في العلاقة بين الإيمان والفلسفة عند اسبينوزا

بقلم عبد النبي الحري

إذا كان غرض اسبينوزا من كتابه "رسالة في اللاهوت والسياسة"[1] هو ترتيب العلاقة بين الإيمان والفلسفة، على نحو يفصل فيه بينهما فصلاً تامًّا، فإنّه، وبعد أن حاول توضيح ذلك في مواضع مختلفة من مؤلفه هذا، فإنّه خصص الفصل الرابع عشر[2]، الموسوم بـ"ما هو الإيمان؟ وأي الناس هم المؤمنون؟ تحديد أركان الإيمان، وأخيرًا الفصل بين الإيمان والفلسفة" للتركيز حول هذه النقطة المركزية في رسالته حول العلاقة بين المجالين اللاهوتي والسياسي.

ومن دون حاجة إلى الوقوف طويلاً عند المنهج الذي سلكه اسبينوزا، تكفي الإشارة إلى أنّه هو ذاته المنهج العقلاني الذي رفض ديكارت تطبيقه على اللاهوت والسياسة واكتفى بتطبيقه على الفلسفة والعلم، وذلك اتقاء ما من شأنه أن يعود عليه بغضب رجالات الدين والسياسة في زمنه، بينما رفض اسبينوزا عدم الإقدام على هذه المغامرة على الرغم ممّا يمكن أن تجره عليه من عواقب ومشاكل.

هكذا انطلق اسبينوازا من مسلمة رئيسية وهي أنّ كل إنسان، يملك الحق، بما هو إنسان، في أن يفكر في أمور الإيمان، بكل حرية من دون أن يمس في ذلك سلامة عقيدته الدينية وصحتها، وفي هذا الإطار يجد فيلسوفنا نفسه مضطرًّا إلى أن يستعير منهج "التكفير العقدي" من خصومه من أهل الملل والأهواء والفرق المختلفة، ليواجههم بسلاحهم نفسه الذي طالما أشهروا سيفه في وجه كل مخالف لتأويلاتهم ومذاهبهم[3].

هكذا يتهم اسبينوزا هذه الفرق بالكفر والضلال، لا لأنّها أولت الكتاب المقدس تأويلاً خاصًّا بكل فرقة منها، فذلك حقها المشروع، ما دام من حق أي شخص، كما من حق كل فرقة، تأويل المقدس بالطريقة التي تلائم ما ترى أنّه سبيل للهداية إلى طاعة الله، ولكنّه، أي اسبينوزا، يتهمها بالكفر لأنّها لا تعترف للآخر بالحق في التأويل على نحو مخالف لمنطقها الخاص، بل إنّها لا تخفي احتقارها لتأويلاته ونعته بالمروق من الدين ومعاداة التعاليم الإلهية[4].

إنّ هذه الفرق الضالة، حسب اسبينوزا، تريد أن ينقاد الناس لتأويلاتها كالأنعام، ويعتبر سدنتها أنفسهم هم أصفياء الله، في حين أنّهم، حسب قوله، بعيدون "كل البعد عن الخلق القويم، وهذا هو أشد المواقف جرمًا وأكثرها ضررًا على الدولة[5]"، وبهذا نلاحظ الشبه بين ما كان يشكو منه فلاسفة الإسلام في العصر الوسيط وما كابده اسبينوزا في العصر الحديث، ذلك أنّ الخصم واحد في هذه الحالة وتلك، وهم أصحاب التأويل الواحد والقراءة التي تدعي لنفسها أنّها هي القراءة الوحيدة والممكنة للكتاب المنزل.

لقد كانت الغاية من الكتاب المقدس هي الطاعة أولاً وأخيرًا، وهي الغاية التي يتخذها باروخ اسبينوزا قاعدة أساسية لتعريف الإيمان، والتمييز بين الإيمان الصحيح والإيمان الفاسد. هذه القاعدة وقف عندها المؤلف طويلاً في الفصل السابع من مؤلفه مبينًا أنّ الكتاب المقدس لا يوصي إلا بالمعرفة الضرورية، التي يتعين على جميع الناس تلقيها بالتساوي، حتى يتعلم كل واحد منهم كيف يحب جاره، وهي المعرفة التي يصبحون من دونها عاصين ومفتقرين للقاعدة السليمة للطاعة، ما دامت هذه الأخيرة لا تعني شيئًا أكثر من محبة الجار لجاره بالطريقة نفسها التي يحب بها نفسه[6].

على خلاف ذلك فإنّ التأملات النظرية والفلسفية واللاهوتية، سواء كانت متعلقة بمعرفة الله أو بمعرفة الإنسان والعالم والطبيعة، فإنّها لا تحقق بالضرورة هذا الغرض المركزي من الكتاب المقدس، وهي بالتالي لا تنتمي إلى صميمه، و"يجب فصلها عن الدين الموحى به[7]". ذلك أنّ المعرفة العقلية التي تؤدي إلى المعرفة الصحيحة والسليمة بحقيقة الإله، ليست كالطاعة هبة لجميع المؤمنين، وبالتالي فهي هبة لبعض البشر من دون بعضهم الآخر.

أما المعرفة المشتركة التي يتعين على جميع الناس تحصيلها، ويجب عليهم طلبها، من دون إعفاء أي فرد منها، هي "معرفة العدالة الإلهية والإحسان الإلهي. ومن السهل استخلاص هاتين الحقيقتين [= يقصد العدل والإحسان] من الكتاب ذاته"[8]. وقد استشهد اسبينوزا بكم كبير من النصوص، من العهدين، القديم والجديد، المؤكدة لمذهبه هذا، لينتهي، في نهاية تحليله إلى القول "معرفة الله الحقيقية(...) ليست أمرًا بل هبة إلهية، والله لم يطلب من الناس إلا معرفة عدله وإحسانه، وهي معرفة لا تطلب من أجل العلم، بل من أجل الطاعة وحدها[9]".

إنّ الكتاب، سواء في صيغته المعروفة بالعهد القديم أو صيغته الموسومة بالعهد الجديد، لا يعطي أكثر من درس في الطاعة، فموسى حث الشعب اليهودي على طاعة القوانين، منذرًا العاصين بالعقاب ومبشرًا الطائعين بالثواب، كما دعا عيسى إلى الإيمان اليسير، الذي لا يعني شيئًا أكثر من طاعة الله التي تتلخص في وصية "أحب جارك[10]"، التي لا يلزمنا الكتاب بالإيمان إلا بما هو ضروري لتنفيذ هذه الوصية المقدسة.

يتخذ اسبينوزا هذه الوصية قاعدة لتحديد ماهية الإيمان وأركانه، فالإيمان هو "أن ننسب إلى الله بالفكر خصائص يؤدي الجهل بها إلى ضياع الطاعة، على حين أنّ وجود الطاعة يستتبع وجود هذه الخصائص بالضرورة". وبهذا تتحدد ماهية الإيمان في عنصرين اثنين هما:

1- الإيمان يجلب الخلاص لأنّه يتضمن الخشوع[11] (ربط الإيمان بالعمل).

2- المطيع الحق هو صاحب الإيمان الحق، وفي هذا الصدد يعتقد اسبينوزا جازمًا أنّه "لا يمكن الحكم على أحد بأنّه مؤمن أو غير مؤمن إلا بأعماله، فإذا كانت أفعاله سيئة واتفقت عقائديًّا لفظيًّا مع الآخرين، فهو غير مؤمن" أما من: "يضطهد الشرفاء محبي العدل لأنّهم يختلفون معه في الرأي ولا يعتنقون العقائد نفسها أو حقائق الإيمان نفسها، إنّما هو عدو المسيح الحقيقي"[12].

هكذا يكفي لكي يكون الإنسان مؤمنًا، حسب اسبينوزا، أن يحب العدل والإحسان، وهذا الإيمان يتطلب عقائد تحث على التقوى وقادرة على توجيه معتنقيها إلى الطاعة أكثر مما يتطلب عقائد صحيحة، ما دام الكتاب لا يدين الجهل بل يدين العصيان وحده. وبصدد هذه النقطة يقول اسبينوزا ملخصًا أطروحته المركزية بأنّ "الإيمان لا يتطلب عقائد صحيحة، بل عقائد تؤدي ضرورة إلى الطاعة، أي تثبت القلوب على حب الجار، إذ كل إنسان لا يكون في الله، ولا يكون الله في كل إنسان (كما يقول يوحنا)، إلا بمقدار هذا الحب"[13].

من هذا المبدأ الأساسي يحدد اسبينوزا باقي مبادئ الإيمان في العناصر التالية:

1- الإيمان بوجود إله خير رحيم[14].

2- الإيمان بوحدانية الإله وأنّه لا شريك له[15].

3- الإيمان بعلمه لكل شيء ووجوده في كل مكان[16].

4- الإيمان بقدرة الإله المطلقة على فعل كل شيء[17].

5- "عبادة الله وطاعته لا تكون إلا في العدل والإحسان، أي حب الجار"[18].

6- الخلاص لمن يطيعون الله، والهلاك لمن تسيطر عليهم اللذات[19].

7- الإيمان بأن الله يغفر للتائبين خطاياهم، وكل بني آدم خطاء[20].

يعتقد اسبينوزا أنّه لا يمكن لأي كان أن يجادل في أنّ "معرفة هذه الأمور ضرورية أولاً وقبل كل شيء حتى يتسنى للناس جميعًا، وبلا استثناء، أن يطيعوا الله طبقًا لوصية الشريعة(..) ففي رفض أحد هذه المعتقدات رفض لطاعة الله"[21].

أما ما عدا هذه المعرفة، التي تمثل، عند اسبينوزا، ما ينبغي معرفته من الدين أو من الكتاب بالضرورة، من معارف عقلية حول ماهية الله، هل هو نار أو روح أو نور أو فكر، وغيرها من المعارف التي تحدد المعنى الذي يمثل به الإله معنى للحياة المطلقة والحقة، وهل هو في كل مكان "بفضل ماهيته أو بفضل قدرته"، وهل "تدبيره لكل شيء طبقًا لحريته أو طبقًا لضرورة طبيعته[22]"، وهل يعلم "القوانين كما يضعها الحاكم أو أن يعلمها بوصفها حقائق أزلية[23]"...إلخ. فهي كلها معارف وآراء لا تمس جوهر الإيمان وتتساوى في حقيقتها.

إنّ الإيمان، عند اسبينوزا، لا يتطلب الحقيقة بقدر ما يتطلب التقوى، وبالتالي فكل فرد إنساني، معني بأنّ يهيئ عقائده الإيمانية، بطريقته الخاصة، وبما يناسب قدراته في الفهم والاستيعاب، حتى يسهل عليه[24]" اعتناقها دون أي تردد وبقلب صادق، كيما تأتي طاعة الله بدورها عن رغبة صادقة"، وعليه فإنّ أفضل المؤمنين ليس هو ذلك الذي يعرض أفضل الحجج والأدلة على صحة المعتقدات ولكنه ذلك الذي يقدم أفضل أعمال العدل والإحسان.

ينتهي باروخ اسبينوزا إلى تسطير كلام بليغ، جدير بنا أن نتأمله بتعمق وإمعان كبيرين: "وإنّي لأترك لكل منكم حرية الحكم في مدى نفع هذه العقيدة وضرورتها للدولة إذا أردنا أن يعيش الناس في سلام ووئام، وفي مقدار ما تتيح من تجنب أسباب القلائل والجرائم، وما أكثرها وما أخطرها"[25].

إذا كانت تلك هي حقيقة الإيمان فما هي طبيعة العلاقة التي ينبغي أن تربطه بالفلسفة؟

يتناول اسبينوزا هذه النقطة في الفقرات الأخيرة من الفصل الذي هو موضوع دراستنا منطلقًا من نفي وجود أي صلة بين الإيمان واللاهوت وبين الفلسفة[26]، فهما، في نظره، مبحثان متعارضان أشد التعارض، سواء من حيث الغاية أو من حيث الأسس التي يرتكز إليها كل واحد منهما.

فإذا كانت غاية الفلسفة هي المعرفة العقلية بالحق، والحق وحده، فإنّ غاية الإيمان هي الطاعة والتقوى وحدهما دون سواهما، وإذا كانت الأسس التي تنبني عليها الفلسفة هي الأفكار المشتركة التي نستخلصها من الطبيعة وحدها، فإنّ الإيمان يجد أسسه في كل من التاريخ واللغة، وهي أسس لا يمكن استخلاصها إلا من الوحي والكتاب فقط وليس من أي مصدر آخر غيرهما[27].

لكن هل معنى هذا أنّ اسبينوزا يرتب علاقة اللاهوت بالفلسفة على نحو تستحيل معه أيّ علاقة تواصلية بينهما؟

الجواب طبعًا بالسلب ما دام اسبينوزا يعتقد أنّ الإيمان الحقيقي هو ذلك الذي يضمن لكل فرد حقه وحريته في التفلسف، أي التفكير العقلي الحر، الذي لا يدين إلا الكراهية والصراعات والفتن، التي يتسبب فيها المارقون عن حقيقة هذا الإيمان. في حين يدعو المؤمنون الحقيقيون إلى العدل والإحسان بقدر ما تسمح به عقولهم وقدراتهم العقلية. وبهذا الترتيب يكون فيلسوفنا قد وضع فصلاً واضحًا بين اللاهوت والفلسفة، وتلك هي القضية الجوهرية التي من أجلها كتب رسالته في اللاهوت والسياسة.


[1] اسبينوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة حسن حنفي، مراجعة فؤاد زكريا، ط1، بيروت، جداول للنشر والتوزيع، 2011

[2] نفسه.

[3] نفسه.

[4] نفسه.

[5] نفسه.

[6] نفسه، ص 363

[7] نفسه، ص 363

[8] نفسه.

[9] نفسه، ص 368

[10] نفسه، ص 371

[11] نفسه، ص 372

[12] نفسه، ص 373

[13] نفسه.

[14] نفسه، ص 374

[15] نفسه.

[16] نفسه.

[17] نفسه، ص 375

[18] نفسه.

[19] نفسه.

[20] نفسه.

[21] نفسه.

[22] نفسه، ص 375

[23] نفسه، ص 376

[24] نفسه.

[25] نفسه.

[26] نفسه، ص 377

[27] نفسه، الفصل السابع.

المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D...

 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك