المواطنة والدولة الوطنية والمستقبل

الدكتور رضوان السيد

 

I

المواطنة Citizenship هي وضعٌ سياسي وقانوني وثقافي تبلور في أوروبا فيما بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر. وظهر المفرد "مواطن" للمرة الأولى في الإعلان الأميركي للاستقلال، وفي إعلانات الثورة الفرنسية بعد ذلك بقليل. وهي تعني التساوي في الحقوق والواجبات في النظام السياسي، وأمام القانون. وقد مرت في ظهورها بمرحلتين: مرحلة حقوق  الفرد والمجتمع المدني، ومرحلة الدولة السيادية أو الدولة القومية. في المرحلة الأولى جرى التأكيد على حريات الأفراد الدينية والاجتماعية/ السياسية. وقد ارتبط ذلك بتفكك المسيحية إلى كاثوليك وبروتستانت، ونشوب الحروب الدينية التي انتهت بمعاهدة وستفاليا عام 1648؛ بحيث صار التأكيد على حريات الأفراد في الاختيار الديني، ثم في الاختيار المجتمعي والسياسي. وفي هذه المرحلة، أي القرن الثامن عشر كثرت النقاشات حول العقد الاجتماعي ومقتضياته. فالمجتمعات تتكون نتيجة التقاء أُناس أحرار يتعاقدون على العيش معاً على قدم المساواة. وتكون نتيجة هذا التلاقي والتعاقد ظهور الإرادة العامة التي لها جوانب سياسية وقانونية. وقد اشتهر في هذه المرحلة مذهبان أو مَنْحيان: منحى روسو ولوك، ومنحى توماس هوبز. فعند هوبز، وما دامت الضوابط الدينية قد تراجعت، أو أنّ الدين صارت إدارته بيد الدولة وليس بيد الكنيسة؛ فإنّه ورغم التعاقُد الحُرّ والمدني في الأساس؛ فإنّ الجميع يتنازلون (لكي لا تنشب حربُ الجميع) على الجميع عن قسطٍ من حرياتهم للملك أو الدولة من أجل الانضباط وخير الجميع. في حين يرى روسو ولوك والمفكرون الإسكتلنديون أنّ العقد الاجتماعي بحدّ ذاته يشكلُ إرادةً عامةً تشترع انطلاقاً من مبدأ المساواة وسائل وآليات وسلطات للمشاركة في إحلال النظام والانضباط فيه. وفي الحالتين أو المذهبين أو المنحيين لا شكَّ في ضرورة الإطار الناظم أو النظام السياسي، إنما ما هو الإطار الذي يمارسُ فيه الأفرادُ حرياتهم وحقوقهم ويؤدون واجباتهم؟ فالحروب الدينية خلّفت بعد مُهادنة وستفاليا إمبراطوريات وملكيات. وفي الحالتين ظلّت هناك ضمن الإمبراطورية أو المملكة تعدديات دينية وأُخرى إثنية أو قومية. فما معنى وكيف مارس الأفرادُ حرياتهم التي جرى التسليم بها خارج إطار الكنيسة؟ هنا دخلَت بالثورة الأميركية، ثم الثورة الفرنسية المرحلة الثانية أو مرحلة الدولة القومية. ظهرت مقولة الشعب الذي يُنشئ دولته السيادية ويمارسُ فيها مواطنته من خلال قيام سلطاتٍ تمثيلية. كانت هناك دولٌ قائمةٌ في أوطان مثل بريطانيا وفرنسا والدول  الإسكندينافية. وهكذا فقد حدث في هذه  الدول تحولٌ في الوعي بحيث تماهت الدولة مع الشعب أو الأمة. أما في ألمانيا وإيطاليا ومواطن أُخرى فإنّ النُخَب القومية الجديدة هي التي أنشات الدول. وعندما اجتاحت أوروبا العالم في القرن التاسع عشر؛ فإنها كانت بوعيٍ أو بدون وعي إنما تنقل تجربتها في الدولة- الأمة أوالأمة- الدولة إلى آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية. فبحسب هذه المقولة فإنّ كل مجتمعٍ أو سواده الأعظم يشكِّل شعباً أو أمةً، وتأتي الدولة التمثيلية بالداخل والسيادية تجاه الخارج لتتجلى فيها إرادة ذاك الشعب. والأمة في هذه الحالة لها وطنٌ معين أو أرض، ولها لغة قومية، وفيها إثنيةٌ غالبةٌ تتكلم تلك اللغة وهي لسانُها الأم. ويكونُ لها أحياناً دينٌ قومي، لكنّ ذلك منذ معاهدة وستفاليا ما عاد شرطاً ضرورياً. ومن الواضح أنّ الشرط أو الشروط القومية هذه كانت لها ميزاتٌ وعواقب أو عقابيل. فالذين يتمتعون بها هم الذين لهم حق المشاركة في إدارة الشأن العام، وهم أصحاب المصلحة في إقامة الدولة أو النظام، وفي الدفاع عنه في مواجهة الخارج. أما الدولة في هذه الحالة، وبحسب هيغل؛ فإنها تمثّل الروح المطلق، ومعنى التاريخ أو مآلاته. وقد أحدث هذا النظام الضيِّق مشكلاتٍ كثيرةً في الانتماءات الأصلية والفرعية، كما اصطنع مشكلاتٍ حدودية، ويكفي نموذجاً فاقعاً على ذلك مسألة "المجال الحيوي" التي سيطرت على الوعي الألماني لأكثر من نصف قرنٍ، وتسببتْ في حربين عالميتين. وإذا كان هذا النظام الذي ظهر في القارة الأوروبية قد أحدث هذه المشكلات، فكيف به إذا أُريد تطبيقُهُ في عوالم آسيا وإفرقيا التي لم تعتدْهُ من قبل، وليس لجهة المواطنة بالتحديد، بل لجهة الدولة السيادية وحدودها وممارستها لتلك السيادة.

