آفاق المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر

رضوان السيد

 

I

يُعتبرُ مبدأُ المواطنة، وقد صار شرطَ وجود في الدولة المعاصرة، قياماً وتحقُّقاً، أحد أكبر التحديات التي تُواجه الدولة الوطنية في العالمين العربي والإسلامي في الزمن الحاضر. وذلك لعدة أسباب؛

منها الاضطراب الاجتماعي والسلطوي الذي يتهدد الكيانات السياسية القائمة منذ الاستقلال في عددٍ من البلدان من حيث البُنى ومن حيث الحدود.

ومنها الاضطراب العميق في مسألة الشرعية، والتي تتعلق بأمرين أساسيين: الهوية والانتماء الاجتماعي العام، والعلائق بين النظام السياسي والمواطنين.

ومنها ظهور تيارات الإسلام السياسي والآخر الجهادي والتي تملك أفكاراً غائمةً أو عدائية بشأن الدولة الوطنية والمواطنة.

ومنها هشاشةُ حركات المجتمعات المدنية والأحزاب السياسية والتي كان يُفترضُ أن تكونَ الدرعَ الحاميَ، والحضنَ الحاضنَ للمجتمع السياسي ولمبدأ المواطنةِ وتطبيقاتِها.

ومنها أخيراً السياساتُ التدخُّليةُ من أطرافٍ في  المجتمع الدولي والإقليمي، تارةً لملء الفراغ واصطناع مناطق النفوذ، وطوراً لما تزعُمُهُ حقاً أو باطلاً من تهديدٍ لأمنها الوطني، وأمن العالم.

ما هي المواطنةُ المهدَّدةُ إذن، والتي تواجهُ تلك التحديات المصيرية؟

إنني لا أهدُفُ هنا للتأريخ لهذا المبدأ لأنّ هذا الأمر لا مكانَ له في المطالعة المتاحة، بل سأركِّزُ على العوامل والشروط العامة التي سادت من خلال ميثاق الأُمم المتحدة (1945)، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948). وهي المبادئُ والعواملُ والشروطُ التي ثبتت في دساتير الدول الديمقراطية القومية والوطنية في أوروبا وأميركا، وظهرت في أكثر دساتير الدول العربية  والإسلا مية؛ وأقدمُها فيما نحن بصددِه الدستورُ المصري 1922-1923.

يقومُ مبدأ المواطنة في العصر الحاضر إذن على المقومات المسلَّم بها التالية:

أولاً: قيمة الانتماء الوطني، وهو أحد أهم عناصر التماسك والترابط لإيمان الأفراد بأنهم يتمتعون بهويةٍ مشتركة، وأنهم قادرون على الدفاع عنها وحمايتها، مقابل أداء واجباتهم والتزاماتهم نحن الدولة والوطن. وقد صار ممكناً بعد قيام نظام الدولة الوطنية اكتسابُ جنسيتها بالقوانين المتعارَف عليها في البلد المعني، وفي العالم.

ثانياً: قيمة المساواة: وهي تعني التساوي في القيمة الإنسانية، وفي الحقوق والواجبات بين سائر المواطنين، والتمتع بالحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية، وحقوق الحماية من التمييز بسبب الأصل أو الدين أو النوع أو الموقف الفكري.

ثالثاً: قيمة وحق المشاركة في الحياة السياسية والوطنية بما في ذلك حق المشاركة في صناعة القرار السياسي، والقوانين والبنى المجتمعية الأساسية، والرقابة على الممارسات الحكومية.

رابعاً: قيمة الحرية والديمقراطية. وهي تعني الحق في حرية التفكير والتعبير والاعتقاد، وتكوين الجمعيات الأهلية والنقابات والأحزاب السياسية، وحقوق التجمع والتنقل، وتوفير الحماية اللازمة لممارسة هذه الحرية على المستوى الفردي، ومن خلال التنظيمات من ضمن مبادئ السيادة الشعبية.

II

إنّ الشرط الأول والأخير بالطبع لممارسة هذه الحقوق والحريات التي تقتضيها المواطنة أو  تتيحها هو وجودُ الدولة والمجتمع السياسي. والمفهومان حديثان في العالم، وأكثر حداثةً في المجتمعات العربية والإسلامية. ولا أعني بالحداثة هنا أنّ العرب والمسلمين الآخرين ما كانوا يعرفون الدول والكيانات السياسية؛ بل ما أعنيه أنّ مبدأ المواطنة ( وهو مبدأٌ ومفهومٌ غربيٌّ أو أوروبيٌّ) مرَّ في أوروبا حتى اكتمل بقرونٍ من التطور والتطوير. ومن طريق الأوروبيين عرفت معالمه المجتمعات العربية والإسلامية بالتدريج في زمن الاستعمار، وعندما كانت أوروبا تبني نظاماً جديداً للعالم. ولا أقصِد هنا النظام الدوليَّ الجديد فقط، بل أيضاً نظام المجتمعات السياسية التي تضع مفهوم المواطنة في مواجهة مفهوم الرعية. فإذا كانت المواطنة تتمثل عبر الحرية والمساواة والمشاركة والعدالة والديمقراطية، والدساتير والقوانين التي تنظّم ذلك؛ فإنّ الرعية تقوم على النقيض من ذلك، أي على تبعية المحكوم. ومن هنا تأتي الأبعاد السياسية والقانونية والأخلاقية والعاطفية التي تتبلْورُ من خلالها المواطنة مبدأً وقيمةً وتطبيقاً.

لقد أدرك ذلك المفكرون المسلمون منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر، عندما كانوا يحاولون فهم هذه المسألة الخطيرة، وإيجاد المفردات والتعابير الصحيحة والدقيقة للتعبير عنها. عانى ذلك رفاعة الطهطاوي عندما أقبل على ترجمة الدستور الفرنسي الصادر عام 1830؛ فسمّاه الشَرْطة تعريباً لـ La Charte ، بينما تركه خير الدين التونسي في لفظه الفرنسي بحروفٍ عربية، أي الكونستيتوسيون؛ وذلك في تقديمه لكتابه: أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك(1867).. ومع أنّ الأتراك  والعرب استخدموا أخيراً أواخرَ القرن التاسع عشر المفرد الفارسي: دستور، فإنّ الإيرانيين في ثورتهم من أجل الحكم الدستوري عام 1906 سمَّوه المشروطة، وعَنَوا بذلك الاشتراطَ على الحاكم أو تقييدَ صلاحياته! ولماذا نذهبُ بعيداً، وبخاصةٍ أننا لا نريدُ هنا التأريخ لفكرة المواطنة والدستور عند العرب والمسلمين؛ بل نريد الإشارة إلى تطور الموقف منها لدى المفكرين المسلمين والإسلاميين عبر القرن العشرين. لقد بلغت الشجاعة بالسيد محمد رشيد رضا أن يقول عام 1907 في مداخلةٍ له بمجلته المنار  إجابةً على سؤال سائل: "لا تقل أيها المسلم  إنّ هذا الحكمَ المقيَّد بالشورى أصلٌ من أصول الدين، ونحن قد استفدناه من الكتاب المُبين، ومن سيرة الخلفاء الراشدين، لا من مُعاشرة الأوروبيين والوقوف على حال الغربيين. فإنه لولا الاعتبارُ بحال هؤلاء الناس لما فكَّرْتَ أنت وأمثالَك أنّ هذا من الإسلام"!

إقترن بزوغ فكرة المواطنة إذن لدى أوائل المفكرين المسلمين ورجالات الدولة بثلاثة أمور: ضرورة إقامة أنظمة جديدة أو تطوير الأنظمة الموجودة استناداً للمثال الأوروبي للدولة الحديثة، والوصول  إلى ذلك عبر اشتراع دساتير على النهج الأوروبي تقيِّد سلطات الحاكم، وتُتيحُ للنُخَب المشاركة في إدارة الشأن العام- والعمل على إبراز التلاؤم بين الأنظمة الجديدة والموروث العربي والإسلامي لدواعي القبول والشرعية. ويتبيَّن من أعمال الطهطاوي وخير الدين التونسي، وحسين المرصفي، ومحمد عبده ومدرسته، والكواكبي، وعبد الحميد بن باديس ومحمد بن الحسن الحجوي، أن تسويغاتهم للدولة الحديثة تنطلق في عدة اتجاهات، أولُها إحياء مفهوم الشورى والتأكيد عليه، لضرب الاستبداد، وتقوية فكرة المشاركة. وثانيها فكرة المنافع العمومية أو المصالح العامة والتي تملك وظائف دفاعية تتمثل في إيجاد التنظيمات التي تخدم الجمهور من جهة، وتوجد الوسائل النافعة في مواجهة السيل الغربي، وثالثُها تثقيفيةٌ  أو تعليمية، وتهدف لإيضاح فوائد الدساتير والقوانين والمؤسسات الجديدة لاستحداث العالم المصطَلَحي السياسي والمَدَني فهماً وإفهاماً من جهة، وتنويراً من جهةٍ ثانية. رشيد رضا، في الاقتباس السابق عنه، كان واضحاً في الأمرين؛ الأول أنها أفكارٌ ومؤسساتٌ مقتبسة وهي لا تُناقِضُ الموروث، لكنْ لا يمكن الادّعاء أنها مشتقةٌ منه، والثاني أنّ الإصلاحَ السياسي عمادُهُ الحكم الدستوري، ويمكن اتخاذ الشورى بصيغتها الجديدة أو بفهمها الجديد عنواناً له، لكنّ المفهوم والمؤسسة يظلاّن جديدَين وأوروبيين. وبالطبع كان هناك تياران آخران يشاركان في النقاش والمُجادلة أحدُهُما تقليدي يرفض هذه الأفكار والمفاهيم التركيبية إمّا لأنه ليس من شأن العلماء الدخول في  عمليات التفكير السياسي، كما رفض علماءُ تونس المُحافظون المشاركة في محاولتي خير الدين التونسي الدستوريتين عامي 1857 و1861 لأنهم لا يريدون تعاطي الشأن السياسي- أو لأنّ الإصلاحَ الجديدَ هذا يمكن أن يزعزع المؤسسات القائمة بالدولة العثمانية، وبمصر وشمال إفريقيا. وقد انضوى هؤلاء المعارضون تحت سياسات عبد الحميد الثاني الذي عطّل الدستور العثماني عام 1878. أما التيار الآخر أو الثالث ضمن التفكير الإسلامي في تلك الحقبة فقد كان راديكالياً من مثل اعتبار قاسم أمين أنّ الزمن هو زمن الحرية والعدالة وعلى المسلمين الدخول فيه بأي ثمن، أو أنّ الدخول في هذا الزمن هو من صميم تعاليم القرآن كما في كتاب عبدالله العلمي الصادر عام 1913. وقد بلغ التيار الإصلاحي الراديكالي إحدى ذُراه في الدستور المصري المعلَن عام 1922-1923م ، والذي ظهرت فيه المعالم الرئيسية لمبدأ المواطنة في ملكيةٍ دستوريةٍ وبدا لأول وهلةٍ أنه تجاوز كل العقبات التي كانت مخوفةً من جانب التقليد والموروث. وقد حظي بشعبيةٍ جارفةٍ حتى من جانب علماء الازهر تقليديين وغير تقليديين، لاقترانه بمصارعة الاستعمار البريطاني، وانتزاع استقلال مصر منه.

III

سمَّيتُ في بحوثي المنشورة في العقدين الأخيرين حقبة العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين الذي انقضى وما انقضت عجائبه وعقابيلُهُ: حقبة التحولات. والتحولات المقصودة في التفكير الإسلامي بشأن الدين ومهماته، وبشأن الدولة ووظائفها في  إدارة الشأن العام. كان الإصلاحيون يخشون من التقليد العَقَدي والفقهي في مجالَي التجديد الديني، والمشروع البازغ للتجديد السياسي المُنشئ للدولة الوطنية الحديثة عند العرب والمسلمين. لكنّ التحدي أو التحديات التي واجهها التجديدُ في المجالين، ما أتى من جهات التقليد الذي انضوى ضمن الدولة الوطنية من جهة، وانصرف للتجديد والإصلاح الديني من جهةٍ ثانية. بل أتت التحديات من جهة جماعات الهوية وجمعياتها التي ركّزت على هوية المجتمع والدولة التي خشيت عليهما تلك الجماعات من التغريب، ومن الدولة الوطنية، التي اعتبرت تلك الجمعيات أنّ الاستعمار أنشاها ليخلُدَ في ديار المسلمين. ففي حين انصرف مفكرو ومثقفو الإسلام الإصلاحي إلى العمل على بناء الثقافة الوطنية التي تجترح الحداثة من قلب الموروث، انصرفت جماعاتُ الهوية الدينية لطرح سؤال الشرعية للمجتمع والدولة معاً. وتجلَّى ذلك في العمل على سمتيةٍ دينيةٍ صارمةٍ تعتمدُ فكرة العودة للأُصول، للكتاب والسنة، في مواجهة التقليد والتجربة التاريخية للأمة من جهة، وفي مواجهة الظروف الجديدة والسياقات لما سمتْه غزواً ثقافياً ودينياً غربياً. وبينما كان الإصلاحيون يبحثون في الملاءمة، صار سؤالُ الشرعية لدى تلك الجماعات يعتمد على مبدأ التأصيل. وبين الملاءمة والتأصيل بونٌ شاسعٌ ما كان واضحاً لدى المشارقة؛ بينما ظلَّ واضحاً للمغاربة حتى الستينات والسبعينات من القرن العشرين. لقد انفصلت نُخَب الدولة الحديثة بالمشرق عن النُخَب الإصلاحية في التفكير الإسلامي في زمنٍ مبكر يعود إلى عشرينات وثلاثينات القرن العشرين؛ بينما ظلَّ  الأمر بالمغرب الإسلامي على غير هذه الشاكلة الانفصالية. إذ إنّ العلماء بالغرب الإسلامي هم أنفسهم شكّلوا النُخَب التي قادت النضال الوطني ضد الاستعمار، وظلّت تُسهم في التغيير من أجل إنشاء الدولة الحديثة بعد انقضاء زمن الاستعمار، وإقامة دول الاستقلال.

لقد أدَّى سؤال شرعية المجتمع والدولة المعتمد على التأصيل (= الكتاب والسنة)، والمستند إلى ما فوق التاريخ وما وراءه إلى تنحية الأمة والجماعة باعتبارهما مصدر الشرعية،  وإلى إحلال الشريعة محلَّهما، ووضْعها في مواجهتهما. وما حصل ذلك بالطبع دفعةً واحدةً. بل ومن خلال السمتية الدينية الصارمة، جرى بالتدريج بناءُ ثقافةٍ شارك فيها كثيرون من غير الحزبيين الإسلاميين تُشدّد على فكرة الانفصال فالمفاصلة بين الإسلام والعالم. فهناك بحسب الإحيائيين والأصاليين نظامٌ إسلاميٌّ كاملٌ مؤسَّسٌ على الكتاب والسنة، يفارقُ نظام العالم الحديث، ويفارقُ بالطبع أنظمة الدول الوطنية. وفي هذا النظام الجديد لا يُطرحُ سؤالُ الوطن والمواطن والمواطنة وحقوقها، بل حقُّ الله، الذي يكون على هذه الجمعيات والجماعات والأحزاب إحلالهُ وإحقاقه لاستعادة الشرعية في المجتمع أولاً لدى بعض الحركات، وفي الدول أولاً تمهيداً لفرضه على المجتمع لدى بعض الحركات الأُخرى. وقد ظهر ذلك واضحاً في سيرورة نُخَبٍ مسلمةٍ بالهند، كسبت جمهوراً عريضاً، واتفقت مع البريطانيين على  فصل الأقاليم ذات الكثرة الإسلامية  هناك، وإقامة دولة باكستان عام 1947، لأنه لا ولاية لغير المسلم على المسلم، بغضّ النظر عن طبيعة النظام الذي يسودُ بالهند، وهل هو نظامٌ ديمقراطي، ونظامٌ للمواطنة المتساوية أم لا! ووقتَها كان المغاربةُ جميعاً ما يزالون يكافحون الاستعمار متحدين؛ بينما واجهت الدول الوطنية بالمشرق وهي على مشارف الاستقلال، قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين، دون أن تستطيع الدول الوطنية الجديدة إسقاطها. وبعد أقلّ من عقدين، شهدت خلالهما الدول الوطنية بالمشرق في الحرب الباردة، وقد حكمها العسكريون- هزيمةً أُخرى على يد إسرائيل؛ فبدا أنها فاشلةٌ بمقاييس النُخَب العلمانية، ومن باب أَولى هي فاشلةٌ وغير شرعية في عيون النُخب الإسلامية، التي صارت أحزاباً صلبةً ذات شعبيةٍ عريضة. وتبلورت في أدبياتها المتكاثرة مقولةُ الدولة الإسلامية في مواجهة الدولة الوطنية. وفي حين ما اهتمت أنظمة العسكريين ذات الدعوى القومية والاشتراكية كثيراً لمسالة المواطنة، كذلك ما اهتمَّ لها تفكير الإحيائيين الحزبيين الطهوري، لأنّ الفريقين اهتمّا أكثر كثيراً وفي عقائدياتٍ مشهودة بمسألة الهوية العامة للدولة والمجتمع، وإن بتصورين مختلفين تماماً.

ولأنّ هذه المطالعة موضوعها المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر، فلننظر في الملامح التي تتبدّى فيها هذه الفكرة أو المقَتَربات منها؛ لنرى كيف دخلت هي أيضاً في الصراع على الهوية العامة، وحتّى في مسألة الشرعية. صدر ميثاق الأُمم المتحدة عام 1945، كما صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العام 1948. وقد تعامل  معهما الإسلاميون حزبيين وغير حزبيين من مواقع المجادلة والانفصال والمفاصلة. أخذوا على الوثيقتين أولاً أنّ النظام  العالمي الذي قام عليهما يكيلُ بمكيالين. فيطبّق مقتضيات الميثاق والإعلان في نواحي معينة، بينما يتجاهلُهُما إذا تعلّق الأمر بالدول العربية والإسلامية. وكانوا يقصدون بذلك تعامل المؤسسات الدولية مع قضية فلسطين، ثم قضية كشمير. ثم مَضَوا قُدُماً بزعم الخلاف مع الإعلان مبدئياً. إذ هو يقول بالحقّ الطبيعي في الحقوق، بينما ينكر ديننا ذلك، لأنّ واجباتِ الإنسان وحقوقَهُ اشترعها الكتابُ والسنة؛ فلا حاجة لتأليه الإنسان تأليهاً مصطَنَعاً بالذهاب  إلى أنها جزءٌ من إنسانيته. ثم تطوَّر الأمر إلى كتابة  إعلاناتٍ إسلاميةٍ لحقوق الإنسان على أساس تأصيلي. وهي لا تقول شيئاً جديداً أو مختلفاً كثيراً عما ورد في الإعلان والعهود والمواثيق اللاحقة. لكنها عند كل مادةٍ توردُ آيةً قرآنيةً أو حديثاً نبوياً. وقد أردتُ في بعض دراساتي في الثمانينات من القرن الماضي أن أعتبر ذلك إسهاماً إسلامياً في ثقافة حقوق الإنسان المعاصرة؛ وبخاصةٍ أنّ جهاتٍ رسميةً عربية وإسلامية بعد الإسلاميين، دخلت في هذا الخضمّ. قلتُ إنّ هؤلاء المؤصِّلين يريدون من جهة إعلامَ المسلمين وتثقيفهم بثقافة حقوق الإنسان، وأنها لا تتناقضُ مع القرآن أو  السنة. وقلتُ إنهم يرمون إلى إخبار العالَم وتنويره بأنّ الإسلامَ يمكن له أن يشارك في ثقافة العصر وقيمه.

لقد ذهبتُ في التسعينات موفداً من الحكومة اللبنانية لاجتماعٍ في لجنة حقوق الإنسان عن إسهام الأديان في ثقافة حقوق الإنسان، وبينما كنتُ أمضي متحمساً في عرض نماذج من الإعلانات الإسلامية، واستشهاداتها القرآنية والحديثية، سألتني السيدة ماري روبنسون في لهجةٍ بين الجد والمُزاح: طيّب، وماذا يحصل إن كانت هناك هذه المادة أو تلك في الإعلان أو المواثيق والمعاهدات الملحقة، في حقوق المرأة أو الطفل، ولم تجدوا شاهداً عليها في القرآن أو الموروث، هل تتنكرون لها؟ وأجبتُ غير متتعتع: لقد تمَّ التنكر في مواد قليلة، بينما جرى التجاهُلُ في حالاتٍ أُخرى، والتأويل والتحويل في حالاتٍ ثالثة، بالذهاب إلى أنّ الإسلام أو الفقهاء اهتموا لهذه الجزئية أو تلك مما لم يلحظْهُ الإعلان! وتابعت السيدة روبنسون: لكنّ الكثرة الساحقة من الدول العربية والإسلامية وقّعت على هذا الإعلان وملحقاته، وعلى ميثاق الأُمم المتحدة بالطبع، وهناك تعثُّرٌ كبيرٌ في التلاؤم والتطبيق في دولكم رغم التوقيع والالتزام، فهل تُسهمون أنتم ذوو التفكير الإسلامي في النضال من أجل تطبيق ما تعتبرونه تقصيراً من دولكم؟ وقلتُ: الأكثرون من الإسلاميين لا يسعَون للتأثير على الحكومات لأنهم في مواقع المعارضة ولا يعتبرون أنّ الأنظمة القائمة يمكن أن تستمع إليهم. وبعضُ مُصْدري الإعلانات يعيشون في الغرب، وهم يوجِّهون خطابَهم إلى الغربيين. وفي النهاية فإنّ الإسلاميين هم ضد الاستبداد، لكنّ مسألة حقوق الإنسان ليست أولويةً عندهم. ثم تحدث ممثلو الأديان الأُخرى، وقدموا أفكاراً كثيرةً وبخاصةٍ أهل الديانات الأسيوية، لكنهم جميعاً كانوا يبدأون كلماتهم بالقول إنهم لا يملكون باعتبارهم رجال دين إعلاناتٍ منفصلة. وإنّ الذين يمارسون النقد للإعلان والميثاق في دولهم ومجتمعاتهم معظمهم من الفلاسفة أو الاقتصاديين أو رجالات المجتمع المدني، وهؤلاء في الغالب تنصبُّ ملاحظاتُهم على تصرفات الدول الكبرى أو حكوماتهم، وليس على الميثاق والإعلان. ويضيفون أنّ المواثيق والمعاهدات اللاحقة استوعبت وتجاوزت الكثير من وجوه النقص وسوء الفهم والتقدير.

بعد الإعلانات الإسلامية، بدأت تظهر الدساتير الإسلامية. وهي تهتم بالفعل بتقييد سلطة الحاكم، لكنّ موادَّها الكثيرة الأُخرى تهتمُّ بإبراز ملامح النظام الإسلامي الكامل، والشريعة التي تعتبرها واجبة التطبيق. وهي بالمفهوم الإحيائي والطهوري الجديد تهتم بالتقييد والتشديد والمنع والتحريم، أكثر مما تهتمُّ بالحقوق وبالمواطنة. وصحيحٌ أنها تؤكّد على فكرة الشرعية، وضرورة التزام أحكام الشريعة من أجل إحقاقها، وليس إرادة الجماعة مثلاً، إنما الملحوظ أنها تُنيط بالسلطة السياسية مهمة تطبيق الشريعة، وتحاسبها على هذا الأساس. وبذلك فإنها تُعطي السلطة السياسية صلاحيات وواجبات دينية كثيرة بحيث تحوِّلُها عن طبيعتها ووظيفتها في حسن إدارة الشأن العام، وإقامة الحكم الصالح.

وفي العقود الثلاثة الأخيرة ظهرت مئاتُ الكتب وآلاف المقالات في نظام الدولة الإسلامية، وحقوق الإنسان التأصيلية والتكليفية فيها. والكثير من هذه الكتب والدراسات يعود  إلى جانب فكرة التأصيل، إلى فكرة الملاءمة التركيبية كما في أعمال الإصلاحيين في مطالع القرن العشرين وما بعد. وأعني بذلك الحديث إلى جانب التأصيل عن مقاصد الشريعة وغايانها الإنسانية العليا. لكنْ تبقى فيها مشكلتان: الطابع العقائدي الغلاّب، ومحدودية فكرة أو ممارسة المشاركة. والطابع العقائدي القوي أثّر في مسألة الحرية وخبرات المؤمنين في اجتهاداتهم وعملهم الفردي والجماعي. وأحسب أنّ لظهور فكرة عقائدية الدولة وليس المجتمع فقط أكثر من سبب. ومن أسبابها فشل تجربة الدولة الوطنية، وسياسات الحرب الباردة وحقبة الهيمنة. لكنّ هناك سبباً آخر مهماً للعقائدية في تفكير الإسلاميين الحزبيين وعملهم. فقد صارت الشريعة نظاماً كاملاً، وكتلةً ضخمةً من الواجبات والتنظيمات المتشابكة فيها الكثير من الرغبويات التي صارت واجباً دينياً. ولكلّ ذلك جرى تكليف الدولة والنظام السياسي، فظهر للدين ركنٌ جديدٌ هو الدولة، لأنّ ما لا يتمُّ الواجبُ إلاّ به فهو واجب، وسواءٌ  أسمَّينا النظام المرتجى والضروري لاستعادة الشرعية للدولة والمجتمع خلافةً أو إمامةً أودولةً إسلامية. وفي الدولة الإسلامية الجديدة، هناك مشكلات كبرى في مسألة المواطنة، ومشكلات في مسألة حقوق الإنسان، كما ظهر في تجارب الإسلاميين في مثل إيران والسودان.

إنّ الطريف، أنه في زمن التأصيل أو حقبته الطويلة، هناك بنى مفكرو الإسلام السياسي وعديدون من الحزبيين وغيرهم، ممن يحاولون عقلنة العملية التأصيلية، نظامهم الجديد ليس شأن الأصوليين المتطرفين الذين يعودون لآيات: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون أو الفاسقون أو الكافرون؛ بل إلى صحيفة النبي أوعهده أو كتابه بيثرب قبل تسمية المدينة. وهناك يؤكدون على الطابع التعاقُدي للنظام الجديد، والاعتراف بالحقوق المتساوية والواجبات المتساوية لفئاته القَبَلية والدينية. والواضح أنّ تلك الفئات بيثرب عند هجرة النبي(ص) إليها تعاقدت على العيش معاً، وعلى التعامل فيما بينها على مواضعاتٍ معينةٍ في الحقوق والتبعات، والمسؤوليات الفردية والشخصية والعامة. وهي مواضعاتٌ عُرفية ومصلحية. وما ذُكرت في الصحيفة آيةٌ واحدةٌ أو حديث. فالمفهوم أنّ هذه الجماعات كانت تتشارك في بناء نظامٍ باختيارها، وتستطيع تغييره أو تغيير بعض جزئياته، على أساس المصالح والتفاهمات الممكنة. وفقهاؤنا القُدامى جميعاً يذهبون إلى أنّ النظام السياسي مصلحي وتدبيري ولا شأن له بالاعتقاد- والماوردي الحريص على الدين والشريعة حرصاً منقطع النظير يقول إنّ الإمامة هي لسياسة الدنيا وحراسة الدين، وماذا تعني الحراسة؟ يفسِّرها بأنها حفظ الدين على أصوله المستقرة، وأعرافه الجامعة. فالدولة لا تتدخل في الدين، وإنما تصونُ ما تواضع عليه المؤمنون أصولاً وأعرافاً. فأين هي الجماعة ذات الفئات المتعددة التي تبني النظام من طريق التشارُك عند الإسلاميين، وما الحاجة حتى لدى معتدلي الإسلاميين للبحث الطويل العريض فيما يتلاءم مع الشريعة وما لا يتلاءم في إدارة الشأن العام، ما دام الناس مسلمين، وما دام حقهم ثابتاً في بناء نظامهم السياسي كسائر بني البشر، أوحتى بحسب تجربة النبي بيثرب أو المدينة؟

ولا شكَّ أنّ الإسلاميين ليسوا وحدهم سبب ظهور مشكلات الأقليات في المشرق والمغرب، وإنما الظروف الحديثة والمعاصرة، وقضايا خيبات وقصور الدولة الوطنية. لكن هنا أيضاً ومع تضخم مقولة الشريعة والشرعية؛ ما برز الإسلاميون في طرح حلولٍ لمشكلات الأقليات الإثنية والدينية، رغم تكرارهم لقول النبي(ص): لهم مالنا وعليهم ما علينا! ولّما أراد الإسلاميون عندما صاروا فريقاً سياسياً معتبراً في الثمانينات، أن يوسِّعوا الأُفق لجهة فقه الاختلاف الاجتماعي والسياسي، قالوا بتفرد مصر في نشأة جماعةٍ وطنيةٍ فيها، بحيث لا تحتاج إلى تبرير التمايُز الديني والطائفي الإثني. لكنّ بعضهم عاد فنقض هذه المقولة بسبب التطرف المزعوم والتآمر في أوساط الأقلية الدينية، وهو سوءُ تصرفٍ كبير في نظر الإسلاميين، دفع من جديد باتجاه الهوية الواحدة والتي لا تنقسم، وفيها عقلاء الأقباط!

ولا يمكن بالطبع تحميل أهل الإسلام السياسي تبعات ظهور الجهاديين. فالجهاديون انشقاقيون. والانشقاق الذي يعلن مسألة الفسطاطين والتكفير والعداء المطلق للآخر، وشن الحرب على العالم، يهدف أول ما يهدف ليس لمواجهة العدوّ البعيد، بل العدو القريب، فيما صار يُعرفُ عندهم بإدارة التوحُّش والعياذ بالله. الانشقاق يريد إزالة الأصل الذي انشقّ عنه لأنه يريد الحلولَ محلَّه، وليس محلَّ البُعداء في الدين أو المذهب أو الجغرافيا، الذين قد يكون على استعداد بعد قيام دولته الميمونة لإقامة علاقاتٍ معهم. ليس من المستحسَن إذن نسبةُ هذا الانشقاق الهائل لأهل الإسلام السياسي، إنما لو تأملنا مقولات هؤلاء المستوحشين أو المتوحشين مقولةً مقولةً، لرأينا لها جميعاً أُصولاً أو تأصيلات في أفكار أهل تسييس الإسلام، وإنما قادها هؤلاء الجهاديون إلى نهاياتها القصوى. 

ولنمضِ للمرة الأخيرة إلى الإمكانيات المتاحة أو التي أُتيحت بعدما صار أهلُ تسييس الإسلام جماعات سياسية محترمة. لقد انفتحوا على فكرة مقاصد الشريعة والتي تتيح توسيع الآفاق لجهتين: مركزية مقولة الإنسان فيها، ولأن فكرة المصالح الضرورية لا تستند إلى النصوص مباشرةً، بل إلى استقرائها كما قال الشاطبي.  فالمصالح الضرورية للإنسان هي حق النفس، وحق العقل، وحق الدين، وحق النسْل، وحق الملك. وكما قال ابن القيم نقلاً عن ابن عقيل- وكلاهما حنبلي- فإنّ المصالح اكتشافاً وآفاقاً لا تستند إلى النص بل إلى روحه ومقاصده. إنما رغم خصوبة هذه الفكرة فإنها ظلّت مقيدةً بقيود نظام الإسلام الجديد أو الكامل الذي جرى اصطناعه عبر عدة عقود، ثم جرى الوقوع في إساره، بحيث إنّ أحدهم ما قبل من بعض مفكري الإسلاميين القول بعمومية النسَق أو النظام واعتبر ذلك جبناً ومجاملة، وطالبهم بشدةٍ أن يعتبروا النظام الإسلامي قائماً بكل تفاصيله أو يكون إسلامهم مدخولاً وقاصراً!

إنّ التفكير القائم على الهوية والتأصيل ولا شيئ غير ذلك، يظلُّ أسير طهوريته مهما حاولَ التلاؤم والتوفيق من بعد لمراعاة مستجدات الظروف. فالعقائديةُ تنكسر وتفقِد أصلها إن توقفت عن التأصيل، أو حاولت استشراف الآفاق. وهذا الفكرعلى أي حال ليس من أولوياته مسألة الإنسان وحقوقه ومواطنته، بل مسألة الشرعية، والنظام المتوهَّم القائم عليها. وقد استطاع طَمْسَ فكر الإصلاح، بينما سدَّت عليه نزعتُها العقائدية والتأصيلية الإمكانيات المفتوحة لاستشراف آفاقٍ جديدةٍ تماماً بسبب المزج غير الصحي أيضاً بين مقولتي الدين والسلطة. ولذا لا بُدَّ من البحث عن آفاقٍ أُخرى للإنسان والمواطن في مجالنا الحضاري، من غير مدخلي الهوية والتأصيل؛ بل من مدخل التجربة التاريخية للأمة والتي بدأت في صحيفة المدينة، ومن مدخل التلاؤم مع العصر ونظام العالم.

IV

إنّ التحدي الرئيس في المشهدين العربي والإسلامي في العقود الثلاثة الأخيرة هو تحدي تجديد تجربة الدولة الوطنية المدنية، والمجتمع السياسي الحر. ويقع مبدأُ المواطنة في قلب هذا المشهد، ويكاد يكونُ شرطَ الاعتماد الرئيس لمواجهة التحدي. وقد كانت هناك نضالاتٌ وأفكارٌ ومبادرات كثيرة لمواجهة هذا التحدي من غير جانب الإسلاميين. ولأنّ الموضوعَ الذي نعالجه في هذه المطالعة الآفاق التي يطرحها  الفكر الإسلامي المعاصر في مسألة المواطنة؛ فإنّ الاهتمام ينصبُّ على الإمكانيات التي تملكها التيارات الفكرية والسياسية العربية والإسلامية الأخرى، وتأويليات النصوص، لاستكشاف آفاقٍ تعودُ فيها مقولة الإنسان والمواطن إلى مركز الصدارة، فتُعينُ بذلك بأشكالٍ مباشرةٍ وغير مباشرة على استقامة الأوضاع في المجالين الديني والدولتي في مجتمعات العرب والمسلمين.

إنّ أول عوامل عودة السوية إلى الأوضاع العامة الفكرية والمجتمعية في المجال الإسلامي تتمثّلُ في إخراج الدين من خضّم الصراع على السلطة السياسية في الدول والمجتمعات. فقد أوصلت هذه المسألة التي اعتبرتها تيارات الإسلام السياسي والآخر الجهادي أولويةً أَنْستْها كلَّ القضايا الأُخرى- إلى انقساماتٍ في الدين، وإلى تصوير المسألة باعتبارها صراعاً بين الدين والدولة، والدين والأمة في العالم العربي بالذات. والمستهدَفُ من وراء هذا الإخراج للدين المسيَّس إعادة الانسجام بين الديني والسياسي والاستراتيجي في المجتمعات والدول. بحيث يستعيدُ الدين ثوابتَهُ ومهماته باعتباره عاملَ توحيدٍ رئيسياً في المجتمعات، وباعتباره مناطَ الرؤية للعالم، ومُنتجَ خطابات الرسالة والدعوة الشاملة. فقد اقتحمت حركات وأحزاب تسييس الدين المجالين السياسي والاستراتيجي، عندما أرادت وما تزال الاستيلاء على السلطة باسم الدين لتطبيق الشريعة من جهة، ولمواجهة السياسات الإقليمية والدولية في العالمين العربي والإسلامي. وبذلك؛ وبدون مقاومةٍ قويةٍ من داخل البيئات الفكرية الإسلامية والمؤسسات الدينية، صار هذا الفاعل السياسي العقائدي، أَولويةً في الصراع على السلطة، وأَولويةً في النزاعات الاستراتيجية على العرب والمسلمين. ومن نافِل القول أنّ هذه التيارات الراديكالية، التي أرادت تقوية فعالية الدين أو إحلالهُ، تسببت في أسْره، وجعلِه رهينة الحسابات الاستراتيجية في ديار العرب والمسلمين والعالم. إنما الأخطرُ من ذلك على الدين قبل الدولة يتمثل في عملية التحويل القيمي والعملي. فقد صار الاستيلاءُ على السلطة هو القيمة الرئيسية في اعتبار تلك الأحزاب والحركات، وما عاد العمل الدعوي والإرشادي في مجتمعاتنا ومع العالم ممكناً إلاّ من هذه الزاوية الضيقة، والتي لم يجد الإسلام نفسَه فيها منذ آمادٍ وآماد. وبالطبع فإنّ هذه الإشكالية الأساسية، نحّتْ كل القضايا الرئيسية الأُخرى الضرورية في عملية إعادة بناء الدولة الوطنية المدنية  وأهم شروط سوادها واستقرارها مسألة المواطنة. وكما سبق القول؛ فإنّ التيارات الفكرية الأُخرى، وبعضُها يعتبر نفسَه إسلامياً، ما تزال تناقش وتنصر مسألة الدولة المدنية وضروراتها؛ لكنّ همَّ الهوية الإسلامية للدولة الموعودة، وبالسلب والإيجاب، ما يزال يتصدر المشهد، تحت وطأة تأثيرات الإسلام السياسي والآخر الجهادي.

من أين يجبُ البدءُ لإزالة أو تنحية هذه الإعاقات التي تحول دون عودة السَوية الدينية والثقافية/ المجتمعية إلى المجتمعات والكيانات؟

أعتقد أنه يجب البدءُ من التحويلات العقدية والفقهية التي أنجزتْها جماعاتُ تسييس الدين في العقود الماضية، والتي تعتبر الدولة وظيفةً وعملاً جزءًا من الدين، وضرورةً من ضرورات تطبيقه. وفي هذا ظلمٌ للدين وتكليفٌ له بما لا يطاق، اتهامٌ للجماعة المؤمنة أنها لا تطبقه، واختراع ركنٍ دينيٍّ جديد، وصرف الدولة عن حُسْن إدارة الشأن العام والحكم الرشيد، إلى مهمات فرض الشريعة.  ولنتصور سلطةً سياسيةً تمتلك الدين بحجة تطبيقه، وتأمل من وراء ذلك البقاء الأبدي في السلطة.

لقد انكسرت في السنوات القليلة الماضية الشعائريات التي انغمس فيها اجتماعتنا الإنساني والاجتماعي والثقافي والديني. وهي شعائرياتٌ نجمت عن السمتية الدينية الصارمة التي سادت لعدة عقود، وانفجرت أخيراً بأشكالٍ مختلفةٍ أبرزُها الشكلُ العنيفُ الذي اتخذتْه كلٌّ من القاعدة وتنظيم الدولة ومتفرعاتهما. فحتى العنف الهائل الذي شهدته الكيانات والمجتمعات اتخذ صِيَغاً شعائريةً فيما صار يُعرف بإدارة التوحُّش. والتصدي لذلك كُلِّه يكونُ من المفيد فيه العملُ على استعادة السكينة الدينية من طريق الاستمرار في نقد مقولة أنّ الإسلامَ دينٌ ودولةٌ. ذلك أنّ التجربة التاريخية للأمة ما قالت في تيارها الرئيس بأنّ الدين يمتلك نظاماً سياسياً موحىً أوشبه مُوحى. بيد أنّ هذا النقد ليس كافياً، بل لا بد من التلازُم بين أمرين: الإصرار  على أنّ الدين لا يمتلك مهماتٍ سياسية تفرضُها ثوابتُه. والأمر الآخر ظهورُ تجارب للحكم الصالح والرشيد تقعُ المواطنةُ في أساسِها. والأمر الثاني هذا يشجّع عليه ظهورُ أحزاب سياسية ذات اهتمامات بثقافة الهوية في الأصل في دول المغرب تقول بالديمقراطية بدون استنصارٍ ملحاحٍ بمسألة الهوية، ولا لجوءٍ إلى العنف العَقَدي والسياسي مهما كانت الأسباب.

من الذي ينبغي أن يقوم بنقد مقولة الارتباط العقدي بين الدين والدولة؟ ينبغي أن يقومَ بها علماءُ الدين والمؤسسات الدينية. لأنّ في ذلك صَوناً للدين عن المهالك، واستنقاذاً له  من الانشقاقات العنيفة التي وقعت فيه نتيجة اندفاع بعض الشبان المتدينين في مسألتين كلتاهما قاتلتان للدين وللمجتمعات وهما: إنجاز دولة دينية ذات نظامٍ شبه مقدسٍ أو معصوم، ومصارعة ما يسمونه فسطاط الكفر في العالم:

كناطحٍ صخرةً يوماً ليُوهنَها       فلم يضرْها وأَوهى قرنَهُ الوَعَلُ

وهكذا فإنّ مصلحتَنا في ديننا أن يستتبَّ الأمر تدريجياً في تجديد  تجربة الدولة المدنية القائمة على المواطنة في مجالنا الحضاري- فننصرف نحن علماء الإسلام وعارفيه إلى القيام بالمهمات الضرورية لديننا، والتي شهدت قصوراً كبيراً في الأداء والإنجاز في العقود الماضية؛ وهي جميعاً مهماتٌ اجتماعية وثقافية وحضارية وتربوية وأخلاقية فائقة الأهمية للدين قبل الدولة وهي: وحدة الدين وعباداته التي ضيّعها وأساء إليها المتطرفون- والتعليم الديني المستنير- والفتوى المتبصِّرة- والإرشاد العام- وإعادة التواصُل السوّي والسليم مع العالم بثقافاته وأديانه وشعوبه، أي بحضارة العصر وعصر العالم.

هل نستطيع القيامَ بكلّ هذه المهامّ الكبيرة، ثم هل نستطيع القيام بها في حالتنا الحاضرة؟ الدوافع هائلةٌ بالنظر للأخطار التي يتعرض لها الدين، وتتعرضُ لها المجتمعات. والدوافع كبيرةٌ لدينا أو ينبغي أن تكونَ لأنّ الدولة المدنية، دولة المواطنة، نحن أهل الدين والدعوة والإسلام أصحاب المصلحة الأولى في قيامها. فمجتمعاتنا ومنذ أيام الإسلام الأُولى هي التي تحتضنُ الدين والقرآن والإسلام. وهذا الاستظهار ليس من عندي، بل هو من عند النبي عليه الصلاة والسلام في مقدمة صحيفة المدينة، وفي خطبة الوداع. وفي دول المواطنة تكونُ سلطةُ التأسيس والمشاركة والإدارة بيـد المواطنـين. وفي عـزّ دولة الخلافة الوسيطة يقول الماوردي (- 1055م) إنّ الإمامة تتولى أمر حراسة الدين وسياسة الدنيا للمسلمين وبتكليفٍ منهم. وإذا كانت السلطة السياسية تعمل للناس وتصون دينَهم على أصوله الثابتة وأعرافه الجامعة – كما قال الماوردي؛ فإنّ المؤسسات الدينية في مذهبنا هي مؤسساتٌ تطوعيةٌ متخصصة غير مقدسة قامت في الأصل على أوقاف الناس لخدمة دينهم. فمصلحتُنا في ديننا ودنيانا هي في قيام دولة المواطنة. ولذلك، أي للصدْق والاقتدار في خدمة الدين، ينبغي أن نكونَ نحن أهل العلم والدين والدعوة والمؤسسات في مقدمة دعاة المجتمعات المدنية، والدول المدنية، أو دول المواطنة. وهذا كلُّه إذا كنا بالفعل نريد حفظ الدين وصَونَه، وليس السعْي وراء سلطةٍ تنتحلُ الدينَ ونُصرتَه، أو ظُلْمَ الناس وقتلهم وتكفيرهم باسمه جلَّ وعلا وتنزَّه، أو الفَخْرَ بإدارة العلاقة مع العالم تحت اسم إدارة التوحُّش والعياذُ بالله – في حين يخاطب الله عز وجل رسوله قائلاً: {وما أرسلناك إلاّ رحمةً للعالمين}، ويخاطبنا قائلاً:{ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في دينكم ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتُقسطوا إليهم إنّ الله يُحبُّ المقسطين}.

هل نستطيع القيامَ بالمهامّ المذكورة سابقاً، والتي تنهي الصراع بين الدين والدولة، وتُعيدُ الانسجام بينهما، وتُسهِّلُ قيام الدولة المدنية، دولة المواطنة والمواطنين، وتُعيدُ دينَننا وبشرَنا إلى علاقةٍ سويةٍ مع العالم، بعد أن اسودّ وجه الدين والأمة، وتناثرت أشلاءُ مجتمعاتنا وأمتنا في جهات الأرض الأربع؟!

في إحصاءٍ تقريبي للعاملين في المؤسسات الدينية الإرشادية والتعليمية في العالم العربي، فإنّ عددهم يبلُغُ حوالى الخمسة ملايين. فهل نحن غثاءٌ كغثاء السيل؟ لا، نحن لسنا كذلك. لكننا نحتاج للكثير من المعرفة، والكثير من التأهُّل، والكثير الكثير من الوعي والتنظيم والاقتناع بالمهمات، والكثير من التعاون.

والتعاون هذا ليس فيما بيينا وحسْب؛ بل ومع الفئات الاجتماعية والثقافية في العالم العربي. بيننا وبين المثقفين ما صنع الحدّاد، ونحن نتبادل الإهانات والإساءات حتى اليوم. والذي عنده قضيةٌ كبرى مثل قضيتنا يكون عليه أن يتنازل عن الشخصي ليجمع وليكسب لقضيته. ثم إننا نحن والمثقفين والسياسسيين نفيد جميعاً من عودة السوية إلى مجتمعاتنا ودولنا، ونتضرر بل نهلك إذا استمرّ هذا الخراب، وانتشر هذا اليباب. يقال إنّ الشأن العسكري هو من الأهمية بحيث لا يجوز أن ينفرد به العسكريون، فكذلك الشأن الديني لا ينبغي أن ينفرد به علماء الدين!

ثم إنّ التعاوُن يعني أيضاً مراجعة التجربة الماضية مع دولنا في إدارة الشأن الديني. ما كانت تجربتنا ناجحة في التعليم الديني والخطاب الديني، والإرشاد الديني، وإلاّ لماذا خرج الأُلوف من الشبان محاولين إنشاء دينٍ جديد باسم العودة إلى الأصول والثوابت؟ وما كانت تجارب الدول ناجحةً وإلاّ لماذا اضطُرت للاحتكام إلى الأمن والعسكر ولا شيئَ غير لمكافحة الثوران؟ إذا كان الهدف هو إعادة الانسجام إلى العلائق بين الدين والدولة، فينبغي أن نتجاوز بالمراجعة النقدية تفويتات الماضي، ومشكلات الحاضر؛ وبالمشاركة والتشاور وليس بالتقاطع ولا بالاستتباع.

والتعاونُ أخيراً يعني المضيَّ المستقيم باتجاه العالم وثقافاته وحضاراته ودياناته وسياساته. لقد انفرضت المواجهةُ من الطرفين. وشبابُنا الهُوجُ هم الذين بادروا ويبادرون ولا نتيجة إلاّ الخراب الذي نقف الآن على أطلاله. الهجوم الآن ينصبُّ على ديار العرب والإسلام الأُولى، لكنّ الاستاذ محمد السمّاك نبهني إلى أنّ ثلث المسلمين البالغ عددهم المليار ونصف المليار، يعيشون في ديارٍ وبين أُممٍ أكثرياتها غير مسلمة. فنحن محتاجون للعالم أكثر من حاجة العالم إلينا!

لستُ متشائماً رغم النوازل والترديات، لأنّ عملاً كثيراً أُنجز أو اتخذ مسارَهُ بعد طول تردد. بياناتُ الأزهر الخمسة إنجازٌ بارز. ومبادرة الملك عبد الله لحوار الثقافات إنجاز. ومبادرة "الكلمة السواء" من الأردن إنجاز. ومبادرات العلاّمة بن بيه السلمية والتصالحية وسمعته العالمية إنجاز. ومجلس الحكماء ومبادرة تعزيز السلم في المجتمعات إنجاز. وأعمال الدولة والمؤسسات الدينية المغربية في إفريقيا وفي أوروبا إنجاز. وأعمال دور الإفتاء المنطلقة في عددٍ من البلدان إنجاز. وإعلانا بيروت للحريات الدينية، وللإعلام الديني المستنير إنجاز. والمؤتمرات المتكاثرة لمكافحة التطرف والإرهاب إنجاز. ومؤتمر الأقليات هذا في رحاب المملكة المغربية إنجاز. وقد قرأت قبل ثلاثة أيامٍ في كتابٍ كان يتمدح بالمؤسسات الدينية التقليدية أنّ أول من قال بالحكم المدني في الأزمنة الحديثة شيخ. وأول من قال بفصل الدين عن الدولة لحماية الدين شيخ. وأول من قال إنّ الجهاد دفاعي شيخ. وأول من قال بمركزية مسألة الإنسان في الإسلام من خلال مقاصد الشريعة شيخ. وأول من ألف في الحريات الدينية شيخ. وأول من قال بوحدة العالم ووحدة الدار بالعودة لكتب السِيَر شيخ. وقبل المجئ إليكم مررت على دارين للنشر في القاهرة وبيروت، فرأيتُ هذه العناوين الصادرة عامي 2015 و2016: تاريخ موجز للمواطنة، والمواطنة والدولة المدنية، والدولة المدنية لتجاوز الاستبداد وتحقيق مقاصد الشريعة، وأربعة كتب في التربية على حقوق الإنسان، والمشاركة لا المغالبة، والحريات والحقوق الأساسية في الشريعة، والجنسية في الشريعة، وتاريخ مدرسي لحقوق الإنسان، والديمقراطية: الجذور وإشكاليات التطبيق، والاجتهاد المقاصدي، والإسلام والنشاط المدني، ومقاصد المقاصد، والأمة هي الأصل، وقضية الأغلبية، والإسلام والعدالة.

إنّ مصلحة الإسلام في ديارنا تتمثل في استعادة الرشد بإقامة دولة المواطنة.

ومصلحة الدين والمؤسسات الدينية في ديارنا أن يعود الانسجام بين الدين والدولة. ومصلحة الإسلام والمسلمين في العالم ومعه أن لا نخافَ من العالَم ولا نُخيفَه:

{ أمّا الزبد فيذهب جُفاءً وأمّا ما ينفعُ الناسَ فيمكث في الأرض}. صدق الله العظيم.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) محاضرة أُلقيت بمؤتمر "الأقليات الدينية في الديار الإسلامية" بمراكش(25-27/1/2016) الذي أقيم بالتعاون بين وزارة الأوقاف بالمغرب ومنتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة.

المصدر: http://www.ridwanalsayyid.com/ContentPage.aspx?id=2785#.VwwTVU8rLIU

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك