المناعة الفكرية تحمي من التطرف ولكنها مزعجة للاحتكار والهيمنة!

بقلم إبراهيم غرايبة

 

يبدو بديهيا القول إن المناعة الفكرية تحمي الأفراد والمجتمعات من التطرف والتعصب والكراهية، ولكن ذلك يقتضي بطبيعة الحال تشكلات فكرية شاملة لا تقتصر على الحماية من التطرف وإنما تعني افرادا فاعلين ومستقلين يصعب خداعهم وقيادتهم من غير مشاركة عامة، ويبدو أن السلطات السياسية في عالم العرب والإسلام تريد مواطنين معتدلين وفي الوقت نفسه تابعين لها حتى في استبدادها وفسادها!

تعني المناعة الفكرية "قدرة الفرد والمجتمع والسلطات على الإدراك والمعرفة والاتجاه نحو:

1-  الحق بما هو التمييز بين العدل والظلم والخطأ والصواب

2-  والخير بما هو التمييز بين الضار والنافع، وإدراك الخطر والتهديد ثم تجنبهما

3- والجمال بما هو التمييز بين القبيح والحسن"

وبطبيعة الحال فإن تعزيز المناعة الفكرية يعني تزويد الأفراد والمجتمعات بالمهارات والمعارف التي تمكنهم من التفكير الصحيح وتجنب الخطأ والانحراف والتطرف ونقص المعرفة والمهارات، وفي موجة التطرف والكراهية والعنف التي تصعد في عالم العرب والمسلمين اليوم، وتنشئ حالة مرعبة من الصراعات العنيفة والمدمرة لحياة فئة واسعة من الناس ومصالحهم، كما أدت إلى عدم الاستقرار والهجرة والفقر والهشاشة الاجتماعية والاقتصادية تتشكل ضرورات قصوى لبناء منظومات مواجهة من الاعتدال والتسامح وتنظيم العلاقات والمصالح على النحو الذي يمنح هذا الجزء من العالم والرضا والاستقرار والمشاركة في العالم، وأن يتقبل العالم ويتقبله.

ولكن تحقيق هذا الهدف لا يمكن أن يكون خطة واضحة أو برنامجا محددا، أو في عبارة أكثر دقة فإننا لا نملك دليلا واضحا ومجمعا عليه لأجل تعزيز الأمن الفكري أو لتعريف ثقافة السلام!، وتكتنف الفكرة مجموعة كبيرة من المعطيات المحيطة بالأفكار والعلاقات لا تعمل مستقلة، وفي تفاعلها مع بعضها تنشأ متوالية معقدة من النتائج والمسارات. فالصواب والحقيقة إن وجدا لا يعرفهما أحد، ولا يملك أحد الحق أو الوصاية في فرضهما على الناس، والحال أنها صوابات وحقائق، ولا نملك إزاء ذلك سوى أن نعلم أنفسنا التفكير النقدي الذي يؤدي إلى الصواب أو يقترب منه، أو يدير به الإنسان نقص معرفته، ويتعارض ذلك بطبيعة الحال مع المنظومة السائدة في التعليم والعلاقات والمصالح والتدافع الاجتماعي حولها.

والسلم الاجتماعي ليس وصفة جاهزة تملك تعريفا واضحا يمكن الاحتكام إليه أو الاستدلال عليه، ولا يملك أحد أيضا السلطة الفكرية أو الايديولوجية ليقدمه للناس، ليس سوى العقد الاجتماعي الذي تنتظم حوله أغلبية الناس ليس باعتباره سلاما في الحقيقة ولكن لأنه يعير عن اجتهاد الأغلبية في رؤيتها لمصالحها وعلاقاتها، ما يعني بالضرورة أننا لأجل السلام يجب أن نظل ملتزمين بالمراجعة والتصحيح وعلى نحو دائم ومؤسسي ومتقبل، وهو عقد وإن كان يتناقض مع التطرف والتعصب فإنه يتعارض أيضا مع الاستبداد والظلم والإقصاء والتهميش الاجتماعي والاقتصادي.

وفي التحولات المصاحبة لتقنيات الحوسبة والتشبيك يحل عصر جديد مختلف في موارده وعلاقاته عن العصور السابقة تتشكل حالات جديدة مهمة يجب أخذها بالاعتبار، مثل العولمة التي جعلت العالم موحدا في مصالحه وعلاقاته وقيمه، كما تشكلت مصادر جديدة بلا حدو للمعرفة والتواصل مستقلة عن المدارس والأسر والمؤسسات الرسمية والمجتمعية للتعليم والضبط والتوجيه، وتجعلها شريكا صغيرا في صياغة الفرد وتزويده بالمعلومات والمعرفة، وصعدت الفردية إلى درجة أن الفرد بما هو كذلك أصبح مركز التفكير في المناهج والبرامج بل وفي تصميم السلع والمنتجات والخدمات أيضا، وفي هذا الانتقال والتحول والتعددية الهائلة في مصادر المعرفة والتقدم تسود حالة من عدم اليقين.

لم يعد في ظل هذه الحالة السائدة ممكنا تقديم الاعتدال والتنوير وصفة جاهزة أو يمكن فرضها بمؤسسات السلطة ومحاسبة الناس على أساسها، ليس سوى الثقة، الناس تتبع من تثق به، والفائز في الصراع القائم اليوم هو من يحوز الثقة، ولا نملك لأجل بناء الاعتدال والتسامح سوى أن ننشئ بيئة من التفكير الحر والناقد والسؤال والتوق الدائم إلى المعرفة، وإطلاق الخيال وكل أدوات المعرفة للاقتراب من الصواب، بما في ذلك من شك ومغامرة، وعلى نحو عملي فإن الأمن الفكري في جوهره يكون "الذات الفاعلة" أو الفرد القادر بكفاءة ونزاهة على التفكير والإدراك، ولكن ذلك ليس مهارة جاهزة يمكن تقديمها للفرد، وإنما منظومة من القيم الاتجاهات والسياسات، .. ويمكن ببساطة أن نسمى هذه المنظومة تعزيز الأمن الفكري.

تتشكل المعرفة اليوم على أساس عدم اليقين أو الإدراك الدائم بنقص المعرفة، وهكذا لم يكن التأمل والبحث عن الحكمة والعلم والفلسفة والدين والفن والأسطورة سوى أدوات الإنسان ومصادره في لهفته التي ينشئها السؤال، وفي توقه الدائم إلى المعرفة. ثم تشكلت رموز وطقوس لتختصر السؤال والإجابة وتقربها. وفي ذلك تغيرت/ تطورت/ تشوهت الرواية الأولى للسؤال والتوق إلى المعرفة والخلود، ثم نشأت رواية للرموز مستقلة عن أصلها وروايتها المنشِئة. وفي اندماج مصادر المعرفة ببعضها، تشكلت منظومات معرفية تبدو مستقلة عن الأصل، كما ينشأ البرونز من الحديد والنحاس ويكون أكثر جمالا وتماسكا!

هذه المصادر (التصوف والفلسفة والعلم..) مستقلة عن بعضها، وقد يبدو ذلك جدليا بالنسبة للتصوف، لكنه في علاقته بالدين لم يكن سوى استحضار مثل الفلسفة والعلم. ولذلك نجد التصوف الإسلامي، والتصوف المسيحي واليهودي والهندوسي. التصوف سبق الدين، ولعله سابق للعلم والفلسفة؛ عندما كان الإنسان يرى بقلبه، وينهل من الفضاء الحكمة أو يلتقطها. والأسطورة من السطر، أي الكتابة، عندما أدرك الإنسان الحكمة وأراد أن يحلها في حواسه ليفهم الحكمة كما تدرك الحواس الأشياء. تشوهت الحكمة قليلا، ولكن حيلة الإنسان هذه حفظت الحكمة من الضياع، وإن تحولت إلى معان لا تدركها الحواس.

في التصوف تحايلت الحكمة على السلطة الدينية والسياسية بالرموز، فلم يعد المعنى متاحا ولا محتملا، ولكن يمكن أو لعله يسكن فيك ويعمل وأنت لا تدرك، وحين تستخلصه صافيا من الطقوس والمعارف تواجه الحقيقة، فتلجأ إلى الجهل محتميا من وهجها وطاقتها التي تجعلك دكا. هؤلاء الدراويش عرفوا، وإن كنا نظن أننا أحسن منهم فلأننا لا نعرف.. ربما!

وفي الدين نستحضر اليقين المستحيل لنظفر بالطمأنينة، ولكنا لأجل ذلك نتنازل عن تقرير مصيرنا إلى السلطة التي نرتضيها أو نصدقها لنصلح ما أفسدناه. وهكذا نستعين بتوقنا إلى المطلق والطمأنينة أو على الأقل السلام والاستقرار.

لكن السلطة تظل في هاجس الأمان ويشغلها ذلك بامتلاك الدين والتصوف والعلم وكل شيء، فلا تحتمل السلطة أبدا أن يظل الناس قادرين على ادراك الأشياء وتتبع الحقائق بقلوبهم مستقلين! أما العلم والفلسفة، فهما عدوا السلطة بلا مصالحة أبدا ولا قدرة على التكيف أو التقبل، ولكنهما عدوان ما من صداقتهما بدّ، السلطة الليبرالية وغير المتدينة هي من أبعد العلم والفلسفة عن المدارس وليس المتدينون الأصوليون، وان كانوا هم ايضا يكرهون العلم والفلسفة.

ويبدو الحلّ حتى اليوم في الفن بما هو إدراك الجمال وإحلاله في الشعر والموسيقى والرسم والنحت والعمارة والأثاث والطعام واللباس والذوق العام والسلوك وأسلوب الحياة.. الفن هو الذي يصالحنا مع هذه التناقضات ويقلل من فجاجة الحياة، أو على الأقل يقسم الحياة بيننا وبين السلطة وأدواتها ومؤسساتها، فنجد مساحتنا الخاصة بنا وتأمن السلطة شرورنا! لأن السلطة لا يهدأ لها بال في ظل حالة من التفكير الحر والمستقل حتى لو كان ذلك السبيل الوحيد لمواجهة التطرف والكراهية.

ولكن لا خيار لأجل مواجهة التطرف والكراهية سوى أن تعيد السلطة والنخب النظر في مكتسباتها ومصالحها القائمة على الهيمنة، وأن تعيد تنظيم نفسها ومصالحها على أساس من ازدهار الفكر الحر والناقد والفلسفة والفنون، ففي المواجهة الفكرية مع التطرف، يظهر بوضوح أنه لا فرق بين الفكر الذي تتبناه التنظيمات المتطرفة، وبين الفكر الديني السائد والمتبع والمطبق في المدارس والجامعات والمؤسسات والمجتمعات؛ ولم يعد ثمة مجال للتهرب من إعادة النظر في العلاقة القائمة اليوم بين الدين والدولة، والعلاقة بين الدولة والمجتمع؛ وفي الدور الديني للدولة، وفي إعادة فهم الدين نفسه والتمييز بين الديني والإنساني وبين الدين والتراث التاريخي والفقهي الذي اكتسب درجة كبيرة من الصلابة والتماسك تكاد تفوق الدين الأصلي، برغم أنه ليس دينا.

يبدأ تشكيل الفكر المعتدل بردّ الاعتبار للقراءات العقلانية للدين، والتي حاربتها السلطات السياسية (وليس فقط الجماعات الدينية المتشددة)، ونكلت بأصحابها وروّادها.

وفي الوعي بضرورات مشاركة المجتمعات في مواجهة التطرف، ظهرت عيوب ومشكلات المنظومة الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، وأن المجتمعات وصلت إلى حالة من الضعف والتبعية للدولة لم تعد في ظلها قادرة على التأثير والمشاركة.

وفي عالمية التطرف والإرهاب وانسيابه، متحديا الحدود والحواجز، تشكلت ضرورات وقيم التضامن العالمي، وإعادة تعريف العدو والصديق، ليكون التحدي العالمي قائما حول الإرهاب والأوبئة والفقر... وفي ذلك كله فإننا نعيد فهم متواليات الفشل والنجاح!

لا يمكن الحديث عن مواجهة الإرهاب والتطرف في ظل الاحتكارات والامتيازات التي تديرها أقلية في الدول والمجتمعات؛ فهذه حالة سوف تظل تنشئ الكراهية، ومزيدا من المتطرفين والمقاتلين. ولا يمكن تجفيف منابع التطرف والكراهية والإرهاب، إلا بالعدالة الاجتماعية والاقتصادية. ويجد العالم نفسه اليوم، لأجل مواجهة الإرهاب، أنه في مواجهة الفساد والاحتكار.

اليوم، وقد أصبح الارهاب والتطرف والصراع الديني والإثني يهدد وجود ومصائر النخب نفسها، كما الدول والمجتمعات، فإنه لم يعد خافيا أن الناس والمجتمعات يرون أنهم ليسوا معنيين كثيرا بالحرب الدائرة بين الحكومات والمتطرفين، وأنهم لن يخسروا شيئا جديدا. فلم تدرك النخب العربية بعد أنها دفعت الشعوب إلى حالة من اليأس، وأنها (الشعوب) لم تعد ترى فرقا بين الموت والحياة، وأنه لم يعد لها أمل تتمسك لأجله بالأنظمة السياسية القائمة.

ربما لم تكن الجماهير العربية، سواء في "الربيع العربي" أو بتأييدها للمتطرفين، في مستوى من العقلانية والوعي الكافي بمصالحها، وهذه أزمة كبرى بالتأكيد، ولكنها تملك شعورا جارفا بالظلم، حتى وإن لم تدرك العدل إدراكا كافيا للتأثير والإصلاح. وهذه هي الفرصة المتبقية للنخب العربية؛ أن تدير عدالة منشئة لعقد اجتماعي جديد يحقق الأمن الفكري والرضا والاستقرار، أو أن تواصل إمعانها في الحرب على الناس. ولكن يبدو أن العالم لم يعد مستعدا لمواصلة تأييده للظلم والفساد.

في رواية "آنا كارنينا"، نكتشف أنها بمثاليتها وشخصيتها الإيجابية على نحو متطرف؛ كانت تخفي آلاما كبرى تعاني منها وتكتمها وتهرب منها، إلى أن وجدت نفسها في لحظة عاجزة عن الاستمرار في حياتها... الظاهرة ليست نادرة، ويجب استحضارها دائما في ملاحظة الظواهر والاهتمامات الفردية والجماعية. ففي السلوك والتفاعل اللذين يبدوان فرديين وجماعيين في تقدير الأحداث والأشخاص والأفكار وتأييدها أو معارضتها، يمكن ملاحظة الخلل الخطير في التكوين الفردي والتنظيم الاجتماعي القائمين، ومدى قدرة الأفراد والمجتمعات، بالفعل، على مواجهة وتحمل المسؤوليات والمخاطر.

لا تكفي تلك الاحتفالات الإيجابية لإظهار التضامن والتماسك، ولعلها تخفي من الهشاشة والضعف أكثر من المنعة والتماسك! حتى في تلك اللهفة على فهم ما يجري، وتتبع المصادر والأخبار، تبدو ثمة هشاشة مقلقة لدى الأفراد والمجتمعات، وقابليتها للتضليل والاستدراج والتوهم. لكن الخطورة تتعدى العامّ إلى الخاص؛ القدرة على تكوين الذات وحمايتها، والنجاح في الحياة والعمل. فبغير الاهتمام الإيجابي والصحيح بالعالم، ندخل -أفرادا ومجتمعات- في متوالية من العجز والفشل.

الاهتمام الإيجابي والعميق بالعالم؛ سواء في فهمه وتحليله ومراقبته، أو المشاركة فيه والانتماء إليه وتقبله والاندماج فيه، أو معارضته، أو تجاهله إيجابيا بقصد التأثير فيه، أو سلبا بقصد إفشاله أو تقليل أثره والانسحاب منه إيجابيا، أو ملاحظة الخلل والوهن القائمين فيه ومراجعته ونقده، أو تعزيزه وإصلاحه.. مكون ضروري وأساسي للفرد والمجتمعات لأجل السلامة والصحة النفسية، والارتقاء بالذات وتطوير القدرات والمهارات المعرفية والعقلية والإدراكية، بل والحسية... عدا عما يتضمنه بطبيعة الحال من عمل اجتماعي ومشاركة عامة. الذين يبدون اهتماما كفؤا ومتقدما بالعالم، يواصلون، وبخاصة في شيخوختهم، الحفاظ على ذاكرتهم وقدراتهم العقلية والمعرفية. وستكون هذه المهارات المعرفية التي اكتسبوها هي ما يساعدهم على تدبير حياتهم وشؤونهم اليومية، وبغيرها يعودون غير قادرين على ممارسة حياتهم اليومية البسيطة، ويعجزون عن المشاركة في البيئة القريبة المحيطة بهم، ويصيبهم اكتئاب يضعف قدراتهم وصحتهم العامة، وفقدان للذاكرة يمنعهم من القيام بأبسط التصرفات الضرورية.

يبدأ العلاج بالقراءة. لكن يجب ان تكون قراءة جادة. يقول إريك فروم: "على المرء أن يبدأ بالقراءة؛ وبقراءة الكتب المهمة، وبقراءتها بجدية. ولديّ الانطباع بأن المنهج الحديث في القراءة هو منهج توجّهه الفكرة القائلة بأن على المرء ألا يبذل الكثير من الجهد، فيجب أن تكون سهلة، ويجب أن تكون مختصرة، ويجب أن تكون ممتعة على الفور. وحتماً هذه أوهام كلها. فما من شيء مفيد يمكن أن يعمله المرء أو يتعلمه من دون أي جهد، ومن دون بعض التضحية، ومن دون تدريب".

وينشئ الأفراد، كما المجتمعات، بالقراءة والاهتمام، فكرا نقديا. وفي ذلك تتشكل القدرة على الملاحظة والتمييز. يقول فروم أيضا: "إذا لم أفكر نقدياً فأنا عرضة لكل التأثيرات، ولكل المقترحات، ولكل الأخطاء، ولكل الأكاذيب المنتشرة التي أتلقّنها من اليوم الأول فصاعداً. ولا يمكن للمرء أن يكون حراً، ولا أن يكون ذاتَه، ولا أن يكون له مركز في ذاته، ما لم يكن قادراً على التفكير نقدياً".

المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%86%D8%A7%D8%B9%D8...

 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك