الليبراليّة السياسيّة والعقل العمومي: بعيداً عن العلمانيّة والديانيّة

بقلم محمد هاشمي

 

مدخل:

رغم ما يبدو من أنّ أسئلة الفكر وقضاياه ورش مفتوح أمام العقول الإنسانية دون استثناء، فهي مع ذلك لا تطرح بجدية عالية وبإلحاح شديد إلا حينما تتوفر شروط سياقية خاصّة للانخراط في مجال تساؤلي جدّي وفعلي حقيقة. حينئذ فقط يسأل السائل أسئلته، ويتحصّل على إجابات وأطروحات تكون فعلاً جزءاً واقعياً من مرجعيته الثقافية وخلفيته الحضارية. سوى ذلك، يتحوّل التفكير إلى سياحة في أرض الغير، وانخراط نظري افتراضي في مجالات تأمليّة على نحو ديكارتي صرف، يتمّ في إطار ضمير متكلم محدود، لمّا يبلغ بعدُ مستوى استدماج كلّ مكونات "النحن" الجماعية. ونعتقد أنّ سؤال العلمانية والدين هو ضرب من هذه الأسئلة، فلا يستقيم التفكير في هذه الثنائية الشهيرة بين الديانيّة[1] والعلمانيّة إلا حينما تتحقق قناعة جماعية عميقة، بصعوبة الإجابة عن أسئلة الشأن العمومي، بما يرتبط به من قضايا السياسة والشرعية والتشريع والمطالبة والانتظار والاعتراض، وحينما لا يتمّ الانطلاق رأساً من كون الخطاب الديني وحده المؤسّس لكلّ مكونات المجال السياسي، بينما كلّ ماعداه مجرّد تفاصيل لا أهميّة لها. لقد عاش المجتمع الغربي أزمة فكرية وروحية أهّلته لأن يطرح بجديّة سؤالاً من هذا القبيل، أولاً إزاء تضخّم خطاب الكنيسة بداية من القرن السابع عشر، ثمّ بعد ذلك قبالة تضخّم النزعة العلمانية بداية من المنتصف الثاني من القرن العشرين.

نحاول في هذا المقال عرض التوتر النظري في التعامل مع هذه الأزمة، من خلال مواقف أشهر منظّري الفلسفة السياسية في الزمن الراهن جون رولز، محاولين إظهار تطوّره الفكري والروحي في التعامل مع إشكالية العلمانيّة والديانيّة، عبر مشروعه الفلسفي حول إشكاليّة العدالة.

1- خصوصيّة المقاربة الرولزيّة:

ما يميّز الفلسفة الرولزيّة، على الخصوص في نسختها النهائية المتمثلة في الليبراليّة السياسية، هو قدرتها على تجاوز منطق المواجهة القائم بين الطرح الدياني والطرح العلماني، من خلال إظهار أنّ الطرحين معاً يؤسّسان وجهة نظرهما انطلاقاً من مسلّمات مذهبية. الحال أنّ المعتقد المذهبي لا يمكن في كلّ صوره أن يناسب المجال السياسي الذي هو بطبيعته مبني على موضوعات لا تسمح ببلوغ يقين قاطع حولها، فهو إن شئنا القول مقام رأي، وليس مكاناً للحقيقة بمعناها الموضوعي. من هنا فإنّ كلّ المذاهب، حسب اقتصاد تبريرها واستدلالها الخاص، تتوفر على الشروط المحلية للقبول والصواب، ولكنّها ليست بالقوة نفسها حين تعرض على محكّ اختبار مقبولية الآخر المذهبي. فإذا كان الطرح الدياني ليس بالقوة الإقناعية نفسها في حضور الحساسية العلمانية، وترسانة مآخذها على هذا التوجه، فإنّ الطرح العلماني، من حيث هو رأي في الموضوع السياسي، يعلوه بدوره التهافت نفسه والهلهلة الاستدلالية نفسها، من زاوية منظور المنطق الدياني بمختلف مشاربه.

إنّ النقاش في هذه الوضعية لن يقيّض له أبداً بلوغ توافق مستقر ومستمر، ولا قناعة عميقة لجميع أطراف الخلاف والتدافع السياسيين، بل غاية ما يمكنه وصوله تسوية modus vivendi، تتغير ترسيماتها، ووضعيات أطرافها حسب ميزان القوى في حراكه المتبدل بفعل معطيات السياق وتحوّلاته. ولا يمكن بأيّ حال تجاوز هذه الوضعية المعطوبة والمتوترة، إلا حينما نتوفق في نقل مستوى النقاش من المضامين المذهبية إلى الآليات التسوغية نفسها القائمة وراء هذه المضامين. ومن تعددية التصورات السياسية إلى التعددية المنطقية أو الإبستمولوجية، غير ذلك لن تقنع العلمانية غير العلمانيين، كما لن يقابل الطرح الدياني بالموافقة سوى من طرف المتديّنين.

يمكن القول، على هذا الأساس، إنّ الموقفين معاً يخطئان المطلب الحقيقي والأساسي للمجال السياسي، الذي لا يتمثل في فعل جزم وبتٍّ نهائي ويقيني، حول تصورات الخيرات وأشكال توزيعها، وإنّما بالأحرى توفير وسائل أخرى غير النزعة السلطوية، لأجل خلق مناخ توافقي عام، يمكنه أن يسمح بوئام وانسجام عام بين تصورات متباينة حول الخيرات. لأنّ واقعة التعدّد لا تعتبر، في الأنظمة السياسية المعترفة بقيمتي الحرية والعقل، مشكلاً أو حادثاً ينبغي تجاوزه وتجنّبه، بقدر ما تُعدّ معطى يتوجّب على الجميع تدبيره بأقصى درجات الحرص والاهتمام؛ فبدون تعددية واقعية وكاملة لا تغدو هناك حاجة للنظام السياسي، الذي هو قبل كلّ شيء مجموعة من المؤسسات والآليات القانونية والدستورية، المنظّمة للاختلاف والصراع في ظلّ شرعية معينة، وبالتالي كلما تضخّمت المذاهب، بحيث يكون لديها إجابة عن كل سؤال وأمر منظم لكلّ وضع، تتحول إلى عامل معيق للممارسة السياسية المنفتحة على الاختلاف والمتقبلة له.

ومن الواضح أنّ طابع الشمولية هذا يُعدّ ميسماً تشترك فيه كلّ الديانات الكتابية، التي تدافع عن شرائع إدماجية عامّة وكونية، لكنّ هذا الطابع نفسه انتقل إلى الطرح العلماني، الذي تحوّل بدوره إلى عقيدة شمولية أخرى، تتصرّف كما لو أنها تلمّ بكل قضايا الإنسان - وإن على نحو سلبي من خلال اللامبالاة- وهو ما يحوّلها إلى مرجعية ملزمة بأوامر تكاد تتصف بالإطلاقية نفسها التي تتميز بها الأوامر العقائدية الديانية. وهو ما يجعل كلّ مخالف لها ضالاً لا فرصة له في النجاة بنفسه. إنّ الأمر تنويع على مبدأ "لا خلاص خارج الكنيسة"[2] extra ecclesiam nulla salus، فإذا كان الديانيون يحرمون أغيارهم العقائديين من الخلاص الروحي، فإنّ العلمانيين يمنعون عن مخالفيهم الخلاص المدني، فكلاهما تكفيري إقصائي سواء بسواء. هنا تصبح العلمانية والديانية في خندق واحد، حسب جون رولز، "هذه العقائد الشاملة ـ سواء الدينية أو غير الدينية ـ تفتقد للمعقولية من حيث هي رؤى سياسية، لأنّها تستحوذ على السلطة السياسية العمومية، التي لجميع المواطنين حقّ اقتسامها على منوال متكافئ، وذلك بغرض دعم تصوّر خاص، حول أمور يصحّ فيها استمرار الاختلاف دون أن يكون ذلك مدعاة للمساومة"[3].

هذا التقاطب الحاد بين العلمانيّة والديانيّة، هو ما يجعل كلّ الاختيارات الليبرالية تنطبع بنفَس ونكهة غير ليبرالية، حيث تتحوّل إجراءات حماية قيم الحرية والعقل والحوار والتعدد، إلى أفعال تُحدث وقعاً يدفع على أقلّ تقدير إلى المزيد من التشنج والمغالبة؛ فإمّا ينتهي مثل هذا التدافع إلى تسوية القبول على مضض بمؤسسات الحرية في انتظار المراجعة والتراجع، من قبيل ما يمكن أن تفعل الأحزاب الفاشية التي تتعايش مؤقتاً مع مطالب الديمقراطيات، لكن دون أن تتبنّاها بشكل نهائي وصريح، أو ينتهي إلى سلطوية الاتجاهات العلمانية التي تتحوّل عبر أفعالها الاحترازية ضدّ تضخم المؤثرات الدينية إلى نزعة ضدّ دينية، قد تتطوّر لتصبح توجهاً اجتثاثياً لكلّ تمظهرات الدين، وهذا ما يجعل منها ترياقاً يتجاوز جرعته المعقولة، لكي يصبح سمّاً يشكّل خطراً على الجسم المدني عموماً.

ما تسعى إليه فلسفة رولز الأخيرة، إنّما هو تجاوز هذا التأرجح الخطير في المجال السياسي، بين التسوية والسلطوية، بين النسبية الثقافية وبين الإطلاقية العقائدية. لكنّ هذا المرمى مع ذلك لم يبلغه الفكر الرولزي إلا عبر مراحل متعددة وتجريب أنماط شتّى من النظر.

2- المرحلة الثيو-سياسية: دين الجماعة وعزلة الخطّائين

كثيراً ما يغفل مؤرخو فلسفة رولز استحضار المرحلة الأولى من شباب صاحب نظربة العدالة، التي اتّصفت بتجربة دينية عميقة، عبّر عنها في رسالته "بحث مختصر معنى الإيمان والخطيئة"[4] التي لم تنشر إلا بعد وفاته. ورغم أنّ وصيته الروحية "حول ديانتي"[5] التي تمّ إلحاقها بالرسالة تُظهر، بما لا يدع مجالاً للشك، أنّ الرجل قد تخلّى بشكل نهائي وواضح عن أيّ انتماء عقائدي أو قناعات دينية، فتظلّ مع ذلك هذه المرحلة عاملاً أساسياً في تكوين الحساسية الرولزية إزاء المطلب الديني عموماً، التي ستتميز بالكثير من التفهم والانفتاح. فمن الواضح أنّ إلحاد رولز لم يكن متّسماً بنوع من التوتر السيكولوجي، الذي قد يأخذ في حالات عصابية صورة ضغينة جذرية تجاه عقائد الصبا، وإنّما تجسّد ذلك في شكل موقف فكري نتج عن حالة وجودية يكشف عن بعض المعطيات حولها في وصيته.

لقد اعتبر رولز الشاب أنّ المقاربة الثيولوجية للوضع الإنساني تتجاوز كثيراً المقاربة السياسية الصرف، على اعتبار أنّ هذه الأخيرة تظلّ ملتصقة على نحو ضيق بالتسويات والتوافقات المتعلقة بواجهة سطحية وبسيطة للكائن البشري، على خلاف الرؤية الثيولوجية التي في مكنتها في الوقت نفسه أن تحتوي البعد السياسي للإنسان، وتتجاوز ذلك إلى باقي تجلياته الأخرى. وبهذا فقد كانت النظرة الشمولية للدين من منظور رولز امتيازاً وتفوّقاً للمقاربة الثيولوجية على المقاربة السياسية. إنّ الجسم المدني حينما يفتقد مثل هذه الامتدادات الإيمانية، فإنّما يحرم من عمق وجودي فعلي، يضفي معنى أخلاقياً لامّاً وشاملاً لكلّ أطراف ومكونات هذا الجسم، وهو ما يضفي عليه طابعاً كوسمولوجياً.

من هنا يعتبر رولز الشاب أنّ الحضور الحقيقي لهذا العمق الثيولوجي لا يمكنه أن يتوطن إلا من خلال أربع فرضيات تمثل في الواقع أساس التوجه الدياني: أولاً الاعتقاد في وجود إله شخصي على النحو الكتابي، وليس حسب النظريات الفلسفية التجريدية التي أفرغت مفهوم الألوهية من مضمونه، بفعل المؤثرات الواردة من التراث اليوناني والروماني، الذي كان يركّز على البعد المدني للدين أكثر من عنايته بالأبعاد الثيولوجية، "إنّ الكتاب كما يقول رولز أظهر لنا كلّ ما يمكن معرفته حول الإله، وكلّ محاولة لإضافة المزيد ستؤول إلى الفشل لا محالة"[6]. أمّا الفرضية الثانية فتنطلق من التعامل مع أعضاء المجتمع كأشخاص وليس مجرد أفراد فقط؛ لأنّ الفردانية تظلّ حسب رأيه محدودة في نظرتها للكائن البشري، فهي تتعامل معه على أساس أنّه وحدات منفصلة عن بعضها بعضاً، من هنا فإنّ هذه النظرة تعلق على الأقل نظرياً وجوب التعامل مع طبيعته الأخلاقية، المتمثلة في نزوع الإنسان إلى التشابك العلائقي مع أغياره، والنظر إلى الجماعة من حيث هي مكوّن ذاتي أصيل. وهذا ما يعبّر عنه مفهوم الشخص الذي يترجم تلك الطاقة الروحية الأساسية، التي تجعل كلّ كائن بشري مشدوداً إلى الجماعة البشرية، ومعنياً بها في أعماق وجوده الفعلي، لذلك فإنّ أفق الفرد لا يستطيع أن يستوعب ويستنفد كلّ مكنونات الشخص الوجودية والأخلاقية، فداخل كلّ شخص إنساني هناك دائماً ما يصعب ضبطه بشكل نهائي داخل النظريات السياسية والاجتماعية والعلمية، يقول رولز: "إننا نعتقد أنّ الشخصية هي شيء فريد لا يقبل اختزاله إلى مجرد تملك جسد شخصي أو مجموعة من الحالات العقلية[7]، إنّ كلّ الأشخاص أفراد، لكن ليس كلّ الأفراد أشخاصاً، ومن هنا فإنّ الثيولوجيا قادرة على استيعاب الوجود البشري أكثر ممّا يستطيع غيرها.

تمنع هذه الفرضية النظر إلى الوجود الإنساني في انفصال وانفصام عن أغياره، وهو ما يستدعي الفرضية الثالثة المتمثلة في فكرة الجماعة communauty التي تتميّز بطابعها الروحي الناجم عن التداخل بين التجارب التواصلية لمختلف الأشخاص المكونين لها. الجماعة بهذا المعنى ليست مجموعة مجاميع من الأفراد، ولهذا لا يصحّ مقاربتها من خلال أدوات كميّة خالصة، نظراً لاتصافها المبدئي بطابع كيفي، يجعل وجودها مرتهناً بقيم أخلاقية عامّة لا بمجرد علاقات سببية مادية. وهذا ما ينتهي بنا إلى الفرضية الرابعة التي تقتضي منّا التمييز بين الجماعة وبين الطبيعة؛ إذ تتشكل هذه من مجموع الموضوعات والأشياء، لكنّها غير قادرة على استيعاب مفهوم الشخص الذي لا يجد حياته المناسبة إلا في إطار الجماعة بدلالتها السابقة. بالتالي مهما حاولنا أن نسحب الخطاطة التفسيرية المناسبة للعالم الفيزيائي على الجماعة البشرية، إلا أننا سنفشل في استيعاب حقيقتها التي لا تتبدى حسب رولز إلا من خلال استحضار ذلك التداخل العام القائم على تجارب روحية، بين أشخاص وبين إله شخصي. فهنا فقط يظهر "الأنا" أمام غيره "أنت" يمكنه أن يسأل وأن يجيب وأن يتحمل مسؤوليته الأخلاقية قبالة إله شخصي. وهو الأمر الذي يخلق شبكة nexus تربط الأشخاص والمجتمعات في علاقة أخلاقية كونية مع إله يمثل الحافز الأول والأخير لتشكيل جماعة أخلاقية كبرى.

بهذا المعنى فإنّ الديانية ليست اختياراً، بل هي بالأحرى قدر الإنسان، إذا ما أراد أن يكتشف عمقه الوجودي الأصيل، وألا يحيل نفسه إلى مجرد شيء بين الأشياء. فحينما نفتقد هذه الخلفية الروحانية داخل الجماعة، يكون كلّ أنا عرضة لأن يدمج داخل خطاطة طبيعية في التعامل، بحيث يفتقد قيمته وفرادته واستحالة تعويضه unsubstituable، وهو ما يسحب منه كفاءته الأخلاقية وينفي عن اختيارات أفعاله طابع القصدية، فيتحوّل بذلك إلى رقم صغير وتافه في ترسانة الآلة السياسية التي تبدو مستقلة في مكوناتها الإنسانية، وبذلك فإنّ فقْد البُعد الدياني هو في الآن ذاته تضييع وتعطيل للبعد الإنساني.

هذا الوضع هو ما نصل إليه حينما تغلب النزعة الطبيعية في مقاربة الموضوع السياسي، بحيث يصبح هذا الأخير ملحقاً بالنظام الأنطلوجي العام، عوض أن يرتبط بالنظام الأخلاقي الذي لا يمكن أن يوجد في عالم يتشكل فقط من الأشياء الطبيعية. ما يحاول رولز أن ينتقده في الواقع ليس التقاليد المادية كما تتجلى مثلاً في النظرية الماركسية، بل إنّ مقصده يتجاوز ذلك إلى إدانة التراث اليوناني الروماني برمّته، الذي يرى رولز أنّه هو ما أسّس لإمكانية الفصل بين البُعد السياسي والأخلاقي، لصالح تضخيم البُعد الكوسمولوجي المتّسم بالطابع اللاشخصي؛ وهكذا فالأفلاطونية رغم مكوناتها المثالية، فهي أيضاً تدخل في إطار النزعة الطبيعية، التي أقامت ما يدعوه رولز الكوسموس الطبيعي المعمم extended natural cosmos.

إنّ الفصل بين السياسي والديني وبين الحياة المدنية وبين الأخلاق المنغرسة في فرضيات الثيولوجيا السالفة الذكر، يجعل الكائن البشري يقارب حاجياته وأحاسيسه انطلاقاً من منطلق الرغبات الطبيعية، وهو ما يجعله يركز على أفعال الإشباع ومردوديتها، مسقطاً من حسبانه آثار وتوابع هذه الأفعال على الغير، إنّ غلبة المقاربة الطبيعية تلغي حسب رولز ثنائية الخير والشر، وتردم الحاجز بين الشيء وبين الشخص؛ فيصبح الأفراد يدخلون في حسابات معاوضة واستبدال مثلما هي الأشياء يعوّض بعضها بعضاً، بهذا المنطق فإنّ ظاهرة البغاء، حيث يمكن لأيّ أنثى أن تعوّض أخرى، لا تطرح مشكلاً للنزعة الطبيعية التي تترجمها المقاربة العلمانية، لكننا حينما نستحضر خصوصية الكائن البشري في ظلّ فرضية مفهوم الشخص، فإنّ هذه العلاقة تظهر حيادية الأنانية الطبيعية في صورة شائهة، تنجم عنها وضعيات لا إنسانية.

المخطئ بهذا المعنى هو ذلك الكائن الذي انفرطت لديه عرى العلاقة مع الجماعة، وهو ذلك الذي يخلط بين النظام السببي للطبيعة وبين التجربة الأخلاقية الإنسانية، وهذا ما يجعله كائناً في مواجهة الكل، مفتقداً لكلّ مطالب التمدّن القائمة على اندماج سلس وإنساني داخل الجماعة البشرية. إنّ المخطئ معاق على المستوى السياسي، فهو لا يرى في الغير "أنت" بل مجرّد "هذا" موضوعاً يمكن استبداله حسب ما تسمح به القوى السببية لا غير.

إنّ التضخم الأناني للمخطئ تجعله غير قادر على التعايش مع مقتضيات الوجود الاجتماعي للإنسان، بكلّ ما يحتاجه من معايير أخلاقية وفضائلية، لذلك فهو يسعى إلى التحايل على هذه العزلة من خلال تصوره قدرة الاستغناء عن البُعد الديني، الذي يؤكد على أنّ الشخص لا يمكن أن يحقق إنسانيته إلا عبر التزام أمام الجماعة البشرية، وإزاء إله شخصي تنعقد كلّ الوشائج تحت عينه وطائلته. من هنا فإنّ الدين والإيمان وحدهما قادران على أن يخلّصا المخطئ من عزلته وموته الأخلاقي، وبذلك فالديانية أبعد ما تكون عن العائق أمام التساكن الإنساني، بل إنّها الأساس المتين لتشكل الجماعة السياسية بلحمتها الأخلاقية.

إنّ الإله الرولزي حسب هذا المنظور لا يأخذ صورة دينونية ورهبوتية، فهو لا يعد ولا يتوعد على المنحى الألوهي التقليدي، وإنّما كلّ دعوته ورسالته للبشرية تكمن في أنّ الخلاص لا يتحقق في المعازل والصوامع، وإنّما في خلق صورة للتكاين [8]coexister بين الأشخاص، حيث يكون كلّ طرف جزءاً مكملاً للطرف الآخر، وهنا فإنّ عقاب الخطيئة لن يأخذ صورة تنكيل اسكتولوجي، بل تجربة مؤلمة يعيشها كلّ من حاول فصل السياسة عن الرسالة الدينية، يعبّر رولز عن هذه الفكرة بجمالية فائقة قائلاً: "إنّ التعرّض للغضب الإلهي ليس الوقوع بين يدي الله into his hands، بل هو الوقوع من يديه to fall out of his hands بحيث يترك لعزلته"[9]. إنّ الدولة العلمانية حسب هذا المنطق متروكة لنفسها وعزلتها القاسية.

3- العلمانيّة الملطفة لنظرية العدالة، الوضعيّة البدئيّة وحجاب الجهل:

هذه الصورة الفضائلية الغارقة في الثيولوجيا سرعان ما ستتآكل أمام قسوة الحياة وتعقد الواقع؛ رغم طهرانية المرامي الرولزية في دعوته إلى إقامة شبكة إنسانية كونية كبرى تنعقد تحت ناظر إلهي شخصي، لأنّ الفرضيات الثيولوجية اللصيقة بهذه الرؤية لا بدّ من الاعتراف بأنها تشكل إرثاً ثقافياً من ضمن ثقافات أخرى. وبالتالي فإنّ الإله المسيحي في صورته الشخصية لا يمكن أن يختزل كلّ الأنماط الأخرى في النظر لهذا المفهوم، إذ يبدو أنّ لكل ثقافة خصوصيتها في تشكيل مفهوم الألوهية والتصورات الدينية الأخرى. ومن هنا فإنّ البعد الثيولوجي لطرح رولز لا يتناسب مع تطلعاته الكونية، ببساطة لأنّ كلّ عقيدة هي سجينة فرضياتها المحليّة الخاصة.

لكنّ هذا مع ذلك لا يفيد بالضرورة أنّ رهان رولز كان خاطئاً، بل يعبّر ذلك فقط عن عدم تنبّهه إلى التمييز بين المكوّن الثقافي للطرح الدياني، وبين بعده العقلاني والمعقول[10]؛ فداخل كلّ دين هناك من جهة مكونات منوطة باعتقادنا وتسليمنا وإيماننا، ومن جهة أخرى نظام من الاستدلالات والتبريرات تسعى لأن تقنع بها المختلف والغريم العقائدي. إنّ الحضور الإلهي لا يمكن أن يكون مخالفاً ومناقضاً تماماً لمبادئ العقل، وإلا سيتحوّل الدين إلى صورة سحرية غامضة، عاجزة عن بناء موقف واضح من الحياة الإنسانية وإشكالياتها.

من هنا فإنّ العقل هو ما يمثل روح الطرح الديني ومعقوليته، وعليه تصبح مسألة الإيمان أو عدمه أمراً لا يكتسي أهمية كبرى بالنسبة للمجال الحواري الإنساني، سواء في السياسة أو غيرها، لأنّ المطلوب من الجميع هو بناء طرح منسجم عقلانياً، بحيث يكون له فرصة إقناع الغير. ومن ثمّة يتحول الإيمان إلى مسألة شخصية وخصوصية ثقافية، بينما يصير العقل المبطن لها هو الأساس الذي يمكن انطلاقاً منه بناء توافق إنساني مستقر.

ما سيحكم مشروع رولز اللاحق في كتاب "نظرية العدالة" هو محاولة تحييد المعطى الثقافي لأجل التخلص من الطابع النسبي للمبادئ الموجّهة للاختيارات السياسية المرتبطة بالحياة المدنية للإنسان. وعليه، لن تكون الرؤية العلمانية أو الديانية للموضوع السياسي ذات أفضلية مبدئية، إلا بقدر ما يمكنها أن تصمد لمحكّ إقامة معقوليتها بمعزل عن المكوّن الثقافي المبدئي. وذلك بأن تظهر أنّها قادرة على استجلاب موافقة أشخاص عقلانيين افتراضيين، يتداولون في موضوع مبادئ عدالة المؤسسات السياسية، دون اعتماد أيّ مسلّمات عقائدية شخصية. إنّها الوضعية البدئية الشهيرة التي يعرض رولز داخلها قائمة من الاختيارات حول مسألة العدالة، بغرض إقامة تعاقد عام حول أسس المجتمع. ولكن في إطار عناد وتنافس بين العقائد، ومحاولة اختبار لها حسب معيار العقل وحده. وهذا ما يتحقق عبر محاولة الجميع التصرّف في وضعية المطالبة أو التبرير أو الاعتراض، كما لو أنّهم لا يتوفرون على أيّ عمق مرجعي آخر غير مبادئ العقل نفسه؛ إنّها عملية فقدان طوعي للذاكرة الثقافية والعقائدية، لأجل التركيز على الكفاءة النقدية العقلانية، وهو ما يدعوه رولز بحجاب الجهل.

يمكن القول مثلاً إنّ التأسيس لرفض ما، انطلاقاً من سلطة كتاب أو فتوى داخل هذه الوضعية لن يكون له من معنى، لأنّ أعضاء العقد مطالبون بالتخلي عن جميع معارفهم الثقافية هذه. وبالمثل فإنّ اتخاذ قرار انطلاقاً من مرجعية تاريخية محدّدة، أو تقليد دولتي أو مرجعية رمزية لشخصية تاريخية، يُعدّ أيضاً غير مستوفٍ لشرط حجاب الجهل. هكذا سيصبح الدياني الملتصق بنبض المقدّس والعلماني المنتصر بشكل لا مشروط لتجربة ثقافية سابقة في الخندق نفسه، إذ سيفشلان كلاهما في إظهار قوة طرحهما بغضّ النظر عن ثقافتهما الخاصة.

إنّ تجربة الفكر هذه حسب عبارة جاك بدي jacque bidet[11] ستجعل كلّ فرد قادراً على أن يفكّر ويختبر مواقفه بعيداً عن الأسس المحلية الثقافية، في كلّ ما يخصّ الإشكالات والقضايا التي تتعلق بما يدعوه رولز بالبنية الأساسية للمجتمع، التي يقصد بها "ترسيم كلّ المؤسسات الاجتماعية والسياسية التي تمنح بنية الحياة اليومية وقرارات الأفراد وأفعالهم، والتي توزّع الحقوق والواجبات الأساسية، وتحدّد قسمة الامتيازات الناتجة عن التعاون الاجتماعي، وتتعلق خصوصاً بالدستور السياسي، والنظام التشريعي للمحاكمات، ونظام المُلكية والعقود، وكذلك نظام السوق وأنظمة العلاقات الاقتصادية والعائلية"[12]، وعليه فإنّ التفكير السياسي سيصبح أكثر اختزالاً مقارنة بتطلعات النظريات الثيولوجية، كما نجد لدى الديانيين، أو النظريات الأخلاقية الشاملة التي يطالعنا بها العلمانيون. إنّ التداول داخل الوضعية البدئية لا يتعلق بالصواب أو الخطأ، بالخير أو الشر على العموم، لكن فقط ارتباطاً بموضوعات محدّدة من المهم التعاقد حولها بوضوح كامل، لأجل تبرير التزام غير منقوص ولا مدخول بالتحفظات.

لكن مع ذلك فإنّ الوضعية البدئية تراهن على استعادة مضامين أخلاقية يرى رولز أنّها غير قابلة لأن توضع موضع اختبار جذري، فهي أحكام متروية أصبحت بفعل التداول أقرب ما تكون إلى المسلّمات الثقافية العامة التي يصعب تصوّر مجتمع ديمقراطي دستوري يساوم عليها. وبالتالي فإنّ مهمة الفلسفة السياسية إنّما هي إعادة تبريرها وتنظيمها بحيث تنتقل من مستوى الحدوس الثقافية إلى مصاف المبادئ العامة، وهذا ما يدعوه رولز بالتوازن الانعكاسي لنظريته السياسية. وعليه يمكن القول إنّ نظرية العدالة، رغم أنّها منهجياً لا تنطلق من التبني المطلق للطرح العلماني، لكنّها مع ذلك تغلبه وتستحضره حينما تتخذ الحساسية الديمقراطية الدستورية مرجعاً ومنطلقاً.

في إطار هذا المنطق، فإنّ حرية الاعتقاد والممارسة الدينية لن تحوز القبول والموافقة على أسس دينية، بل انطلاقاً من كونها ملاحق تابعة لمبدأ الحريات والتأويلات التي سيخضع لها، لكون أعضاء العقد ينطلقون من اعتبار أنفسهم شخصيات أخلاقية، فإنّ ذلك سيجعلهم يفترضون أنّ لهم قناعات دينية وفلسفية، تمثل، على نحو ما، رُكناً لأمنهم الروحي، لهذا فهم سيعملون على تحصينها من خلال دعم حرية الاعتقاد، لكن دون التمييز بين العقائد والأديان، وعلى هذا الأساس ستكون الدولة مطالبة بألا تكون عقائدية أو مذهبية، حتى يصبح في مقدورها حماية كلّ المعتقدات على النحو نفسه. إنّ الدولة حينما تحمي الانتظارات الروحية لمواطنيها ينبغي أن تكون معنية فقط بالأمن عموماً، وهذا ما يسمح لها بأن تتدخل من حين إلى آخر كلما تمّ المساس بمهمتها هذه. لذلك فهي غير محايدة بشكل مطلق، ممّا يجعل مظاهرها العلمانية مخفّفة، مقارنة بالأنظمة اللائيكية الجذرية.

4- الليبرالية السياسية: نحو توافق تشابكي يصالح بين الديانيّة والعلمانيّة في إطار العقل العمومي

إنّ الطابع الصوري لنظرية العدالة سيقتضي منها الاشتغال في وضعية مثالية، رغم التخلي الظاهر عن المكوّن الثقافي، تنتهي إلى تطابق تام بين الدوافع والغايات، بين العدالة كمبدأ مستقل عن تصورات الخيرات "الطابع الدينتلوجي" وبين العدالة نفسها كخير وغاية "البعد الغائي". لكنّ هذا الرهان سيجعل نظرية العدالة كإنصاف تفتقد للواقعية، وتتضمن عناصر مذهبية لا علاقة لها بالطابع السياسي للعدالة، وهذا ما سيعمل على تجاوزه من خلال الاستعاضة عن مطلب الإجماع غير المتيسر ولا الممكن في سياق مجتمعات الحرية، بما سيدعوه بالتوافق التشابكي، الذي لا يحترم التعددية المذهبية فقط، بل التعددية الإبستمولوجية التي تسمح لكلّ فرد بأن يبرّر تصور العدالة انطلاقاً من وجهة نظره، وحسب أسبابه الشاملة الخاصة. إنّ أمراً كهذا وحده يمكنه احترام التعددية الواقعية، وبالتالي إقامة استقرار اجتماعي واقعي ومستمر.

تعمل الليبرالية السياسية من خلال التوافق التشابكي على تجنّب الخوض في الإجابة عن سؤال ما الخير؟ وهذا ما لم تلزم نظرية العدالة نفسها به، لذلك أصبحت من حيث لا تعلم مرتهنة بمضامين محدّدة، رغم رهانها على أن تأخذ طابعاً مسطرياً إجرائياً. ولذلك فهي حينما انتزعت مهام التبرير من التوجهات الديانية، لم تفعل ذلك فقط باسم نسق الحريات العام، وإنّما لتحيزها إلى شكل خاص في التبرير المتمثل في الليبرالية المذهبية في صورتها الفلسفية، وهذا ما يجعلها بدورها عقيدة قائمة بذاتها. على خلاف ذلك فإنّ الليبرالية السياسية تفسح المجال للجميع لكي ينخرط في نقاش عمومي غير مطالب بأن ينتهي إلى خلاصات نهائية، بل من المفترض أن يظلّ مفتوحاً دائماً أمام إعادة التفكير والاستمرار في الحوار.

في هذا الإطار سيعمل رولز على إعادة تأهيل مجموعة من المفاهيم لكي تتخلص من حمولتها الميتافيزيقية أو المذهبية، سوف يطالب بتعميم مبدأ التسامح الذي ظهر في سياق تاريخي خاص بالحروب الدينية على جميع المذاهب، بما في ذلك المذاهب الفلسفية الليبرالية، وهذا ما سيفتح الباب أمام تأهيل مفهوم المساواة ذاته، الذي يلزم أن ينتقل إلى المستوى العقائدي نفسه، بحيث تلغي تلك التراتبية التي تنظر إلى المذاهب الدينية، باعتبارها تصورات من مستوى أدنى مقارنة بالمذاهب الفلسفية والعلمية.

هذا التسامح المعمّم والمساواة المذهبية، لا بدّ أن يسدّ الطريق أمام العلماني والدياني معاً، في اعتقاد أنّ أحدهما فقط يمكن أن يؤسس ما يدعوه رولز بالمبدأ الليبرالي للشرعية، فهذه الأخيرة تقتضي من الجميع أن يؤهل مذهبه نفسه، لكي يصبح في إمكانه أن يبرّر التصور العام للعدالة، حيث يؤدي ذلك إلى ممارسة سياسية عادلة منسجمة مع واجبات الحضارة.

إنّ رولز بهذا المعنى يطالب الليبرالية نفسها بأن تراجع استدلالتها، قبل مطالبة الأقليات بأن تتخلى عن كلّ مكوّنات هويتها الثقافية، باسم مطلب الاندماج الشهير الذي تبرّر به المجتمعات المعاصرة بعض الميولات السلطوية الواضحة. وبالتالي فإنّ جميع المكوّنات الثقافية للمجتمعات الديمقراطية مطالبة بفتح حوار فعلي، يتبنّى تسامحاً متبادلاً، لا تسامحاً متعالياً لعقيدة معينة إزاء أغيار غير معترف بندّيتهم.

التمرين الحقيقي لمبدأ التسامح يتجلى في شجاعة الإنصات للغير الذي يملك مرجعية مختلفة تماماً عن مقررات الدولة الليبرالية التقليدية، التي ترعرعت في سياق التراث المسيحي. وهنا يمثل الإسلام من حيث هو ظاهرة ثقافية وديمغرافية مميزة داخل الدول الليبرالية الغربية، فرصة حقيقية لإظهار هذه الشجاعة في فتح الحوار، وفهم طرح الآخر الغريب، لأنّ ذلك سيسمح فعلاً بتمكين المواطنين من تفهم صعوبات بعضهم بعضاً، والبحث عن تشجيع إمكانيات حاضرة داخل كلّ مذهب لأجل القبول بثقافة الليبرالية السياسية من وجهة نظره الخاصة.

إنّ الإسلام مثلاً الذي يبدي مقاومة شرسة لبعض أساسيات المجتمع الليبرالي، سواء تلك المتعلقة بفكرة المساواة، أو الحرية، أو التراتبية الجنوسية، يمكنه أن يظهر في صورة مختلفة إذا ما جعلنا المواطنين المسلمين وغيرهم يستكشفون داخله إمكانات أخرى تبدو متوافقة ومتجانسة مع الديمقراطية الدستورية.

ويحيل رولز إلى كتاب عبد الله النعيمي[13] الذي يظهر أنّ الإعاقات الثقافية للشريعة الإسلامية تعلقاً بالمبادئ الليبرالية، توجد فقط في تلك التفسيرات التقليدية التي ترسّخت داخل السياق المدني المتأخر من الدعوة، الذي فرض بخصوصيته على الإسلام أن يكون أكثر واقعية وعملية. فالقبائل لم تنضج حينئذ كفاية لاستيعاب الأفكار العامة التي جاءت بها المرحلة المكيّة المبكرة، والتي أظهرت حماسة كبيرة للمساواة بين الجنسين، والحرية، والإشراك السياسي، وغيرها من المبادئ التي إذا تمّت العودة إليها، وتمّ تجاوز المشهورات التراثية النسبية، يمكن أن يجد المسلم ما يكفي من مبررات لكي ينخرط بقوة في مُثل المجتمع الليبرالي[14].

ولا يتحقق هذا التفهم إلا عبر التخلي عن مفهوم العقل الأنواري في طبيعته الواحدية المتطرفة. لأنّ كلّ اعتقاد في وجود حقيقة واحدة يحول دون إدراك الطبيعة التعددية لمجتمعات الحرية. وبالتالي ينبغي الانطلاق من أنّ استعمال العقل لا يصح إلا من حيث هو فعل حرية واستقلالية، وفي الوقت نفسه سلوك للانخراط في وضعيات علانية للفكر، دون الوقوع في تبعية لسلطة أخرى غير العقل.

هذا ما يجعل فكر المواطنين الأحرار يتمّ حسب مقتضيات العقل العمومي، الذي يتخلى عن تنميط الفكر داخل عمليات استدلالية متجانسة، مكتفياً بحد أدنى من المقتضيات، يتمثل في شرط التبادلية reciprocity؛ ينبغي للدليل أن يكون قابلاً للإقناع في الاتجاهين، ومن هنا طابعه الحواري. ثم المعقولية التي نظراً لتميزها بالطابع الأخلاقي العام، تجعل هذا الحوار يتأسّس على نوع من حسن النيّة التواصلية، وبالتالي سيصبح من حق الجميع أن يفكر حسب خصوصيته المذهبية، لكن حينما يكون عليه أن ينقل قناعاته إلى النقاش العمومي، فعليه أن يلزم نفسه باستعمال شرط العقل العمومي الذي يتنافى مع استعمال مباشر للمضامين المذهبية، وهو ما سيسمح باستعمال أفضل لمثال المجتمع الليبرالي القائم على تعاون منصف بين أعضائه، حسب مقتضيات تصور معقول للعدالة. وهذا الطابع التعاوني القائم على أسس من هذا القبيل سوف يظهر جميع النزعات الاستعلائية أو الإقصائية، سواء على أسس علمانية مضادة للدين، أو ديانية معاندة للعقل والحرية، غير قابلة لأن تستعمل العقل بطريقة عمومية، ولا قادرة على ذلك، ليس لأنّ هناك سلطة خارجية ستتكفل بمنعها من إبداء الرأي، وإنّما لأنّها ستكون عاجزة عن أخذ الكلمة حسب المقتضيات الاستدلالية للعقل العمومي. وهذا الفشل هو ما سيلزمها، في سلاسة وعبر تمارين المواطنة المفتوحة والمستمرة داخل النقاش العمومي، على أن تبذل جهداً لكي تستطيع إبلاغ صوتها للجميع، عبر تأهيل ذاتي حسب شروط المعقولية العمومية.

خلاصة:

حسب رولز، لنا أن نؤمن ما شئنا بمذاهبنا، وأن نقدّس كما يحلو لنا قناعاتنا وطقوسنا، لكنّ هذا الإيمان، علمانياً كان أو ديانياً، لن يجدي إلا حينما ينضج بالشكل الكافي، لكي يؤسّس الاستدلالات التي يمكنها إقناع غير المؤمنين بعقائدنا. وعليه فإنّ المجتمع العادل يكون بجميع مكوّناته أو لا يكون، فلا العلمانية ينبغي أن تجتث الديانية، ولا الديانية عليها أن تسعى لتصفية أغيارها، بل ينبغي على الجميع التعاون استدلالياً لأجل بناء تصوّر سياسي يوجد في ما وراء المذاهب، ولكن ليس ضدّها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] دين؛ مِلَّة؛ اسمٌ لجميع ما يتديَّن به الإنسان، اسمٌ لجميع ما يُتَعبَّد به: نسبة إلى ديانة.

[2]ما يقابله قول القرءان: "ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين" آل عمران 85

[3] Dombrowski, Daniel A, rawls and religion, state university of new York press, 2001, p.6

[4] Rawls, John, A Brief Inquiry into the Meaning of Sin and Faith, WITH “ON MY RELIGI Edited by Thomas Nagel, HARVARD UNIVERSITY PRESSCambridge, Massachusetts, and London, 2009

[5] “on my religion”

[6] Ibid., p.111

[7] Ibid., p.111

[8] وهو ما لا ينبغي ترجمته دائما بالتعايش، بل علينا بالأحرى أن نركز على دلالة الاقتران concomitante، لأن التعايش يمكن أن يتم من خلال اللامبلاة السلبية، بينما الاقتران هو اعتراف بضرورة استحضار الآخر، إنه حالة كينونة قبل أن يكون وضعية حكم معياري.

[9] Ibid., p. 226

[10] The rational and the reasonable قد نجد أصول هذا التمييز لدى جون لوك، حيث يتحدث عن معقولية المسيحية The Reasonableness of Christianity مميزا لها عن المقاربة العقلانية، لكن رولز سوف يستخلص من هذا التمييز بين عقلانية حاسبة أداتية فعالة، ومعقولية قادرة على استحضار مبادئ أخلاقية مرتبطة بالعدالة في حسباتها، إمكانية نظرية لاستحضار الأخلاقي دون السقوط في المعيارية المذهبية. للمزيد من التفصيل انظر عملنا حول رولز "نظرية العدالة عند جون رولز: نحو تعاقد اجتماعي مغاير"(دار تويقال للنشر، الدار البيضاء، 2014)، ص ص 218-221

[11] Bidet, Jacques, Rawls et la théorie de la justice, PUF, 1995, p.25

[12] محمد هاشمي، مرجع سبق ذكره، ص 288

[13] Abdullahi AhmedAn-Na'im,Toward an Islamic Reformation: Civil Liberties, Human Rights, and International Law (Syracuse: Syracuse University Press, 1990), pp. 52-57

[14] Rawls, john, The law of peoples, with "The Idea of Public Reason Revisited", Harvard University Press,1999, p.151

المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%8A%D8%A8%D8%B1%D8...

 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك