الظاهرة الإسلامية والعالم العربي المتغير التاريخ والوقائع والمآلات

الدكتور رضوان السيد

 

اعتدنا نحن العاملين في المجال الفكري والثقافي العربي خلال العقدين الأخيرين، على المجيء إلى هذا المنتدى الثقافي والتنموي المحترم الذي أقامته مؤسَّسة عبد الحميد شومان، فصار بيئةً حرةً وملتزمةً للنقاش وتبادل وجهات النظر في الحاضر العربي وقضاياه ومشكلاته، يحدوها الهمّ وتحدوها مسؤوليات القضايا العربية التي تشابكت واشتبكت. وخلال العقدين جميعاً ما خلت محاضرةٌ في هذا المنتدى، ومنتديات أخرى، ومن جانبي وجانب زملائي، من حديثٍ عن أزمة المجتمع والدولة في الوطن العربي. وقد ذهب بعضٌ من الباحثين العرب والغربيين إلى اعتبار الظاهرة الإسلامية جزءًا من هذا التأزُّم. وقد كنتُ من بين مَنْ ذهبوا إلى ذلك. لكننا جميعاً، ولاعتباراتٍ كثيرةٍ، كنا نعتبر أنظمة الحكم السائدة، وبخاصةٍ في الجمهوريات الوراثية الخالدة هي العِلّةُ فيما كان ويكونُ من مظاهر وظواهر ووقائع ذلك التأزم، أمّا الظواهرُ الأُخرى- ومنها الظاهرةُ الإسلامية- فهي أَحرى بأن تكونَ نتيجةً لا سبباً. ولكي أكونً مُنْصِفاً، فقد كان هناك مثقفون كبار، ومنذ الستينات، كانوا قد توصلوا إلى قناعاتٍ أُخرى؛ إذ اعتبروا الصعودَ الإسلاميَّ في المزاج الشعبي، وفي الأُطروحات الثقافية والدينية والسياسية، شأناً مستقلاً عن نوعية نظام الحكم أو أنظمة الحكم السائدة. ولذلك فقد انصرفوا إلى اصطناع رؤىً ونظرياتٍ شاسعة في"التراث" العربي والإسلامي. وقد استندت هذه الرؤى والنظريات إلى فكرة القطيعة التاريخية والمعرفية الفوكوية، أو فكرة الفوات الهيغلية. ولذلك فقد كان هدفُ التنظير والتحقيب والقراءة الثورية، الخروجَ من "مشكلة الإسلام" أو إشكاليته بتعبير محمد أركون، بإحدى طريقتين: التحرر أو التحرير أو الأمرين معاً. وما انتبه أصحاب النظريات الكبرى إلى أنّ الحضور الإسلاميَّ الكبير لدى عامة الناس، بل ولدى عامة المثقفين، يتنافى مبدئياً مع مسألة القطيعة، بل ومع مسألة الفوات التاريخي، بالتبسيطية الشديدة في الحالتين. ولستُ في معرِض الردّ على تلك القراءات الجذرية للنصّ الإسلامي، وللظاهرة الإسلامية، وإنما أردتُ الإشارة إلى الأفهام المختلفة للظاهرة الإسلامية، وللإسلام السياسي على الخصوص، في أَوساط الدارسين العرب، والعلائق القوية أو الضعيفة للظاهرتين العامة والسياسية بأنظمة الحكم والعلاقات الدولية التي كانت سائدةً إلى حين قيام الثورات قبل عامين ونصف العام.

I

إنّ الذي أراه ومنذ كتابي الأول عن "الظاهرة الإسلامية" بعنوان "الإسلام المعاصر" عام 1987، ودراساتي اللاحقة مثل سياسيات الإسلام المعاصر(1997)، والصراع على الإسلام(2004-2005)، وما نشرتُه من دراساتٍ متجدّدة أو معدَّلة قبل قيام حركات التغيير العربية وبعدها- أنه يمكن إعادة الظاهرة الإحيائية الإسلامية أو الصحوة – إذا صحَّ المفرد أو التعبير- إلى ثلاثة أصول: الحقبة الاستعمارية الطويلة والتي بلغت ذروتَها باحتلال فلسطين، والوعي الكاسح بضرورة البديل السمتي العقَدي والتعبدي والشعائري والرمزي والسلوكي، وفشل الدولة الوطنية العربية والإسلامية في بناء حاضرٍ متطور وتعويضي وتمثيلي. وفي الأصل الأول أو السبب الأول، أي الجَرْف الاستعماري، ليس من المفيد تتبُّع التاريخ الطويل الطويل لمائتي عامٍ وأكثر من الكوارث وحروب الإخضاع والقتل والإلغاء، لأنّ معالمها الكبرى معروفة. لكنني أُريدُ التركيز على التأثيرات في الوعي العامّ والذهنية الدينية إذا صحَّ التعبير. فمنذ أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، بدأت تصدُرُ في الهند الفتاوى التي تقول إنّ الهند ما عادت دارَ إسلام. والطريف أنّ مُصدريها الأوائل كانوا من الفقهاء الأحناف. وما دامت الدار ما عادت دار إسلام بسبب غَلَبة البريطانيين عليها، فالناس أمام أحد خيارين لا ثالث لهما: الجهاد أو الهجرة! ولذلك فقد غصَّ القرنان الثامن عشر والتاسع عشر بأحداث التمرد على البريطانيين أحياناً، وعلى سلاطين المغول الذين بدأوا يخضعون لهم. وبعد كل هزيمة كان الفلاحون المتدينون يحاولون الهجرة، وإلى أين؟ إلى أفغانستان التي فشل البريطانيون في حملتهم في أريعينات القرن التاسع عشر في احتلالها. وما ارتفع صوتٌ للجهاد أو ما عاد ذلك ممكناً بعد التمرد الشامل عام 1857م والذي سقط فيه عشرات الأُلوف. ولذلك كثرت حملات الهجرة، والتي ظلت ساريةً بحسب الفتاوى حتى العام 1920، وما وصل من مليونٍ ونيّفٍ إلى دار هجرتهم غير زُهاء الثلاثين ألفاً. وأقبل الهنود المسلمون وبعد تلك الكوارث كلّها على البحث عن حلولٍ أُخرى. فكان الانكفاء الهائل في ديوبند، وتحريم الجهاد والهجرة معاً في أقوال وأفعال السيد أحمد خان. لكنْ حتى الذين بقوا (وهم غالبية العامة) إنما بقوا وهم يعلمون أنّ الأمر أمر إخضاعٍ وعجزٍ واستضعاف وذلٍ وهوان. والملحمة الجزائرية التي نعيها جيمعاً، لا نعي في الحقيقة غير جزئها أو قسمها الثاني في حرب التحرير(1954-1962)، أمّا القسم الأول فقد حدث عشية الاحتلال الفرنسي للبلاد عام 1831. فقد نشبت حرب فتاوى قادها الأمير عبد القادر الجزائري، وهي تدعو  إلى الهجرة لأنّ الدار لم تعد دار إسلام. وقد أيده في ذلك فقهاء المالكية في المغرب وتونس ومصر. واعترض فقيهان حنفيان، بأنّ الناس مستضعَفون وأنه يحقُّ لهم البقاء ما دام الفرنسيون لا يتعرضون لعقائدهم وعباداتهم  وأوقافهم وأحكامهم القضائية. وكان عذر الأمير عبد القادر أنه يريد تحشيد الناس في تلمْسان للعودة والجهاد. وهذا الذي حصل. لكنّ الأمير انهزم أخيراً عام 1847 واعتُقل ونُفي، واعتزل الصوفية في الزوايا، وذهبت النخبة إلى المغرب وتونس، وقلّت فتاوى الهجرة لكنها لم تنقطع، كما لم تنقطع التمردات المسلَّحة. ولدينا مَثَلُ الثورة المهدية بالسودان. وقد كانت المصيبةُ أنّ البريطانيين إنما جاءوا للاحتلال بعد أن احتلُّوا مصر عام 1882، ولذلك ما كان هناك إمكانٌ إلاّ بالفتوى الجهادية، والتي ربح فيها السودانيون أولاً ثم خسروا بمقتل خليفتهم محمد بن أحمد المهدي. وظلت المقاومة للبريطانيين تتنقل بين جزءٍ وجزء إلى أن انتهت في التسعينات من القرن التاسع عشر. ولدينا الكثير من الفتاوى المماثلة من القرن التاسع عشر من آسيا الوسطى وجاوه وسومطرة وأنحاء مختلفة من إفريقيا. وآخِرُ الأمثلة على ذلك فتوى الجهاد عندما غزا الإيطاليون ليبيا عام 1911.لكنّ أمير المؤمنين العثماني الذي أصدر الفتوى، ما لبث أن هادَن عام 1912، ففعل أحمد الشريف شيخ السنوسية ما كان علماء المالكية يفعلونه بالجزائر وتونس وبعض المغرب، إذ من طريق فتاوى الهجرة جمع المقاتلين ببرقة وفزّان وقاتل بهم المستعمرين إلى أن قُبض عليه وأُعدم عام 1931. والذي يقرأُ أشعار وفتاوى ومجادلات العلماء عندما أُلغيت الخلافة عام 1924، يُحسُّ كأنما انتهت الشرعية بالنسبة للفقيه المسلم، والذين يسمعونه في المساجد والمجالس- من سائر انحاء دُور الكثرة الإسلامية وعالم المسلمين. ففي الردود على إجراء مصطفى كمال وكتاب علي عبد الرازق شعورٌ جيّاشٌ بأنّ الدين ذاته مهدَّد وليس المسلمين أو استقلالهم فقط.

أين يلتمسُ المسلم الطمأنينة لدينه وشَرَفه وكرامته وسط ظروف ووقائع الخوف على الدين، والخوف على الأمة، والإحساس بالافتقار إلى الشرعية بالمعنى الديني العميق؟

لقد حدث بالتدريج نوعٌ من الانكفاء على الذات لدى المتدينين العاديين. والانكفاء على الذات والذاتي هو الأصلُ في حركات الهوية ذات النزوع التربوي. فقد ظهرت عشرات الجمعيات والإخوانيات ومن شبه القارة الهندية وإلى مصر وتركيا وجاوه وسومطرة وآسيا الوسطى والقوقاز. وبالطبع، والظاهرةُ الغربيةُ ظاهرةٌ في كل مكان؛ فإنّ هذا الإحياء ما اتخذ مظهراً واحداً ولا أَولويةً واحدة. إنما إلى جانب الإقبال على العبادات، والالتزام في الهيئة واللباس، ظلَّ هناك شعورٌ خفيٌّ بالحاجة إلى استعادة مثال الخلافة. وفي حين اتخذ ذلك مظهراً وطنياً وعروبياً وقومياً لدى الحداثيين، اتخذ لدى المتدينين المُلتاعين، والذين بدأت نُخْبةٌ لهم بالتكون، مظهرَ الإعجاب بتجربة الملك عبد العزيز آل سعود، الذي كان يقيم دولةً يحكمها الكتابُ والسنة. أمّا على المستوى الداخلي لتلك الجماعات والجمعيات فقد انطلقت تقاليد البيعة والطاعة باعتبارها البديلَ المؤقَّت للشرعية العامة الغائبة. وينبغي أنّ لا نُخطئَ هنا، فنعتبر ذلك بدايةً لما صار يُعرف بالإسلام السياسي في الثمانينات من القرن العشرين. فالوعي الديني بلغ ذورة تأزُّمه بإلغاء الخلافة. لكنّ لتأزُّم الوعي تاريخاً طويلاً ذكرنا بعضَ فصول تاريخه العَقَدي والشعوري. وهكذا وعبر ثلاثة عقودٍ بحث الإحيائيون المسلمون عن سمتيةٍ مُطابقة للكتاب والسنة، وتجربتُها الوحيدة الصورة المُتاحة عن الخلافة الراشدة. وقد كان ذلك بالمعنى العميق بحثاً عن "تقليد" إذا صحَّ التعبير؛ في حين كان السلفيون والإصلاحيون وعبر قُرابة القرن قد قضَوا عليه، بل وشاركهم في ذلك فيما بعد أهل الحداثة الثقافية. كان السلفيون، وهم ثوريون أصيلون، يقاتلون التقاليد العَقَدية(الأشعرية) والفقهية(المذاهب الأربعة)، والطرق الصوفية، ويريدون فَتْح باب الاجتهاد لاتّباع الكتاب والسنة مباشرةً. ووافقهم على ذلك الإصلاحيون وإن لأهدافٍ مختلفة. فقد كانوا يريدون فتح أُفُقٍ على العالم المُعاصِر. وعندما استطاع الإصلاحيون أخيراً شقَّ الطريق إلى السيطرة في المؤسَّسات الدينية بمساعدة وُلاة الأمور بالدولة الوطنية، كان الجمهورُ قد تجاوز تلك المؤسَّسات باعتبارها جزءًا من التقليد المرفوض، أو من البنى التابعة للسلطات. وقد هدأ السلفيون لبعض الوقت انصرافاً إلى تجربة الملك عبد العزيز ودولته. أمّا الفريقُ الآخَرُ من الإحيائيين من مثل الجماعة الإسلامية بالهند ثم باكستان، ومثل الإخوان المسلمين بمصر، فقد انصرف لإنتاج الشرعية البديلة من خلال "النظام الكامل" باعتباره هو مقتضى الكتاب والسنة. وبالتداعيات المتسارعة، صار التنظيم هو محور الشرعية، وجرى الانفصال بالوعي عن النظام الغربي كله، وظهرت نظرية الحاكمية، وظهر الاقتصاد الإسلامي، والطليعة الحزبية العاملة على تطبيق الأمرين؛ وذلك من طريق  الوصول إلى السلطة، وبذلك تُستعادُ الشرعية.

لقد قلنا إنّ لاستعلاء الظاهرة الإسلامية، وسيطرتها على قطاعٍ واسعٍ من الجمهور ثلاثة أسباب: الظاهرة الاستعمارية التي أسقطت إحساسَ المؤمن بالطمأنينة إلى صورته عن نفسه ودينه وعالَمه وأشعرته بالحاجة إلى استعادة الشرعية أو إنتاج شرعية جديدة بما يتجاوزُ السياسيَّ في الأصل. والسبب الثاني: سعي المسلم لاستعادة الشرعية في صورة سْمتيةٍ تتطلب اليقين سلك إليها مسلكاً تطهرياً وطهورياً في العقيدة والعبادة والسلوك من خلال الجماعات والجمعيات فالأحزاب الدينية. وهذان العاملان قامت عليهما ظاهرةُ الصحوة، التي كان من الممكن أن لا تتحول إلى إسلامٍ سياسيٍّ يوشكُ اليوم أن يغيّر مصائر الإسلام السني أويؤثر فيها تأثيراً شديداً.

أما العامل الثالث والذي أنتج الإسلامَ السياسيَّ في قلب الصحوة أو الإحياء، فهو تجربة الدولة الوطنية. وللإنصاف فإنّ هذه التجربة كانت شعبيةً وواعدةً في عقديها الأولين. وللإنصَاف أيضاً فإنّ الحرب الباردة والعلاقات الدولية بالمنطقة، كما أسهمت في إفشال تجربة الدولة الوطنية، أسهمت أيضاً في مُفاقمة أزمة الشرعية، ومنحَت الإسلامَ السياسيَّ هالة النضال من أجل حلّ أزمة الشرعيتين: السياسية والدينية. لقد ذكرتُ في محاضرةٍ لي بهذا المنتدى قبل  سنوات مقولةً للرئيس رفيق الحريري رحمه الله مفادها سؤالُهُ لنفسه ومحاوريه مراراً وتكراراً في السنوات الأخيرة من حياته: لماذا يُنشئ الناسُ أوطاناً ودولاً؟ وكان يجيب: لتحسين شروط حياة الناس ومعيشتهم، ولصون المصالح الوطنية والقومية. إنها الدولةُ التي وصفها جمال عبد الناصر في خطاب الوحدة مع سورية بأنها تحمي ولا تُهدّد، وتصونُ ولا تُبدِّد. وقد حاولت في الأربعينات والخمسينات وبعض الستينات من القرن الماضي، أن تقوم بشيئٍ من ذلك. لكنها لم تنجح، فما صانت المصالح الوطنية والقومية، بل بدَّدت الثروات والمجتمعات، وهدَّدتها وتُهدّدها بالتشرذمات والإبادات الجماعية. وفي مقابل ذلك، وعندما كانت الأوطان تضيع، والمجتمعات تنوء تحت وطأة الاستبداد والطغيان والمذابح، كان الإسلاميون يصعدون، ويعرضون عقائدهم وتنظيماتهم بديلاً لتحقيق الأصالة والسمتية، وإحقاق الشرعية. وفي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي وعندما كانت الفئات الوسطى والصغرى في المدن والبلدات تتجه لاعتبار الإخوان بديلاً ذا مصداقية، كانت السلفية تنفجر باتجاه الجهاديات والانتحاريات. فقد أحلَّ الإخوان التنظيم الحزبيَّ، وأدبيات النظام الكامل محلَّ العقيدة الطهورية، في حين انتصرت لدى قسمٍ لا يُستهانُ به من شبان السلفيين والإخوان المتسلِّفين اعتباراتُ العقيدة ومقتضياتها على كلّ ما عداها. وقد أدَّى ذلك بالتَبَع إلى وضع أعباء الكفاح ضد الأنظمة والعالم على عاتق السلفيين الجهاديين؛ في حين تطلعت الدوائر الاستراتيجية بالغرب والمنطقة إلى إحيائيي الإخوان باعتبارهم إنقاذاً محتملاً إذا تعذّرت حمايةُ الأنظمة القائمة.

II

في أواخر الخمسينات من القرن التاسع عشر، شكّل الباي التونسي، لجنةً ضمنها رجال الدين الأربعة الكبار بالبلاد، لكتابة الدستور أو القانون الأساسي كما سُمّي يومها. بيد أنّ العلماء الكبار ما لبثوا أن أعلنوا عن اعتزالهم لأعمال اللجنة، فانفرد المدنيون والإداريون بكتابة الدستور الذي صدر عام 1861، وأُوقف عام 1864. علَّل العلماء اعتزالهم للعملية الدستورية بأنّ ذلك ليس من شاأنهم. وكانوا بذلك يُصرون على استمرار القسمة التقليدية للسلطتين السياسية والدينية بين أرباب السيوف، وأرباب الأقلام. وقد حصل الأمر نفسه  مرتين قبل ذلك. مرة بدمشق عام 1774م عندما رفض العلماء طلبَ العسكري المملوكي محمد أبو الذهب منهم تولي إدارة المدينة بمساعدة حاميةٍ عسكريةٍ أراد أن يتركها لهم إبّان مغادرته للمدينة عائداً إلى مصر. وحصلت المرة الثانية عام 1799 عندما طلب نابليون بونابرت من علماء الأزهر تولّي الإدارة بالقاهرة بعد احتلال  مصر. وقد صُوّر الأمر يومَها بأنه رفضٌ وطنيٌّ للإدارة في ظلّ الاحتلال! لكنه كان في الواقع إصراراً أيضاً على إبقاء القمسة التقليدية للسلطتين. ولذا فقد سارعوا إلى دعم محمد علي عام 1805 باعتباره واليَ السلطان العثماني بعد جلاء الفرنسيين عن مصر. وبالطبع فإنّ هذا الأمر ما عاد يمكن تصوره اليوم، بل وما عاد يمكن تصوره منذ الخمسينات من القرن العشرين. فقد  صار هناك تصوُّرٌ تطور إلى مشروعٍ جديدٍ في علاقة الدين بالدولة. فلنعُدْ إلى لملمة المشهد لتبيان الآثار الناجمة عن المشروع الإسلامي قبل الثورات العربية وبعدها. لقد ذكرْنا من قبل أنّ الظاهرة الإسلامية المتصاعدة على مدى أكثر من ستين عاماً في العالمين العربي والإسلامي، وبخاصةٍ في شبه القارة الهندية ومصر استندت إلى خُوافٍ هائلٍ من جهة، ومسعىً حثيثٍ من جهةٍ أُخرى. الخوفُ الذي صار خُوافاً على الدين والأمة أو دار الإسلام- والسعي إلى  تجاوُز الخوف والخواف من خلال سمتيةٍ اعتقاديةٍ ورمزيةٍ وشعائريةٍ ومظهرية. وقد تصدّر لتحقيق مقتضيات هذه السمتية البديلة حراكان ثوريان في الاساس ضمن المجتمعات السنية: الجماعة الإسلامية والإخوان من جهة، والسلفيون من جهةٍ ثانية. وقد هدأت السلفية الجديدة مؤقتاً اطمئناناً لعودة الدولة السعودية، بينما استمرت مساعي الجماعة الإسلامية والإخوان وتفاوتت وتيرة الصعود تبعاً لنجاحات ثم تعثرات وأخيراً سقوط تجربة الدولة الوطنية العربية والإسلامية. وفي النهاية، وفي المساعي لاستعادة الشرعية حلَّ التنظيم محلَّ الأمة، وحلَّ النظام الكامل الذي اتخذ لنفسه في الستينات عنوان الحاكمية وتطبيق الشريعة محلَّ دولة الخلافة أو نظامها التقليدي. وهكذا ظهر بالفعل  ما يمكن اعتباره رَوتنةً للمقدَّس أفقدت التركيبَ الجديدَ الاندفاعَ الثوري، لكنها أعانت على اعتراف الفئات المدينية المتدينة بهذه التلاؤمية أو ذاك التكيف. وفي الوقت الذي كانت تحصُلُ فيه هذه العملية، كانت أجزاء شابّة من السلفية والإخوانية المتسلِّفة تتمرد على الاستنامة للتعاوُن بين الشيخ والأمير، وخارج المملكة أولاً ثم بداخلها، وتمضي باتجاه الجهاديات أو الإمعان في تطلُّب ما قبل "التقليد" بالاستمرار في عصر النصوص ومضغها واجترارها لهذه الجهة أو تلك، ومن ضمن هذا العَصر والمضغ الاعتزال أوالانكفاء  أو التوقُّف للتبيُّن، أو التطلُّع إلى النموذج الإخواني في تطبيق الشريعة.

وما كانت الثورات العربية عندما انطلقت قبل عامين ونصف من نتاجات تنظيمات الإخوان، ولا انفجارات السلفيين. لكنْ كانت لدى الإخوان تنظيماتهم، ونظامهم الكامل والمتلائم بهذا القدْر أو ذاك، وكانت للسلفيين القدرة على إطلاق الطاقات الثورية التي اعتادوا عليها في العقدين الأخيرين. ولدينا اليوم أربعة تأثيراتٍ أو آثار لهذا المخاض الكبير والمستمر في موجاتٍ منذ عدة عقود:

الأثر الأول: تغيُّرُ العلائق بين الدين والدولة. فقد تحولت الشريعة إلى ما يشبه القانون، وهذا القانون تحت عنوان الشريعة والنظام الكامل أمسكه الإسلاميون الحركيون بأيديهم وتنظيمهم، وسعوا لتسلُّم السلطة من أجل تطبيقه بواسطتها باعتبار ذلك مبرراً رئيسياً لاستعادتها للشرعية. ويتفاوت الأمر لدى التنظيمات  المختلفة بين أنه يكفي لاستعادة الشرعية أن يكونَ الإسلامُ دين الدولة لدى المعتدلين، أو تكون الدولةُ دولةَ الدين، لدى المتشددين. وإنما في كل الأحوال فإنّ شرعية النظام السياسي لدى الإسلاميين صارت متعلّقةً بالدين. وسواء أكان ذلك مسوِّغاً لتسلُّم السلطة وقيادتها، أو لأنّ الدين لا يستوفي أركانه في المنظور الإسلامي الجديد إلاّ بذلك.

الأثر الثاني: ما دامت الظاهرة الإسلامية المتطورة في تنظيمها الأبرز إلى إسلامٍ سياسيٍّ قد  وضعت الدين في مركز الصراع على السلطة رمزياً او فعلياً؛ فستكون لذلك آثارٌ كبرى على طبيعة الدولة، وطبيعة الدين. فنحن أمام مشروعٍ كبيرٍ بالداخل العربي والإسلامي يُحوّل طبيعة النظام السياسي بهذا القدر أو ذاك، لأنّ المرجعية فيه للدين وليس للأمة حتى في قضايا إدارة الشأن العام، وليس في القضايا العقائدية والرمزية وحسب. وهكذا تتعدد وجوه المخاض والتجاذُبات ليس بالداخل فقط؛ بل في المنطقة والعالم. فالدولة الوطنية الحديثة تقومُ على المواطنة، وليس على المرجعية الدينية. والدولتان القائمتان على هذه الازدواجية بين المواطنة والدين حتى  الآن في المنطقة هما إسرائيل وإيران. ونحن نعلم أنّ الإخوان بمصر يتجهون بقوة إلى النموذج الإيراني وليس النموذج التركي. وليس ذلك بسبب تطلُّب القروض والمساعدات والسياحة الدينية؛ بل بسبب طبيعة المشروع. ففي إيران ثيوقراطية، ويريد الإخوان إقامة نوموقراطية إذا صحَّ التعبير. والدولة الوطنية  عند العرب ذات هويةٍ عربية. ومصر في عصر الدولة الوطنية كانت رأساً للمنظومة العربية، بينما الاتجاه الآن لتهميش هذا الانتماء وتغيير الدور، كما يبدو من نموذجي غزّة وسورية، وطرائق النظام المصري الجديد في التعامُل مع هذين الموضوعين الخطيرين. وإذا شئنا الدقّة؛ فإننا نشهد وسنشهد صراعاً على مصر بالمعنى القومي والاستراتيجي، بين بقايا النظام العربي من جهة، وإيران وإلى حدٍما تركيا من جهةٍ ثانية. نعم نحن نشهد من جديدٍ صراعاً له معنىً استراتيجي كبير بين العروبة والعربية من جهة، والإسلام السياسي من جهةٍ ثانية. إنّ الصراع يدور بداخل مصر وعليها، ولن ينحسمَ في وقتٍ قصير.

الأثر الثالث يتعلق بالمؤسسة الدينية وأدوارها السابقة، وظروفها في الزمن الجديد. لقد استولت المؤسسة الدينية الإيرانية على الدولة والنظام، وقد تمكنت من ذلك لأنها مؤسسةٌ ذات طابع قُدسي في الأساس. بينما المؤسسة الدينية السنية مؤسسة مفتوحة ولا تتمتع بالعصمة. وبسبب أنظمة الحكم العسكرية والكوربوراتية، ما تمكنت المؤسسة الدينية من القيام بوظائفها حتى تلك القائمة على الفصل السابق بين الديني والدولتي. لدى المؤسسة الدينية السنية مهامّ هي: قيادة العبادات لصون وحدة المجتمعات من خلال وحدة شعائرها- والتعليم الديني من أجل التربية الواحدة والمنفتحة على الاختلاف، وعلى فقه العيش التاريخي المتنوع- والفتوى، في المسائل الكبرى المتعلقة بالتلاؤم مع العصر والعالم، وفي المسائل الصغرى المتعلقة بحياة الناس اليومية- وأخيراً: الإرشاد العام. وقد خربت الأنظمة السابقة المؤسَّسات الدينة لدواعٍ مختلفة منها الأمني ومنها الثقافي والإدراكي. لكنْ يبدو أنّ بنية الأزهر الأساسية ما تزال سليمة، لذلك فقد استطاع أداء دورٍ جامعٍ في ظروف المخاض هناك. وقد تسابق الإخوان والسلفيون على تأكيد دور الأزهر ومرجعيته في الدستور الجديد سعياً لكسب دعم شيوخه. لكنّ الإخوان يريدون الاستيلاء عليه ولو بدون تغيير لكي لا يُستخدم ضدّ سلطتهم. بينما يُصرُّ السلفيون على أنّ المرجعية للشريعة وليس للأزهر، بسبب كراهيتهم الحادّة للتقليد الذي يعني فقهاً تاريخياً للعيش،  لا يجد السلفيون أنفُسَهُم مستعدين للتلاؤم معه. لكنْ لنتأمَّل الأمر الآن، ما دام الدين في قلب الصراع، فهل يمكن العملُ في الوعي والممارسة على إخراج الدين بالتدريج من الصراع السياسي لصَون وحدة المجتمعات من جهة، وفقه العيش العامّ من جهةٍ أُخرى؛ وذلك من طريق إفراد المؤسسات الدينية بالعمل الديني في الزمن الجديد؟ يحتاج الأمر إلى تغييرٍ كبيرٍ ضمن المؤسَّسات، وتغيير أنماط التفكير والتقدير لدى الإسلاميين المتشبثين بالملفّ الديني باعتباره التسويغ الملائم للوصول إلى السلطة والبقاء فيها.

الأثر الرابع والأخير: الأدلجة الهائلة للمجتمع السياسي وأطروحاته وأفكاره وتوقُّعاته. فالمجتمع السياسي الجديد هو أهمُّ ما أحدثتْهُ الثورات وحركات التغيير حتى الآن. ويشارك في نقاشاته ومداولاته عشرات الأُلوف من المتظاهرين وغير المتظاهرين، ومن السياسيين وغير السياسيين. بيد أنّ هَول المخاض الذي نحن جميعاً عالقون فيه، رفع من حرارة النقاش بحيث ارتفعت نسبة الأيديولوجيا وليس التسيسس فيه. ومَنْ يُسمَّون بالمدنيين فيه لا تقلُّ مسؤوليتُهم عن الإسلاميين الساعين للسلطة بأي ثمن. ولذا فإنّ هذه الخطابات الصمّاء والدائرة بين الإسلام هو الحلّ وتطبيق الشريعة من جهة، ويسقط حكم المُرشد من جهةٍ ثانية، تحوّل المسائل إلى خطاباتٍ صمّاء وتزهّد الناسَ في المجتمع السياسي قبل استتباب أعراف وآداب للنقاش والحوار المُغيِّر.  

تبدو الظاهرة الإسلامية إذن وبوجهيها الشعائري والرمزي من جهة، والسياسي من جهةٍ ثانية- طاغية في الأعوام الأخيرة. وقد أدخل وصولَها للسلطة في العامين الأخيرين، بلداننا في مخاضٍ عنيف. بحيث يمكن القول إنّ هناك ثلاثة تحديات كبرى تواجه أمتنا وديننا الآن وفي المستقبل القريب: التدخل الإيراني الذي يشرذم المجتمعات والدول وينشر الفِتَنَ والأَوهام فيها- والشعور الإسرائيلي بالقدرة على ازدراد القضية الفلسطينية وناسِها بسبب الضعف العربي، والتشرذم والانقسام بعد الثورات - والإسلام السياسي الذي فرض أَولوياتٍ وهمية بحجة استعادة الشرعية، وما أنجز شيئاً من ذلك بعد: { والله غالبٌ على أمره، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون}.

المصدر: http://www.ridwanalsayyid.com/ContentPage.aspx?id=332#.VxvOvnErLIU

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك