ثقافة اليومي

بقلم عبد السلام بنعبد العالي

 

بيّن رولان بارت، الذي كتب، ذات مرة: «إنّ اللامعنى هو مكان الدلالة الحق»، أنّ توليد المعاني يمكن رصده من خلال الوقوف عند ما يدعوه (الفلسفة العمومية)، التي تغذّي طقوسنا اليومية، وتحدّد لباسنا، وحلاقة شعرنا، وتنظيم مطبخنا وحفلاتنا، وتدبير شؤوننا اليومية من قراءة للصحف، وارتياد للمسارح، وحديث عن أحوال الطقس، وأخبار الإجرام، والرّياضة.

لا يتعلق الأمر، مطلقاً، بما اعتدنا تسميته (ثقافة شعبية) في مقابل (الثقافة العالمة)، كما أنّه لا ينحل إلى المقابلة بين (الوضيع) و(الراقي) بالمعنى القيمي للكلمتين. موضوع هذه (الثقافة) أقرب إلى ما اعتدنا أن ندعوه (تفاهات) الحياة اليومية.

لا شكّ في أنّ أوجه الشبه كثيرة بين هذا النوع من الاهتمام، وذاك الذي نلفيه عند أصحاب التحليل النفسي، ابتداءً من المؤسّس، ولاسيّما في كتابه (علم النفس المرضي للحياة اليومية)، إلى دانيال سيبوني في كتاباته حول اليومي. كما أنّنا قد نجد شيئاً منه عند فالتر بنيامين، ونلفيه، اليوم، عند ميشيل دوسيرتو في (ابتداع اليومي)، وأمبرتو إيكو في (حرب الزّيف)، أو عند الفيلسوف المعاصر تشيتجاك.

عند كلّ هؤلاء، نلمس اتجاهاً نحو نقدٍ لا يقتصر على المعاني كأشكال (سامية)، وإنّما يتصيّدها في (أتفه) تجلياتها، ويضبطها، وهي تتولّد وتعمل في معمعة اليومي، قبل أن تتبلور في المفهومات المغرقة في التجريد، والأشكال الثقافية (غير التافهة).

في هذا المضمار، نشر بارت، عند نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، كتاباً تحت عنوان (ميثولوجيات) (أسطوريات)، ضمّنه نصوصاً كان قد كتبها على صفحات صحيفة يومية، عمل فيه على الكشف عن آليات توليد المعاني في المجتمع الفرنسي، تلك المعاني التي تدخل في منظومات يسعى الدّارس إلى الكشف عن قوانينها، وتندرج في بنيات يكون عليه (إبراز قواعد لعبتها). وهكذا ستتخذ موضوعات مثل: آليات الإشهار، ومباريات الرياضة، وأسماء السيارات، ولعبة «الكاتش»، وخطاب الموضة، ودليل السياحة، ولعب الأطفال، ومواد الغسيل...، أهمية بالغة، وسينظر إليها من حيث هي (منظومات دالة) يجري عليها، كما يرى صاحب (ميثولوجيات)، ما يجري على أيّة علامة من كونها اعتباطية، وكون معناها يتولّد عن اللامعنى، وكونها لا تستقيه إلا من خلال المنظومات التي تدخل فيها، والاختلافات التي تشدّها إلى غيرها.

لا ينبغي أن ينقلنا عنوان كتاب بارت إلى الأسْطَرة بمعناها التقليدي، فليست الأسطورة، هنا، (حكايات الخوارق)، وهي لا تتحدّد بموضوعها، وإنما بطريقة تناولها لذلك الموضوع. إنّها منظومات تواصل إضمار تمثلات ذهنية جماعية. وما تسعى (سيميولوجيا اليومي) إلى أن تكشفه هو ما تنطوي عليه هذه المنظومات الدّالة، التي ترمي إلى أن تجعل من ثقافة طبقة بعينها طبيعة كونية؛ ذلك أن الأسْطَرة، هنا، هي تلك الآلية التي تسعى إلى أن (تحوّل ثقافةالبرجوازية الصغيرة إلى طبيعة كونية).

تُحرّف الأسطورة التاريخ كي تتمكّن من إلغائه، وهي تتغذّى على (الثقافة) كي تدَّعي (الطبيعة). وهكذا تغدو مرتعاً لعمل الإيديولوجيا، تلك الإيديولوجيا التي -وإن كانت ثقافة بطبيعة تحديدها- لن تتمكّن من الخلود إلا بتقمّص لباس (الطبيعي).

على هذا النّحو، يغدو فضح الأسطورة تعرية للتاريخ/ الثقافة من وراء سعيهما إلى أن يبدوا (طبيعة)؛ ذلك أنّ المعاني، (التي تتولّد من اللامعنى)، سرعان ما تميل نحو الثبات والإطلاق، فتنسى اعتباطيتها، وتزعم الضّرورة والكلية، وسرعان ما تسكن السلوكيات اليومية، والتصرّفات (العادية)، فتسعى نحو الترسُّخ، والمحافظة، والتّقليد. ومهمّة (سيميولوجيا اليومي) هي التصدّي لهذه (الأسْطرة)، وفضح لعبة توليد المعاني، وسعيها نحو الترسّخ.

يتعلّق الأمر، إذن، بنوع من النقد الإيديولوجي، الذي ينصبّ على لغة الثقافة، التي تُدعى (ثقافة الجماهير) (culture de masse)، إلا أنّه نقد مشفوع بتحليل سميولوجي لهذه اللغة.

المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D...

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك