إنسانية الثقافة الإسلامية

 

 

محمد فتحي النادي

 

 

قبل الولوج في الحديث عن «إنسانية الثقافة الإسلامية» نريد أن نضع أيدينا على ما تعنيه كلمة: «الثقافة» في اللغة والاصطلاح؛ حتى تكون المصطلحات واضحة في أذهاننا عند الحديث في هذا الموضوع.

 

الثقافة لغة

 

فقد جاء في «لسان العرب»: ثَقِفَ الشيء: حذِقَه، ورجل ثَقْفٌ وثَقِفٌ وثَقُفٌ: حاذق فَهِمٌ.

 

وقال ابن السكيت: رجل ثَقْفٌ لَقْفٌ: إذا كان ضابطا لما يحويه قائما به.

 

ويقال: ثَقِفَ الشيء، وهو سرعة التعلم.

 

وقال ابن دريد: ثَقِفْتُ الشيء: حَذَقْتُهُ، وثقفته: إذا ظفرت به.

 

وثَقُفَ الرجل ثقافة، أي: صار حاذقا خفيفا (1).

 

وعرفها المعجم الوسيط بقوله: «الثقافة: العلوم والمعارف والفنون التي يطلب الحذق فيها» (2).

 

الثقافة اصطلاحا

 

أما في الاصطلاح فإننا نجد أن «كلاكهوهن» و«كروبر» قد أحصيا في كتاب لهما صدر عام 1952م ثلاثمائة تعريف للمصطلح.

 

وتضخم عدد التعريفات يشي بعدم حسم ذوي الاختصاص لطبيعة «ظاهرة الثقافة» ومكوناتها وللعلاقات بين هذه المكونات (3).

 

ولكننا نقف على بعض التعريفات لعلها تبين لنا جانبا من بعض الرؤى لهذه الكلمة.

 

فقد رأى العالم الألماني فيبر أن الثقافة هي مظاهر الحياة الروحية والأخلاقية التي تسود المجتمع (4).

 

بينما يرى السير إدوارد بيرنت تايلور في كتاب صدر عام 1871م بعنوان: «الثقافة البدائية» أن الثقافة هي ذلك الكل الديناميكي المعقد الذي يشتمل على المعارف والفنون والمعتقدات والقوانين والأخلاق والتقاليد والفلسفة والأديان والعادات التي اكتسبها الإنسان من مجتمعه بوصفه عضوا فيه (5).

 

أما المعجم الفلسفي فقد رأى أنها «كل ما فيه استثارة للذهن، وتهذيب للذوق، وتنمية لملكة النقد والحكم لدى الفرد أو في المجتمع.

 

وتشتمل على المعارف والمعتقدات، والفن والأخلاق، وجميع القدرات التي يسهم بها الفرد في مجتمعه. ولها طرق ونماذج عملية وفكرية وروحية.

 

ولكل جيل ثقافته التي استمدها من الماضي، وأضاف إليها ما أضاف في الحاضر، وهي عنوان المجتمعات البشرية» (6).

 

ثقافة العرب قبل الإسلام

 

العرب قبل الإسلام لم تكن عندهم من العقائد السماوية مثلما كان عند غيرهم؛ بل هي بقايا من الحنيفية في نفر قليل تمسكوا بها، أما باقي القبائل فعلى الشرك والوثنية، عدا بعض القبائل التي كانت على النصرانية.

 

وكان العرب أمة أمية؛ فالقراءة والكتابة فيها نادران، وعدم وجود دين سماوي بينهم منزل في كتاب زاد في بعدهم عن القراءة والتأليف والكتابة.

 

فالكتب السماوية تحتاج لمن يقرأها ويقوم على شرحها وتفسير نصوصها، وهذا كان موجودا في العراق والشام ومصر.

 

ولم يكن في العرب فلاسفة مثلما كان في الهند والصين واليونان، بل هم حكماء قليلون يعبرون عن رؤيتهم للحياة في قالب حكمي أدبي.

 

وطبيعة جزيرة العرب منعت غيرهم من الاختلاط بهم.

 

وكان العرب هم الذين يخرجون من بلادهم لبلاد غيرهم، فكان اختلاط العرب بغيرهم عن طريق التجارة في رحلتي الشتاء والصيف، ولكن الغرض الأكبر والرئيس كان للتجارة والاستثمار، فقل نقل العلم والثقافة التي كانت عليها بقية المناطق والدول المجاورة والمحيطة.

 

وكانت عنصرية العرب واضحة، فسموا أنفسهم عربا من الإعراب وهو الإفصاح والإبانة، أما غيرهم فهم عجم، وهم الذين لا يفصحون ولا يبينون كلامهم (7).

 

جاء الإسلام فأحدث انقلابا هائلا في أفكار العرب ومعتقداتهم وعاداتهم وتقاليدهم وجميع مناحي حياتهم.

 

فالرسالة الأولى في القرآن: {اقْرَأْ} (العلق:1).

 

والهدف الأخلاقي من رسالة الإسلام واضح لا التباس فيه، قال: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق» (8).

 

بل كان الأمر بالكتابة يدخل في أدق المعاملات، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ  وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ  وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ  فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ } (البقرة:282).

 

وكان الانفتاح على الآخر، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} (الحجرات:13).

 

فأدلى الجميع بدلوهم، وانصهرت الثقافات في بوتقة الإسلام، فكان العربي والفارسي والبربري وغيرهم، الكل يساهم، والكل يبذل، والكل يبني مجد الإسلام وصرحه العظيم.

 

«لقد قام العالم الكبير على أساس العقيدة الواحدة، والإيمان العميق والصلة الروحية القوية، وكان أوسع عالم عرفه التاريخ، وكانت الشعوب التي تكون هذا العالم أقوى أسرة عرفها التاريخ، تنصهر فيها الثقافات المختلفة، والعبقريات المختلفة، فتكون منها ثقافة واحدة هي الثقافة الإسلامية، التي لم تزل تظهر في نوابغ الإسلام الذين لا يحصيهم عدد» (9).

 

هذه الثقافات الممتدة من الصين وإندونيسيا شرقا حتى المحيط الأطلسي غربا، بكل الأعراق والأجناس أظهرت ثقافة إسلامية قد تختلف في بعض تفصيلاتها وتفريعاتها، لكن الإطار الجامع لها واحد، والمشرقي يقرأ للمغربي، ولا يشعر بهذا التباعد الجغرافي والاختلاف العرقي.

 

فقد «تنوعت الثقافة الإسلامية تنوعا عظيما؛ إذ هي في الأندلس تختلف -مثلا- عنها في الهند. وهي في الغابات أو المراعي أو السواحل الإفريقية تختلف عنها في الشام أو في العراق.

 

ولكننا نجد من وراء ذلك التنوع الطابع الإسلامي المشترك الذي أشرنا إليه، وكان بناء الثقافة الإسلامية على هذا النحو من أعجب فصول التاريخ الإنساني وأعظمها؛ فهي ثقافة واسعة سمحة، مكنت الشعوب التي عملت بها من أن تجاري مزاجها الخاص أو عبقريتها القومية مع اعتناقها الإسلامي.

 

وقبلتها شعوب على درجات متفاوتة من الحضارة، أو كانت تنتسب لسلالات بشرية مختلفة، أو لأصول تاريخية متباعدة، فقبلها الحضري والبدوي، وقبلها السامي والحامي والآري، ونعم بها ذو العقل البدائي، كما نعم بها ذو العقل الراقي، وهكذا» (10).

 

ونتيجة لهذا التنوع الثري المتميز ظهرت الثقافة الإسلامية كأنها «بحر متلاطم الأمواج، واسع الأبعاد، يقف الإنسان بشاطئه فيجد أمامه من جهود الفكر البشري في فهم الوحى الإلهي وخدمته، وفي فهم اللغة العربية وتوسيع دائرتها، يجد من ذلك العجب العجاب، وكما أن بحار العالم ومحيطاته كثيرة فإن الثقافة الإسلامية بحار شتى ومحيطات شتى» (11).

 

الثقافة الإسلامية حلقة

 

لم تكن الثقافة الإسلامية عنصرية أو منغلقة على نفسها، بل كانت ثقافة عالمية، استفادت مما سبقها من ثقافات وهضمتها وصاغتها بما يتوافق مع رؤيتها وعقيدتها، وكانت النهضة الإسلامية العظيمة.

 

هذه النهضة التي أشعت بأنوارها على العالم كله، و»لقد رأينا كيف أن الإسلام أمد أوروبا الجنوبية الغربية بالعلم والثقافة، وكيف أن ترجمة القرآن إلى اللاتينية، ودراسة اللغة العربية مكنتا دول أوروبا الغربية من الوصول إلى المعرفة الدقيقة بالدين الإسلامي، ولكن المسيحيين قد أخذوا عن المسلمين أمورا كثيرة أخرى..

 

فقد كانت الثقافة الإسلامية والعربية الغذاء الأول للعلماء المسيحيين في القرون الوسطى..

 

ولم يمض حين قليل على حركة الترجمة حتى ظهر علماء وأساتذة مسلمون تمثلوا الثقافة الإغريقية وجعلوها جزءا لا ينفصل من ثقافة المسلمين وحضارتهم، وقد نقل كل ذلك فيما بعد إلى الغرب.

 

ومما يعنينا في هذا الصدد عناية خاصة أن نذكر أن المسلمين قد هضموا العلم والفلسفة الهيلينية، ثم حوروا فيهما ليلائموا بين معرفتهم الجديدة وبين روح العقيدة القرآنية» (12).

 

هذا الإشعاع الحضاري والثقافي الإسلامي جعلهم المركز العالمي الثقافي، والقبلة التي يسعى إليها من يريد النهضة، فتقول «الروايات التاريخية: إن رجال الدين المسيحي أنفسهم كانوا يتعاطون الثقافة الإسلامية في المدارس، أو فيما ينقل منها إلى اللغات الأوروبية، وأنهم كانوا يترقون في مناصب الأكليروس بقدر ما يحصلون عليه من تلك الثقافة» (13).

 

هذه الثقافة التي ساهم فيها ابن سينا والرازي وابن خلدون وابن رشد وجارودي ومحمد أسد ومريم جميلة وعلي عزت بيجوفيتش، وغيرهم على اختلاف الأزمان والأماكن.

 

ثقافة متسعة باتساع الزمان والمكان، تضرب بجذورها في أعماق التاريخ، وتقبل الإضافة وتهضمها، فهي ثقافة إنسانية بامتياز، وليست عرقية ولا إقليمية، وليست ثقافة عفا عليها الزمن.

 

 

الهوامش

 

1- ابن منظور: لسان العرب، مادة «ثقف» باختصار وتصرف.

 

2- مجمع اللغة العربية: المعجم الوسيط، (1/203).

 

3- موقع جامعة أم القرى.

 

4- موقع موسوعة مقاتل الصحراء.

 

5- السابق.

 

6- مجمع اللغة العربية: المعجم الفلسفي، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979م، ص(58).

 

7- انظر: الصحاح في اللغة، مادة «عجم وعرب».

 

8- أخرجه أحمد في «مسند أبي هريرة  "رضي الله عنه" »، ح (8939)، وقد صحح إسناده شعيب الأرناؤوط.

 

9- أبوالحسن الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، مكتبة الإيمان، المنصورة، ص (255).

 

10- محمد الغزالي: الخديعة حقيقة القومية العربية وأسطورة البعث العربي، دار نهضة مصر، الطبعة الأولى، ص (126).

 

11- خطب الشيخ محمد الغزالي، (2/ 118).

 

12- د. عماد الدين خليل: قالوا عن الإسلام، ص (387).

 

13- محمد قطب: مذاهب فكرية معاصرة، (2/30).

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك