الربيع العربي وضرورات الإصلاح الإسلامي

الدكتور رضوان السيد

 

أولاً: في المشهد وتفاصيله: انطلق الربيع العربي حاملاً مطلباً أساسياً هو التغيير الشامل في إدارة الشان العام في سائر  أنحاء العالم العربي، وبخاصةٍ في بلدان الجمهوريات الوراثية الخالدة بالمشرق والمغرب. وقد دلَّ على ذلك أمران: الجمهور الضخم الذي انطلق في حركياته ومظاهراته الحاشدة من جهة، والشعارات التي طُرحت في أسابيعه وشهوره الأولى وهي: السلمية والحرية والديمقراطية والتعددية، والتداول على السلطة، ومكافحة الفساد، والعدل الاجتماعي، وسلطان دولة القانون. وتأسَّس ذلك كلُّه على المبدأ العالمي في العصر الحاضر: مبدأ المواطنة. بيد أنّ بدايات الخطوات العملية للمرحلة الانتقالية في إعادة بناء المؤسسات ومن ضمنها الإعلاناتُ الدستورية، وكتابةُ الدساتير، والانتخاباتُ النيابيةُ والرئاسية، أظهرت صعوداً هائلاً للتيارات السياسية الإسلامية.  وهذا الأَمْرُ لا حَرَجَ فيه لولا السياقاتُ والخصوصياتُ البنيويةُ في أحزاب الإسلام السياسي هذه. فبعد الحرب العالمية الثانية مباشرةً برزت الأحزابُ الديمقراطية المسيحية، وما تزال حاضرةً وقوية في سائر أو  أكثر الديمقراطيات الغربية. ثم إنّ العقود الثلاثة الماضية شهدت عودةً قويةً للدين في صورة نهضاتٍ وإحيائياتً في المجالين الخاصّ والعامّ في سائر الأديان والثقافات؛ وبخاصةٍ في البروتستانتية واليهودية والإسلام. ونحن نعلم أنّ الإسلام الإيراني، والإسلام في شبه القارة الهندية، والإسلام العربي؛ كلُّ هذه الإسلامات، تعرضت لضغوطٍ شديدةٍ وقاسيةٍ؛ وبنتيجتها استولى رجال الدين بإيران على إدارة الشأن العام؛ في حين انفجرت الصحويات السنية باتجاه الجهاديات العَقدية أو العملية كما هو معروف. وقد دفع ذلك الباحث السياسي المصري نزيه الأيوبي إلى القول في كتابه: تضخيم الدولة العربية(1994) إنّ العالم العربي، وبسبب تعطُّل أكثر وظائف الدولة فيه، وتعاظُم الفساد والاستبداد سيشهدُ تمرداتٍ مسلَّحةً وعنيفةً باسم الدين، تعمدُ السلطاتُ لقمعها، وتدعمُها الولايات المتحدة في زمن الهيمنة، وسواد النظام العالمي الواحد والمقفَل. وفي ضوء هذه السياقات والتوقعات، كما سبق القول، كان هناك من اعتبر ظاهرةَ الإسلام السياسي، في الزمن الجديد متنفَّساً سلمياً أو شبه سلمي، يُخرجُ من الجهادية، ومن الانشقاقات الداخلية العميقة في جسم الإسلام السني المتوتّر والثائر بسبب التهميش والطغيان والتمييز الديني من جانب أنظمة الأقليات، ومن جانب النظام الدولي.

إنّ أبرز ظواهر المجال العربي الثائر إذن في العام 2012 هو ظهور أحزاب وتيارات الإسلام السياسي في المجال العام، غير المسلَّح والمسلَّح، وغير العنيف والعنيف. وهذا البروز  أو  الظهور مختلفٌ عن العام 2011 لعدة جهات: لجهة الفئات الشعبية التي نزلت للشارع، ولجهة الشعارات المرفوعة، ولجهة الأهداف التي تُعبِّر عنها الفئات المختلفة، والتيارات المتباينة. فقد أظهرت الفئاتُ والشعاراتُ اختلافاً واضحاً، وحصلت اشتباكاتٌ وتشابكاتٌ بين الفئات وبين الشعارات. فالجميع يسعَونَ للإسهام في إقامة مجتمع سياسي جديد. لكنّ التيارات والأحزاب الإسلامية والتي برز من بينها الإخوان ومتفرعاتهم، والسلفيون ومتفرعاتُهم، يرون أنّ مستقبل تلك البلدان والمجتمعات  والحكمَ الصالح فيها؛ كلُّ ذلك مرتبطٌ بالحلّ الإسلامي المتمثل في تطبيق الشريعة. ويبدو الإخوانُ ظاهراً أكثر تلاؤماً مع التوجهات والحركات المدنية، وهم يتلاقَون جزئياً مع روح العام 2011، ويقولون إنهم يكتفون بأن يكونَ الإسلامُ هو دينُ الدولة، ومبادئ الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع؛ بينما يريد السلفيون عموماً أن تكونَ الدولةُ دولةَ الدين ولخدمته بالدرجة الأُولى. وقد قال الإخوانُ المصريون بعد لأْيٍ بالدولة المدنية وأنّ الشعب مصدر السلطات؛ بينما ما يزال السلفيون المصريون مترددين في ذلك كلِّه. إنما من الناحية العملية فإنّ الإخوان والسلفيين، وليس في مصر فقط؛ بل وفي الأردنّ واليمن وسورية وإلى حدٍّ ما في تونس، أظهروا تعاوُناً أو توافُقاً إزاء كلِّ ما جرى. ويعتبر المراقبون أنّ الإخوان استطاعوا حتى الآن استخدام السلفيين ووضعوهم في المقدِّمة في كلّ الصراعات التي خاضوها في العام 2012. وأبرزُ وجوه التعاون: العمل على محاصرة أو الاستيلاء على سائر مؤسسات الدولة والمجتمع القائمة باستثناء الجيش. وأبرزُ المؤسسات والجهات المغضوب عليها: القضاء والإعلام، وبيروقراطية الدولة وإداراتها، والشرائح العليا  والوسطى من رجال الأعمال، والمثقفون. وعن كلِّ هذه الفئات يتحدث الإخوان بمصطلحين: الفلول والعلمانيون. وعندما توحدت القوى السياسية غير الإسلامية بمصر في الأشهر الماضية تحت اسم: "جبهة الإنقاذ الوطني"، وشكّلت بذلك مقاومةً فعليةً لسطوة الإسلاميين المتزايدة، ألحق الإخوان قادة جبهة الإنقاذ بالعلمانيين، وجمهورهم بالفلول والبلطجية، وسلّطوا عليهم متشدّدين ينتسبون إلى السلفيين، ولجأوا في الاستفتاء على الدستور إلى الأساليب نفسِها التي كان يلجأُ إليها رجالاتُ الحزب الوطني في نظام الرئيس مبارك، دونما مراقبة فعليةٍ من القضاء، أو نزاهةٍ مشهودةٍ من جانب اللجنة العليا للانتخابات. وفي مجلس الشورى- الذي كان مهدَّداً بالحلّ من جانب المحكمة الدستورية قبل شلِّها ومحاصرتها- والذي أُعطي من الرئيس صلاحيات التشريع، يتجه الإخوان والسلفيون الذين يشكّلون الغالبية العظمى فيه، إلى إقرار قانون الانتخابات نفسِه، الذي فازوا بمقتضاه في مجلس الشعب الأول بعد الثورة، وحَلّته المحكمة الدستورية. ماذا يعني هذا كلّه؟ هذا يعني أنّ الإخوان المصريين على الخصوص، يريدون إقامة أوحديةٍ سلطويةٍ أو يحاولون ذلك. وهم يلجأون في ذلك إلى الحِيَل القانونية والدستورية وعندهم "فقهاء" في ذلك؛ وعندما لا ينفع الأمر رغم الحِيَل يلجأون إلى القوة والقمع الذي ما يزال محتَملاً، وأَمَدُ هذا التراوُح بين الدهاء السياسي والقبضة الحديدية هو انتخابات مجلس النواب بعد خمسة أو  ستة أشهر؛ فإنْ حصلوا على الأغلبية عصفوا بالبقية الباقية من مؤسَّسات الدولة، وإن لم يحصلوا عليها لجأوا من جديدٍ لقمع مُعارضيهم بالشارع. ونحن نعلم أنّ شارعهم أكثر تنظيماً، وأنّ الناسَ بمصر وبغير مصر تعبوا.  ولذلك يصحُّ تشبيه محمد حسنين هيكل لهم بالأحزاب النازية والفاشية بأوروبا في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي. فقد وصلت تلك الأحزاب إلى السلطة بانتخاباتٍ ديمقراطيةٍ، لكنّ ديمقراطيتها وحريتها انتهت بعد تلك المرة الفريدة، وساد الـ Führer وقوات أمنه بالتمكين والإرغام حتى خسارتهم للحرب العالمية الثانية عام 1945!

II

ثانياً: حقائق قوة الأحزاب الدينية: إنّ هذا التفصيل في وقائع ظهور الأحزاب الدينية بعد الثورات العربية، لا يعني أنني أُريدُ التحدث في الأخطار التي تُواجِهُ المجتمعات السياسية العربية، والديمقراطية التي أراد رُوّادُ الربيع العربي إقامتَها. فهناك أخطارٌ بالفعل من أسبابها الهشاشةُ المسيطرة في المؤسسات الدستورية والقانونية التي تسبّبت فيها أنظمةُ الضباط على مدى خمسين عاماً. ومن أسبابها هشاشةُ الأحزاب السياسية أو عدمُ وجودها. ومن أسبابها اندفاعُ الشبان المدنيين الذين أَطلقوا الثورات لمصارعة العسكر، مما دفع القيادات إلى الإسراع في تسليم السلطة للإسلاميين مع ضمان امتيازاتهم هم في الزمن الجديد! ومع ذلك، ورغم الأخطار، فلستُ أخشى حقاً على الديمقراطية في إدارة الشأن العامّ، والحكم الصالح، وتداوُل السلطة، في المدى المتوسّط فضلاً عن المدى الطويل؛ لأنّ الناسَ في أمتنا في حالة يقظةٍ عالية، وقد قدّموا عشرات الأُلوف من الشهداء من أجل الحرية. ولن يقبلوا العودةَ إلى عهود السلطات الخالدة لا باسم القومية، ولا باسم الدين، ولا باسم عبقرية القائد البطل!

إنّ الإشكالية في هذه المرحلة، أو السبب الرئيس للظاهرة الإسلامية الغلاّبة في مصر وغير مصر هو شعبوية الإخوان الكبيرة، وانفجار السلفيين الكبير. إنما من أين أتت هذه الشعبية الكبيرة، وهذا الانكماشُ الذي تفجَّر؟ هناك وعْيٌ غلاّبٌ لدى فئاتٍ واسعةٍ من الجمهور العربي الإسلامي، يتضمن شقَّين أوجانبين شديدَي القوة؛ الجانب الأول الخوف العميقُ على الدين أو على الإسلام والمسلمين، والآتي من جانب الغربي العُدْواني والمُهاجم دائماً تحت عناوين مثل الغزو العسكري والغزو الثقافي. والجانبُ الثاني المُلازم: الإيمانُ الشديد أنّ الدين الإسلامي يتضمن نظاماً كاملاً في الاعتقاد، وفي الاجتماع، وفي السياسة والاقتصاد في الداخل، وفي العلائق مع العالم. وهذا النظامُ الكاملُ المتكامل، الذي صنعته عبر عقودٍ وعقودٍ رؤيةٌ مستجدةٌ للعالم، لا بُدَّ من تحكيمه في إدارة الشأن العامّ، لكي تتحقّق المقولةُ التي سمّاها الشيخ يوسف القرضاوي في مطلع السبعينات من القرن العشرين المنقضي: حتمية الحلّ الإسلامي، القاضي على كلِّ المشكلات التي اصطنعها الغرب، واصطنعها أعوانُهُ بالداخل العربي والإسلامي؛ من تطريق تطيبق شرع الله أو  الشريعة.

أمّا الجانب الأولُ والمتصل بالخوف العميق على الإسلام والمسلمين، فقد بدأت وقائعهُ بالاستيلاء البريطاني التدريجي على الهند التي كان يحكمها أباطرة المغول المسلمون منذ القرن السابع عشر،  إلى أن تمرد المسلمون في العام 1857م، وحصلت الإبادةُ لقياداتهم، والانتهاء الرسمي لدولتهم. ومنذ القرن الثامن عشر أو  أواخره بدأَت الفتاوى من جانب العلماء والتي تطلب من الناس الهجرة لأنّ الدار لم تَعُدْ دارَ إسلام. وتزايدت هذه الفتاوى بالطبع بعد العام 1857، وكانت آخِرها عام 1920، والهجرة إلى أين؟ إلى أفغانستان لأنها كانت ما تزال مستقلةً بعد أن فشل البريطانيون مراراً في الاستيلاء عليها! وتقترن الهجرةُ بالطبع لدفْع الغزو بالجهاد- وهذا ما حاوله السودانيون مع محمد بن أحمد المهدي، وحقّقوا بعضَ النجاحات، حتى إذا فشلوا بعد مقتل المهدي وذهاب خلافته، عادت فتاوى الهجرة إلى الظهور والاستعلاء. وكان الأمر نفسُه قد حصل من قبل عند دخول الفرنسيين إلى الجزائر عام 1831م. فقد أصدر علماء المالكية بالجزائر والمغرب ومصر فتاوى تتراوحُ بين الجهاد  والهجرة. وازدادت فتاوى الهجرة تصاعُداً عندما توالت الهزائمُ على جهاد الأمير عبد القادر الجزائري منذ العام 1845م. وعاد التأزُّم في أوساط العلماء إلى ذروته عندما هاجم الإيطاليون طرابلس الغرب عام 1911. وقد غلبت في البداية- كما في حالة السودان- فتاوى الجهاد التي دعمها السلطان العثماني، وشجّع عليها أحمد الشريف السنوسي قائد الجهاد الليبي. ثم أطلّت فتاوى الهجرة برأسها من جديد بعد العام 1917 لتراجُع الحركية الجهادية لأسبابٍ منها الحربُ العالمية الأُولى التي خاضتها الدولة العثمانية أيضاً، ومنها الحربُ الإباديةُ التي شنّها الإيطاليون بعد أن جمعوا الشعبَ الليبيَّ خارج المدن في منعزَلاتٍ شهيرة.

إنّ هذا لا يعني أنه لم تكن هناك نشاطاتٌ مدنيةٌ،وحركات تحرير انتهجت أساليب أُخرى من أجل التصدي للغزو الاستعماري. لكنه يعني أنّ التفكير العَقَديَّ والفقهيَّ الإسلامي واجه مأزقاً ما استطاع الخروجَ منه إلاّ بتمأزُقٍ أعمق بين الجهاد والهجرة. وهذا معنى الهَلَع الكبير الذي نزل بالعلماء وتسلَّل إلى الجمهور عندما ألْغى مصطفى كمال الخلافة عام 1924. فالغريب وذو الدلالة أنّ هذه اللوعة انطلقت من الهند ومصر، وهما بلدان ما كانا خاضعين للسلطان العثماني عندما سقطت دولةُ الخلافة. هكذا اتخذ هذا الإلغاء أبعاداً رمزيةً ما فارقت الوعي الإسلاميَّ إلى اليوم. فحتّى أُسامة بن لادن صاحب رؤية الفسطاطين المأساوية، كان عندما يشعر  بالانتشاء بعد العمليات الانتحارية الكبرى، يعلن أنه يريد استعادة الخلافة، ولا طريقة لذلك إلاّ بالاستمرار في مصارعة نظام الهيمنة العالمية الذي يقوده الغرب، وتقوده الولاياتُ المتحدة.

ولنمضِ باتجاه الشعبة الثانية من شُعْبتَي الوعي الشعبي الإسلامي: شعبة إعادة الإسلام والشريعة إلى الدولة والمجتمع. لقد بدأت حركاتُ الهوية  والإحياء بالظهور في عشرينيات القرن العشرين: في مصر والهند وجاوة وسومطرة وتركيا وبلاد الشام وآسيا الوسطى والقوقاز. ومنها الإخوان والشبان المسلمون والجمعية الشرعية بمصر، وحركة الشعبيبة الإسلامية ببلاد الشام، وإحياء الخلافة والرابطة الإسلامية فالجماعة الإسلامية بالهند. وهي حركاتٌ اتخذت بالداخل مسالكَ تربويةً للتوعية بين الشباب وتعليم الدين بطرائق جديدة. لكنها بالمعنى الكبير كانت تعني سقوط الشرعية الإسلامية، وضرورة استعادتها بشتّى الوسائل. وما حظيت حركة النورسي بتركيا، ولا حركة الجماعة الإسلامية بالهند وباكستان، ولا حركة الإخوان المسلمين بمصر، في عقديها الأوليين بشعبيةٍ بارزةٍ كما هو معروف. فقد اندفع الجمهورُ وقتَها باتجاه حركات الاستقلال في كل بلد. ولذلك فقد كان مرشحو الإخوان والجماعة يسقطون في الانتخابات. وهكذا فقد تصلّب وعيهم باتجاهين: اتّجاه أنّ الدولة الوطنية الجديدة وإن خرج المستعمرون ليست دولتهم، وأنّ الجمهور غافل أو مضلَّل ولا يمكن الاعتمادُ عليه. وجاءت كتاباتُ عبد القادر عودة في الأربعينات، والمودودي وسيد قطب في الخمسينات لتُعمِّقَ الوعيَ بغُربة الدولة الوطنية وجاهليتها، وأنّ الهوية  الدينية لا تُستعادُ بالانتخابات المسيطَر عليها من المتغربين، بل بالنخبة الشابة الواعية بالشريعة وضرورات تطبيقها. وفي الستينات من القرن الماضي بدأت فكرة النظام الكامل من كل جانب، والذي يقتضيه الإسلامُ ذاتُه للدولة والمجتمع.كان سيد قطب ما يزال يقول: لا تأبهوا لما يقوله خصومكم عنكم إنه ليس عندكم برنامج، فعندما جاءوا هم إلى السلطة، أين كان برنامجُهم؟ لكنّ كثيرين من الجماعة الإسلامية بباكستان، و الإخوان بمصر وسورية، سُرعان ما اندفعوا لاشتراع برنامج كامل تقتضيه الشريعةُ في الدولة والمجتمع. ومن الإدارة الاجتماعية إلى الاقتصاد إلى البناء السياسي. ونحن نعلم أنه بسبب الحرب الباردة العسكرية والثقافية في الخمسينات والستينات، فقد كان الجوُّ كلُهُ عقائدياً. وإذا كان  من حقّ الماركسيين القول إنّ انتصارهم التاريخي حتمي، بينما يذهب الآخرون إلى أنّ الحتمية من نصيبهم؛ فلماذا لا تكون الحتميةُ الإسلاميةُ هي الطريق الثالث وبخاصةٍ أنها إلهية الأصل؟! ولكي ندرك كم صارت فكرةُ النظام الإسلاميّ الكامل قويةً بعد سواد حكومات الضباط، والفشل والهزائم، لا ينبغي النظر فقط فيما أقدم عليه الرئيس أنور السادات في دستور العام 1971 من إضافة المادة الثانية القائلة بأنّ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع؛ بل وفي ما صار إليه مفكرون إسلاميون كثيرون من ربطٍ لشرعية النظام السياسي بتطبيق الشريعة باعتبارها المرجعية العليا. وأذكر أنه في النصف الثاني من الثمانينات عندما قال الشيخ محمد مهدي شمس الدين- تحت وطأة ولاية الفقيه بإيران- بولاية الأمة على نفسِها؛ أتى الاعتراض الرئيسيُّ عليه ليس من جانب المنظِّرين لولاية الفقيه؛ بل  من جانب مفكري الإخوان المسلمين والقريبين منهم. وكان الشيخ شمس الدين رحمه الله يقول لي: لقد أصابني منكم أنتم أهل السنة ما أصاب جمال عبد الناصر من الإسرائيليين، انتظرهم من الشرق فأتَوهُ من الغرب! فأنتم تقولون إنّ أصل الإمامة الاختيار من الأمة، وإنّ الإمامة أو السلطة السياسية ليست شأناً تعبدياً بل هي شانٌ مصلحي وتدبيري ويعتمد الجماعة والإجماع، فكيف يقول كباركم الآن إنّ الشريعة أو الدين هو أساسُ شرعية النظام السياسي، والشعب ليس مصدر السلطات؟!

في النصف الثاني من القرن العشرين إذن، انضمَّ إلى الخوف على الإسلام، وجهٌ آخَرُ من وجْهَي وعي الهوية، وهو التَوقُ الكبير إلى حياةٍ إسلاميةٍ كاملةٍ في الدولة والمجتمع. وقد استطاع الصحويون الإسلاميون ومكفِّروهم المسلَّحون وغير المسلَّحين نَشْرَ هذا الوعي بفاعلية في أوساط الجمهور. وغذّت ذلك الاحداث الهائلة التي مرت بالعالم العربي وبالمسلمين في شبه القارة الهندية. وقد حدثت تكييفاتٌ وتلاؤماتٌ أو مُلاءمات، لكنّ أُطروحة غربة مجتمعاتنا ودولنا عن الإسلام، وغربة الإسلام فينا، ظلّت سائدة، بسبب فشل الدولة الوطنية في بلدان الجمهوريات الوراثية الخالدة على الخصوص، وبسبب محاولات مثقفينا الكبار لتحريرنا من الإسلام أو تحرير القرآن منا، وأخيراً بسبب قصور المؤسسات الدينية واختراقها من جانب الإحيائيين الإسلاميين، واستتباعها للأنظمة القائمة.

ثالثاً: التفكير في الإصلاح الديني في الزمن الحاضر: ظهرت الأحزاب السياسية الإسلامية إذن بعد الثورات، وبدأت تصل للسلطة مثل مصر وتونس وما تزال تسود في أَوساطها العامة (وباستثناء الكويت وسورية) ثلاثة مقولات، يتصدرها شعاران: الإسلامُ هو الحلّ، ويتمثل في تطبيق الشريعة. أما المقولات فهي؛ أولاً: يملك الإسلام نظاماً كاملاً في الاجتماع والاقتصاد والإدارة السياسية والعلاقات الداخلية والعلاقات مع العالم- وثاني تلك المقولات: أنّ هذا النظام الذي عنوانه الحاكمية المتمثلة في تطبيق الشريعة، ليس حاضراً بالشكل الصحيح في المجتمع والدولة الآن، وإنما هو مشروعٌ تحمله نُخَبٌ طليعيةٌ إسلاميةٌ انتظمت في أحزابٍ برنامجُها تطبيقُ هذا المشروع النهضوي – بحسب تعبير إخوان مصر- من طريق الوصول إلى تولي إدارة الشأن العام باسمه. وثالث تلك المقولات أنّ السلطة السياسية التي يتولاها الإسلاميون هي التي تتولَّى إنفاذ المشروع في الدولة والمجتمع.

والمقولاتُ الثلاثُ جميعاً تتضمن افتئاتاً على الدين، وتهديداً لشعرية مجتمعاتنا، ونسيجها المؤتلف، وتضامُنها. فبالنسبة للأمر الأول أو  المقولة الأُولى بشأن النظام الكامل والحاكمية. ليس هناك في النصوص ولا في التجربة التاريخية لأمتنا ما يقول بذلك أو يقتضيه. فمنذ زمن النبي صلواتُ الله وسلامُهُ عليه والراشدين، المعلوم من الدين بالضرورة أنه عقائد وعباداتٌ وأخلاقٌ وأحكامٌ. أما القيادةُ السياسيةُ للأمة فهي اختيارٌ وجماعةٌ وإجماع. وقد قال الماوردي إنّ للإمامة مهمتين: حراسة الدين وسياسة الدنيا. و حراسة الدين عنده تعني صَونه على أعرافه المستقرة، وليس فرض العقائد أو تحديد اتجاه ديني معين. وعلى ذلك اختلف أحمد بن حنبل مع المأمون. فليس من حقّ السلطة السياسية التدخل في الشأن الديني، كما أنه ليس من شأن الفقهاء فرض أمرٍ في الإدارة السياسية باسم الدين. ولم يكن مبدأ المواطنة حاضراً في الأزمنة الوسيطة؛ لكنّ الدولة ما كانت تتولى الشأن التشريعي، بل كان يتولاه الفقهاء. وفي كل دينٍ – كما في الإسلام- هناك أخلاقياتٌ وقواعد عامة، لكنها ليست نظاماً إلهياً ولا شرعياً أو دينياً لإدارة الشأن العام. وقد قال كل فقهاء ومتكلمي أهل السنة إنّ الإمامةَ ليست شأناً تعبدياً، أو من حقوق الله، أو من أصول الدين؛ بل هي شأنٌ مصلحيٌّ وتدبيريٌّ، يقوم به الناس كما يفهمون مصالحهم. ففي الزعم أنّ الدين يتضمن نظاماً كاملاً لإدارة الشأن العامّ تكليفٌ للدين بما لا يُطاق. وإذا قيل إنّ الاجتهاد مبدأٌ فقهيٌّ، وهو جزءٌ من النظام الإسلامي في مناطق الفراغ التشريعي، فالجواب أنه ما الحاجةُ لالتماس حجة شرعية في كل شأنٍ مصلحي، إذا كان الرسول وأصحابُهُ لم يفعلوا ذلك؟! فعندما أراد عمر بن الخطاب أن يُبقي أراضي الفتح بإدارة الدولة، وعارضه عشراتُ الصحابة في ذلك، ما احتجّ بتصرفٍ معيَّنٍ للنبي،ولا احتجَّ خصومُهُ؛ بل تعارضت الآراء بشأن المصالح العامة. وبالوُسع ذكْر عشرات الحالات من أيام النبي(ص) والراشدين وسائر عصور الدولة الإسلامية. فليس هناك نظامٌ سياسيٌّ كاملٌ ولا ناقص أتى به الإسلام أو اقتضاه. وقد تحدث الإسلاميون طويلاً- وبخاصةٍ أخوان مصر- في الاقتصاد الإسلامي والخيار الثالث، وإذا بهم في الأيام الأولى من رئاسة د. محمد مرسي يلجأون لطلب قرضٍ ضخمٍ من البنك الدولي. ولا يمكن إنكار التداخل بين النظامين السياسي والفقهي في الأزمنة الوسيطة، لكنْ كان التمايُزُ مستمراً، وكانت قسمةُ العمل مستقرةً. فمقياس النظام الفقهي وحقوق الله الحلال والحرام، ومقياس النظام السياسي الخطأ والصواب في توخّي المصالح العامة. وبالطبع فإنّ النظام السياسيَّ الإسلامي الوسيط(= الخلافة) ما اكتملت فيه أُسس العدالة،  وحقوق الناس، بسبب قوة الدولة من جهة، وعدم وجود  مفهوم المواطنة من جهةٍ ثانية. بيد أنّ أحداً- باستثناء أولي الأمر بالطبع- ما اعتبر النظام إلهياً ولا معصوماً ولا أنّ الدين يقتضيه ويُعتبر إيمانُ الناس ناقصاً إن لم يوالوا هذا المتغلِّب أو ذاك. وما دامت نصوصنا وتجربتنا التاريخية منفتحةً على مسائل الدولة الحديثة في المواطنة وحق الاقتراع، والديمقراطية، فما الحاجةُ إلى ابتداع صيغةٍ حتميةٍ باسم الدين لا تنطبقُ إلاّ على فئةٍ معينة، وإذا سُئلوا عن هذه "التمامية" المدَّعاة، عادوا للتحجج بالاجتهاد باعتباره جزءًا من النظام الكامل! 

أما المقولةُ الثانيةُ فهي بالضخامة نفسِها، وأكثر إشكالية. فبمقتضى هذه المقولة يحتاج هذا النظام الكاملُ أو القائل بالحاكمية أو  مرجعية الشريعة إلى تطبيق. ولو كان الأمر أمْرَ سياساتٍ اقتصادية أو  إدارية أو حتى وطنية، لكان محتَمَلاً بل ومقبولاً. فهذا شأن كلّ حزبٍ سياسيٍّ أن يدعو إليه، وأن يحاول تطبيقه إذا وصل للسلطة. إنّ المشكلة أنّ الإسلاميين الذين يصلون للسلطة الآن يذهبون إلى أنّ  شريعتنا الدينية تحتاج إلى تطبيق. وشريعتنا ودينُنا سائدان في المجتمعات وهي التي تتولى الصَونَ والحماية منذ كان الإسلام وليس الدولة. والدين كاملٌ والشريعةُ كاملةٌ ولا يشكو المجتمع شيئاً في دينه ولا في إيمانه. فالله سبحانه وتعالى يقول: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممتم عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلامَ دينا}. لكنّ الإسلاميين الذين يعتبرون إدارة الشأن العامّ جزءًا من الشريعة دون الناس، يقبضون على ما يعتبرونه الشريعة بأيديهم مُخرجينها من المجتمع، وذاهبين إلى أنّ المجتمع صار بدون شرعية غفلةً وجهلاً أو كُفراً، ولا بد من استعادة شرعيته وشريعته من طريق التطبيق الذي يكون من تكليفهم وحقّهم القيامُ به عند الوصول للسلطة. وهذا افتئات على الدين وعلى المجتمعات. وهو أساسُ ضلال جماعات العنف باسم الإسلام. فقد اعتبر بعض هؤلاء السلطات خارجةً  على الدين، واعتبر بعضهم الآخر المجتمعات أيضاً خارجةً على الدين، ولا بد من إعادة فرضه عليهم من طريق الفتية الذين آمنوا بربهم وزدْناهم هدى، بحسب تعبير سيّد قُطب اقتباساً من سورة الكهف.

أمّا ثالثة الأثافي كما يقول العربُ الأقحاح، فهي المقولةُ الثالثةُ وهي أنّ النظام السياسيَّ الذي يكونُ من ضمن تكليفهم الديني إقامتُه هو  الذي يتولّى تطبيق الشريعة أو  أنّ حقَّه وشرعيته قائمان على ذلك. وهذا تحكيمٌ للنظام السياسي، أي نظام سياسي في الدين، أي وضع المقدَّس بيده وتعليق شرعيته وبقائه عليه. وقد كان أبو بكرٍ يقول لقادة جيوشه: لا تقيموا عقداً ولا عهداً باسم الله ورسوله، بل أقيموه بأسماء أنفسكم. وهذا الأمر في مسائل تفصيلية وعهود أمان مع بعض النواحي، أمّا إسلاميونا فيريدون وضع الشريعة كلّها، والدين كلّه في يد السلطة السياسية. وعندما أقول أيّ سلطة، أنظر إلى ما فعله حسن الترابي في الثمانينات مع جعفر النميري عندما أعطاه الشرعية ولقب إمارة المؤمنين بعد كلّ ما تقدم منه وأقدم عليه بعد العام 1970، لا لشيئ إلاّ لأنه تعهد بتطبيق الشريعة، والتي كان من أُولى ثمارها على الإسلام والمسلمين، الحكم بالموت على محمود محمد طه لخروجه على الإسلام. ثم كان حسن الترابي نفسه هو الذي شرعن انقلاب البشير ودولتَه الإسلامية التي ما  تزال فضائلُها على السودان والإسلام تتوالى منذ العام 1989! ما كان بيد القذافي غير الكتاب الأخضر، واللجان الثورية- وقد استطاع بهما البقاء في السلطة أربعين عاماً، فكيف إذا وُضع الدينُ كُلُّهُ في يد الإمام أو  المُرشد، عندها يكونُ علينا إمّا أن نخضعَ له ( فهو يضع القرآن الكريم على مكتبه الآن!) أو نخرج من الدين! سيقول المستمعون والقراء إنّ هذه المقولات الثلاث، والتي تكونت وصارت نظاماً متماسكاً، تُعرَضُ كأنما هي نماذجُ صافيةٌ Ideal Types بارزةٌ للعيان،و متجلّية على أرض الواقع. والأمر ليس كذلك الآن. وما كان على هذا النحو منذ عقدين. وهذا صحيحٌ إلى حدٍّ ما، بدليل التمايُز بل الافتراق الحاصل منذ السبعينات بين التيار الرئيسي لحركات الإسلام السياسي، والجهاديين الذين أنتجوا  القاعدة وحركاتٍ أُخرى. وبدليل الصِيَغ المتحولة والمؤوَّلة والمتلائمة التي تُعرضُ الآن. بيد أنّ أُطروحة " الدولة الإسلامية" ما جرى المساسُ بها عندما نشب الجدالُ مع الجهاديين. وقد كان هدفُ مفكّري" ترشيد الصحوة" إقناع الشبان بعدم اللجوء للعنف في التصدي للخارج، أو للتغيير في الداخل. بيد أنّ ترشيديي الصحوة وعن وعيٍ خدموا الأُطروحة الأساسية حين جعلوهامقبولةً ضمن جمهور الصحوة في أوساط الطبقات الوسطى المدينية والمتعلمة والتي تؤْثر الاستقرار وانتظامَ العيش، وتضيقُ ذَرعاً بالاستبداد والفساد، والاستكانة للغريب والمستغلّ والإمبريالي. وأحسب أنه في الثمانينات بالذات حدث التحول الجماهيري باتجاه هذا الإسلام السياسي المعارض وغير العنيف. وتحت وطأة أجواء الاستنزاف والتحدّي اقتصرت دعوات التحذير من"تسيسس الدين" على دُعاة الأنظمة ووسائل إعلامها، وتصريحات مسؤوليها. فلا بد من البحث في كيف صارت فكرة الافتقار إلى الشرعية الدينية في الدولة والمجتمع ذات شعبيةٍ واسعةٍ حتى في أوساط النخب.

لقد ذكرتُ منذ البداية أنه ستكون للإحيائية الإسلامية المتحولة إلى نظامٍ للحكم تأثيرات كبيرة على الدولة فكرةً ومؤسسات. بيد أنّ سؤال محاضرتي أو إشكاليتها كما سبق القول يتعاطى مع تأثيراتها على الدين الذي تحوَّل لدى هذه الإحيائية الشعبوية إلى أَيديولوجيا للسلطة. وقد كثرت التنظيراتُ منذ السبعينات من القرن الماضي للظاهرة الإحيائية الإسلامية باعتبارها تيارات احتجاجية. ومع فوز المؤسسة الدينية الشيعية بالسلطة في إيران في العام 1979، غلب على التفكير الغربي بهذه الظاهرة، و بعض العربي، أنّ طبيعة الإسلام مختلفةٌ عن طبائع الأديان الأُخرى، التي شهدت وما تزال حركات إحياءٍ قوية، لكنها ما تحولت إلى أنظمة حكم. ولستُ أرى أنّ الإسلام مختلفٌ في طبيعته عن الديانات الأُخرى، وإنما تختلف التجربة التاريخية، والأُخرى الحديثة والمعاصرة. واستناداً إلى كلّ ما تقدم، واهتماماً بمصائر الإسلام وتحولات التفكير فيه، أرى أنّ هناك مقاربتين ممكنتين أو  ضروريتين معاً أو على انفراد. المقاربة الأُولى وهي التي أُسميها المقاربة الإصلاحية، و الأُخرى التي اُسميها المقاربة النهضوية.

أما المقاربة الأُولى ذات البُعد الإصلاحي، فلستُ أقصِدُ بها ما صار معروفاً تحت اسم الإصلاح الديني، والذي تطلَّبه كثيرون، ودخل فيه المفكرون العرب تشبُّها بالإصلاح البروتستانتي. بل ما حاوله مسلمون عربٌ وغير عرب منذ حوالي القرن من الزمان، وهو يقول باجتراح تأويلٍ مستنيرٍ للإسلام. ومنذ جمال الدين ومحمد عبده تختلف المفاهيم بشأن هذه التفسير أو التأويل وحدوده وإمكانياته. ولا أُريد الخوضَ في تفاصيل المشروعات الإصلاحية في هذا المعرِض، لكنني أُريد عَرض ما انتهت إليه. والنموذج البارزُ له أخيراً هو البيانات الثلاث التي أصدرها شيخ الأزهر بعد قيام الثورة المصرية.

يقول شيخ الأزهر بأهمية الجوانب السياسية في الدين الإسلامي، وليس في مسألة الهوية فقط؛ بل وفي عمل الشريعة في مبادئها الكلية وقواعدها العامة في الدستور والقوانين. لكنه يُصرُّ على أنه في نطاق هذه المبادئ والقواعد يمكن إقامةُ دولة حديثةٍ وتعددية وديمقراطية، تتوافر فيها مبادئُ المواطنة والمساواة والحريات العامة والخاصة الدينية والاقتصادية والتربوية والسياسية والإبداعية. وهذا كلُّهُ في نظر الأزهر هو مقتضى النصوص ومقتضى التجربتين التاريخية والحديثة. وفي الدستور الجديد الذي شارك الأزهر في لجنته التأسيسية جرى التأكيد على استقلال المؤسسة الدينية ومرجعيتها العامة، وحقِّها الحصري في تفسير الإسلام أو  ما يتوافق مع الشريعة وما لا يتوافق. وقد كان من طلائع أعمال هيئة كبار علماء الأزهر في هذا السياق اعتراضها على المشروع الذي أعدّتْهُ الجهات الحكومية بشأن إصدار صكوك إسلامية.

ما قال الأزهر صراحةً إذن بوجود نظامٍ إسلاميٍّ للحكم، ولا قال من جهةٍ أُخرى بالدولة المدنية، ولا بأنّ الشعب مصدر السلطات. لكنه أقرّ الوضع الراهنَ الذي آلت إليه الأُمور، واشترط عليه. وما اعترض حتى الآن على أمرٍ بارزٍ، باستثناء إظهار الانزعاج من تدخُّل بعض السلفيين في شؤونه. وتبقى إعلاناتُ الأزهر مهمةً بسبب تفسيرها التقدمي – إذا صحَّ التعبير- للإسلام، لكنني لا أظن انها ستؤثر في إخوان مصر أو سلفييهم لاعتباراتٍ كثيرة.

أمّا المحاولةُ أو التجربة الإصلاحيةُ الأُخرى وباسم الإسلام، فهو ما أنجرته الحركتان الدستورية الإخوانية والسلفية في الكويت بشأن المشاركة في نظام دستوري وديمقراطي باسم الإسلام. فقد قالتا بالدستور المدني وشاركتا في مجلس الأمة، وفي الوزارات. واعتبرتا الأمة مصدر السلطات، وأصّلتا لذلك في النصوص وفي التجربة التاريخية. وهذ كلُّهُ في زمنٍ كان فيه بعضُ الإخوان المصريين، وكل السلفيين، لا يقولون بالديمقراطية، ويعتبرون الشريعة أو حكم الكتاب والسنة، مرجعيةً حاكمةً. وبذلك فقد انصبّ اهتمام الإسلاميين بالكويت على الهوية العامة، أمّا ما تحت ذلك من نظامٍ للدولة، وانتظامٍ للمجتمع، فقد أفادوا فيه من التجارب الحديثة. ويمكن قولُ الشيئ نفسِه عن الإسلاميين الأردنيين واليمنيين والمغاربة والتونسيين، ومع تحفُّظاتٍ بهذا القدْر أو ذاك بسبب ظهور بعض التيارات المتشددة في أَوساطهم، أثّرت مثائلُها أيضاً في تجربة الإخوان المسلمين السوريين.

هل تؤثّر التجربة" العملية" الكويتية للإسلاميين إخواناً وسلفيين في تجارب الإسلاميين الجدد في السلطة؟ وهل تؤثِّر فيهم التجربة ذاتُها، فقد كان يقال في أميركا وبريطانيا إنّ التمثيل والطموح لتوسيعه يجلب الاعتدال؟ هذا سؤالٌ يستحقُّ الاعتبار والتامُّل، لأنّ التجربة المصرية مع الدين، هي التي ستحدّد مصائر الإسلام السياسي إلى عقودٍ قادمة. إنما ليس هذا فقط؛ بل إنه يكون علينا أن نُقِرَّ بأنّ الإسلام الإحيائيَّ هذا والمتحول إلى نظامٍ للحكم، سوف يحدّد مصائر الإسلام السنّي العربي، كما قد يحدد نظام ولاية الفقيه في إيران مصائر الإسلام الشيعي في إيران وغيرها.

هل يبقى بعد هذا كُلِّه مقالٌ لقائل؟ أعني هل ييقى هناك مجالٌ لما أعتبره طرحاً نهضوياً؟ أُصارحكم القول أنني أملك حنيناً جارفاً إلى الإسلام التقليدي، إسلام المذاهب الفقهية. وأنا أعرف أنّ الإسلام الصحوي، والإسلام الإحيائي قضى عليه، ولا إمكان لعودته أو إحيائه. فالظاهرةُ الإسلامية التي  نشهد تعاظُمَها ليست من الموروث، ولا من التقليد،  وهي تختلف عنه في رؤيتها للمجتمع والدولة، ولعلاقات المسلمين فيما بينهم، وعلاقاتهم بالعالم. وكما أخشى على إسلامنا من الإحيائيات، أخشى عليه من إغراءات الدولة والسلطة. فالدولة ذات معدةٍ قاسيةٍ، وهي حَريةٌ أن تمضعَ ديننا وتشرذمَهُ لأنّ الدولة  أقوى من العقائد الدينية، ومن المجتمعات التي تحتضنُها. ولذا؛ فإنه بسبب من ضَعف المؤسسة الدينية لدينا نحن أهل السنة، فقد نتحول تحت وهج السلطة وشُواظها إلى بروتستانتيات أو حزبيات متنافسة إن لم أقُل متصارعة أئمتُها أو كهنتها هم زعماءُ الحركات والأحزاب القابعة في السلطة. فكيف يبقى المجتمع موحَّداً وواثقاً من نفسه لأنه يحتضن الدين والشريعة والموروث والتقليد الإسلامي العريق، في حين يقول كل فريقٍ من الإسلاميين إنه يريد فرض الشريعة عليه بحسب رؤيته وبرنامجه لذلك؟!

ليست في ديننا نحن المسلمين أكثريات وأقليات. بل الناس كما قال رسول الله صلواتُ الله وسلامُهُ عليه: سواسيةٌ كأسنان المشط. فلماذا لا ندعُ الدين واحدا ولا نتحزَّب باسمه، ولا ندعي أنه يملك نظاماً للحكم، ثم ننصرف مستهدين بروحه العامة وأخلاقياته الكبرى لبناء الدول وإصلاح  إدارة الشأن العام، كما تفعل سائر أُمَم الأرض؟ هذه هي المقاربةُ النهضويةُ فيما أرى. وهي مقاربةٌ يقتضيها التديُّن الحقُّ. وقد نجد أنفسنا نحن الأكثر تديُّناً عائدين إليها بعد عقدٍ أو عقدين؛ إنما بعد أن تكون التجربة المصرية قد ضربت بقايا تماسُكِنا الديني، وكرّهتْ كثيرين من شبابنا بالدين وأهله. هل نحن أكثر إيماناً من الإندونيسيين والأتراك؟ ولماذا نكتشف نحن العرب فجأةً أنّ إسلامنا السابق ما كان صحيحاً أو ما كان كاملاً، وأنه لا يكتمل إلاّ بوضع الشريعة في يد النظام السياسي؟!

ذهبتُ للدراسة بالأزهر عام 1966 بعد أُسبوعٍ من إعدام سيّد قُطب رحمه الله. وجاء الشيخ الجليل محمد أبو زهرة لتدريسنا مادة أصول الفقه، ورغم الجو  المحتقن والخائف فإنّ زميلاً من الشام سأل الشيخ عن رأيه فيما جرى. وقال الشيخ: بينكم يا شباب من سيبلّغ  الأمن ما أقوله، لكنني رغم ذلك أرى أنّ قتل الرجل، وقتل الإخوان بشكلٍ عامٍ، ظلمٌ وطغيانٌ وباطل. إنما صدِّقوني أيها الأبناء أنّ ديننا ليس فيه نظامٌ للحكم ولا يحتاجه. ولو كان النظام السياسي جزءًا من الدين لزال الإسلام بزوال الخلافة. وهذا رأيُ علماء أهل السنة منذ قرونٍ وقرون عندما قرروا أنّ الإمامة أمرٌ تدبيري ومصلحي ولا علاقة له بالاعتقاد. وهذا معنى قول محمد عبده إنّ نظام الحكم في الإسلام مَدَني! وقاطعه شابٌّ من غزّة قائلاً: كيف يقول الإمام عبده ذلك بينما نعلم جميعاً أنّ الإسلامَ دينٌ ودولة؟! وقال الشيخ أبو زهرة متضاحكاً: لأنّ محمد عبده ما كان يعرف عن الإسلام ما عرفه حسن البنا وحسن مأمون بعد ذلك!

إنه مخاضٌ عظيم هذا الذي أدخلنا فيه شبان الثورات، بعد جمودٍ وخمودٍ وإذلال. ومن ضمن ما دخلَنا فيه هذه التجربة الجديدة علينا مع الإحيائية الإسلامية، ومع الحزبيات الإسلامية في السلطة. والذي أرجوه أن لا تتحقَّق المخاوف التي أعلنتُ عنها، وأن تمضي النزعة الإصلاحية التي تحدثتُ عنها في طريق صون الدين والدولة معاً:

فيا دارها بالخيف إنّ مزارها    قريبٌ ولكنْ دون ذلك أهوالُ

الكويت: مهرجان القرين، 13-16/1/2013

ندوة "ارتدادات الربيع العربي.. ربيع العرب ما له وما عليه

المصدر: http://www.ridwanalsayyid.com/ContentPage.aspx?id=295#.Vx57B3ErLIU

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك