ولا تجسسوا

 

عادل الكلباني

    

إن المجتمع الذي يريد إيجاده الإسلام مجتمع قد سما بنفسه عن سفاسف الأمور، وعن كل ما يوجب الضغينة، ويورث العداوة، ويوقد نار البغضاء والشحناء، مجتمع يبحث عن مواقع الإيجابيات فيما يعود على نسيجه بالترابط والتآزر والثقة

بينما هم يمشون ليلاً شبَّ لهم سراج في بيتٍ فانطلقوا يؤمونه حتى إذا دنوا منه إذا بابٌ مجافٍ على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة ولغط، فقال وقد أخذ بيد صاحبه: أتدري بيت من هذا؟ قال: لا. قال: إنه بيت فلان بن فلان، وهم الآن شُرَّبٌ – أي سكارى من شرب الخمر – فما ترى؟ قال: أرى أنا قد أتينا ما نهانا الله عنه، فقد نهانا الله عن التجسس فقال (ولا تجسسوا) فقد تجسسنا، فانصرف عنهم وتركهم.

إنه عمر ابن الخطاب، وهو غني عن التعريف به، والإشادة بغيرته، وشدته في الحق، وقوته في دحر الباطل، فهو المعروف بالفاروق، وهو يومئذ أمير المؤمنين، وأما صاحبه فعبد الرحمن بن عوف، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وهم أفضل أصحاب رسول الهدى صلى الله عليه وآله وسلم، ورضي الله عنهما.

وعمر في هذه القصة يجري على عادته، يبحث عن جائع ليطعمه، أو عارٍ ليكسوه أو محتاج فيقضي حاجته، ولم يخرجا تقصدًا لهتك عورات المسلمين، ولكنهما ومن معهما لم يجدوا إلا جماعة ممن يشربون الخمر خفيةً، يومض سراجهم خلف بابهم، فلم تخول لعمر رضي الله عنه مكانته في أعلى هرم السلطة أن يقتحم عليهم منزلهم ويكشف سترهم، ولم يدر في خلدهما تزكية الله لهم ولا تبشيرهم بالجنة، ولم يتأول أحد منهم آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليوقع بمن وقع في معصية الله وهو ساتر لنفسه، ولم يتفرد عمر رضي الله عنه بهذا المنهج، بل هو منهج السلف رضي الله عنهم، ولو أردنا استيعاب الآثار في ذلك لكانت أسفارًا وليس مقالًا تكفي فيه الإشارة.

إنه المنهج الرباني في الأمر بستر المسلمين وترك تتبع عوراتهم، والمحافظة على سلامة مجتمعاتهم من استمراء الفضيحة، فكل النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والآثار عن سلفنا الصالح في هذا الباب متفقة على صيانة حرمة المسلم عن الفضيحة التي من شأنها أن تذهب ماء الحياء من وجهه، وتجعله متفننًا في المجاهرة بما يفعل، وقد كان ستره كالسياج الحاجز بينه وبين الجرأة، ولعله لهذا السبب ولغيره جاءت النصوص بالنهي عن تتبع العورات، والأمر بإقالة العثرات، فإن هناك تلازمًا بين تتبع العورات واستمراء الفضيحة مما يجعل المعصية هينة في نظر مرتكبها، وليس أحد من الناس معصومًا عن ارتكاب الخطايا والمعاصي فما من أحدٍ إلا وبينه وبين ربه ما لا يعلمه إلا هو، فلا يكون وراء التتبع والتجسس إلا الفضيحة والإفساد لذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم "إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم".

إن المجتمع الذي يريد إيجاده الإسلام مجتمع قد سما بنفسه عن سفاسف الأمور، وعن كل ما يوجب الضغينة، ويورث العداوة، ويوقد نار البغضاء والشحناء، مجتمع يبحث عن مواقع الإيجابيات فيما يعود على نسيجه بالترابط والتآزر والثقة، حتى جعل الله مَن تسره نفسه بظهور عورات المسلمين في عداد الموعودين بالعذاب الأليم (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة..).

ولا يخفى على متأمل في هذا الأصل العظيم الفرقُ الشاسع والبون الواسع بين مجتمعاتنا في العصر الحديث وبين مجتمعات السلف رضي الله عنهم، وهي التي نزعم أنا ننتسب إليها، ونفاخر باقتفاء أثرها، والسير على منهجها! إذ إن مجتمعات السلف مع قلة أعدادهم، ويسر حياتهم الخالية من تعقيدات الحداثة، وسهولة معرفة ما يفعله الآخرون إلا أنهم كانوا يغضون أبصارهم ربما حتى عما يلوح لأحدهم كمعصية ظاهرة، ويكتفون بالنصح حفاظًا على ستر الأعراض التي رتّب الله على سترها ستره حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم "من ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة" ولله در الإمام الشافعي إذ قال:

تَعَمَّدني بِنُصحِكَ في اِنفِرادي

وَجَنِّبني النَصيحَةَ في الجَماعَه

فَإِنَّ النُصحَ بَينَ الناسِ نَوعٌ

مِنَ التَوبيخِ لا أَرضى اِستِماعَه

وَإِن خالَفتَني وَعَصِيتَ قَولي

فَلا تَجزَع إِذا لَم تُعطَ طاعَه

فأين نحن اليوم من ذاك المجتمع؟ وأين نفوسنا من تلك النفوس الراقية التي تحرص على ستر العصاة؟

ليتهم يرون اليوم ما نحن عليه من تفنن في التجسس وفضح الآخرين، والفرح بانكشاف ما ستروه، والمسارعة في إبداء ما أخفوه! حتى استعمل العلم الحديث خدمةً لهذا الغرض الدنيء، فكم نسمع من قصص في التجسس بالتسجيلات والكاميرات الحديثة، وبالهواتف النقالة، وما هي إلا ضغطة زر فإذا بالفضيحة تعم الأرض كلها عبر الانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي! والأدهى من ذلك أن تجد ذلك منسوبًا لقاعدة النهي عن المنكر فلم يكتفوا بارتكاب هذه الآفة القبيحة بل بعضهم يلتمس لها التبريرات ويضرب عن الآيات والآثار صفحًا، حتى بلغ بهم الأمر إلى تصيد الغافلين، ونصب حبال الخديعة لهم ليوقعوهم في شراك الرذيلة، احتسابا!!!

لقد فرق أهل العلم بين تحريم تتبع العورات في المعاصي التي لا تضر إلا مرتكبها وبين ما يفعله مَن يحافظ على الأمن، فهناك معاصٍ وجرائم كالقتل والسرقة ونحو ذلك تبيح لأهل الاختصاص بتتبع ومراقبة بعض المجرمين حتى يحولوا بين المجرم وجريمته قبل وقوعها، وليس ذلك لأحد إلا لمن كان له الأمر في ذلك، وليس ذلك من تتبع العورات، وهذا أمر محصور ومؤطر، بخلاف ما نرى ونسمع وينتشر في كثير من الأحايين عن فلان وفلان وفلانة أو فلانة فعلوا كيت وكيت من الأمور التي يجب سترها فضلاً عن تصويرها خفيةً لإثباتها، وإلحاق الضرر والخزي بفاعليها، فلو كان تتبع العورات لإثبات التهم جائزاً لدلّنا عليه الشرع ولما أمر بستر العورات.

والله من وراء القصد.

http://www.alriyadh.com/1107225

الأكثر مشاركة في الفيس بوك