الدولة الإسلامية والخلافة

الدكتور رضوان السيد

 

الدولةُ الإسلاميةُ مصطلحٌ متأخرٌ نسْبياً. فقد أطلقها للمرة الأُولى على الأراضي التي كان يسيطر عليها العثمانيون الرحّالةُ والمؤرخون البيزنطيون. أما التسميةُ التي اعتاد المؤرخون والفقهاء المسلمون على إطلاقها فهي دار الإسلام. وهي عندهم الدار التي أكثريةُ سكّانها من المسلمين، ويكون فيها المسلمُ والذمي آمَنين بالأمان الأول، ولا يمنعُ أحدٌ أحداً من إقامة شعائر الإسلام وعباداته. وعندما احتلّ البريطانيون الهند، واستولَوا على السلطنة المغوليه هناك بالتدريج إلى أن اسقطوها على أثر تمرد العام 1857م، قال بعض الفقهاء   في  مطلع القرن التاسع عشر إنّ الدار لم تعدْ دار إسلام، فردَّ عليهم فقهاءُ آخرون بأنّ البريطانيين عدوٌّ ينبغي مقاومتُه، لكنّ الدار ما تزال دار إسلام، لأنّ البريطانيين لا يتعرضون لمساجد المسلمين وعباداتهم. واستدلُّوا لذلك بأنّ السلطان العثماني عندما فقد شبه جزيرة القُرم في حربه مع الروس، نصَّ في معاهدة كوجك كينارجي عام 1774 على أنّ المسلمين ليس عليهم أن يهاجروا ما دامت شعائرهم ومساجدهم وأوقافهم وقُضاتهم موجودين. وقد دار هذا الجدالُ مع كُلّ احتلالٍ لأرضٍ فقد سكانها المسلمون السيطرة عليها منذ صقلية والأندلس وإلى الهند والجزائر وآسيا الوسطى ومصر والسودان. وحدثت هجراتٌ من الدُور التي احتُلّت باعتبار أنّ الاستعمار أو الاحتلال مُخرجٌ للدار من الشرعية الإسلامية. لكننا نعرفُ من مَثَل صقلية والأندلُس من بعد، أنّ الهجرة كانت تهجيراً قسرياً، وما كانت اختياراً دينياً. وبهذه الحجة احتجّ فقهاء الأحناف في آسيا الوسطى في ثمانينات القرن التاسع عشر وفي الجزائر في ثلاثينات وأربعينات القرن التاسع عشر قبل ذلك. إنّ الاحتلال لا يُغيِّر هوية الدار، وإنّ الهجرة إنْ كانت فإنها تتسبب في إسقاط المقاومة، وإنّ الشرعية تظلُّ قائمةً ما دام الدين قائماً، والعيشُ ممكناً، وذكروا قول الله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يُخرجوكم من داركم أن تبروهم وتُقسطوا إليهم، إنّ  الله يُحبُّ المقسطين).

 

 

أمّا الحديثُ عن "الدولة الإسلامية" باعتبارها الدولة الشرعية أو السلطة التي تتوافرُ لها الشرعية فهي أيديولوجيا معاصرة. وهي من نتاج ثلاثينات وأربعينات وخمسينات وستينات القـرن العشـرين الماضـي. وهـي قائمـةٌ على أفكـارٍ وتوجُّهـاتٍ ظهـرت في ظـلّ  الخـوف على الهويـة مـن التغريـب والاستعمـار والغَلَبـة للكثـرة االسكانية  الكـاثرة بالهنـد. ولـذلك تطـورت هـذه المسألة لـدى الرابطـة الإسلاميـة وأبـي الأعلى المـودودي مؤسس "الجماعة الإسلامية" هنـاك، وأفضـت إلى انفصـال أقاليم الكثرة الإسلامية هناك تحت اسم باكستان عام 1947. فخلق ذلك لمسلمي الهند الباقين بالديار مشكلة القلة في مواجهة الكثرة والشكوك المتبادلة، وما حلَّ ذلك مشكلةً للمنفصلين الذين عادوا فانقسموا إلى دولتين على أساس إثني. ورغم أنّ الانفصال هذه المرة ما كان باسم الدين؛ فإنّ أكثر التنظيمات تشدُّداً ظهرت بينهم واستمرت حتى اليوم.