II

في العالم 1920 وعلى مشارف إنشاء عصبة الأمم لصون السلام الدولي بعد نهاية الحرب العالمية الأُولى، أعلن رئيس الولايات المتحدة وودرو ويلسون عن مبادئه الأربعة عشر ومن بينها حقوق الشعوب في تقرير مصيرها. وكانت تلك ثالثة الأثافي. إذ ظهرت عشرات الإثنيات والقوميات والمجموعات الدينية الكبرى والصغرى التي اعتبرت كلٌّ منها نفسها شعباً وذهب ممثلوها إلى مؤتمر باريس للمطالبة بحق تقرير المصير. وكان من ضمن هؤلاء ممثلو المنظمة الصهيونية العالمية، وممثلو الأرمن والأكراد والعرب والترك والمسيحيون اللبنانيون، وغيرهم وغيرهم ممن انحسرت عنهم سلطة الإمبراطورية العثمانية، ورمى كلٌّ منهم لإقامة كيانه المستقل أو دولته الخاصة. ففيما بين الدخول الفرنسي إلى مصر عام 1798 ومطالع القرن العشرين، ازدهرت مقولات الدولة الحديثة بشقيها المؤسساتي والتمثيلي. وفي الربع الأول من القرن العشرين أو حقبة ما بين الحربين ازدهرت أُطروحة الدولة القومية أو الوطنية. فلنبدأ بالأُطروحة الأولى، أُطروحة الدولة الحديثة. كان الإطار العامُّ للشرعية في القرن التاسع عشر ما يزال قائماً من خلال وجود الإمبراطورية العثمانية، والتي ومع مطالع القرن العشرين كان قسمٌ كبيرٌ من العرب والترك ما يزالون منضوين في ظلِّها بأشكالٍ مختلفة. ونحن نعرف أشكال الشرعية الرئيسية في نظر الأوروبيين بحسب ما صنّفها ماكس فيبر(1864-1920) السوسيولوجي الألماني المعروف وهي: الشرعية التقليدية، وتسود فيها الأنظمة الملكية وشبه الملكية، وتعتمد على العراقة والتوافق العام الموروث على نظام الحكم وإدارة السلطة. والشرعية الدستورية وهي التي تقوم على نصوصٍ مكتوبةٍ من دساتير وقوانين يلتزم بها الحاكم والمحكومون. وقد داخلت هذا النمط بعد الثورتين الأميركية والفرنسية فكرة التمثيل وممارساته، بحيث اعتُبر أنّ هذه النصوص إنما تمثّل مصالح الناس أو الشعب أو الأمة أو فئاتها الجديدة من تجار وسكّان مُدُن وبيروقراطيين وسياسيين محترفين. والنمط الثالث: الشرعية الكارزماتية. وكان ماكس فيبر ينظر فيها إلى شكلٍ ظهر في أوروبا لا يستند فيه الحكم إلى التقليد ولا إلى الدسترة، بل إلى ظهور قائد شعبوي يتبعه الجمهور، ويكسب شرعيته هو ونظامه من هذا الطريق. والنموذج المتعارَف عليه لهذا الشكل من أشكال الشرعية هو نابليون بونابرت. إنما كان واضحاً إيامها أنّ النمط القومي الاندماجي والشمولي للدولة والذي بدأ يسود في أوروبا في القرن التاسع عشر، يشجّع على ظهور القائد الملهم للأمة. وبعد وفاة ماكس فيبر عام 1920 ظهر كما هو معلوم القائد الملهم للأمة الإيطالية موسوليني، والقائد المهلم للأمة الألمانية هتلر. ثم ظهر أيضاً  القائد الملهم للطبقة العاملة  ستالين!

ولنعُدْ إلى النمط التقليدي للشرعية والذي كان سائداً عندنا وما هي التحديات التي كان يواجهها. كانت الشرعية العثمانية والشرعيات المتفرعة عليها تواجه ثلاثة تحديات رئيسية: تحدي الاستعمار، وتحدي الاحتياجات المستجدة في الإدارة الداخلية، وبدء تحدي الظهور القومي في الإمبراطورية المتعددة الشعوب والقوميات بحسب المفاهيم الأوروبية الطالعة لذلك. وقد فهم السلطانان سليم الثالث ومحمود الثاني باسطنبول، ومحمد علي بمصر أنّ التحدي الاستعماري يعني الحاجة الملحة لجيشٍ جديدٍ بتنظيم جديد. بيد أنّ الجيش الجديد احتاج إلى عدة تغييرات في المفهوم والممارسات، بحيث صار  تعبير "النظام الجديد" لا يعني الجيش فقط، بل مفاهيم الإدارة الداخلية جميعاً. وقد عبَّر عن ذلك الطهطاوي(- 1873م) بالمنافع العمومية، وذكر علي مبارك وخير الدين التونسي المؤسسات. إنما من الذي يدرك المصالح العامة ويصونها؟ الذي يفعل الأمرين عند الطهطاوي ولي الأمر أو النِعَم. أمّا خير الدين التونسي فيرى أنّ التنظيمات – كما سماها العثمانيون- تحتاج إلى حاكمٍ مستنير، وإلى رعيةٍ مشاركة أو موافقة أو راضية. وبين الرعية الواعية للمصالح، والمؤسسات العامة التي تخدمها، والتطلعات التي تراوحت بين المحليات والقوميات ظهرت فكرة التمثيل، بمعنى أنّ النظامين الإداري والسياسي للدولة ينبغي أن يمثّلا الناسَ ومصالحهم، وأنه لا بد من اجتراح وسائل لذلك ومنها الدساتير والانتخابات. والفكرتان أوروبيتان بالطبع، إنما كما سبق القول فإنّ خير الدين التونسي والإصلاحيين المسلمين من بعد استندوا إضافةً لنجاح النموذج الأوروبي، بمقاصد الشريعة أو المصالح الضرورية التي أقرتْها وهي حق النفس، وحق العقل، وحق الدين، وحق النسل، وحق المِلْك. وفي الواقع؛ فإنّ  التنظيمات والإصلاحات سواء لجهة التمثيل ضمن النظام العام، أو لجهة الإدارة اللامركزية المتحققة أو المطلوبة، أظهرت إمكانيات نجاح، لولا استعصاء المسألة القومية. وهي المسألة ذاتُها التي هدمت الاتحاد السوفياتي أيضاً بعد سبعة عقودٍ على سقوط الإمبراطورية العثمانية.

لدينا نموذجان للدولة القومية أو الوطنية في المجال العربي بعد سقوط السلطنة العثمانية في الحرب الأولى: نموذج الدولة العربية التي أرادت الثورة العربية الناشبة عام 1916 إقامتها بالتوافق مع المنتصرين في الحرب. ونموذج الدولة الدستورية الحديثة التي أراد المصريون إقامتها على أثر حركة أو ثورةالعام 1919. كلا النموذجين تتوافر فيه الشروط الأوروبية للدولة القومية إذا شئنا: الشعب الواحد، واللغة الواحدة، والجغرافية المتواصلة، والمواطنة، والوعي الغلاّب بالضرورات. لكنّ النموذج المصري بدا أكثر نجاحاً للوهلة الأولى. فقد كانت الدولة المصرية الواحدة قائمة، وحتى ضياع السودان منها فيما بعد ما قلَّل من الإحساس بالاكتمال أو وجود الشعب الواحد. وفكرة التمثيل أمَّنها الدستور المُستفتى عليه عام 1923 رغم صعوبات التجربة بين الاستعمار البريطاني ومطامح المَلَكية. أمّا دولة الثورة العربية فإنها لم تقم لأن المستعمرين ما ارتبطوا بالمشروع الصهيوني في فلسطين فقط؛ بل كان هناك أيضاً المشروع اللبناني، وإلى مشروع تقسيم سورية الصغرى إلى دويلات إثنية ودينية، في حين جُمع العراق من خلال ثلاث ولايات عثمانية. وفي النهاية قامت دولٌ وطنيةٌ عربية في المجال الجغرافي التاريخي للشام والعراق. وقد توافرت فيها جميعاً فكرة وممارسات المواطنة. بيد أنه بخلاف مصر وقتَها؛ فإن أزمة الشرعية ظلت ظاهرةً فيهاعلى رغم أنف ماكس فيبر. هناك من يتحدث عن المثال القومي الشامل والذي لم يتحقق، وهو الذي سبَّب التآزم. بيد أنّ ذلك أمكن استلحاقُه بالجامعة العربية (1943-1945)  والتي دلّتْ على وعيٍ عربي شاسع حين لم تشمل عضويتها دول المشرق، بل والمغرب العربي أيضاً. ورغم الانفصال في كيانات؛ فإنّ العرب خاضوا نضالاتهم معاً ضد الاستعمار، وضد الصهيونية. وهناك من يعتبر أنّ الحرب الباردة بين 1950و 1990 واستتباعاتها هي التي أسهمت في فشل تجربة أو تجارب الدول العربية في المواطنة والتنمية. بيد أنّ الحرب الباردة ثبَّتت حدودَ دول سايكس – بيكو ولم تعمل على انتهاكها. فيبقى الاحتمال الثالث وهو أنّ أزمة الشرعية المتفاقمة في العالم العربي اليوم إنما كان سببها العميق التنكر للنمط الدستوري التمثيلي لصالح ما سمّاه ماكس فيبر: الشرعية الكارزماتية، أو أنظمة الضباط الأبطال والملهمين، والتي سادت في عشر  دولٍ عربية بعضها رئيسي على مدى خمسة أو ستة عقود.

III

يقول المأثور العربي القديم: أردتُ عمراً وأراد الله خارجة! لقد أردتُ الحديث عن المواطنة، باعتبارها الحلَّ والإنقاذ، فتحدثتُ عن قيام الدولة الوطنية في العالم العربي، باعتبار ذلك من مواريث الحداثة القومية الأوروبية من جهة، والنضال العربي من أجل الاستقلال والحرية، من جهةٍ ثانية. وقد دفعني لذلك التأزم الطاحن الذي تعاني منه الدولة الوطنية العربية اليوم في البقاء، وفي الشرعية. ولهذا التأزم أربعة مصادر: تحدي الخوف على الدولة والكيان، وتحدي التدخلات الخارجية، وتحدي الإسلام الجهادي، وتحدي الإسلام السياسي. وقد انفجرت هذه التحديات التي كانت موجودةً وإنْ بأشكالٍ ليست صريحة بعد العام 2010، وبخاصةٍ في البلدان التي قامت فيها حراكاتٌ شعبيةٌ من أجل التغيير. قامت الحراكات حصراً في البلدان التي سادت فيها طوال العقود الماضية أنظمةٌ أمنيةٌ وعسكرية. ونهض في وجه هذه الحراكات وللاستيلاء على الدول في الأنظمة المتساقطة أحزاب الإسلام السياسي، والجهاديون، وقوى إقليمية ودولية عديدة. والخراب الذي أصاب الدول والمجتمعات نتيجة التحديات الثلاثة، أثار لدى الجمهور مخاوف عظيمةً على الحياة وعلى الدول والكيانات. وأنا اعتبر ظاهرة الخوف هذه هي أبرز الظواهر اليوم، إلى جانب ظاهرة الجهاديات، وظاهرة الإيرانيات.

لا استطيع هنا العودة إلى قراءة الظاهرة الإسلامية وتحليلها. لكنني أُوجزُ فأقول إنه ولأسبابٍ مختلفةٍ ومتطاولة، وفي النصف الثاني من القرن العشرين، أي حقبة الحرب الباردة؛ فإنّ الإسلامين السني والشيعي ظهرت فيهما أُصولياتٌ وإحيائياتٌ أنتجتها الحداثة والتدخلات الدولية والأنظمة العسكرية والأمنية. وقد انفجرت هذه الأصوليات ابتداءً بالسبعينات من القرن العشرين. فنجحت الأصولية الشيعية في الاستيلاء على رأس الدولة الإيرانية، في حين لم تنجح الأصوليات السنية في الاستيلاء على دولة كبيرة أو متوسطة، فانفجرت في العالم كلِّه، وصولاً إلى ظاهرتين عدميتين عصيتين على التصور هما: القاعدة، وتنظيم الدولة الإسلامية. ولا ينبغي التوهم أنّ هاتين الظاهرتين النافرتين اللتين تبدوان غريبتين سيزول بزوالهما كلُّ ما أنتجتاه. ذلك أنّ السمتية الإسلامية الشديدة عبر ستة أو سبعة عقود، والتي سميت بالصحوة هي التي أنتجت الإسلام السياسي، كما أنتجت القاعدة وداعش. والجهاديون والإسلاميون المسيَّسون يمتلكون ثقافةً خاصةً ووعياً خاصاً يفارق التقليدين القديم والإصلاحي، ويُعادي الغرب ومنتجاته الثقافية والسياسية في العالمين العربي والإسلامي، ومن منتجاته الدولة الوطنية العربية الحديثة. الجهاديون يريدون هدم النظام باعتباره تغريباً وكفراً. وسياسيو الإسلاميين يريدون أسلمته أو تغيير طبيعته. لقد استدعى العام  2010- 2011 التدخلين: الإسلامي الإحيائي، والخارجي الإقليمي والدولي. ورغم أنّ الإسلاميين غير العنيفين يمتلكون شعبيةً في بعض البلدان العربية؛ فإنهم احتاجوا للدعم الخارجي أيضاً، بينما احتاجت الأنظمة وبخاصةٍ في سورية والعراق للدعم الخارجي الإيراني فالأميركي، كما حصل بعد العام 2003 بالعراق. وهكذا صارت للخراب ثلاثة مصادر: الجهاديات، والأنظمة التي تدافع عن نفسها، والإيرانيات. وهذا إلى أطرافٍ خارجية ما تدخلت بهذه الصراحة والوضوح في البداية مثل روسيا والولايات المتحدة وتركيا.

لقد قلتُ  إنّ تجربة الدولة الوطنية العربية انتكست في مرحلتها الثانية بسبب قيام أنظمة الأمنيات والعسكريات. بيد أنّ أحداث السنوات الأربع الماضية في شتى أنحاء العالم العربي، أثارت لدى الناس مخاوف شديدة ليس على حياتهم وأمنهم وعيشهم فقط؛ بل وعلى بقاء الكيانات والأوطان في العراق وسورية وليبيا واليمن. فلأول مرة تواجهُ الدولةُ الوطنية العربية أزمةً تتجاوز شرعية النظام إلى البقاء والوجود. لقد كان الخوف من الدولة هو البارز في مرحلة التأزم المتزايد. وهو اليومَ خوفٌ عليها. وقد كان النعي من جانب القوميين الشموليين على ما سمَّوه بالقطرية، ويريد الناسُ اليوم بقوة أن تبقى لهم أقطارهم ودولهم، وأن لا تسود فيها النزاعات الأهلية أو تظهر البدائل الواهمة في صورة كيانات طائفية وعرقية.

IV

يحتاج بقاء الدولة الوطنية العربية وتجددُ شرعيتها إلى ثلاثة أُمور:

1.         قيام مجموعة استراتيجية أو فريق استراتيجي من الدول المستقرة للحفاظ على استقرارها وأمنها من جهة، وللتفكير والتقدير والتشاور والتصرف بشأن استعادة الأمن والاستقرار في البلدان المضطربة مثل العراق وسورية وليبيا واليمن وتونس ولبنان. ما أمكن حتى الآن تفعيل الجامعة العربية من أجل مبادراتٍ في التأمين والإصلاح. والوقت لا ينتظر، ولذلك قلتُ بضرورة المجموعة الاستراتيجية. لقد لجأ العرب في مواجهة الاضطرب إلى المؤسسات الدولية. ونجحوا في استصدار قراراتٍ مهمةٍ بشأن ليبيا واليمن. وجاءت عاصفة الحزم نتيجة تحالف تقوده المملكة العربية السعودية. وربما كان هذا التحالف هو الصيغة الممكنة الآن للمجموعة الاستراتيجية المرتجاة. وقد تكاثر الحديث عن القوة العربية المشتركة. في حين يشكّك آخرون في الإمكانية والواقعية. ولا داعي للتشكيك لأننا نواجه بالفعل تحدي وجود له أبعاده الداخلية والإقليمية والدولية. ولا بد من طرف عربي قادر على التدخل عندما لا يمكن ردُّ الخطر بالدبلوماسيات وحسْب. فالبيئة الاستراتيجية حافلةٌ بالأخطار، ولا يستطيع الضعفاء أو المنفردون الصمود فيها.

2.         تجديد الفكرة العربية والنهوض بها ومعها.  لقد  تخلَّى عنها السياسيون منذ آماد. ثم تخلَّى العروبيون باتجاه اليسار. وانصرف الجمهور عنها إلى الإحيائيات والصحويات والشعائريات والسمتيات والمحليات الطائفية والعرقية. وقد قمنا عام 2010 بسؤال مائة مواطن في عشر دولٍ عربيةٍ عن الهوية والانتماء، فكان الشاب أو الفتاة يذكر البلد ثم الدين أو الطائفة. وما ذُكرت العروبة ثالثاً إلاّ في اليمن وفي بلدين خليجيين آخرين. إنه مع صعود الطائفيات والإثنيات والمحليات، اشتاق كثيرون منا إلى العروبة المنعشة، وليس عروبة الحزبيات القاتلة  والتي كرَّهت الناس بالقومية. فالعروبةُ انتماءٌ جامعٌ وموحِّد فيما وراء وفيما فوق  المحليات والطائفيات وكلاها تقتل مثلما يحدث اليوم في سورية والعراق وليبيا. وبالطبع فإذا كانت الدولة الوطنية أو القومية قد أوجدتها دعواتُ ونضالاتُ نُخَبٍ سواء في مواطنها الأصلية أو في العالم العربي؛ فإننا نحن في بلاد الشام والعراق نحتاج بشدة إلى النخبة الثقافية ضمن السياسيين المحترفين، وضمن المثقفين. والطريف أنني أكثر ما سمعتُ ذلك مؤخراً في مصر والمغرب. وقد يكون من الملائم أن تدعو إحدى المؤسسات الثقافية العاملة والفاعلة إلى ورشة عملٍ للتفكير ببرامج وسياساتٍ لتجديد الوعي بالعروبة والتغيير في الممارسة.

3.         والأمر الثالث والأخير هو أمر المواطنة، أو تجديد الفكرتين: الوطنية والمواطنة التي تعني إنتاج الإرادة العامة التي تعمل بالفعالية والمشاركة على صون الحقوق الأساسية للمواطنين، وعلى التشجيع على صون القانون والنظام، والحرص على الأوطان وحدةً وانتماءً وسلاماً واستقراراً. إنّ الوطنية التي تدنو أحياناً من العصبية صاعدة في بلداننا بسبب المخاوف على الأمن وعلى الكيانات. بيد أنّ مسألة المواطنة يتهددها أمران: التحدي الإسلامي أو الديني، وتحدي الخوف على الدولة بحيث يسكت المواطنون على الضغوط وكتم الحريات من أجل الأمن والاستقرار. وهذا الأمر جارٍ في عدة بلدانٍ عربيةٍ الآن. علينا أن لا ننسى أنّ الطغيان العسكري هو الذي أضعف الدولة الوطنية العربية، وقاد في النهاية إلى اختلال نظامها، وافتراق الأكثريات الشعبية عنها. ولذا فإنه إذا أردنا أن نجدد الدولة الوطنية العربية، فلا بد أن تستند إلى أوسع إرادةٍ للناس، وبالوسائل الديمقراطية المتعارَف عليها في العالم. فلا خوف على الدولة والكيان إذا كان الجمهور مشاركاً في ممارسات الشرعية المنتظمة والنزيهة.

بيد أنّ المواطنة لا تواجه اليوم الماضي المقْبض للأَمنيات والعسكريات أو الحاضر الخائف على الدولة والساكتَ بالتالي عن التجاوزات على الحقوق فقط؛ بل إنها تواجه تحدياً قيمياً وثقافياً إذا صحَّ التعبير، ومن الإسلامين الجهادي والسياسي. والإسلام الجهادي لا بد من مُناضلته من البداية إلى النهاية لأنه ضد الدين والسواد الأعظم قبل أن يكونَ ضد الدولة. وإنما الإشكال كما ذكرتُ في سياسيات الإسلام والحزبيات باسمه. وإذا رضي هؤلاء فإنهم يؤسلمون مسائل المواطنة، ويثبتون أنْ دولة الراشدين هي أول دولة ديمقراطية في العالم!  أمّا إذا سخِطوا (وهم كثيراً ما يسخطون في العقدين الأخيرين لانتشار التسلف الجديد في صفوفهم)؛ فإنهم يعودون  إلى نغمة ارتباط الشرعية في النظام بتطبيق الشريعة(!) وشريعتنا مطبقة لأنها هي الدينُ ذاته. والقول بتطبيقها يعني أننا غير مسلمين الآن. ثم إنّ النظام السياسي مهمته إدارة الشأن العام، وليس تطبيق الدين أو فرضه. ولا شأن للمواطنة منذ المراسيم السلطانية العثمانية في أواسط القرن التاسع عشر بدين المرء أو طائفته. وإنما يتعلق الأمر بحقوق الناس وواجباتهم في دولتهم الوطنية الجامعة.

تواجهُ الدولةُ الوطنيةُ العربيةُ  إذن أخطاراً هائلةً تتناول الكيانات والمجتمعات. ويكون علينا جميعاً أن لا نستسلم للأصوليات القاتلة، ولا للإغارات الشعوبية والطائفية المشرذِمة. والصمود في وجه هذين الداءين الهائلين يعني التشبث بالأَوطان، والتشبث بالعروبة، والتشبث بالمواطنة التي تهب الوطنية والانتماء العربي، معناهما الباقي. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

محاضرة أُلقيت ضمن الدروس الهاشمية بالمركز الثقافي الإسلامي بالعاصمة الأردنية، عمان،  بتاريخ 10/7/2015.

المصدر: http://www.ridwanalsayyid.com/ContentPage.aspx?id=2706#.Vw6cinErLIU

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك