الشرعية والمشروعية في التجربة العربية الإسلامية

الدكتور رضوان السيد

 

1- تمهيد:

هناك إمكانياتٌ ومداخل متعددة لمعالجة إشكاليات الشرعية والمشروعية في المجال العربي الإسلامي، السياسي والاقتصادي والاجتماعي، عبر العصور. والإمكانياتُ -إذا صحَّ التعبير- هي (الموديلات) أو النماذج النظرية. أمّا المداخل فهي المنطلقاتُ أو الأحداث أو المصطلحات والتعابير الدالّة على النظام وفي نِطاقه. وقد اخترتُ موديل أو منهج السوسيولوجي الألماني البارز ماكس فيبر M.Weber (1864-1920م)، أمّا في المدخل، فقد اخترتُ التجربة العربية الإسلامية في مرحلتها الكلاسيكية (من ظهور الدولة وإلى نهاية الخلافة العباسية ببغداد، أي ما بين العام العاشر للهجرة، والعام 656هـ). وأعني بالتجربة أمرين اثنين: القضايا الرئيسية التي تمثّل الثوابتَ الكبرى في النظام، والتطلعات، ومُثُل الاقتداء (السُنَن) في التجربة، وهي التي اعتبرتُها أساس مشروعية النظام Legitimacy، والأمر الآخر: الإشكاليات والمصاعب ووجوه النجاح والفشل من ضمن مسار التجربة في ظلّ ثوابت المشروعية، وهي التي سمَّيتُها الشرعية Legality، وتتعلقُ في الأغلب الأعمّ بالتقاليد والأعراف في سائر مناحي الحياة الخاصّة والعامّة، وتتعلَّقُ في جوامعها بالمصالح وإدراكاتها. وهكذا فهناك مسائل التأسيس أو المشروعية في أيّ نظامٍ، ومن ضمن ذلك النظام العربي الإسلامي. وهناك المسائل المعلقة بالمصالح، والتي تتحدد بمقتضاها تصرفات الأفراد والجماعات، أي الأمور التي يمكن القيامُ بها، وتلك التي لا يصحُّ القيامُ بها، أي مسائل الشرعية. ولكي يكونَ واضحاً ما أقصدُهُ من وراء هذه التفرقة أو هذا التمييز بين المشروعية والشرعية، أُشير إلى أنّ النظامَ يسقطُ أو يتغيَّر إذا فارق الثوابت. في حين يتعرضُ النظامُ نفسُهُ لمشكلات الاختلال والتفكك التدريجي إذا جرى الخُروج على السُنَن والأعراف المستقرَّة من الجهات السياسية أو من فئاتٍ عريضةٍ في الأمة، على مَدَياتٍ مُتَطاولة. وما يستحقُّ الذكر أخيراً في هذا التمهيد أنّ هذه المفاهيم والمقولات نِسْبيةٌ وتفسيريةٌ، ولا حتميات فيها؛ وإنما الأمر تحليلٌ وغَلَبةُ ظَنٍ، ولا يقتضي إصدار أحكامٍ مبرمةٍ لا تسمحُ بها تجربةٌ حضاريةٌ زاخرةٌ ومتنوعّة الشعوب والتقاليد والمراحل، واستمرت لأكثر من ستمائة عام.

أمّا ماكس فيبر Max Weber فقد ذكر في مقولةٍ له في الاقتصاد السياسي، أنّ هناك ثلاثة أنماطٍ من الشرعية(1)، يمكن النظرُ إلى الأنظمة قياماً وثباتاً واستقراراً وتحولاً على أساسٍ منها: النمط التقليدي، وهو الذي تحكمُ فيه العاداتُ والأعراف المستقرة في السلطة أساساً وتصرفات. وقد قصد به الأنظمة الملكية التي تعتمد مبدأ التوريث في السلطة وتداوُلها، كما تعتمدُ قوانين وأعرافاً كبرى موروثة للتصرف السياسي والاقتصادي والاجتماعي بالداخل، وأعرافاً كبرى للعلاقة بالخارج والجوار والتصرف إزاءهما. وبذلك تتحدد شرعيةُ أي شخصٍ أو تصرفٍ ضمن هذا النمط استناداً إلى الأعراف المستقرة في طريقة الوصول للسلطة، وفي طريقة التصرف من خلالها تُجاه فئات الناس، وتُجاه الخارج الصديق أو العدوّ. أمّا النمطُ الثاني فهو النمطُ الدستوري أو الديمقراطي. وتتحددُ الشرعيةُ فيه بمدى التطابُق في طرائق الوصول للسلطة والتصرف السياسي، مع النصّ الدستوري، ومع القوانين والأعراف والعادات الأُخرى ضمن النظام. والنمطُ الثالثُ هو النمطُ الكارزماتي أو الشخصاني. والمشكلةُ هنا في تسمية هذا النوع من السلطة نَمَطاً. لأنه يعتمدُ على الكفايات الشخصية الفريدة والتي لا تتكرر للشخص الساعي للسلطة أو الواصل إليها من طريق دعم الجماهير أو إيمانها به. ومن المعروف أنّ ماكس فيبر توفّي قبل ظهور الفاشية الإيطالية أو النازية الألمانية. ولذا فقد كان ينظُرُ إلى شخصياتٍ مثل نابليون أو ماتزيني أو غريبالدي بإيطاليا في القرن التاسع عشر. وربما نظر أيضاً إلى شخصياتٍ قديمةٍ مثل باركليز اليوناني، أو أنبياء بني إسرائيل، الذين درس سلطاتهم النبوية دراسةً متأنية. ومن المفهوم أنه اعتبر ذلك أمراً استثنائياً، وهو انقلابٌ تغييريٌّ على أحد النمطين السابقين؛ مثلما حدث من جانب كرومويل ببريطانيا في القرن السابع عشر مَثَلاً. لكنّ الأمر يومَها ما تحوَّل إلى (نمط) بل عاد البريطانيون إلى النمط التقليدي معدَّلاً. بيد أنَّ البروفسور هَدسون في كتابه: (السياسات العربية) (1971م) اتخذ من هذا النمط الفيبري منطَلَقاً لفهم وسائل الحكام العسكريين العرب في الخمسينات والستينات من القرن العشرين لشرعنة أنظمة حكمهم من طريق (التغيير الثوري)، ورأى -كما رأى أنور عبد الملك من قبل في دراسته عن عسكريي ثورة يوليو- أنه ما كان هناك شكٌّ في الجماهيرية الواسعة التي حظيت بها الانقلاباتُ الثوريةُ في سنواتها الأولى في أنحاء من أسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية. ثم ماذا نُسمّي ثوريات أو شرعيات شخصيات مثل هتلر وموسوليني وماوتسي تونغ وكيم إيل سونغ...إلخ. والمشكلةُ الأُخرى في منظومة ماكس فيبر هذه هو طابُعها النظري البحت أو الخالص. فمن الواضح أنه ليس هناك تمطٌ أو نظامٌ تقليديٌّ بحتٌ أو دستوريٌّ بحْتٌ أو كارزماتيٌّ بحت. وما هو مصير شرعية أي نظامٍ إذا حدث فيه اختلاطٌ أو امتزاجٌ بين نمطين أو ثلاثة، مثل الملكية الدستورية التي يكونُ الملكُ فيها ذا شعبيةٍ هائلةٍ بين رعاياه أو مُواطنيه؟!

2- التجربةُ وثوابتُها وقضاياها(2): مع بدء قراءة التجربة العربية الإسلامية تظهر لدينا مشكلتان: الطابع العامّ الذي نستطيعُ أن نحدّد على أساسه النظام الذي سمّيناه عربياً إسلامياً. والثوابت التي قام عليها ذاك النظام. لقد سمّينا النظامَ عربياً، لأنّ الذين أنشأوه كانوا عَرَباً، وكانوا يعُونَ ذلك، ويُرتّبون على هذا الأمر أو هذا الانتماء نتائج تتصلُ بفهمهم لسلطاتهم من جهة، وتصرفاتهم ضمن التجربة من جهةٍ ثانية. كما سمَّينا النظامَ إسلامياً لأنّ القائمين عليه كانوا يعتبرونه كذلك، لأنهم أقاموهُ على أساس أنّ مضامينَهُ وكبريات مسائله تأتمُّ بالدين الإسلامي الذي نشره داعيتُهُ الأولُ النبي محَّمدٌ –صلَّى الله عليه وسلم-، وخَلَفوهُ هُمْ في الأمانة للدعوة والرسالة والمشروع الذي يقتضي الدولة.

على هذا الأساس فقد ارتأى كثيرون تسميةَ النظام الإسلامي نظاماً نبوياً-خليفياً. فهو في نظرهم نبويٌّ لأنَّ مؤسِّسَهُ نبيٌ، ذو سلطةٍ كارزماتية (مُلهَمة أو مُوحات كما هو شأن الأنبياء)، وهو خليفيٌّ لأنّ الصحابة الذين خَلفَوا النبيَّ في رئاسة النظام سَمَّوهُ خلافة، وسَمَّوا أنُفَسُهم خلفاء رسول الله. لكنْ هنا مشكلتان: أنّ الصحابةَ الذين تشكّلت المعالمُ الكبرى للنظام في أيامِهِمْ ما اعتبروا سلطتَهم نبويةً ولا كارزماتية، ولا اعتبروا أنُفَسُهمْ معصومين، ولا أنّ النبيَّ أو النصَّ الإلهيَّ شاركا في تنصيبهم، بل إنّ الجماعةً أو أهل المدينة هم الذين نصَّبوهم، ولذلك فهم إنما خَلَفوا النبي –صلى الله عليه وسلم- بالزمان أي ترأسوا بعده بسبب وفاته –صلى الله عليه وسلم-؛ وهذا معنى (الخلافة) في نظرهم وليس أكثر. والأمر الثاني أنّ المرويات عنهم في فهمهم للنظام الذي يترأسونه أنّ هَمَّهم كان التميُّز أو التمايُز عن الأكاسرة والقياصرة. وقد كان المُعاصر لهم من (الأنظمة) أو الأنماط – إذا صحَّ التعبير ثلاثة : الإمارة العربية، والنظام البيزنطي القيصري، والنظام الساساني الكسْروي. وقد كانوا يعرفون ارتباط النظام البيزنطي بالدين المسيحي؛ بينما كانوا يعتبرون النظام الساساني عقلانياً جَبَروتياً. أمّا الإمارةُ العربيةُ، ورغم اقترابها من أخلاقهم وفهمهم فقد كانت إمرةً قَبَليّة. واللافتُ أنّ مكة والطائف كان فيهما (مَلأٌَ) أي مجموعة من الوجهاء الذين يتزعمون البطون القَبَلية لقُريش وثقيف، ولا تتعدى صلاحياتُ الشيخ أو الوجيه منهم بطنَه القَبَلي إلاّ إذا اجتمعوا وقرروا بالإجماع أمراً يتعلقُ بالبلدة كلّها. ولذا فالذي يمكنُ استنتاجُهُ أنّ التسمية بالخلافة إنما جاءت للتبرك بالمجيء بعد رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، أو دخول الأمة في مرحلة الخلافة بعد مرحلة النبوة(3). أمّا مضامينُ النظام فقد تجنبوا فيها المَلَكية القيصرية لاجتناب المزج في سلطتهم بين الدين والدنيا، أي تجنُّب إعطاء أَنُفِسِهمْ صلاحيات النبي –صلى الله عليه وسلم- تُجاه الدين، وتُجاه الجماعة. كما تجنبوا فيها الكسروية، لاعتقادهم أنّ الساسانيين كان نظامُهُمْ يقوم على الطبقات واستعباد الناس بالداخل، وعلى الجبروت تُجاه الخارج (وقد عرف العربُ ذلك منهم وعنهم لأنهم كانوا مجاورين لهم في الجاهليتين الأُولى والثانية). ومنذ البداية كان لنظامهم اسمان، الاسم الجديد: الخلافة، وقد عنى السلطة العالمية الجديدة، وإمارة المؤمنين، وهو متعلقٌ بعلاقة الحاكم برعاياه العرب والمسلمين، وهو يعبّر عن التواضُع والالتزام. وقد أفادوا في ذلك من تقاليد العرب في المشيخة والإمْرة. وقد وُفِّقَ في التعبير عن ذلك أبو موسى الأشعري الذي ميَّزَ بين نمطين في قوله: الإمرةُ هي ما ائتُمر فيه، والمُلْك هو ما غُلب عليه بالسيف! وهكذا، فالذي أذهبُ إليه أنَّ النَمَط السلطويَّ الذي نتحدث عنه في التجربة العربية الإسلامية ليس نَمَطاً نبوياً، لأنه لا تتوافَرُ فيه خصائصُ النبوة: الوحْيُ والاصطفاءُ من الله، والعصمة. كما أنه ليس نمطاً عربياً، لأنّ الإمرة والمشيخةَ العربية بداخل الجزيرة ما كانت لها أبعادٌ عالميةٌ، ولا تحملُ مشروعاً أيديولوجياً أو سياسياً عاماً، وإنما كانت اصطلاحاً تدبيرياً بحتاً. ثم إنه ليس نظاماً قيصرياً أو كسروياً للأسباب التي ذكرْناها من قبل. فهو نظامٌ خليفيٌّ كما سمّاه الصحابة، وهو متأثّرٌ من جهة بالإمارة العربية بداخل الجزيرة (وليسَ بأطرافها شأن اللخميين بالحيرة، والغساسنة بالشام، إذْ هُم متأثّرون هناك بأسيادهم من القياصرة والأكاسرة)، وبالتوجهات الدعوية والرسالية العامة التي اقتضاها الدينُ الجديدُ، وطرائقُ الوعْي به لدى النُخبة من معتنقيه. ومع أنّ هذا الأمر ليس واضحاً، لأنّ التسمية بالخلافة مُحايِدة؛ فإنّ المفهومَ من تصرفات الخلْفاء الأربعة الأوائل أنهم كانوا يعتبرون أنّ العربَ وبسبب اعتناقهم للإسلام كانوا يملكون حقّين أو التزامين: حقّ وواجب إقامة كيان يجمعُ العرب تحت سلطةٍ واحدة. وحقّ وواجب مدّ سيطرتهم إلى خارج الجزيرة، تارةً من أجل الدفاع عن الكيان الجديد، وطوراً من أجل نشر الإسلام وإظهاره.

ما هي ثوابتُ النظام الجديد، أو ما هي أُسُسُ مشروعيته؟ لقد افترضْتُ في دراساتٍ سابقةٍ أنّ النظام الجديد يتأسَّسُ على ثلاث وحدات: وحدة الأمة، ووحدة الدار، ووحدة السلطة. والواقع أنّ وحدة الأمة باعتبارها مُعطىً ثابتةٌ في القرآن الكريم في عشرات الآيات. أمّا طابُعها السياسي فهو ثابتٌ في كتاب المدينة أو عهد المدينة في السنة الثانية للهجرة، والذي جاء في مقدمته أنّ المجتمعين بالمدينة (أمةٌ واحدةٌ من دون الناس). وقد مَرَّت هذه المقولة وهذا الواقع بمرحلتين: مرحلة التجمُّع والتحشُّد، عندما فُرض على كلّ الذين يعتنقون الإسلام أن يُهاجروا إلى المدينة، من أجل حمايتهم من جهة، وللإعلان عن انضمامهم إلى هذه الجماعة الدينية والسياسية الجديدة. ثم مرحلة التوسُّع والامتداد، بعد فتْح مكة في العام السادس للهجرة، وحين قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: لا هجرةً (إلى المدينة) بعد اليوم، لكنْ جهادٌ ونيةٌ وإذا استُنفرتُم فانفِروا. ومن أجل ذلك فإنه عندما تُوُفّي رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في أوائل العام الحادي عشر للهجرة، كانت مسألةُ الأمة، وأنها جماعةٌ سياسيةٌ قد ثَبَتَتْ، ولا تحتاجُ إلى مزيد تأكيد. والأَمْرُ نفسُه بالنسْبة لوحدة الدار، إذ عند وفاة النبي –صلى الله عليه وسلم- كان الإسلام قد امتدّ إلى سائر أنحاء الجزيرة وتُخومها. وبذلك نشأَ كيانٌ جديدٌ أو دارٌ جديدٌ، كما عَبَّر عنها الفقهاءُ فيما بعد، بعد أواسط العصر الأُموي. وهذا ما ينبغي فَهْمُهُ من قتال أبي بكرٍ لأهل الرِدَّة أو مَنْ سُمُّوا بذلك. ولا شكَّ أنّ بعضَ هؤلاء كانوا قد ارتدُّوا عن الإسلام مثل: سَجاح التميمية وطُليحة بن خويلد الأسدي بنجد، ومسيلمة باليمامة، والأسود العنْسي باليمن، أو أنهم ما كانوا قد اعتنقوه أصَْلاً. لكنّ بعضاً منهم ما ارتُّدوا عن الإسلام، وإنما ما أدركوا المعنى السياسي للأمة الجديدة. والمعروف أنّ بعضَ الصحابة ما أرادوا مُقاتلة هؤلاء لخشيتهم أن لا يستطيَع ذلك الكيانُ الجديد، أو لأنهم ما اعتبروا أنّ اعتناقَ الدين الجديد يقتضي وحدةَ الأمة أو الدار.

وهناك مَنْ يعتقدُ (وكنتُ منهم) أنّ وحدةَ الأمة والدار تقتضي أيضاً وحدةَ السلطة، ولذلك قاتل أبو بكرٍ مانعي الزكاة، أي الذين ما أرادوا أن يتبعوا سلطةَ المدينة الجديدة دينياً وسياسياً. ويُروى عن أبي بكرٍ أنه قال : والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لقاتلْتُهُمْ عليه!. إنما المشكلةُ هنا أنّ الوحدة الثالثةَ هذه كانت موضع جدلٍ ونزاعٍ وإن يكنْ قصيراً. إذ إنّ بعضَ الأنصار في السقيفة بعد وفاة النبي –صلى الله عليه وسلم-، وعندما رأَوا أنّ المُهاجرين لن يسلِّموا لهم بالرئاسة في الكيان الجديد، رفعوا شعار: منا أميرٌ ومنكم أمير! ومعنى ذلك أنّ هؤلاء ما كانوا يرون إخلالاً في وجود أميرين ضمن الجماعة الدينية الواحدة بالمدينة. وكانت إجاباتُ المهاجرين متنوعة؛ من مثل: لا يجتمعُ سيفان في غِمْد، ولن يطيعَ الناسُ أحداً من غير قُريش، وإننا نخشى النزاع والفتنة إذا تنازعْنا الأمر...إلخ. وهذه كلُّها أسبابٌ سياسيةٌ وعمليةٌ، ولا علاقةَ لها بالدين أو ثوابت الأمة. لكننا نعلمُ أنّ أكثرية الأنصار بايعتْ بعدها أبا بكر، أي أنها سلّمتْ بضرورة وحدة السلطة، رغم اعترافها على شخص أبي بكرٍ من مثل ما أصرَّ عليه سعدُ بنُ عُبادة، وما ورد في شعِرٍ للحُطيئة. كما أننا نعلمُ – وهذا أمرٌ تمتزجُ فيه وحدةُ الدار بوحدة السلطة – أنّ كُلاً من عمر وعثمان وعلي رفضوا تقسيم الأرض المفتوحة بين الفاتحين لخشيتهم من تعدُّد الدور وتعدُّد السُلُطات أو الكيانات، والناسُ حديثو عهدٍ بجاهليةٍ وقَبَلية. وهكذا فإنه في النهاية، وإذا كان الجانبُ الدينيُّ بارزاً في وحدة الأمة، ووحدة الدار؛ فإنّ الجانبَ السياسيَّ بارزٌ أكثر في الوحدة الثالثة: أي وحدة السلطة. ويبدو هذا التمييزُ مهماً إذا تتبعْنا مُجريات التجربة على مدى القرون. إذ إنّ كلَّ المُعارضين للأُمويين وللعباسيين كانوا يبدأون بمحاولة استبدالهم، أي الحلول محلَّهم في السلطة. وهذا ما فعله العباسيون مَثَلاً عندما ثار دُعاتُهم في خُراسان وجاءوا إلى الشام فَهَزموا الأُمويين وأسقطوا دولتَهم. لكنّ ثواراً كثيرين ما طمحوا إلى إسقاط (الدولة العامة)، وإنما طَمحوا إلى الاستقلال بناحيةٍ مع الاحتفاظ بالوحدتين: الأمة والدار. وربما كان أو مَنْ حاول ذلك الحارث بن سُريج التميمي بخُراسان، ثم حقّقه الإباضيةُ بعُمان والمغرب، والزيديةُ بالديلم واليمن. وفي أواخر النصف الثاني من القرن الثالث الهجري قامت خلافتان مُنافستان هُما الفاطميةُ بالمغرب ثم بمصر والشام، والأُموية بالأندلُس. وقد يقالُ: إنّ الفاطميين إنما كانوا يريدون الحلولَ محلَّ العباسيين لكنهم عجزوا؛ وبذلك فقد كانوا يقولون بالمشروعية الواحدة أو بوحدة السلطة. لكنّ ذلك لا يمكنُ قولُهُ عن أُمويي الأندلُس الذي لا نعرفُ عنهم محاولةً واحدةً للحلول محلَّ الفاطميين أو العباسيين. وهذا الشأنُ في دويلاتٍ كثيرةٍ قامتْ عندما ضعُف العباسيون في مناطق سيطرتهم، وعندما ضعُف الفاطميون في مناطق سطوتهم السابقة. لكنْ مما يدلُّ على القوة النسْبية لثابت وحدة السلطة في دار الإسلام، وأنه ظلَّ في الوعي لمدةٍ طويلة، إقبالُ كثيرين من المتغلِّبين في بعض الأنحاء على تطلُّب المشروعية من طريق إرضاء الخليفة العباسي الاعتراف بسلطتهم في الناحية التي سيطروا عليها بالقوة؛ وكان من الواضح أنّ الخليفة لا يستطيعُ إزالتَهم عنها، وإنما أرادوا بذلك الانضواء تحت مبدأ (وحدة السلطة) لكي يرضى رعاياهُم عنهم، بدلاً من الاستعانة بالجند عن الإخضاع بشكلٍ دائم. ونستطيع أنْ نجد تسويغاً فقهياً لذلك في الأحكام السلطانية للماوردي (-450هـ)، والذي تحدَّثَ عن (إمارة التغلُّب)، وكيف يمكنُ لها الانضواء تحت مظلّة مشروعية الخلافة الشاملة، من طريق (تنصيب) المتغلِّب لاحقاً من جانب الخليفة! وهكذا فإنّ (وحدة السلطة) ظلّتْ قويةً نسْبياً في الوعي والتصرف، أي أنها ظلّت ضمن عوامل وفواعل المشروعية، لكنها لا تُضاهي في ذلك مبدأي وحدة الأمة ووحدة الدار، واللذين ما تعرض أولُهما للتساؤل حتى اليوم، أما الثاني (وحدة الدار) في تعرض للتساؤل الجدي إلاّ في مرحلتين متأخرتين: مرحلة تداعي الأندلس الإسلامية وسقوطها، ومرحلة بدء الاستعمار الأوروبي بالجزائر والهند وإندونيسيا. ففي حين سلَّم فقهاءُ كثيرون، - وبخاصةٍ بعد سقوط الخلافة العباسية ببغداد – بقيام سلطات وخلافات متعددة ضمن دار الإسلام؛ فإنّ كثيرين منهم ومع تعرُّض وحدة الدار للتهديد بالاستيلاء أو الاستعمار، رأَوا أنّ (استيلاء غير المسلمين على دار الإسلام أو أجزاء منها) قد يُخْرج أهلها وإن كانوا أكثريةً ساحقةً عن دين الإسلام ذاته، ولسببين: انقطاعُهُم عن المسلمين الآخرين، وخضوعُهُم لأحكام وقوانين وتنظيمات غير إسلامية. ولذلك فقد طالب عدةُ فقهاء، وعبر أكثر من خمسة قرون، أهل الديار المحتلة بالجهاد أو الهجرة!

وهكذا، وفي الحدود والشروط والظروف التي ذكرتها للتجربة والنقاشات، تظلُّ أُسُسُ المشروعية ثلاثة: وحدة الأمة، والغالبُ عليها المعنى الديني، ووحدة الدار، والغالبُ عليها دينيٌّ وسياسي، ووحدة السلطة، والغالبُ فيها العاملُ السياسي؛ أو أنها كانت من ثوابت المشروعية في عصر قوة الدولة الإسلامية العالمية.

3- قضايا الشرعية وإشكالياتها(4): إذا كانت الوحداتُ الثلاثُ من قضايا المشروعية وثوابتها أو من قضايا التأسيس؛ فإنّ هناك عدة قضايا ومشكلات دخلتْ خلال التجربة وكانت من قضايا شرعية المصالح. أو بتعبيرٍ آخر إذا كانت الوحداتُ الثلاثُ من ضرورات النظام؛ فإنّ هناك مسائل وأُموراً مثل قُرَشية الخليفة، والشورى في الوصول إلى السلطة، والعلائق بين النظام والشريعة الإسلامية؛ كانت ضمن النقاشات التي دارت حول شرعية هذا الخليفة أو الرئيس أو ذاك. وقد اعتبرها البعضُ من الفقهاء والسياسيين ضرورية؛ لكنّ الأكثرية ظلّت تعتبرُها من الأُمور الحاجية أو التحسينية بتعبير الشاطبي، الفقيه المالكي عند التمييز بين المصالح. فقد ذكر الشاطبي في كتابه المشهور: (الموافقات) أنّ الشريعة إنما أُنزلت لصون مصالح العباد، ومن هذه المصالح ما هو ضروري، ومنها ما هو حاجي، ومنها ما هو تحسيني.

وأولُ تلك الأمور التي طُرحت منذ اللحظة الأولى في سقيفة بني ساعدة قُرشيةُ الخليفة أو رأس الدولة. وكان من ضمن الحُجَج التي أدْلى بها أبو بكرٍ وعمر وأبو عُبيدة عبارات مثل: إنّ الناسَ لا يُطيعونَ غير هذا الحيِّ من قُريش. وهذه الحُجّةُ عَبَّر عن مثلها فيما بعد الأُمويون كما ورد في صحيح البخاري، وفي تاريخ الطبري، ومصادر أُخرى – عندما ذكروا أنّ قُريشاً هي أوسَطُ العرب نَسَباً وداراً، وقد كانوا وُلاة البيت الذي كانت العرب تحجُّ إليه في الجاهلية، وتُسلِّم لهم بالسيادة فيه، وما غيرَّ النبي –صلى الله عليه وسلم- شيئاً من ذلك بل أكَّده. وهذه الحُجّةُ بالذات حوَّلها ابنُ خلدون (-808هـ) إلى قانونه المشهور في العَصَبية بمعنى أنّ قُريشاً كانت بين العرب الأكثر وعياً وعملاً على أن تكونَ السلطةُ فيهم. وقد تسللّتْ تلك القناعةُ إلى العرب الآخرين وبخاصةٍ بعد أَنْ ظهر النبيُّ فيهم؛ فزادهُم ذلك شرفاً على شرفٍ، واستحقاقاً على استحقاق. وما كانت هناك بين العرب مجموعةٌ قَبَليةٌ أو غير قَبَلية تملك مثل ذاك الوعي، وذاك الاستحقاق. وبعد ذلك، وربما في العصر الأُمويّ بالذات، بدأت تنتشر الأحاديثُ المنسوبةُ للنبي –صلى الله عليه وسلم- والتي تُعطي السلطةَ في الأمة لقريش، مثل الحديث المشهور: الأئمةُ من قُريش، وقدِّموا قُريشاً ولا تَقَدَّموها، وهذا الأمر في قريش ما بقي في الناس اثنان...إلخ. وليس المجال مُتاحاً هنا لمناقشة صحة هذه الأحاديث، وبخاصةٍ أنّ الأنصار الذين اجتمعوا بسقيفة بني ساعدة مع المُهاجرين، ما كانوا يعرفونها – كما أنَّ القُرشيين ما احتجُّوا بها، بل احتجّوا بعادات العرب، وبالقُرب من النبي –صلى الله عليه وسلم-، وبأنهم أولُ مَنْ أسلم وهاجَر. بيد أنّ هذا الأمر الذي تحوَّل إلى واقعٍ بالبيعة لأبي بكرٍ ثم للثلاثة القُرَشيين من بعده، ما تعرَّض للتشكيك من جانب بعض الأنصار وحسْب؛ بل وتعرَّض للتشكيك والإنكار من جانب جماعات المحكِّمة، الذي ذهبوا عام 64/65هـ إلى مكة لمساعدة ابن الزبير (-72هـ) في الدفاع عن البيت الحرام في وجه الجيش الأُموي الزاحف باتجاهه. وما بدا لأول وهلةٍ أنّ هؤلاء يختلفون مع ابن الزُبير في شيء. لكنْ عندما انفكَّ الحصارُ الأُمويُّ عن مكة بوفاة يزيد بن مُعاوية، سارع ابنُ الزبير لطلب البيعة بالخلافة من القُرشيين المكيين، ولم يسأل المقاتلين معه من غير قُريشٍ عن رأيهم. وقد اختلف معه هؤلاء في عدة مسائل وأهمّها البيعة بدون شورى، وغادروا مكة، ليؤسِّسوا عبر التاريخ دولاً عبر التاريخ الإسلاميِّ كلِّه، الأئمةُ فيها من غير قُريش. وما أَنكر عليهم المسلمون الآخرون الذين ما كانوا على رأْيهم الديني أو العَقَّدي هذا الأَمْرَ بالذات، وإنما أَنكروا على المتطرفين منهم استباحتَهم لدماء مُخالفيهم. وهكذا ورغم تسليم الأكثرية بالطاعة للأئمة من قُريش؛ فإنَّ هذا العُرف ما اعتُبر من ضرورات السلطة، بل كان في القرون الأُولى شرطاً من شروط شرعيتها. وفي القرن الخامس الهجري اعتبر إمامُ الحرمين الجويني(5) (-478هـ) أنَّ القُرشية هي شرطٌ تحسينيٌّ وليس شرطاً ضرورياً. كما اعتبر وحدة الخليفة أو أمير المؤمنين، وليس وحدة السلطة، من الأُمور المحتملة أيضاً، وبخاصةٍ إذا (شَسَعَتْ المسافاتُ)، بحيث يتعذرُ على الخليفة الواحد أن يُباشر الأمورَ بنفسه في مشارق الأرض ومغاربها. وهذا يعني أنّ الجوينيَّ، ومن بعده ابنُ خُلدون، والمقريزيُّ (-845هـ) ما عادوا يعتبرون وحدة الإمام أو قُرشيته من شروط الشرعية. وكما سبق القول؛ فإنّ وحدة السلطة بقيت مبدأً معتبراً حتّى بعد أن مضت على زوالها قُرون؛ فكذلك قُرشيةُ الإمام بقيت عُرفاً سائداً أو شرطاً من شروط الشرعية، حتّى بعد أن قامت دُوَلٌ ليس فيها إمامٌ قُرَشيٌّ، وبقيت وحدةُ السلطان مطلباً لدى الفقهاء، حتّى بعد أن مضتْ قرونٌ على تعدد الأئمة وأُمراء المؤمنين. وينبغي أن نُلاحظَ هنا أنَّ المحكِّمة لم ينفردوا بإنكار شرْط القُرَشية؛ فالواقعُ أنَّ كلَّ القائلين بأحقية أهل البيت النبويّ بالانفراد بالسلطة، ما قالوا بذلك لأنه قُريشٌّ؛ بل لأنه من سُلالة النبيّ من ابنته فاطمة –رضي الله عنها-. وهكذا وبعد القرن الرابع الهجري ظهرت عدةُ اتجاهاتٍ لا تعتبرُ القُرَشيةَ شرطاً لشرعية القائم بالأمر، وإن اختلفت في التعليل. فهناك مَنْ قال إنّ القُرشية ما كانت شرطاً أبداً لا بحكم الدين ولا بحكم المصلحة (مثل المحكِّمة وبعض المتكلمين). وهناك من قال إنّ الشرعية شرطُها الأَوحد أن يكونَ المتصدّي من أهل البيت النبوي. وهناك من قال إنها ما عادت شرطاً لأنّ الواقع تجاوزَها، أو لأنّ قانون العصبية انقلب لغير صالحها!

ويختلف الأَمْرُ بالنسْبة لمبدأ الشورى. إذ الظاهرُ أنه لم يلعب دوراً في الشرعية إلاّ في حقبة الراشدين، وفي أيديولوجيات ودعوات المعارضين، ثم لدى المحكِّمة الذين أقاموا دُولاً في بعض أنحاء دار الإسلام. وعلى أيّ حالٍ فأنّ مسألة الشورى كانت غامضةً في المعنى والممارسة. فعُمر يقول عن خلافة أبي بكرٍ – الذي تمت البيعةُ له في سقيفة بني ساعدة ثم في المسجد النبوي – إنها: (كانت فلتةً وقى الله شرَّها)، وقد اختلف المؤرّخون والفقهاء في فهم ذلك. منهم من قال لأنّ قسماً من أهل المدينة هم الذين بايعوا وحسْب. ومنهم مَنْ قال لأنّ أحداً (ذا سُلطةٍ) لم يرشِّحْهُ لذلك. ويبدو أنّ التفسير الثاني هو الراجح، وهذا يعني أنّ عُمرَ ما كان يعتبر العامّةَ من أهل الشورى، أو الترشيح؛ بل من أهل البيعة فقط. أمّا هو فقد رشّحه للأمر أو استخلفه أبو بكرٍ وهو على فراش الموت. وأمّا عثمان فقد اختاره الستةُ (= من أهل الحلّ والعقد؟) الذين عينهم عمر وهو على فراش الموت أيضاً. في حين مضى الخليفةُ الرابعُ عليٌّ إلى المسجد النبوي بالمدينة فبايعه الجميع، وفي مقدّمتهم أولئك الذين كان عمر قد اعتبرهم من أهل الشورى أو الحلّ والعقد. وبذلك فإنّ حقبة الراشدين التأسيسية لا تقولُ شيئاً واضحاً في مسألة الشورى، أو مدى أهميتها واعتبارها في تحقُّق الشرعية للواصل للسلطة. لكنّ ذلك لا يعْني أنه ما كان بين كبار المسلمين في العصر الأول مَن اعتبر الشورى شورى المسلمين جميعاً وفي المرحلتين، مرحلة الترشُّح، ومرحلة البيعة. وفقد ذكر المؤرِّخون أنه كان بين الذين وقفوا مع ابن الزُبير إلى جانب قادة المحكِّمة، جماعاتٌ من الموالي، أي المسلمين الجُدُد من ذوي النفوذ. وهؤلاء ما كان عندهم شيءٌ ضد قُرَشية ابن الزُبير؛ بل أخذوا عليه أنه لم يَدْعُ للشورى عند وفاة يزيد بن مُعاوية. بل جمع القُرشيين المكيين عند الكعبة، وطلب منهم مُبايعته، ثم انصرف لتقبُّل بيعة الآخَرين!

وطوالَ العصر الأُموي، كان الثوارُ جميعاً، يطالبون بحكم الكتاب والسُنّة، ويأخذون على الأُمويين أنهم ابتزُّوا الأمةَ أَمْرَها بدون شورى. أما مُعارضو العباسيين فما عُدْنا نسمع منهم شيئاً عن المُطالبة بالشورى، بل بالعدل في قسمة الفيء، وعدم العَسْف بالناس! وهذا ليس قصْراً على الثوار، بل إنّ الفقهاء الذين وصلتْنا كتاباتٌ لهم من النصف الأول من القرن الثالث الهجري، ومن بينهم الشافعي (-204هـ)، وأحمد بن حنبل (-241هـ)، وأبو عُبيد القاسم بن سلاّم (-224هـ)، والمحاسبي (-243هـ) ينقلون النقاش إلى أُفُقٍ آخَر هو أُفُق أو شَرْطُ (طاعة المتغلِّب)! وشرطُ أو شروطُ المغلِّب، أي الواصلُ للسلطة بدون شورى ولا بَيعة: أن يحصُلَ على البيعة لاحقاً، وأن يعدلَ بين الناس ولا يخرج على الأعراف المستقرّة، وأن يُجاهدَ العدوّ ويحفظَ دار الإسلام. والحجة التي يُوردُها هؤلاء جميعاً لذلك: الحفاظُ على وحدة الجماعة، ومَنْعُ الفتنة التي قد تنجُمُ عن التمرد على المتغلِّب، والصراع على السلطة. وهكذا فإنّ النقاش انتقل بُسرعةٍ من الشرعية المبدئية التي تتحققُ بالشورى والعقد والبيعة إلى (الشرعية الوظيفية) إذا صحَّ التعبير، أي أنَّ الأهمَّ من (الشكليات) هو النظرُ في المصلحة العليا للجماعة وهي بقاءُ الاستقرار والوحدة والعدالة وصَون دار الإسلام. وقد دفع ذلك الجوينيَّ (-478هـ) الذي ذكرْناهُ من قبل، في كتابه: (غياث الأُمَم) إلى القول: بإمكان شرعنة سلطة السلجوقيّ المتغلِّب، وتسميته بأمير المؤمنين، لأنه نشر الاستقرار في الداخل الإسلامي بعد حدوث الفوضى وضعف العباسيين، ولأنه ردَّ الرومَ عن اجتياح دار الإسلام، عندما هاجمهم وانتصر عليهم بآسية الصُغْرى عام 1071م.

بيد أنَّ هذا التكيُّفَ الراديكاليَّ مع الواقع التاريخي ما ساد بين الفقهاء، وظلَّ هُناك أُناسٌ يحاولون التوفيق بين التجربة التاريخية للخلافة الراشدة، وما استجدَّ من وقائع ومشكلات؛ ومن هؤلاء أبو عبدالله الحليمي (-403هـ)، في كتابه: (المنهاج في شُعَب الإيمان)، وأبو الحسن الماوردي (-450هـ) في كتابه: (الأحكام السلطانية). ظلَّ هؤلاء على الاعتقاد أنّ المشروعية متحققةٌ ما دامت (الوحدات الثلاث) قائمة ومتحققة. أمّا الإشكالياتُ الواقعيةُ التي نالت من الشرعية فيمكنُ معالجتُها بالإصرار على الشرعية الباقية للخليفة العبّاسي أو أيّ عباسي يصلُ للسلطة باقتدارٍ أو غيره، وإن لم يستخلفْهُ السابقُ له. فعلى الواصل للسلطة من العباسيين، أن يحظى بالعقد من أهل الشورى أو الاختيار (وقد يكونون في هذه الحالة من رجالات الجيش الكبار من الديلم أو التُرك)، ثم عليه أن يعْرضَ نفسه للبيعة العامة. وفي هذا التصُّور الذي بقي سائداً ظلّت الشكليات أو الشروط التاريخية أو الأعرافُ ظاهرةً، أمّا في الواقع فإنّ النزعة الوظيفيةَ هي التي سادت: تتحقّقُ الشرعيةُ في حدودها الدُنيا التي تُسوِّغُ الطاعة بالانفراد في السيطرة (بنفسه أو بالمتغلبين الذين أوصلوهُ للسلطة)، وتحقيق الاستقرار، ومُجاهدة العدو (ودائماً بالنفس أو بأُمراء الاستيلاء)! وإذا كانت مسألةُ الطاعة هذه قد صارت هي الأمر الباقي، والتي ما عاد لها مسوِّغ غير حفظ الاستقرار، ومنع الفتنة في عصر سواد المتغلِّبين الأتراك وغيرهم حتّى لدى فقيهٍ كبيرٍ مثل ابن جماعة (-733هـ) في كتابه: (تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام)؛ فإنّ ابن خلدون (-808هـ) الذي جاء إلى القاهرة بعد حوالي الأربعين عاماً من وفاة ابن جماعة، يسخُر في مقدِّمة تاريخه من تفصيلات وتدقيقات الفقهاء هذه، ويعتبر الأَمْرَ كُلَّه من طبائع المُلْك ودَوَران العصبية، ولا تأثير للفقه أو الدين أو النيات الحَسَنة في شيءٍ من ذلك!

والحقُّ أنّ ابنَ خلدون -وهو الفقيه المالكي الكبير- يظلمُ فقهاء المذاهب عندما يعتبرُهُم جاهلين بطبائع المُلْك. إذ المشكلةُ بينه وبينهم ليس في جهلهم بطبائع العمران والملك؛ بل في اختلاف الاهتمام أو اختلاف الأَولويّات. فقد كان همُّهمُ منذ ما قبل الماوردي منصبَّاً على الوَحَدات الثلاث، ونُصرة السلطة القادرة على حفظها من جهة، واستقرار حياة الناس في ظلّ الشريعة والأعراف المستقرّة. وقد كانوا مستعدّين (وهل يملكون غير ذلك؟) للتسليم بحدوث الضرر الأدنى، تجنباً للضرر الأعلى في الأمرين: أمر الوحدة في الأمة والدار والسلطة، وأمر الاستقرار في العلاقة بين الدين والدولة. وهذا معنى مناقشاتهم منذ القرن الرابع الهجري لمسألتي الشريعة والسياسة. فالفقهاءُ الكلاسيكيون ما كان لديهم مشروعٌ خاصٌّ بهم لدولةٍ تطبّقُ الشريعة، بل كانوا يتبنَّون المشروعَ الإسلاميَّ العامّ لقيام السلطة وآلياتها في دار الإسلام. وفي ذلك المشروع اختصُّوا هُمْ بالعناية بأمر الدين والمؤسَّسة القضائية، والتعليم، والفتوى. بينما سلَّموا لأرباب السلطة بإدارة الشأن العامّ، الذي اعتبروه في الأغلب الأعمٌ شأناً مصلحياً، وليس دينياً أو تعبُّدياً. ولذا فقد كانت حساسيتُهم عاليةً عندما يُداخلُ الخَلَلُ الوحدات الثلاث، لأنَّ ذلك يمسُّ الدين، كما كانت حساسيتُهم عاليةً عندما يُداخلُ الخَلَلُ المسائل التشريعية أو القضائية أو الوقفيّة. ومنذ القرن الرابع الهجريّ شاعت لدى أهل الدولة مسألة السياسة، وأنّ هناك مسائل تتعلقُ بإدارة الشأن العامّ لا تصلُحُ أو لا تكفي فيها الأحكامُ الشرعيةُ الواردةُ في القرآن أو في اجتهادات الفقهاء. وقد أثار ذلك الفقهاء الذين رأَوا في الأمر اعتداءً على الشريعة وعلى مصالح الناس وعلى المؤسسة القضائية. ولذا فقد حاولوا في البدء مَنْع السلطة السياسية من التدخل في الشأن القضائي بتاتاً. وهاجموا تدخُّلَ الحاجب أو صاحب الشُرطة، أو قائد الجيش، أو الوزير في الشؤون التشريعية أو القضائية؛ إمّا بعدم عرض بعض المرتكبين في نظر السلطات على القضاء بل إصدار الأحكام بأنفُسِهِمْ عليهم، أو بإصدار أحكامٍ في مجالس (قضاء المظالم) دونما إتّباعٍ للإجراءات القضائية المعتادة. وعندما ما استطاعوا تحقيق ما أمَّلوهُ بإبقاء كلّ المسائل التشريعية والقضائية بأيدي المؤسَّسات المختصّة؛ عمدوا لاستحداث فرعٍ فقهيٍّ سمَّوه: فقه السياسة الشرعية، حاولوا فيه التوفيق بين ضرورات الدولة أو هيبتها، وبين الشريعة وأحكامها كما يفهمونها وكما اعتادوا عليها عبر عصور التجربة الإسلامية. ورسالةُ ابن تيمية (-728هـ) في (السياسة الشرعية) هي حصيلةٌ للتجربة والتعامُل بين الدولة والفقهاء خلال القرون بين الرابع والسابع للهجرة. وما انحلّت المشكلات كُلُّها لهذه الناحية في عصر ابن تيمية ومن بعده. ولذلك نجدُ مؤرّخاً وفقيهاً مثل المقريزي (-845هـ) يعتبرُ إتّباع (أحكام السياسة) من جانب بعض أُمراء المماليك مُخالفاً للشريعة، ومن أسباب سقوط الشرعية عمَّن يقومُ به. وقد زعم المقريزي أنّ الأُمراء المماليك، وهم من أصولٍ تركية مثل المغول، إنما كانوا في استعمالهم للسياسة في القضاء فيما بينهم إنما يتّبعون (السياسة) التي اشترعها جنكيزخان زعيم المغول، والسياسةُ مشتقّةٌ منها!

لقد كان هذا كُلُّهُ موجزاً في معالجة مسائل المشروعية والشرعية في التجربة العربية الإسلامية خلال العصور الكلاسيكية للنظام في المجال الإسلامي. وهو موجزٌ لا يتناولُ المسائل كُلَّها، كما أنه لا يحيطُ بأطرافها. لكنني أحسبُ أنه يقدّمُ عرضاً مقبولاً لهاتين المسألتين وإشكالياتهما، هو بمثابة خُطاطةٍ قابلةٍ للتوسيع باتجاه الإحاطة والاستيفاء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- Max Weber: Wirtschaft and Gesells. chaft, II212-268

2- درستُ قضايا المشروعية في التجربة العربية الإسلامية في كتابي: الأمة والجماعة والسلطة، 1985م، لكنني لم أحتكم وقتَها إلى منهج أوموديل ماكس فيبر.

3- كما أنّ القرآن الكريم ذكر المفرد في عدة سياقاتٍ، وربطه مرةً بالنبي داود.

4- درستُ قضايا الشرعية وإشكالياتها في كتابي: الجماعة والمجتمع والدولة، 1997م. لكنني ما عنيتُ وقتَها بمسألة القُرشية، بل بقضيتي الشورى، والعلاقة بين الدين والدولة.

5- في كتابه: الإرشاد، وكتابه الآخر: الشامل – وكلاهما في علم الكلام، وليس في الفقه السياسي أو الأحكام السلطانية. ثم ذكر ذلك في كتابه: غياث الأُمَم، وهو في الفقه السياسي.

المصدر: http://www.ridwanalsayyid.com/ContentPage.aspx?id=96#.VyZm3nErLIU

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك