القرآن والتاريخ: الرؤية القرآنية في الأمم والحضارات

رضوان السيد

 

تتركز هذه المداخلةُ بشأن الرؤية القرآنية للتاريخ أو لنهوض الأُمم في ستّ نقاط: رؤية القرآن في نطاق ومفاهيم رؤية العالم، والتصور القرآني للتاريخ ومضامينه أو معناه وغاياته، والأفراد والأُمَم في الرؤية القرآنية، والقيم والمفاهيم الحاكمة في الرؤية القرآنية، والجيوسياسي في الرؤية القرآنية، والتجربة التاريخية الإسلامية في ضوء الرؤية القرآنية.

1."رؤيةُ العالم" في المنهج والنتائج: صارت "رؤية العالم" منهجاً للنظر في العالم الديني/ الثقافي لأمةٍ أو ثقافةٍ معيَّنة في أواخر القرن التاسع عشر، عندما أوضح أُسُسَها وركائزَها الفيلسوف الألماني فلهلم دلتاي(1846-1911م)، وتابع الاهتمامَ بها السوسيولوجي الألماني الكبير ماكس فيبر(1864-1920م) رابطاً ذلك المنهج أو تلك الفلسفة بالتاريخ والمجتمع. وتنقسم تلك الفلسفةُ إلى قسمين، يتعلق الأول بالتصورات الأساسية(الخير والشر، والحق والباطل، والانتماء والهوية، والخاصّ والعامّ)، ويتعلق الآخَرُ بالترتيبات والتلاؤمات ووجوه التلاقي والافتراق، التي يقومُ بها الأفراد في ضوء التصورات الكلية السائدة في ثقافتهم، والتي تتصل بالزمان والمكان والبيئة الصُغرى أو الضيّقة، والتي يميلُ الأفرادُ في الغالب إلى مقاربتها على أساس السائد، كما يتمرد عليها أحياناً أفرادٌ ومجموعاتٌ صغيرةٌ، إمّا لأنهم -لهذا السبب أو ذاك- يرفضون التصورات الكلية، أو لأنهم لا يرون الترتيبات المترتبة على التصورات الكلية ملائمةً لوضعهم الفردي أو للمجموعات الصغيرة. وقد رأيتُ أنّ هذا المنهج صالحٌ لتأمُّل الرؤية القرآنية في التاريخ ومصائر الأُمَم والإنسان؛ لأنه يمكن من طريقه تلمُّسُ المصطلحات المفتاحية في القرآن والمتعلِّقة بهذه الأُمور، كما يمكن -من جهةٍ أُخرى- النظرُ في ركائز التجربة الثقافية الإسلامية لاختبار تمثُّلها للرؤية القرآنية، والنتائج المترتّبة على ذلك التمثُّل في التاريخ.

والواقعُ أنّ هذا المنهج في التأمُّل والدراسة ليس جديداً على القرآن والإسلام، وإن لم يحمل لدى الدارسين هذا الاسم؛ فالذين يعرضون لظهور الإسلام، وقيام الدولة، يتعرضون للتصورات الأساسية للعقيدة في القرآن والإسلام، ثم يحاولون قراءة الحوارية التي قامت بين تلك المبادئ والمسلمين عندما صاروا ثقافةً وجماعةً سياسيةً وخلافةً وإمبراطورية. ومن الدارسين المسلمين الساعين للتغيير مَنْ يتحدث في دراساته عن مناهج التغيير في القرآن، ويرجعُ في ذلك إمّا إلى مصائر الأُمَم كما عَرَضها القرآن في ضوء تجاربها مع أنبيائها، أو إلى القيم التي يراها القرآن الكريم ضروريةً لنهوض الأُمم، كما تؤدّي مخالفتُها إلى انحطاطها أو هلاكها. وهناك نهجٌ اجترحه دارسون مُحْدثون لقراءة نبوة النبي-صلى الله عليه وسلم- وسيرته من خلال القرآن. وهم لا يلجأون في هذا الأمر بالطبع إلى التصورات أو المفاهيم القرآنية؛ بل يستظهرون الوقائع المذكورة في القرآن عن علاقة النبي ببني قومه من قُريش، وإلى ما ورد في القرآن في المرحلة المدنية من إشاراتٍ إلى الأحداث والغزوات، كما إلى " أسباب النزول" التي تأتي تفسيراً للآيات القرآنية المكية والمدنية. وهم يرون أنّ العودة إلى المفاهيم القرآنية توضّح رؤية العالَم في القرآن، كما أنّ العودة إلى الوقائع والأحداث توضّح رؤية القرآن للتاريخين الإنساني والإسلامي.

2. القرآنُ والتاريخ: يملك القرآنُ الكريم تصوراً للتاريخ يعتمد على ثلاثة عناصر: الزمان، والمكان، والفكرة. أمّا الزمان فينقسم إلى ثلاثة أقسام: الزمان ما قبل التاريخ أو ما فوق التاريخ، والزمان الطبيعي، والزمان التاريخي. وأَقصِدُ بالزمان ما فوق التاريخ ما يذكُرُهُ القرآنُ الكريم من خطاباتٍ وإشاراتٍ وقَصص عن عوالم الملائكة والجنّ، وعن آدم في الجنّة، وعن الجنة والنار، وعن القيامة والمصائر الكونية والإنسانية في ظلِّها. وهو "ما فوق التاريخ"؛ لأنه لا يرتبط بحقبةٍ معيَّنةٍ، كما أنه لا يرتبطُ بالمكان, فالزمانُ الإنساني حالةٌ أو عددٌ أو خطابٌ يتحدد بالمكان، وليس الأمرُ كذلك في الخطابات القرآنية بشأن العوالم أو الذوات أو الأشياء الأُخرى؛ بيد أنّ هذه "الزمانيات" التي تحدث ما قبل الزمان الإنساني أو ما بعده لا يُحكَمُ عليها بالصحة أو عدمِها من طريق مدى ارتباطها بالمكان؛ لأنها في الأصل غير مكانية، وإنّما تتجلَّى أهميتُها في التصورات الكلية التي تُريدُ تثبيتَها فيما يتعلَّقُ بالكون وقدرة الله -عزَّ وجلَّ-، كما تتجلَّى تلك الأهميةُ في الفكرة التي تريد تثبيتها عن خَلْق الإنسان ومصائره ووظيفته في هذا العالم. وهكذا فالزمان ما فوق تاريخي -أو ما قبل تاريخي- يقوم على الغائية، ويملك وظائف تصوُّرية وأُخرى تفسيرية، ولكلا الأمرين أبعادٌ رمزيةٌ كبرى. وأما النوعُ الثاني من الزمان في القرآن فهو الزمانُ الطبيعي، وهو يظهرُ في النصوص التي تتحدث عن خَلْق العالَم والإنسان، وهي متصلةٌ بفيزياء العالَم وبيولوجيا الكائنات, وهي طبيعيةٌ وليست تاريخية رغم حدوثها في هذا العالم؛ لاستنادها إلى قوانين ثابتة تضمنُها قدرة الله -عزَّ وجلَّ- وإرادتُه، ولا مدخل للإنسان في كينونتها الأُولى، وإن أثَّر المكانُ وأثَّر الإنسانُ في مراحلها التطورية. هذا النوعُ من الزمان تاريخيٌّ بالمعنى العامّ؛ لأنّ لمحتوياته بدايةً، كما أنه قابلٌ للدراسة والتفحُّص بالمعنى العلميّ لذلك. ورغم ظهوره وإدراكه بالحواس وخضوعه للاختبار؛ فإنّ القصْد القرآنيَّ ليس تتبُّع فسيولوجياته أو كيميائياته (كما يعتقد باحثو الإعجاز العلمي)؛ بل (وكما فهم المسلمون) الاستدلال على وجود الله وقدرته وإحكام صناعة الخَلْق. أمّا النوع الثالثُ من الزمان -وهو الذي سميتُهُ الزمان التاريخي- فهو يحدث في المكان، وهو يتضمن وقائع محدَّدة(دعوات الأنبياء، ومسالك الأُمَم إزاءها). والقرآن في هذا الصدد واضحٌ لجهتين: القَصَص المتعلّق بالنبوات والأُمم، وضرورة إفادة النبي والمسلمين منها بالإقبال على اعتناق دعوة النبي لكي لا يصيب المسلمين ما أصاب الذين خالفوا دعوات أنبيائهم. والقرآنُ -بوصفه كتاباً دينياً- يرى العالَمَ في هذا الإطار؛ أي أنه صراعٌ بين الخير والشرّ، وبين الحق والباطل، ولسوف ينتصر الخير بالتأكيد إذا أفاد مُعاصرو دعوة النبي من الماضي وتاريخ الدعوات، وإذا ما التزموا بالمبادئ الكبرى للدعوة. ولذا فإنّ القرآن يذكر على سبيل المثال وقْعة بدر، وكيف وفَّق الله المسلمين لكسْبها، كما يذكر وقعة حنين، وكيف كاد المسلمون يخسرون لولا رحمةُ الله بهم؛ في حين كانت هزيمةُ أُحُدٍ درساً لمّا لم يتبعوا إرشادات نبيهم ما كان منها عاماً وما كان منها خاصاًّ بترتيبات القتال. وهكذا فالزمان التاريخي في القرآن له ركيزتان: ارتباط الزمان بالمكان، وارتباطه بالفكرة أو الدعوة؛ بمعنى أنّ النصّ القرآنيَّ لهذه الجهة إنما يؤرّخ لمصائر الدعوة الدينية في التاريخ. والدعوةُ هذه هي دعوةٌ مهدويةٌ؛ أي أنها تتقصَّدُ دَفْعَ الناس والزمان والمكان باتجاه الهداية التي يترتب عليها عُمرانُ العالَم وازدهارُه، كما تترتّب عليها مصائرُ أديانٍ وأُمَم؛ إذ ينتصر المستضعَفون وينهزمُ المستكبرون، وتقوم علاقاتٌ مع "أهل الكتاب" تبعاً للكلمة السواء التي دعاهم النبي والمسلمون إليها. فالتاريخُ بهذا المعنى -وإن بدا في صورة تكرار: دعوة، رفض، هلاك. أو دعوة، قبول، فانحراف أو تحريف- يبقى شديد الحيوية؛ ذلك أنّ مجيئ النبيِّ محمدٍ برسالته للتصحيح والإكمال يبلغ ذروته بظهور الأُمة في الزمان, وظهور الأمة في الزمان هو الذي يحظى بضمان الله -عزَّ وجلَّ-: ﴿إنّا نحن نزلْنا الذكر وإنّا له لحافظون﴾، والحفَظَةُ هم الذين يتحدث عنهم القرآن بقوله: ﴿وإنه لذكْرٌ لك ولقومك وسوف تُسألون﴾. فالذكر محفوظٌ بضمان الله، إنما قومُ النبي والمؤمنون به هم المسؤولون عن هذا الشرف المُلْقى على عواتقهم, ومن هنا تأتي قُدسية هذا التاريخ: أنه مهدويٌّ وغائيٌّ، وأنه معنيٌّ بظهور الأمة وانتصارها أو سوادها في الزمان والمكان والفكرة: ﴿ليُظهره على الدين كلّه﴾.

3. الأفراد والأُمم في الرؤية القرآنية: يذكر القرآن أحياناً أشخاصاً أفراداً على سبيل العظة والعبرة أو الأمثال، مثل صاحب الجنة أو البستان، أو الرجل الذي فيه شركاء؛ لكنه في الأعمّ الأغلب عندما يذكر أفراداً فهم الأنبياء المبعوثون إلى أمةٍ أو مدينةٍ أو قرية. ويدعو النبيُّ -الذي يأتي في العادة من تلك الأمة أو القرية، ويصطفيه الله- يدعو بني قومه إلى الإيمان بالله، وقد يأتيهم بالمعجزة إذا طلبوها شأن هودٍ وصالح ويونس. وقد يترددون ويُظهرون بدءَ قَبول فيزداد حرصُ النبيّ على هدايتهم؛ لكنهم ينتهون غالباً إلى الإنكار والكفر, فيدعو الله -عزَّ وجلَّ- إلى الانتقام منهم ليس من أجل النبي؛ بل لما يجنونه في العالم وعليه من شرّ. وهناك واقعتان يوردُهُما القرآن ويكررهما، وتكون فيهما المواجهةُ ليس بين النبي وبني قومه، وإنما بين النبي والمسيطر على بني قومه، وهما الملكُ البابليُّ في حالة إبراهيم، والملك المصري (=الفرعون) في حالة موسى. وينزل الهلاك بالفعل بالملكَينْ اللذَين يعاديان الدعوة لسببين: أن كلا منهما اعتقد الأُلوهية في نفسه، وما قبِلا الدعوة من رجلين من العامة، وأنهما كانا قد استمرآ مسألة الطغيان والجبروت، فما استطاعا التغيير باتجاه الإيمان والطاعة والعمل الصالح، أو الاستجابة لدعوة النبي.

أمّا مصير الأمة أو القرية أو المدينة أو المسيطر عليها إلى الهلاك فيعود إلى أمرين أو مسلكين: الكفر والفساد. فالقريةُ التي يأتيها رزقُها آمنةً مطمئنةً، بمعنى أنها كانت على الإيمان والعمل الصالح، تدفعها النعمةُ إلى الكفر، وإلى التمادي فيه رغم دعوة النبيّ وإلحاحه. وفي هذه الحالة فإنّ إنكارها للأسباب -أي إنكار النعمة والإساءة إلى الذين يدعونها للرجوع إلى الحقّ- يكون هو السبب المباشر لوقوع النقمة عليها. وقد لا يحدث ذلك كلُّه مرةً واحدةً أو فجأةً كما حدث مع قوم لوطٍ أو قوم صالح؛ بل قد يمرُّون بمحنةٍ وابتلاءٍ ﴿فأذاقهم الله لباس الجوع والخوف﴾ لكي يتوبوا ويُنيبوا إلى الحقّ. وبذلك فإنّ الكفر لا يعني عدم الإقبال على دعوة النبيّ وحسْب؛ بل يعني أيضا خيانة النظام الأخلاقي الذي على أساسه كان الرزق آتياً بهناءٍ واستقامةٍ وازدهار. أمّا الفساد فيكون باقتران الكفر بالإساءة إلى الصالحين والقوى الخيّرة بداخل القرية أو الأمة، كما يكون بإثارة الحروب والنزاعات مع أقوامٍ وأُمَمٍ أُخرى بغياً وعدواناً. فالفسادُ في الأرض يعني -بحسب المعاجم- ما تعنيه الفتنةُ، بإنزال الضرر المتعمّد بالإنسان أو العمران، والبغي والعُدْوان على القريب والبعيد طغياناً واستكباراً. ولذا فإنّ الهلاك الحاصل نتيجة الفساد يوشكُ أن يكونَ سُنّةً تحدث لكلِّ مَنْ لا يكتفون بالإخلال بالأسباب؛ بل يتجاوزون ذلك إلى نشر الفساد في الأرض بيئةً أو إنساناً، وبغياً وعدواناً. وقد ذكر الراحل عباس محمود العقاد أنّ مواصفات القرى التي يذكرها القرآن الكريم هي مواصفاتُ تلك المُدُن التي نشأت وازدهرت على طُرُق القوافل، وفي قلب الصحراء أو على حواشيها في الغالب، وإنما يمكن أن تكون (حاضرةَ البحر) أيضاً. وقد ارتبط بها أو بمسارها التاريخي أمران: شيوع الفساد الكبير فيها نتيجة الثروات الهائلة التي تنصبُّ عليها، وظهور المصلحين الذين يحاولون إعادة تلك المستقرات الحضارية إلى الانضباط الأخلاقي والإنساني. وقد نجح المصلحون في بعض الأحيان؛ لكنّ الحالات التي يذكرها القرآن الكريم -عظةً وعبرةً وتحذيراً- ما كان فيها نجاحٌ كبيرٌ للأنبياء، وغلبتْ على أهلها الشقوة، بسبب سيطرة الاضطراب الأخلاقي المعبَّر عنه بالفساد. ويذكر المفسِّرون للقرآن أمرين: أنّ الإهلاك نتيجة الاضطراب في الطبيعة إنما كان ظاهرةً انقضت بلطف الله ورحمته بعبادة، وأنّ الباقي نتيجة البغي والعدوان والفساد، أن تأتي العواقبُ من خلال إهمال الأسباب أو تجاوُزها وعلى مدياتٍ متطاولة، وتُشبه انتقال السيادة الحضارية من أمةٍ إلى أُخرى وليس الهلاك الفيزيقي، فيكون الأمر أدنى إلى ما يُذكَرُ من انحطاطٍ للأُمم بعد ازدهارها، وغلبة الآخرين عليها بداعي الانتقال الحضاري أو الغروب الحضاري أو ما صار يُعرفُ بالانحطاط. والأمر الآخَرُ الذي يذكره المفسِّرون أنّ الله سبحانه وعد في القرآن الكريم بحفظ الذكْر؛ أي بإظهار الدين، وهذا يعني أنه سبحانه لن يستبدل بأمة الإسلام غيرها. أمّا الابتلاءُ فإنه حاصلٌ للجميع وعليهم كما هو الشأن مع الأفراد والجماعات، في العالم الدنيوي، أو دار الدنيا.

4. القيم والمفاهيم في الرؤية القرآنية: تحكم الرؤية القرآنية للتاريخ والأُمم والحضارات فيه اعتباراتٌ قيميةٌ وأخلاقية. وقد ذكر المستشرق الياباني أكيهيتو إيزوتسو أنّ تصوُّرَ الله سبحانه في ديانات التوحيد الإبراهيمية -وفي الإسلام على الخصوص- هو تصوُّرٌ أخلاقي. ومن المعروف أنّ هناك فرقاً بين القيم والأخلاق، فالقيم هي الجانبُ النظري والعقدي، والأخلاق هي الأمورُ التي تبدو في السلوك الإنساني. ولأنّ الإلزامات الأخلاقية إلزاماتٌ دينيةٌ في الأصل؛ فهي أدنى إلى أن تكونَ قيماً. وكما سبق القول؛ فقد حاولْنا الجمْعَ بين الأمرين في منهج "رؤية العالم" حيث تحضُرُ على المستوى النظري التصوراتُ الأَساسيةُ التي تتَّسمُ بالإطلاق بمعنًى ما، أمّا على المستوى الواقعي للأفراد والجماعات الصغيرة؛ فإنّ التلاؤم أو محاولته يظلُّ هو التفكير والسلوك الوارد. 

واستناداً إلى منهج رؤية العالم، واستقراء القرآن فيما يتعلَّقُ بالقيم والمبادئ التي تحكُمُ العلائق بالأُمم والحضارات استظهرتُ أنّ المصطلحات/ المفاتيح أو الثوابت القيمية/ الأخلاقية، تتركّزُ في ستّ: المساواة والكرامة والرحمة والعدالة والتعارُف والخير العام. أمّا المُساواةُ فتستند إلى حقيقة "النفس الواحدة" التي خلقَها الله، والتي تعني المُساواة بين الناس من سائر الوجوه، ترتُّباً على أنها تعني أنهم جميعاً مخلوقاتٌ لله. وهذا يقتضي من جانب المؤمن -نظراً وعملاً- الابتعاد عن التمييز، والابتعاد عن الكبرياء، واعتبار حصول الأمرين كبائر فظيعة، قد تُوصِلُ إلى الكفر والفساد والإفساد إن صارت قيماً أو مبادئ في النظر، وليس مجرَّد سلوكات مخطئة. وتتصل قيمة الكرامة بقيمة المساواة بشكلٍ وثيق؛ ذلك أنّ الكرامة كما يعرضُها القرآن هي قيمةٌ وجوديةٌ، تتعلق بفطرة الإنسان واختصاص الله له بالعقل والاستخلاف في العالم، وتسخير إمكانيات هذا العالَم له، وإقداره على الولاية فيه. ويريد بعض المفكرين المسلمين إلحاق ذلك بمفهوم أو واجب التكليف الإلهي للإنسان. والذي أراه أنّ الله سبحانه جعل ذلك في قسمٍ منه فطرةً، وفي القسم الآخَر خياراً, ولو فهمنا ذلك كما نفهم التكليف؛ لأخرجْنا الإنسان الذي لا يشارك بطريقةٍ إيجابيةٍ في إعمار الكَون من الإيمان، وهذا غير واردٍ في السياق الذي نقصِدُه. والذي أُريدُ إضافتُهُ هنا أنّ القرآن الكريم يتحدث في بعض آيات الكرامة عن الحُرمة والحدود؛ فللإنسان حُرْمةٌ تقتضيها إنسانيتُهُ التي ميّزتْهُ عن سائر مخلوقات الله. وهناك من العلماء مَنْ يفهم هذه الحُرْمة باعتبارها تعني ما نعنيه بالحرية اليوم. وقد قام الطاهر بن عاشور في كتابه " مقاصد الشريعة" بالفعل بإضافة الحرية إلى منظومة مصالح الإنسان الضرورية الخمس والموروثة من المنظومة الفقهية الإسلامية القديمة وهي: حق النفس وحقُّ الدين وحقُّ العقل وحقُّ النسْل وحقُّ المِلْك. وعلى أيِّ حالٍ؛ فإنّ قيمة الكرامة تتصل من جهة بالمساواة، وتتصل من جهةٍ أُخرى بموقع الإنسان في الكوَن. أمّا القيمةُ الثالثة فهي قيمةُ الرحمة, وفي القرآن الكريم أنّ الله سبحانه كتب على نفسه الرحمة، وجعلها القيمة العليا في تعامُل البشر بعضِهم مع بعض, وهذا يعني أنّ الرحمة والنعمة من جانب الله تُجاه الإنسان تنعكسان علاقات مودّة ورحمة وسكينة في التعامُل بين البشر، أو ينبغي أن يكونَ الأمر كذلك. بل إنّ القرآن يعدّ النبيَّ والإسلام رحمةً للناس ينبغي أن تتجلَّى في حياتهم جميعاً:﴿وما أرسلْناك إلاّ رحمةً للعالمين﴾. وتتصل بقيمة الرحمة قيمةُ التعارُف: ﴿يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكرٍ وأُنثى وجعلْناكم شعوباً وقبائل لتعارَفوا﴾. وإذا كان المفسّرون المسلمون قديماً، والمفكرون حديثاً ما ألحْقوا التعارُف بالقيم الأُخرى لاعتقادهم أنها نصيحةٌ أو ندْبٌ لظهورها مرةً واحدةً؛ فإنّ القراءة الأعمق للقرآن تَصِلُ التعارُفَ بالمعروف، وهو مفهومٌ يردُ في القرآن مئات المرات. والرحمةُ من جانب الإنسان تُجاه أخيه الإنسان قد تُفهم بطريقةٍ فردية؛ أمّا التعارُفُ والمعروف، فلا يمكن فهمُهما إلاّ بطريقةٍ شاملةٍ؛ أي في العلاقات بين البشر على اختلاف أديانهم وثقافاتهم وأخلاقهم. فالآيات القرآنيةُ تفترض قواسم مشتركةً أساسيةً تتمثّل في المساواة والكرامة والمعروف أو التعارُف، وهي القيم والمعاني التي ينبغي أن تسودَ في العلاقات بين الأُمم والحضارات. ولو حدث ذلك لما انتشر الكفر والفسادُ بين الأُمم وبداخل الأُمَم ذاتِها. أمّا قيمةُ العدالة فهي ظاهرة الحضور في الخطاب القرآني، وهي تعني الاستقامة في النظر والعمل، والاستقامة والتوازُن في العلاقات بين الناس. والقرآنُ يقرِّر أنّ الله سبحانه لا يُريدُ ظُلْماً للعباد؛ بيد أنّ قيمة العدل هي في الأعمّ الأغلب في العلاقات بين الأفراد، وفي العلاقات بين الأُمَم. وهي ضروريةٌ حينما يتعلَّقُ الأمر بالكرامة والحقوق، وتُفهمُ في سياق المساواة والرحمة، والتعارُف عندما يتعلَّق الأمر بالأفراد أو بالعلاقات بين الأُمَم. وخاتمةُ منظومة القيم القرآنية قيمةُ الخير العامّ, ومفرد الخير هو الأكثر وروداً في القرآن بعد الرحمة والرحمن والرحيم, وهو يعني الأحسن والأجمل في التفكير والفعل والتصرُّف. والملحوظ أنّ القرآن يجمعُ خير على خيرات عندما يتعلق الأمر بالعلاقات مع الأديان والأُمَم الأُخرى: ﴿فاستبقِوا الخيرات﴾. ومن الواضح أنّ هذه القيمة الكبرى تتعالقُ وتتشابكُ مع بقية أجزاء المنظومة مثل الرحمة والتعارُف والعدالة. إنّ الخطابَ القرآني يعدّ المنظومةَ القيمية هذه مسدِّدةً إنّ سادت للنظرة إلى العلاقات بين الأُمم والحضارات، وأنها تحتوي على الضمانات التي تحولُ دون الفساد والإفساد لطبيعة الإنسان وفطرته، ولعلاقات الناس بعضهم ببعض.

5. الجيوسياسي في الرؤية القرآنية: جاء في القرآن الكريم في مطلع سورة الروم: ﴿غُلبت الرومُ. في أدنى الأرض وهم من بعد غَلَبهم سيَغلِبون. في بضع سنين﴾. وأدنى الأرض هي الشام. وكان الفرس الساسانيون قد عبروا الفُرات في مطلع القرن السابع الميلادي، وسيطروا على عدة مواطن في الشام بما في ذلك بيت المقدس، حيث استلبوا من كنيسة القيامة "صليب الصلْبوت" الذي يعتقد المسيحيون أنّ السيد المسيح صُلب عليه. وبالفعل فإنّ البيزنطيين ما لبثوا وبقيادة هِرقْل -الذي وصل للسلطة عام 610م- أن قاموا بهجومٍ مضادٍّ، ووصلوا إلى المدائن؛ أي العاصمة الساسانية التي كانت قائمةً بالعراق على مقربةٍ من مدينة بابل القديمة, فاستنقذوا الصليب، وظلُّوا على شيء من السيطرة بمناطق شرق الفرات عندما بدأت الفتوحات الإسلامية حوالي العام 635م. لقد أطلْتُ بعض الشيء في شرح معنى الآيتين أو خلفيتهما التاريخية؛ لأُشير إلى أهمية الجيوسياسي في الرؤية القرآنية؛ فالقرآن بهذه الإشارة يحسمُ الأمر لصالح الروم أو المسيحيين البيزنطيين -وبسبب مسيحيتهم- في مُواجهة الفرس المجوس. وهكذا فإنه حتى الجيوسياسي في القرآن الكريم هو دينيٌّ بالدرجة الأُولى، وكما كان عليه الأمر بالنسبة للأُمم الغابرة. فتلك الأُمَمُ هلكت لاستعصائها على دعوات الأنبياء، ووقوعها في الفساد الديني والاجتماعي والسياسي. ثم إنّ هذا الجيوسياسي القرآني الخاصّ والذي يذكر الشام (=بيت المقدس) باعتبارها موطناً للقاء الديانات الثلاث، أو أتباع الدين(الإبراهيمي) الواحد، يذكر (مصر) أيضاً، وإنْ في معرضٍ آخر تاريخي. وقد اهتمّ علماء القرآن قديماً بجغرافية القرآن وأعلامه، وألّفوا الكتب في ذلك؛ لكنهم ما اهتموا لمعنى هذه الجغرافية، باستثناء عَدِّهم الإسلامَ شريكاً في الجغرافية الدينية للموروث اليهودي/ المسيحي.

6. الرؤية القرآنية والتجربة التاريخية الإسلامية: لأنّ الأمر هنا هو أَمْرُ القرآن والتاريخ ورؤية الأُمم والحضارات؛ فسنظلُّ في المجال التاريخي، ونختمُ به؛ أي نختم بنظرةٍ في التجربة التاريخية الإسلامية مع الرؤية القرآنية للتاريخ والأُمم والدعوات. ولنتذكَّرْ أنّ المؤرّخ محمد بن جرير الطبري(-310هـ) سمَّى كتابه الشهير في تاريخ الإسلام والعالَم: تاريخ الرسل والملوك، أو تاريخ الأُمَم والملوك. والذي أُرجِّحُهُ أنّ الاسم الأول (الرسل والملوك) هو الأَرجح لما قصده الطبري. فالرسل بُعثوا إلى الأُمم والملوك، وتاريخ الطبري ليس تاريخاً عادياً؛ بل هو تاريخٌ مهدويٌّ، بمعنى أنه يقيم خطَّين: خطاً للدين والدعوات، وخطَّاً للسلطة والسلطات. وقد كانت النبوةُ والسلطةُ تتلاقيان أحياناً، كما حصل لدى بني إسرائيل حيث كان بعضُ ملوكهم أنبياء أو العكس. إنما ما يقصدُهُ الطبريُّ أنه مع نبوة النبي محمد-صلى الله عليه وسلم-، وصل التاريخ إلى ذروته، أي عادت النبوة لتتلاقى مع السلطة في أُمة النبوة ودولة الخلافة. على أنّ هذه الرؤية من خلال التجربة ما انفرد بها الفقيه والمؤرّخ الطبري؛ بل تصدّى لها المتكلمون المسلمون، فكان هناك مَنْ قَدّم قيمة العدل في العلاقة بين الله والإنسان(وهم المعتزلة والمحكِّمة والشيعة الزيديةُ والإمامية)، وكان هناك مَنْ قدَّم قيمة العناية والرحمة في العلاقة بين الله والإنسان (وهم أهل السنة والجماعة).

إنها تجربةٌ دينيةٌ وتاريخيةٌ زاخرة، وما يزالُ القرآن الكريم يؤثِّر ويفعلُ في الأمة الحاضرة، كما في خطابيه التاريخيين(عن الأمم الغابرة، وعن الأمة الإسلامية)، وستظلُّ الأمةُ تُعيدُ ومن خلال تجاربها قراءة النصّ القرآني والعيش في جنباته الرحبة والوارفة الظلال.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/2/33

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك