الإسراف.. يُربك ميزانية الأسرة!

 

تحقيق - أحمد الشايع

الإسراف في الموائد يؤثر سلباً في ميزانية الأسرة

    يُعدُّ الإسراف من الظواهر السلبية التي تؤثِّر بشكلٍ سلبيٍّ على الفرد والأسرة والمجتمع، وشدَّد ديننا الإسلامي الحنيف على ضرورة تجنُّب هذه الظاهرة في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، حيث نهى الله - عزَّ وجلَّ - عن الإسراف، وذلك لأنَّه يُعدُّ أولى الخطوات نحو الفقر والحاجة وعدم موازنة الامور, كما أنَّه من مساوئ الأخلاق التي تعود على صاحبها وعلى المجتمع والأمة بكثير من الأضرار، قال تعالى: (يا بني آدم خُذُوا زينتكم عند كلِّ مسجدٍ وكُلُوا واشربُوا ولا تسرفوا إِنَّه لا يُحِبُّ المسرفينَ).

وقد أمر الله – سبحانه وتعالى - أن يكتسب العباد أموالهم من الكسب الحلال الطيب، كما في قوله تعالى: (يا أَيُّها النَّاسُ كُلُوا ممَّا في الأَرض حلالاً طيِّباً)، كما أنَّه نهاهم في الوقت نفسه بشكل واضح وصريح عن إضاعة المال وإعطائه السفهاء، (ولا تُؤتُوا السُّفهاءَ أَموالَكُمُ الّتي جعل اللَّه لكم قياماً)، كما أنَّ الرسول الكريم - عليه أفضل الصلاة والسلام - كره ثلاثاً، ومنها: إضاعة المال, والإسراف هو صورة من صور إضاعة المال في غير محله، إذ إنَّ المال هو عصب الحياة وزينة من زينها، قال تعالى: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا).

وصفة نبوية

وأكَّد خالد بن محمد الحمود - مشرف التوجيه والإرشاد بالمؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني - أنَّه بالشكر تدوم النعم، وأنَّ التوجيه الرباني بأعلى قيمة على وجه الأرض هو وصفة سحرية لاستمرار النعم، مُضيفاً أنَّ لنا في رسولنا وقدوتنا محمد -صلى الله عليه وسلم- مرجعاً نبوياً صادقاً في تعامله مع النعمة، حيث لخَّصها -عليه الصلاة والسلام - في عبارة طبية ووصفة نبوية عظيمة: "بحسب ابن آدم لقيمات يُقمن صلبه".

وأضاف أنَّ هذه الوصفة تُمثِّل مُعجزة لما يتمتع به الإنسان من قدرة عظيمة على الصبر ومواجهة الظروف المعيشية الصعبة، مُشيراً إلى أنَّ التاريخ البشري مليء بالعبر والدروس، ولعلَّ أبرز هذه الدروس قوم سبأ، الذين أصبحوا آيةً، كما في قوله تعالى: ( لقد كان لسبأٍ في مسكنهم آيةٌ جنتان عن يمينٍ وشمالٍ، كُلُوا من رزق ربِّكُم واشكروا لهُ، بلدةٌ طيبةٌ وربٌّ غفورٌ، فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنيهم جنتين ذواتي أُكُلٍ خَمْطٍ وأثلٍ وشيءٍ من سدرٍ قَلِيلٍ،  ذلك جزيناهم بما كفروا، وهل نُجازي إلاَّ الكفور). وبيَّن أنَّهم لمَّا خالفوا التوجيه الإلهي العظيم وكفروا بالنعمة حصل لهم نكسة عظيمة خلَّدها التاريخ عبرة وتبصرة لمن كان لديه وعي وتدبر بآيات الله، مُضيفاً أنَّها انتشرت مظاهر الإسراف بشتى أنواعه في المأكل والمشرب والملبس والرفاهية وكل أنواع المعيشة، حتى أصبح الواحد منَّا يسير ويقف وهو في سيارته لطلب ما يحلو له من الأكل والشراب وأطيب الطعام، متسائلاً: "أفلا نتدبر؟, أفلا نحافظ على هذه النعمة بالشكر المتواصل مع دعوات بأن يحفظ الله المنعم علينا بفضله وكرمه؟".

مشاهد مؤلمة

وأشار الحمود إلى أنَّ البعض يقيم موائد عظيمة فيها كل ما لذ وطاب من أنواع الطعام والشراب، وربَّما لا يحضر هذه الموائد إلاَّ القليل، ثمَّ تذهب إلى سلة المهملات أو القمامة دون شعور بعظم هذا العمل الذي يمثل كفراً بالنعمة، مُتسائلاً: "أفلا نتدبر ونعتبر بمن قبلنا وحولنا؟"، مُضيفاً أنَّ العديد من النساء يتسابقن إلى مراكز التسوق نحو التنافس في شراء الجديد وأحدث الموديلات، على الرغم من أنَّ المنزل قد يكون مليئا بكل أنواع اللبس الفاخر الباهض الثمن.

وأوضح أنَّ من أبشع صور كفر النعمة ما يُسمَّى مقاطع "سناب شات"، حيث يتمُّ عرض لقطات وصور للأطعمة والمناسبات، مُتسائلاً: "أفلا نتدبر؟, أليس فينا رجل رشيد؟"، لافتاً إلى أنَّ هناك أيضاً تنافس في حفلات التخرج، التي أصحبت مظهراً للإسراف وكفر النعمة وصرف الأموال وإضاعتها من أجل المباهاة بأفضل حفل أو لمناظر ومشاهد مؤلمة وكفر بالنعمة، مُؤكِّداً أنَّه من المؤلم أن تتخلى أو تقصّر المؤسسات التربوية عن دورها في توعية المجتمع بكل فئاته.

ولفت إلى أنَّ التوعية هنا لا بُدَّ أن تكون عن خطر الإسراف وأثره على واقع ومستقبل المجتمع، خاصةً أنَّنا أمة مسلمة تدين بالإسلام منهجاً وتشريعاً، موضحاً أنَّه يمكن تدارك ما يمكن من خلال الخطوات التالية: تكثيف التوعية الإعلامية في المطارات والمراكز التجارية وحث الناس على المحافظة على نعم الله وشكرها والبعد عن الإسراف والتبذير، إلى جانب تعزيز برامج شكر النعمة ومحاربة الإسراف في المدارس وتكثيف التوعية للطلاب والطالبات.

شركات متخصصة

وأضاف الحمود أنَّه يمكن تدارك ما يمكن أيضاً من خلال تكثيف برامج التوعية والتثقيف عن طريق وسائل التواصل الاجتماعية ورفع المستوى الفكري تجاه المحافظة على النعم، إلى جانب إنشاء شركات متخصصة في حفظ الأطعمة الزائدة على الحاجة، وذلك من خلال شركات توفّر أسطول سيارات مخصصة لجمع الأطعمة الفائضة، وكذلك تطوير ودعم الجمعيات والشركات والمبادرات الموجودة لتقوية انتشارها وآثارها الايجابية المتوقعة ووصولها لجميع الناس. وبيَّن أنَّ من بين تلك الخطوات تعزيز التوعية والتثقيف بأهمية المحافظة على النعم، من خلال إطلاق مبادرات إعلامية لرموز معروفة تؤكد وتدعو إلى الشكر وتجنب الإسراف، إلى جانب تقديم نماذج لأفضل طرق التعامل مع النعم الفائضة عن احتياج الفرد، وكذلك إطلاق جائزة لأفضل مبادرات تشجع وتعزز المحافظة على النعم وأفضل طرق التعامل مع الفائض من النعم والخيرات.

غياب التقنين

وقال مفرح بن سعدون البحيران - عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية -: "إنَّ حقيقة مشاركتي تتمثل في آية قرآنية استوقفتني كثيراً في كتاب الله، وهي قوله تعالى: (كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي)، ونعوذ بالله من أن يحل علينا غضب الله - عزَّ وجلَّ - بسبب إسرافنا في رمضان بالأكل والشرب".

وأكَّد علي بن موسى هشلول – إعلامي - على أنَّ الإسراف يأتي على ميزانية الأسرة فيقضمها عن بكرة أبيها في غياب التقدير والتقنين المطلوبان في مثل هذه المهمة، التي من شأنها حين التعاطي معها بالحكمة والتوفير والأولوية أن تضمن استقراراً اقتصادياً للأسر التي تسير وفق استراتيجية مدروسة في سبيل الخروج من غائلة الإسراف وضياع الجدة والمال، مُضيفاً أنَّ الأسرة التي لا تتقن مسيرة توفير مستلزماتها الضرورية فقط، ستكون عُرضةً للعناء والفاقة وضياع الجهد.

وأضاف أنَّ هذه الأسر ستدخل بعد ذلك إلى دوائر العوز ومد الأيدي إلى الآخرين في وقت كان يمكن فيه تفادي ذلك بالتوفير والتخطيط وشراء الضروري من المستلزمات.

مُسبِّبات الإسراف

وأوضح محسن بن نايف الشمري - موظف في إدارة التعليم بحفر الباطن - أنَّ الله -سبحانه وتعالى - أكرمنا كبشر، فقال عزَّ من قائل: "ولقد كرمنا بني آدم..الآية"، مُبيِّناً أنَّ من إتمام نعمه وعظيم فضله أن منَّ علينا بنعمة الإيمان، "يمنّون عليك أن أسلموا، قل لا تمنّوا عليَّ إسلامكم، بل الله يمنُّ عليكم أن هداكم للإيمان"، مُضيفاً أنَّ من أهم أسس الوسطية في الدعوة، الوسطية في العبادة والوسطية في الإنفاق، ومنذ أن نذكر كلمة الوسطية نجد بديهياً تضاد هذا المعنى مع الإسراف. ولفت إلى أنَّه قبل أن نعلم أنَّ الإسراف يربك ميزانية الأسرة، فإنَّه يجب أن نعلم أنَّ الإسراف يخالف المنهج الإسلامي الشرعي الوسطي، فتارةً نجد الله - عزَّ وجل - جعل المسرفين إخوان الشياطين، وتارةً ذكر عدم حبه للمسرفين، وذكر الإسراف في العمل والذنوب، مُضيفاً أنَّ من مسبِّبات الإسراف يُسر الحال والنعم التي منَّ الله علينا بها في هذا البلد المبارك، مُشيراً إلى أنَّ حفظ النعم واجب، إمَّا إكراماً لها أو لادخارها لحاجتها. وأكَّد أنَّه لن تدوم نعمة إلاَّ بالشكر، قال تعالى: "ولئن شكرتم لأزيدنَّكم"، كما أنَّه لا مكان لشكر النعمة دون حفظها وإنفاقها في محلها، مُضيفاً أنَّ من مُسبِّبات الإسراف أيضاً الضغوط الاجتماعية، موضحاً أنَّ المتطلبات الاجتماعية لا تُفرِّق بين غني ومتوسط  الحال وفقير، فالمجتمع بنظرة مسرفة يريد من دخله الشهري (50) ألفاً، كما يريد ممَّن دخله خمسة آلاف ريال، والله سبحانه قسم على عباده الأرزاق والطبقات، "وفضَّلنا بعضكم على بعض في الرزق".

خطة واضحة

وأضاف الشمري أنَّ من مُسبِّبات الإسراف ايضاً المفاخرة والمكابرة، موضحاً أنَّ الشخص أصبح يتجاوز إمكاناته المادية بسبب أنَّه لا يريد ان يكون أقلَّ من أخيه ميسور الحال، سواءً في المركب أو في المسكن أو في الملبس أو حتى في الظهور الاجتماعي، ممَّا جعل هذا الشخص يظهر بصورة الغنى وهو في الواقع من دينٍ إلى دين، ومن قضية إلى أخرى، ومن همٍ إلى غمٍ، وبالتالي فإنَّه لن يبعد عن إحدى هذه النتائج: الفقر الصريح والفصل من الوظيفة أو السجن أو ضياع الأسرة أو الوقوع في المال الحرام أو الانهيار.

وأشار إلى أنَّ علاج هذه المشكلة يتطلَّب الرضا بما قسم الله والتعامل بالإمكانات المتاحة والإنفاق في سبيل الله والعمل على أنَّ كل ما نملك ما هو إلاَّ ملك لصاحب الملك، وهو أمانة بأيدينا وليس لنا من التصرف إلاَّ بما يُرضي المالك، وهو الله - عزَّ وجلَّ -، الذي نهانا عن الإسراف، مُضيفاً أنَّ العلاج يتطلَّب أيضاً وضع آلية وخطة واضحة تُلبي الاحتياج ولا تتجاوز عن الحد، خصوصاً لأصحاب الدخل المحدود وما يخرج عن المقدرة يحفظ بطريقة أو بأخرى، كمثال الطعام الزائد حتى لو حفظ للحيوانات ففي كل كبد رطبة أجر.

http://www.alriyadh.com/1063007

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك