وتاريخيتها، أكثر مما يدرَسُ عالمها المصطلحي والسردي والأخلاقي. ثم إن نزع القداسة عن النص الديني مفيدٌ من جانب، وسلبيٌّ من جانبٍ آخر. جانبه المفيد هو القدرة على التعامل مع النصوص والعوالم الدينية بالحرية العقلانيةالتي أتاحتها نزوعات القرنين التاسع عشر والعشرين. أمّا الجانب السلبي فيتمثل في تجاهل الإمكانات الآخرى لقراءة النصّ من وجهة نظر المتدينين، وبخاصةٍ أن رؤية المؤمنين للنصّ المقدَّس أثّرت وتؤثّر في بنيته وطبيعته وعوالمه وتأويلاته. وتجاهل ذلك كلِّه، فضلاً عن (لابنيوية) المنهج التاريخاني، تدفع باتجاه التذرير، والعجز عن إدراك جماليات نصوص الإنشاد والإلقاء، وتحويل الأسفار الإنجيلية أو السُّوَر القرآنية، إلى فسيفساء مرصوفة كيفما كان تتنافر عناصرها أحياناً، ولا يبقى فيها سحر ولا تزيين.

وعلى أيّ حال، فقد ساد في الدراسات الاستشراقية الحديثة اعتبار كتاب المستشرق الألماني البارز تيودور نولدكه (Noldeke) (1836-1930م) (تاريخ القرآن) التأسيس العلميَّ الباقي للدراسات القرآنية في العصر الحديث. ومن حسن الحظّ أنّ الكتاب الذي كُتبت نسختُهُ الأولى عام 1856م في حوالي مائتي صفحة، والذي تطور في حياة المؤلف على يد تلامذته إلى ثلاثة أجزاء صدر آخرها عام 1938م تُرجم إلى العربية عام 2004م، وليست هناك ترجمة أخرى للكتاب لأي لغة(1). يقع الكتاب في صورته الأخيرة في ثلاثة أقسام، عنوان القسم الأول: أصل القرآن، وعنوان القسم الثاني: جمع القرآن، وعنوان القسم الثالث: تاريخ نصّ القرآن. في أصل القرآن يُعنى نولدكه وتلامذته بنبوة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وطرائق تلقّيه الوحي، وبدايات الرسالة، وأمية النبي -صلى الله عليه وسلم-، ووسائل كتابة القرآن، والتوازن والتوتر بين الشفوي والكتابي، ومسألة المكي والمدني ومعناها وأهميتها. يرى نولدكه إلى نبوة النبي في ضوء النبوات في العهد القديم، ولذلك فهو يقبل مسألة أمية النبي؛ لأنّ أنبياء بني إسرائيل الكبار كانوا كذلك. ويرى أنّ النبي محمداً دوَّن القرآن منذ البداية، مع الحفاظ على التوترّ والتوازُن بين الكتابي والشفوي عن طريق الإنشاد والتلاوة الشعائرية. لكنه يعود فيخوض في تركيب السور والألفاظ والمفردات المأخوذة عن الهاغادا وليس عن نصّ العهد القديم، ويتساءل عن (الوحدة الموضوعية)، لكنه لا يسأل نفسه لماذا يختلف المكي والمدني القرآنيان عن العهد القديم والهاغادا في الأسلوب وأكثر المضامين، بل ورؤية العالم إن كانا مأخوذين عنهما؟ وفي القسم الثاني من الكتاب يتحدث نولدكه وتلامذته عن جمع القرآن ومعاني الجمع أيام عثمان –رضي الله عنه-، وهو لا يصدق أكثر تفاصيل الرواية الإسلامية عن المسألة، لكنه لا يعرض بدائل باستثناء ما ذكره عن إمكان التدوين أيام النبي –صلى الله عليه وسلم-، والترتيب في المصحف أيام عثمان –رضي الله عنه-. وهو يهتم كثيراً بأسباب النزول، لكنها تساعده في المرحلة المدنية أكثر من المرحلة المكية؛ لأنها ترتبط بأحداث المغازي. وفي القسم الثالث المعنون: بتاريخ نصّ القرآن، يدرس نولدكه وتلامذته القراءات القرآنية، ومسألة الأحرف السبعة. ولا يتمكنون من كشف غوامض مسألة الأحرف، لكنهم ينشطون في تتبع القراءات المتواترة والأخرى الشاذة. وقد رَجَا أوتو برتزل من بينهم أن يتمكن من جمع القراءات الشاذة إلى الوصول إلى صيغة أخرى (أصلية) للقرآن، ثم تخلّى عن ذلك في الأربعينات من القرن العشرين.

ما تُرجم كتاب نولدكه كما سبق القول إلى لغة أوروبية أخرى. لكنه سيطر على الدراسات القرآنية حتى مطالع الستينات. وقد أثّر في الدارسين على الخصوص تقسيمه للسور المكية إلى ثلاث مراحل، وتحديد الخصائص الأسلوبية في كل مرحلة. وأثّر في الدارسين ذهابه إلى أن النبي محمداً –صلى الله عليه وسلم- اتخذ في نبوته أنبياء بني إسرائيل نموذجاً له. ولذلك، ولأن العهدين لم يترجما إلى العربية قبل الإسلام فقد جمع النبي معلوماته عنهما شفويّاً، وفي كثير من الأحيان، عن المنحولات والتفاسير والمأثورات الشعبية اليهودية والمسيحية. ولذلك تكثر في القرآن الألفاظ والموضوعات السريانية والآرامية والإثيوبية والعبرية.

والواقع أنّ نولدكه نشر عام 1910م دراسةً جادّةً عن (لغة القرآن)، ضُمَّتْ إلى الجزء الثالث من الكتاب الذي صار ضخماً عبر عدة عقود. وهي فيما أرى أهم ما يمكن أن يبقى محلَّ اعتبار إلى جانب تقسيمه الثلاثي للسور المكية.

وهناك ثلاث دراساتٍ لمستشرقين من النصف الأول من القرن العشرين، سارت على خُطَا نولدكه، ودراسته للغة القرآن على وجه الخصوص، وهي تمثّل أقصى ما يمكن أن تقدمه التاريخانية الفيلولوجية في دراسة النص الديني، والمستشرقون الثلاثة هم: البريطاني ريتشارد بل، والفرنسي ريجيس بلاشير، والألماني رودي بارت. واستناداً إلى تدقيقات فيلولوجية وأسلوبية، قام كلٌّ من هؤلاء بترجمة القرآن ترجمةً جديدةً إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية(2).

وهكذا يمكن القول اختتاماً لهذا التمهيد قبل الدخول في المرحلة المعاصرة: إنّ الدراسات الفيلولوجية التاريخانية للقرآن لدى المستشرقين الأوروبيين استقرت في ثلاثة خطوطٍ كبرى لا تتناقضُ كثيراً والرواية الإسلامية التقليدية. الخطّ الأول: أنّ النص القرآني الذي بين أيدينا اليوم هو في مجموعه مما خلّفه النبي محمد –صلى الله عليه وسلم-. والثاني: أنّ القرآن دُوِّن استناداً إلى ما خلّفه كُتَّاب النبي من مدوَّنات، وإلى ما احتفظت به الذاكرة الجماعية للجماعة الإسلامية الأولى. والخط الثالث أنّ الترتيب الحالي للسُّوَر كما اعتمد في المصحف العثماني مختلفٌ عمّا خلّفه النبّي لأصحابه، وربما اختلف أيضاً ترتيب الآيات في بعض السُّوَر.

ثانياً: القراءات الراديكالية المعاصِرة للقرآن: تكاد الدارسةُ الألمانية الكبيرة أنجليكا نويفرت (Angelika Neuwirth) تنفردُ في الدراسات القرآنية المعاصرة في الغرب بالمزَاوجة بين البنيوية والإبستمولوجيا. فعلت ذلك في دراستها الواسعة للسُّوَر المكية أواخر السبعينات من القرن الماضي، كما لعب هذا التوجُّه دوراً بارزاً في دراساتها المستمـرة حتى اليوم، وبخاصة مقالاتها المبسوطة في (موسوعة القرآن) التي أُنجزت في النصف الثاني من التسعينات(3). وهي تُركِّزُ على أنّ القرآن نصٌّ شعائريٌّ مَتلوٌّ منذ البداية، ولذلك فهو يجمع بين التدوين الذي يفترض الانضباط، والشفوية التي تُحيلُهُ إلى تقليد حيٍّ أو نصٍّ متلوّ (Recitation Text)- وما صارت طريقتها الطموحة وذات المنزع الأدبي اتجاهاً واسعاً في أوساط الدارسين للقرآن، بل سادت راديكاليتان تفكيكيتان منذ الثمانينات وحتى اليوم: الراديكالية التي تعمدُ إلى تفكيك النصّ من الداخل، والراديكالية الأخرى التي تبحث عن أصولٍ عبرية أو سريانية مركبة للنصّ في استعادةٍ لفيلولوجيات القرن التاسع عشر، والتي كاد نولدكه نفسه يتجاوزها في أواخر حياته.

التفكيكية الراديكالية الأولى: قادها الدارس البريطاني جون وانسبورو (Wansbrough) والتي تتتبَّعُ الرواية الإسلامية التقليدية بالنقض الكامل. فالرواية الإسلامية ترى أنّ القرآن جُمِعَ في المصحف أيام الخليفة الثالث عثمان بن عفان –رضي الله عنه-، ومن جانب كُتّاب النبي –صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، استناداً إلى نصوص مكتوبة أيام النبي، وشفويات حفظها أصحابُهُ –رضي الله عنهم-. ثم تلت ذلك عمليات الَّنَقْط والإعجام والتشكيل. وبسبب صعوبات الخطّ العربي وبدائياته، كان لابد من تساوق عمليات التدوين، مع التلاوة الشعائرية للجماعة لضبط النصّ وتحريره. وبنتيجة هاتين العمليتين ظهرت القراءات السبعُ أو العشر، وفي القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي كان قد جرى تجاوز معظم الصعوبات الصرفية والنحوية والأسلوبية(4).

أما وانسبورو - ومن بعده تلامذته مثل كوك وكرون - فقد ذهب إلى أنّ النبي محمداً –صلى الله عليه وسلم- ما دوَّن شيئاً، فبقيت قِطَعٌ من القرآن في ذاكرة وصحف أصحابه وجيل التابعين. وتعرضت تلك القِطَعُ التي كانت تدوَّن تدريجيا لعمليات (تحرير) بالتقليل والتكثير والتنظيم والضبط وإعادة التنظيم والضبط، وما استقرَّ النص أو النصوص بالصيغة الحالية إلاّ في القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي.

فصَّل وانسبورو أطروحته هذه تفصيلاً شديداً وملحاحاً(5). وكان مرشده في ذلك هو التفكيكيات التي مورست على نَصَّيِ العهدين القديم والجديد، إضافةً لتعملاتٍ نمطية وتحكمية.

بيد أنَّ طريقته تعرضت لنقدٍ شديدٍ من جانب دارسين غربيين عديدين، ولأسباب داخليةٍ وخارجية(6). السبب الداخليُّ الرئيسيُّ أنّ الحديث عن تحويرٍ وتحريرٍ مستمرين ولمدة قرنين، يفترضان قدرةً على إثبات ذلك من طريق المخطوطات الأُولى، أي أن نجد نُسخاً أو قِطعاً أولى من القرآن تعرضت للتعديل أو التغيير أو الإضافة في مخطوطات ثَوانٍ أو حتى في شفويات ثوانٍ. وقد خطرت تلك الفكرةُ من قبل لأوتو برتزل تلميذ نولدكه، الذي عمد إلى جمع القراءات الشاذة طوال عقدين، رجاء أن يُثبت وجود صِيغٍ أولى أو صيغةٍ أولى (غير مشذَّبة) للقرآن دون جدوى. أما السبب الخارجي فيتمثّلُ في أنّ المسلمين اختلفوا اختلافاً شديداً منذ أواخر خلافة عثمان، الذي تقولُ الرواية الإسلامية المعتمدة: إنّ النصَّ القرآنيَّ (جُمِعَ) أيامه. وما لبثت الفِرَقُ الإسلامية المختلفة أَنْ ظهرت، بحيث ما عاد من الممكن (الإجماع) على (قانونية) نصٍّ مقدَّسٍ بعد ذلك لا أيام الأمويين ولا أيام العباسيين. ونحن نعلمُ أنّ هناك أفراداً من الغُلاة قالوا بنقْص القرآن، وما تابعتهم أكثرية المسلمين الساحقة في ذلك. لكنّ الغُلاة أنفسهم ما ذكروا أنّ النصَّ القرآنيَّ القائم غير صحيح. ونعرف اليوم من دراساتٍ مدقَّقةٍ أنّ هؤلاء خالفوا أكثرية المسلمين في تأويل النصّ القرآني، وليس في تحريفه. والخُلاصةُ أنّ (قانونية) النصّ لابد أن تكون قد استقرت قبل الانقسام في (الجماعة)، وإلاّ لظهرت مصاحفُ متعددةٌ، مثلما ظهرت عشرات الأناجيل، نتيجة عدم الاتفاق على نصّ العهد الجديد قبل الانقسام الذي نزل بالجماعة المسيحية الأُولى، وما يزالُ مستمرّاً.

ومن الأدلة الإضافية على ضعف فَرضية وانسبورو أنّ دارساً بارزاً آخر هو جون بورتون (Burton) أصدر في العام نفسه (1977م) الذي ظهرت فيه دراسة وانسبورو كتاباً بعنوان: (جمع القرآن) أو بالأحرى (تدوين القرآن) ذهب فيه إلى أنّ النبي محمداً –صلى الله عليه وسلم- نفسه قام بتدوين القرآن كلّه في حياته. وهو يرى في ذلك الكتاب، وفي تقديمه لنشرة كتاب الناسخ والمنسوخ لأبي عُبيد القاسم بن سلاّم (-224هـ) أنّ ذهاب المسلمين إلى تأخر الجمع لأيام عُثمان، يعود لأسبابٍ تتعلّقُ بالناسخ والمنسوخ، وأمور فقهية أخرى(7). وهكذا فالفَرضية الأولى هي من التهافُت، بحيث يمكن المجادلة فيها والذهاب إلى فرضيةٍ نقيضة.

التفكيكية الراديكالية الثانية: وهي تقول بإعادة القرآن أو النصّ القرآني الحالي إلى عناصره الأولية والخارجية. وهي ذات شقين، أو أنّ المسؤول عنها في الأصل دارسان هما: ليلنغ (Luling) ولوكسنبرغ (Luxenberg) الذي يتخفَّى تحت هذا الاسم المستعار.

- القرآن الأول بحسب ليلنغ: كتب ليلنغ فيما بين السبعينات وعام 2003م أربع دراساتٍ حول (فرضيته) هذه(8). وأساسُها أن القرآن المَكّيّ على الخصوص ليس من الضروري أن يكون قد أُنزل على النبي محمد بعد بلوغه الأربعين فقط. فقد كانت المسيحية منتشرةً في سائر أنحاء الجزيرة، وكانت بمكة جماعة مسيحية كبيرة، وربما كانت الكعبة في الأصل كنيسة. ولذلك فإنّ النبي محمداً –صلى الله عليه وسلم- (الذي ربما كان نصرانيّاً أو من الحنفاء) أخذ أناشيد مسيحية معينة وترجمها عن القبطية أو الإثيوبية (تأمَّلوا!)، وأعيدت صياغتها بعربية جميلة. وقد جرت تقفيتُها وأُضيف إليها وصارت بهذا الشكل بعد وفاة النبي –صلى الله عليه وسلم-. ويمكن بالتخلص من الإضافات اللاحقة ومن الغطاءات التي أُقيمت فوق المادة المسيحية (الطبقة - العليا) اكتشاف الطبقات العميقة، والتي تمثّل القرآن الأول (Ur- Qur’an) أو بعض إجزائه. لكنّ السيد ليلنغ ما قام بمحاولةٍ شاملةٍ للكشف عن الطبقة المسيحية (الأبيونية) في القرآن، ولا أعتقدُ أنها موجودة. وفيما عدا بعض الكلمات الحبشية أو ذات الأصل الحبشي في القرآن، لا يبدو أنَّ النبيَّ كان مُحاطاً بمسيحيين في مكة، ولا أنَّ الكعبة كانت كنيسةً مسيحية. والواقع أنّ دراسات ليلنغ تستعيد بعض ما حاول مستشرقون مبشّرون إثباته، أي أنّ الإسلام إنما كان في صيغته الأولى مسيحيةً مقنَّعةً أو ظاهرة، أو أنه مسيحية فرقة كانت موجودةً بالجزيرة، وتميلُ للتوحيد، وتختلف عقائدها عن عقائد المسيحيين البيزنطيين(9). بعد القرن الرابع الميلادي.

- الأصول السريانية للقرآن بحسب لوكسنبرغ(10). يتجاهل الكاتب التاريخ تماماً، ويركّز على الفيلولوجيا. فبسبب وجود كلمات وصيغ غامضة أو غريبة في القرآن، يذهب لوكسنبرغ إلى أنّ تلك الكلمات سريانية، وأنّ أصحاب النبيّ –صلى الله عليه وسلم- والمفسرين جهلوا معناها، ولذلك أَخْطَؤُوا جميعاً في تفسيرها، وبخاصةٍ أنها تغيرت لفظاً من الناحيتين الصرفية والنحوية، من مثل كلمة (توراة) أو كلمة (براءة)، ونحو اعتبار معنى الحور العين عناقيد العنب، من فواكه الجنة. بيد أنّ لوكسنبرغ الذي يعتبر القرآن أو بعض سوَره شبه مترجمةٍ عن السريانية، لا يستطيع أن يوردَ سورةً قرآنية ولو قصيرة مقابلاً لها بأصلها السرياني المزعوم. فسورة (اقرأ) بحسب رأيه دعوةٌ لأخذ القُربان المقدَّس، وسورة القَدْر إشارةٌ إلى مولد المسيح. والقرآن هو عبارةٌ عن قربانٍ بالسريانية، أي أنه نسخةٌ أو صيغةٌ من صيغ أمّ الكتاب، أي الإنجيل. ويفترض لوكسنبرغ أنّ النبي –صلى الله عليه وسلم- ما كان أميّاً، وأنه تجَّول في العالم المسيحي الآرامي، وأنه تعاون مع كُتّاب مسيحيين في إنتاج النص القرآني الذي تُرجم عن السريانية باللهجة المكيّة. وقد كان محمد –صلى الله عليه وسلم- وأصحابه ، بحسب لوكسنبرغ، يعرفون اللغتين جيداً. حتى إذا مات النبي –صلى الله عليه وسلم-، وتفرق أصحابه في الأمصار المفتوحة، بدأ نسيان الأصول القرآنية بالظهور، وجرى تجاهل الأصول الغريبة التي لم تعد مألوفة، وتغير نطق الكلمات، ونُسي كل شيء. لكن بقيت الإشارات التي يمكن استناداً إليها وبخاصةٍ في العهد المكي، إعادة الآيات والسُّوَر إلى أصولها.

ويلفت (Gerhard Bowering) الانتباه إلى أنّ محاولة لوكسنبرغ تستند إلى أساس مُماثل(11) لمحاولة اللبناني جوزف القزي(12)، والذي نشر عدة كتبٍ بالعربية تذهب إلى أنّ القرآن مأخوذ عن أصول يهودية/ مسيحية، أولى، أو ما عُرف بالمذهب الأبيوني، مثلما أشار ليلنغ من قبل. وكان كلٌّ من تور أندريه وريتشارد بل وسبنسر ترمنغهام، هؤلاء جميعاً قد أشاروا إلى الأبيونيين، من المسيحيين الأوائل، الذين ظهروا عندما كانت المسيحية ما تزال مختلطةً باليهودية. وكان من هؤلاء في القرن السادس بمكة ورقة ابن نوفل وخديجة بنت خويلد، وقد أراد ورقة استخلاف محمدٍ –صلى الله عليه وسلم- على دعوته ودينه. لكنّ محمداً –صلى الله عليه وسلم- ما لبث أن ترك هذا المشروع عندما غادر إلى المدينة. وهكذا فالفرق بين قرآن محمد والمصحف العثماني، هو كالفرق بين نصٍ ديني شعائري للجماعة الأبيونية بمكة، بينما مصحف عثمان هو كتابٌ مقدس للإمبراطورية الجديدة. وفي حين يستند لوكسنبرغ إلى الفيلولوجيا وحسْب، يعمد قزي إلى اصطناع تاريخٍ كاملٍ لا يعرفه أحدٌ غيره. لكنهما يتوصلان إلى نتائج متشابهة: القرآن مترجم باللهجة المكية عن أصلٍ سرياني. بيد أنّ معانيه جُهلت لزوال قرائه، ولأنّ المشروع نفسه تغير وتقلب مرتين: مرة عندما غادر النبي مكة، ومرة عندما قامت الدولة الإسلامية الكبرى.

وما بقي الأمر عند حدود هذه الرؤى الغريبة. بل إنّ كاتبين غرائبيين مثل (Gilliot وde Blois وvan Reet(13)) ركّزوا على فكرة الأصول غير العربية للقرآن بالمعنى الشامل، وازدادت اهتماماتهم بالأصول السريانية، وبوجود جماعات دينية غريبة بمكة والجزيرة مثل المانويين والمندائيين. وحتى أنجليكا نويفرت، التي عملت طويلاً على بنية القرآن وأسلوبه وعالمه الفكري أو رؤيته للعالم، ما رأت حائلاً دون الاهتمام بأصول إنجيلية للقرآن, وبخاصةٍ أنّ هؤلاء جميعاً التفتوا إلى المفردات والصيغ الغامضة، والتي لا بد من افتراض أصولٍ غير عربية من أجل فهمها مثل (صابئة وحنيف وأمي وأهل الكتاب وبنو إسرائيل والنصارى والمجوس وأهل الإنجيل والذين هادوا والتوراة والإنجيل والزَّبور والصحف).

وقد أقيم قبل شهور مؤتمر للأصول المسيحية للقرآن، شارك فيه عشرات الدارسين المبتدئين، وعاد أكثرهم إلى دراسات القرن التاسع عشر والعشرين لفهم بعض القَصص القرآنية، كما أنّ عديدين عادوا كذلك إلى قراءة المحيط المكي الذي نشأ فيه القرآن، والمحيط المَدني الذي تجاورت فيه الجماعة المحمدية مع اليهودية(14).

وهكذا فإنّ الحجر الذي ألقاه وانسبورو في البركة الساكنة نسبيّاً للدراسات القرآنية، أثار حركةً شديدةً، تلتها موجةُ الأصول السريانية وأنّ القرآن ابن بيئات القرن السابع في الجزيرة العربية. وخلاصةُ الأمر أنّ الدارسين الأوروبيين والأميركيين ما استطاع أكثرهم الخروج من فكرة الأصل المسيحي أو اليهودي أو المسيحي/اليهودي للقرآن، منذ قرون - فهم لا يقبلون المنطق القرآني الذي يعلّل التشابُهات بوحدة الدين، وتعدد الشرائع والنبيين- إنما الجديد في العقدين الأخيرين أنّ هؤلاء بذهبون إلى أنّ الاقتباس ما كان ثقافيّاً عامّاً أو دينيّاً عامّاً في القصص والعبادات والأفكار الرئيسة، بل ربما كان نسخاً أو ترجمةً أو ما يشبه الترجمة والنسخ. وهكذا يضيعُ من جديد جهدٌ كبيرٌ، يقف حائراً دون التقدم خطوةً معتبرةً في دراسات بِنى القرآن وأساليبه ومحيطه بالمعنيين: التاريخي والديني.

وفي هذه الظروف والسياقات تأتي (موسوعةُ القرآن) التي أصدرتها مؤسسة بريل في أربعة مجلدات، مُشيرةً إلى هذا الضياع الذي أنزلته التفكيكية والأصالية والغرائبية بالدراسات القرآنية في الأعوام الأخيرة. ففي حين تستند المواد عن القرآن في النشرة الثانية من (دائرة المعارف الإسلامية) إلى مائة وخمسين عاماً من الأعمال العلمية الكبرى - التي يغلب عليها المنهج التاريخاني، مع ميولٍ إبستمولوجية جديدة، فإنّ الأعمال الواردة في (موسوعة القرآن) تتراوح بين أقدم القديم وأحدث الحديث، ليس من أجل بيان الدرجة أو المرحلة التي بلغتها البحوث، بل دلالةً على الضياع الذي أنزلته التفكيكية أو النقدية الجذرية في العقود الثلاثة الأخيرة بالدراسات القرآنيةخاصةً، ودراسات الإسلام بشكلٍ عام(15).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1-Theodor Nöldeke, Geschichte des Qorans. Leipzig 1909.1919, 1938 وتيودور نولدكه: تاريخ القرآن. ترجمة جورج تامر. دار نشر جورج أولمز، 2004م. وقارن بمراجعةٍ موجزة لمضامين الكتاب وترجمته: رضوان السيد: ترجمةٌ عربيةٌ لكتاب نولدكه عن القرآن، بمجلة التسامح، عدد 8، عُمان، خريف عام 2004م، السنة الثانية، ص286-290. وانظر تقييماً موضوعياً لإنجاز نولدكه R. Paret, Mohammed und der Koran. Stuttgart 1957. pp. 80-85. ومحمد حسين الصغير : المستشرقون والدراسات القرآنية، مرجع سابق، ص28-30.

2-W.M. Watt, Bell’s Introduction to the Qur’an. 1970, R. Blachere, Introduction du -Coran, 1947, R. Paret, Mohammed und der Koran 1957..

3- A. Neuwirth, Studien zur Komposition der Mekkanischen Suren. Berlin 1981 ولها دراساتٌ في النشوريات القرآنية، وفي سورة يوسف، وفي الازدواج في الأسلوب القرآني، وفي أنتروبولوجيا الإنسان في القرآن، وفي القرآن بوصفه نصّاً متلوّاً، وفي افتتاحيات السُوَر الملكية.

4- انظر: C.H.M Versteegh, Arabic Grammar and Qur’anic Exegesis in Early Islam. 1993.. وعبد الصبور شاهين: تاريخ القرآن. القاهرة 1966م.

5- J. Wansbrough, Quranic Studies: Sources and Methods of Scriptural Interpretation, 1977.. وقد عرض كلٌّ منمةم وكرون رؤيتهما المعدَّلة لأطروحة وانسبورو في: Hagarism: The Making of the Islamic World. 1983. ولوانسبورو دراسةٌ أخرى بعنوان: Secterian Milieu 1979.

6- انظر على سبيل المثال:

H. Motzki, The Collection of the Qur’an. A Reconsideration of Western views in light of recent methodological developments, in Der Islam 78, 2001, 1-34, Versteegh, op.cit.

7- J. Burton, The Collection of the Qur’an. 1977.

8- أولها القرآن الأول (1974م)، فالمقدسات المسيحية في الكعبة قبل الإسلام (1977م)، فإعادة اكتشاف النبي محمد (1981م) وتحدي الإسلام من أجل الإصلاح، اكتشاف التهاليل المسيحية في التفاسير الإسلامية الأولى (2003م).

9- من مثل هنري لامنس Lammens وناوA. Nau وتور أندريه T. Andrae وهننغر J. Henninger

10- C. Luxenberg, Die Syro- aramäische Lesart des Koran. 2004. وله مقالاتٌ عن ليلة القدر وعن الميلاد في القرآن.

11- Gerhard Bowering, Recent Research on the Construction of the Qurán. وهو مقالٌ قيد النشر، وقد أطلعني عليه بروفسور كروب Kropp مدير المعهد الألماني في بيروت، فله الشكر.

12- يقصد بوفرنغ الكتابين المنشورين تحت اسم أبو موسى الحريري: نبي الرحمة (1990م)، وقسّ ونبي (1991م). ولي دراسةٌ لم تنشر عن هذين الكتابان وأمثالهما مما صدر في الحرب الأهلية بلبنان (1976-1990م) بعنوان: جدالٌ مسيحي ضد الإسلام في الحرب الأهلية في لبنان. وكما تبين أنَّ أبا موسى الحريري هو جوزف قزي، فقد يكون هو نفسه لوكسنبرغ. وقد يكون هو نفسه ابن ورّاق الذي دأب في السنوات العشر الأخيرة على الزعم أنّ القرآن مترجمٌ إلى العربية. وقد نبَّه بوفرنغ في مقالته السالفة الذكر إلى أنّ الفكرة (أي الأصل الآرامي واليهودي/ المسيحي للقرآن) قديمة، قارن:

A. Schlatter, Die Entwicklung des jüdischen Christentums zum Islam, in: Evangelische Missionsmagazin Bd. 62. 1918. 251-264.

13- لا أعرفُ من تلك الكتابات غير ما قرأته لفرانسوا دي بلوا، أمّا المقالات والكتب الأخرى فقد عرفتها من خلال مقال Böwering السالف الذكر.

14- قارن بمراجعة سامر رشواني للمؤتمر المذكور بعنوان: بدائع الاستشراق الجديد.. وفظائع السريانيات القرآنية، بجريدة الحياة، بتاريخ 16/7/2005، ص15 (تراث).

15- صدرت الموسوعة القرآنية في خمسة مجلدات (2001-2004) بعد إعدادٍ طويل. وهذه العجالة لا تُنصفُها إذ لا بد من قراءتها قراءةً تفصيلية.

المصدر: http://www.ridwanalsayyid.com/ContentPage.aspx?id=93#.VykCVVWDGko

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك