هل تحمي الدُّستوريَّة الإسلاميَّة الفرد وتقيّد سلطة الدَّولة؟

بقلم: مناف الحمد

 

الأبعاد الدستورية الأكثر أهمية التي تميز الدستورية الليبرالية موجودة في الدستورية الإسلامية كما قعّدها وطوّرها منظرو الدستورية الإسلامية الأبرز الذين يبرز منهم يوسف القرضاوي وطارق البشري وكمال أبو المجد ومحمد سليم العوا، فهم ناقشوا أبعاداً أربعة هي:

-حكم القانون. 
- والحقوق المدنية والسياسية للمواطنين. 
- والقيود على سلطة الدولة. 
- والمشاركة العامة في السياسة. 

ولكنّ عدم غفلتهم عن هذه الأبعاد الأساسية، ومحاولة وضعها في بؤرة الدستورية الإسلامية، ومحاولة تأصيلها تأصيلاً شرعياً، واستفراغ جهودهم في درك معاني النصوص الأساسية لمصادر التشريع لا يجسر الهوّة بين الدستورية الإسلامية والدستورية الليبرالية ويمكن توضيح هذه الفجوة من خلال كيفية معالجة هؤلاء المنظرين الإسلاميين البارزين لهذه الابعاد الدستورية.

ففيما يتعلق بحكم القانون يؤكد كمال أبو المجد أن أحد أهم الأخطاء التي سببت ركود الشريعة الإسلامية هو عدم التفريق بين الشريعة والفقه، فالأولى عابرة للزمان والمكان، أما الفقه فهو منتوج بشري لا يتصف بالكمال يتوخى تطبيق الشريعة بحسب ظروف المكان والزمان المتغيرة.

فالشريعة تقدم مبادئ عامة للمجتمع المسلم، ويقوم الفقه باستخلاص تفاصيل صالحة للظروف من هذه المبادئ العامة؛ الأمر الذي يعني أن واجب الدولة في الدستورية الإسلامية هو استيحاء مبادئ الشريعة وفرض القانون الملزم عن طريق الفقه وهو قانون بشري يتوخّى التطابق مع القانون الإلهي الذي تتمثل أسسه في: 
- تأسيس العدالة. 
- الحكم من خلال الشورى. 
- الحكم بطريقة مسؤولة امام المواطنين لاشتقاق القوانين من الشريعة. 
- واحترام حقوق الناس.

ولأن غاية الشريعة هي تحقيق مصالح الناس التي تم استقراؤها من النصوص والمتمثّلة في مصلحة الدين والنفس والعقل والنسل والمال وتحقيق قيم العدالة والإنصاف والرحمة، فإن أي قانون يساهم في تحقيق أيّ من هذه تلك المصالح وهذه القيم يجب أن يكون مقبولاً، ولأجل هذا فلا ضير أن يعمد المجتهدون، وهم بصدد استخلاص القوانين من الشريعة إلى أدوات غير الأدوات الأساسية كالإجماع والقياس والتوفيق بين المدارس الفقهية، والاستفادة من مصادر غير إسلامية إذا لم تكن تتناقض مع الشريعة، ولكنّ هذا لا يعني أن محاكاة النماذج الغربية ضرورة فالإسلام يقدم نظاماً شاملا سياسياً واجتماعياً وأخلاقياً بحسب منظرين إسلاميين مثل القرضاوي الذي يقول إن التفريق بين القانون الوضعي والقانون الإلهي منتج خبرة تاريخية غربية وليس مفروضاً على المسلمين تقليده.

ورغم أن ما يمكن استخلاصه من قوانين عبر الاجتهاد من الشريعة يمكن ألا يختلف كثيراً عن القوانين الغربية، فإن المهم بالنسبة إليهم هو عملية استخلاص هذه القوانين من الشريعة، وهو ما يعني أن النتيجة ليست مهمّة وإنما المهمّ هو عملية استنباط القوانين، وهو ما يعني بدوره الحرص بالدرجة الأولى على الكرامة والهوية.

يترافق هذا التركيز على العملية مع تجنب تقديم تفاصيل عن كيفية بناء الحكم الإسلامي.

وفي جواب لطارق البشري عن سؤال كيف يمكن لنا ان نعرف أن الحكومة تطبّق الشريعة يقول نعرف ذلك إذا: 
- كان التشريع يعتمد على الشريعة الإسلامية. 
- وإذا اعتمد المعارضون والحكومة في مواقفهم السياسية على هذه الشريعة. 
- وإذا استخدم الناس قيم الشريعة كأساس للتفاعل فيما بينهم.

واضح أن تركيز البشري يقع على المجتمع، وعلى تعبير الدولة عن التزامها بالشريعة وهذا موضع الافتراق الأساسي بين الدستورية الليبرالية التي تتبوأر حول الفرد، وبين الدستورية الإسلامية التي بؤرتها المجتمع الورع.

فيما يتعلق بالبعد الثاني من أبعاد الدستورية وهو تقييد سلطة الدولة فإن سليم العوا يؤكد أن الشورى ومبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحققان هذا البعد لأنهما يتيحان لأي فرد مساءلة الحاكم.

بينما يتحدث كمال أبو المجد عن العقد الذي يعرّفه بأنه بيعة للحاكم مشروطة بتنفيذه لشروط العقد ويضرب لهذا العقد مثالا وثيقة المدينة التي أقرّت حرية العقيدة لغير المسلمين، واستقلال الذمة المالية فما دام غير المسلمين محافظين على العهد الذي تقرّه الوثيقة، فإن ذمتهم المالية محفوظة ومستقلة، كما أقرّت التعاون في حالة الحرب بين أتباع الأديان المختلفة لأنهم مواطنون في دولة واحدة، ونصت على العدل عندما أقرت أن النصر للمظلوم بغضّ النظر عن دينه وكانت هذه الوثيقة ملزمة للحاكم والمحكوم ما حافظ الطرفان على الالتزام ببنودها.

اما الأداة الأهم لتقييد سلطة الدولة فهي استقلال القضاء لكي يكون قادراً على تقييد السلطة التشريعية ومراقبة مدى مطابقة القوانين للشريعة، وهؤلاء القضاة -بحسب سليم العوا-هم الذين يطبقون مبدأ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال تفسير وتطبيق القانون. أما القرضاوي فيعدّ المحكمة الدستورية العليا المؤسسة الأنسب لتجسيد هذه الدور.

ومن ضمن الأدوات التي تساعد في وضع القيود على سلطة الدولة منظمات المجتمع المدني، فالقرضاوي يشجّع إقامة نظام تعددية حزبية، والبشري يتحدث عن شبكة من المجموعات المهنية والاجتماعية تجمع الأفراد لتقييد سلطة الدولة.

بالنسبة للبعد الثالث الذي هو حماية الحقوق السياسية والمدنية فإنّ تركيز منظّري الدستورية الإسلامية وهم بصدد الحديث عن حقوق الأفراد على العدالة وهم يؤكدون وجود الحريات الأساسية في التراث الإسلامي فحرية الاختيار مصونة -بحسب العوا- منذ فجر الخليقة عندما خيّر آدم بين الطاعة والمعصية، وحرية الاعتقاد مكفولة بنص القرآن "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" ولكن الردّة عن الإسلام إثم وهو يعني أن هذه الحرية ليست ناجزة بل مقيدة، ولكن القرآن لم يحدد عقوبة للمرتد في الدنيا، وحرية التعبير مكفولة بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكنها مقيّدة بالتوافق مع النظام السائد والملاءمة الأخلاقية وهذا يتضمن عدم الحديث بطريقة تؤدي الى حرف المؤمن عن إيمانه.

أما حقوق غير المسلمين في المجتمع المسلم فإن القرضاوي يؤكد عند الحديث عن مساواة المسلمين والأقباط في الحقوق أن رئاسة الدولة يجب ان تكون لمسلمين وكذلك أكثرية البرلمان وهو تقييد لهذه الحقوق التي لا يكفي لكي تتحقق أن تكون مساواة أمام القانون.

ولا يعالج هؤلاء المنظرون عند الحديث عن حقوق المرأة التمييز بينها وبين الرجل في الشهادة مثلا إلا معالجة تبريرية لا تزيل هذا التمييز.

البعد الأخير وهو المشاركة العامة في السياسة فالعوا يؤصلها في الشريعة عن طريق مبدأ الشورى الذي يطالب بتوسيعه لكي يشمل الأمة كلها والشورى برأيه مكانها البرلمان والتصويت للمرشحين فرض ديني بناء على أنه بمثابة الشهادة التي يحرم كتمانها استناداً إلى النص القرآني" ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه".

ويتحدث القرضاوي عن التعددية الحزبية ولكنه يقول إننا نأخذ من هذا الأسلوب الديمقراطي ما لا يتناقض مع مبادئ الشريعة وما لا يحلّل حراماً أو يحرّم حلالاً.

في الفكر الليبرالي يكون الانطلاق من افتراض أن الدولة مؤسسة مهدّدة؛ لأن سيطرتها على الموارد والأفراد يمنحها إمكانية هائلة للتجاوز على حقوق وحريات المواطنين.

ومن هنا فإن غرض الدستورية هو وضع حدود على سلطة الدولة لكي تحمي حقوق المواطنين الأفراد وملكياتهم الخاصة وحيّزهم الخاص.

في نظر مفكري الدستورية الإسلامية الدولة مؤسسة جيدة، ومن خلال تطبيقها للشريعة تأتي بالمجتمع الإسلامي إلى الوجود وتضمن أن هذا المجتمع يبقى ورعاً، ومن الضروري اعتماد مبدأ الحسبة التي تقوي أخلاقيات وروحية المسلمين الأفراد وهو مبدأ يقوم على ضرورة وجود سلطات واسعة بين يدي المحتسب لمراقبة وتطوير أخلاقيات المجتمع، فلمّا كان على الدولة واجب أن تشكّل السمة الأخلاقية لمواطنيها، فإن هذا لا يتطلب فقط فرض قوانين على نطاق واسع لكي تحكم السلوك الشخصي، ولكنها تتضمن تصميم نظام تعليمي، واختيار قضاة وتعيين موظفين في كل مستويات المجتمع بهدف تعزيز تقوى المجتمع.

وهذا دور مختلف للدولة عن دورها في المؤسسات الليبرالية فالمؤسسات الدستورية الإسلامية ليس غرضها بناء حواجز تمنع الدولة من التدخل في حياة الناس الخاصة وإنما توجيه سلطة الدولة باتجاه تحويل الأفراد والمجتمع، بعبارة أخرى المؤسسات الدستورية الليبرالية جدار يبنى لتحديد سلطة الدولة وحماية المواطنين من تدخلاتها غير المرغوبة، بينما تمهد الدستورية الإسلامية الطريق الذي يوجه سلطة الدولة باتجاه تحويل المسلمين الأفراد وخلق مجتمع أكثر تقوى.

ضمن هذا الإطار تضمن المؤسسات الدستورية أن الدولة تبقى على هذا الطريق وتحقق تحويل الأفراد والمجتمع.

إذا نفّذت الدستورية الإسلامية فسيكون لها سمات مشتركة مع نظيرتها الليبرالية، قضاء مستقل، وبرلمان بسلطة واستقلالية معتبرة، وجهاز تنفيذيّ مسؤول جزئيا أمام المواطنين.

ولكن غرض القانون والشرطة والمحاكم لن يكون حماية النظام وإنما ستكون مهمتها مراقبة وتغيير السمة الأخلاقية للمجتمع، وستكون النتيجة دولة تدخلية إلى حد بعيد أكثر بكثير من نظيرتها الليبرالية في الغرب.

ستلعب الدولة دوراً فعالاً في صياغة المناهج التعليمية لنقل قيم أخلاقية ودينية محدّدة، كما ستقوم برصد المنشورات والفنون وغيرها من أنواع الفنون التي تشكل اخلاقيات المجتمع.

وستؤمن حماية أقل للحقوق السياسية والمدنية، فحرية التعبير فيما يخصّ القضايا الدينية والأخلاقية ستكون مقيّدة، وحرية الاختيار الديني ستكون مقيّدة أيضاً، وسيواجه غير المسلمين تمييزاً في الحياة الاقتصادية والسياسات، كما ان المرأة لن تنال حقوقاً مساوية للرجل.

الدستورية الإسلامية لا تدعم توتاليتارية الدولة، ولا تقول إن الدولة تحتكر الحقيقة وتفرض حقيقتها على المواطنين، فمفهوم الدستورية قائم على علاقة تعاون بين الدولة والمجتمع وقائم على دعامة أن كليهما يسعى لخلق مجتمع تقيّ، فالمواطنون الأفراد والدولة لديهم التزام بتحسين السمة الأخلاقية للمجتمع وفي النتيجة يراقب المجتمع الدولة ويقيّدها لكي يضمن أنها تسير على طريق الإسلام الصحيح.

إن البعد القبلي الإيديولوجي الميتافيزيقي الحاكم لفكر منظّري الدستورية الإسلامية يجعل رؤيتهم قاصرة عن تحقيق صون الحريات وتقييد سلطة الدولة، بالرغم من تحقيقهم تقدماً على من سبقهم من منظّرين سلفيين حاولوا معالجة القضايا نفسها.

المصدر: http://alawan.org/article15168.html

الأكثر مشاركة في الفيس بوك