 

إنّ أحدث تجليات هذه النزعة الفصامية، التي تربط شرعية النظام السياسي في الدولة بالدين في فهمٍ خاصٍ هي نزعة استعادة الخلافة الأولى، الخلافة الراشدة، باعتبار أنّ تلك  الصيغةَ وحدَها هي السلطةُ الشرعيةُ باسم الدين، ومن  لا يقولُ بها فليس صحيح الإسلام. وهذا المنزع أوهذين المنزعَين: منزع اعتبار النظام السياسي ركناً من أركان الدين، ومنزع اعتبار الخلافة، أي الصيغة التي اختارها المسلمون للحكم بعد وفاة الرسول(ص) الصيغة الوحيدة لإحقاق الشرعية والشريعة، هما منزعان ماعرفهما الدين ولا اجتهاداتُ المسلمين من قبل. بل إنهما يكادان يتسببان بالانقسام والخراب في الدول والمجتمعات والدين. فالنظام السياسي في إسلام أهل السنة والجماعة- بما في ذلك بالطبع الخلافة- هو اختيارٌ من جانب الناس، ويتغير ويتطور بحسب ما يرون فيه مصلحة لهم. ومعظم المسلمين في كل عصورهم ما خضعوا لسلطة خليفةٍ، ولا حتى للسلطان العثماني الذي أخذ اللقب واستعمله بعد القرن الثامن عشر. والهوية الدينية في الإسلام لا يحدّدها النظام السياسي السائد، بل يحددها المسلمون في عقائدهم وعباداتهم وسلوكهم، وليس منها النظام السايسي لأنه  ليس  جزءًا من الدين، ولا هو ضرورةٌ دينية. الضرورةُ العقلية والشرعية هي وجود السلطة في أي مجتمع لصَون مصالح الناس، ونشر الأمن،  ودفع العدوان الخارجي- وليس لها وظيفةٌ دينيةٌ بحيث يرتبط الدين بها وجوداً وعدماً! وهي ليست مرتبطةً بصيغةٍ معينةٍ، بدليل أنّ أكثر المسلمين عبر التاريخ ترك الخلافة إلى السلطنة والإمارة وأنظمةٍ أُخرى، وما قال أحدٌ نتيجة ذلك إنّ الناس خرجوا من الدين. إنه الاختيار وتوافُقُ الناس أو إجماعُهُم هو الذي يصنعُ أو ينتج شرعية السلطة، كما قال إمامُ الحرمين الجويني. وهو توافُقٌ على صَون المصالح لا علاقة له بالتعبديات والعقائد باتفاق متكلمي أهل السنة وفقهائهم. بل وباتفاق المسلمين في الأزمنة المعاصرة. فقد قامت حركاتٌ وطنيةٌ أزالت الاستعمار، وامتزجت فيها سائر عناصر ومكونات الأوطان عيشاً ونضالاً. وقامت أنظمةٌ وطنيةٌ كانت وما تزال للناجح منها في صون المصالح الوطنية شعبية زاخرة، غير مرتبطة بأي دين أو اعتقاد.

 

إنّ الدولة الإسلامية هي الدولة التي تتوافق أكثريةُ المسلمين على إقامتها، وتأتي شرعيتُها – كما في سائر نُظُم العالم- من هذه الأكثرية. وفي الأنظمة التي سادت في ديار الكثرة الإسلامية في الأزمنة المعاصرة جرى الإجماع على المواطنة التي تعني التَساوي في الحقوق والواجبات،  ومنها الحقُّ في اختيار الحاكم بالانتخاب. فيكون علينا باعتبارنا مسلمين وباعتبارنا بشراً وباعتبارنا مواطنين عرباً هم الأكثر تضرراً الآن من الميليشيات الطائفية، يكون علينا أن نناضل لإنقاذ ديننا من الدخول في بطن الدولة،  لكي نصونَ الدينَ والدولةَ معاً.

 

نحن محتاجون لتصحيحين أو إصلاحَين: إصلاح ديني يعيد تأمل النظام السياسي لا باعتباره ديناً من الدين، بل باعتباره إدارةً للشأن العام- وإصلاح  سياسي يدفع باتجاه التداول على السلطة، وإقامة أنظمة الحكم الصلاح  والرشيد. وكما قال ابن قيّم الجوزية(-751هـ) فإنّ العدلَ حيثما أسفر عن وجهه صار شرعاً من الشرع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كلمة أُلقيت بمؤتمر الأزهر لمواجهة التطرف والإرهاب بتاريخ 4/12/2014.

المصدر: http://www.ridwanalsayyid.com/ContentPage.aspx?id=2604#.VxU5j3ErLIU

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك