محمد أسد بين الدين والسياسة

طلال أسد

 

في أبريل (نيسان) 2011 انعقد مؤتمرٌ عالميٌّ بالرياض في مركز الملك فيصل للأبحاث والدراسات الإسلامية، كان موضوعه حياة محمد أسد وأعماله، وقد كنتُ مدعواً لحضور المؤتمر، وإلقاء كلمةٍ عن والدي بين الدين والسياسة، ولأنني ما كنتُ قادراً على الحضور، فقد أرسلتُ المحاضرة وألقاها غيري، وما أنشره هنا هو الصيغة المعدَّلة والمنقَّحة، إنما أصْلُهُ من تلك المحاضرة.

 

ويكون عليَّ أن أبدأ على أي حالٍ بتصحيح انطباعٍ صار سائداً بين الناس المهتمين بحياة والدي وعمله، والذي ينسب إسلامه إلى أنه كان يريد من خلال ذلك بناء جسرٍ بين الإسلام والغرب؛ بينما يذهب آخرون حتى إلى أنه من بين مَنْ أسلموا كان هدفه الأول لبرَلة الإسلام، وهكذا كله لا شيء أبعد منه عن الحقيقة. فهو عندما اعتنق الإسلام (من فعل: أسْلم أي خضع واستسلم لله)، صادف موروثاً غنياً استطاع -بالامتداد السلمي، -وبالمجابهة والخصومة- أن يبقى على مدى قرابة الألف والخمسمائة من السنين. ولذا فقد حاول في أعماله العلمية أن يتبع طريقة المتكلم الأندلسي أبي محمد ابن حزم، كما أنه اقتبس حرفياً في كثيرٍ من الأحيان من تفسير محمد عبده المصلح المصري في أواخر القرن التاسع عشر. ورغم اختلافه مع ابن تيمية في عدة مسائل أساسية؛ فإنه حاول- كما حاول ابن تيمية في القرن الرابع عشر الميلادي- أن يوفّق بين العقل والنقل والإرادة، بهدف تكوين رؤية معيَّنة متماسكة ومتجددة للإسلام. أما رأْيه في الصوفية، فقد تأثر فيه أحياناً بابن تيمية، وقد كانت ملاحظاته على شطحات الصوفية، وليس على النهج الصوفي بحدّ ذاته. والواقع أنّ الأعمال المبكّرة التي كتبها والدي كانت موجَّهةً للمسلمين وليس للقارئ الغربي (والمثل على ذلك كتابه: الإسـلام على مفترق الطُرُق، ومقدمتـه على ترجمة كتاب البخاري: الجامع الصحيح، والمجلة التي أصدرها تحت اسم عرفات... إلخ). ولذلك يكون عليّ أن أقول: إنه ما كان مهتماً بإقامة جسور مع الغربيين، أو أنّ ذلك ما كان أَولويةً لديه، وإنما كان همُّه غرسَ نفسه في أوساط المسلمين وتراثهم، والذي صار يعدّه تُراثه، ويسعى لإقناع رفاقه المسلمين بمقاربته هو وفهمه هو لذاك التراث أو التقليد. أما سيرته الذاتية فكانت كتابه الأول الموجَّه لغير المسلمين (وللمسلمين بالطبع)، وسيرته الذاتية عملٌ أرادهُ أن يكون موجَّهاً للعامة، ليس من أجل أن يخبرهم بما هو الإسلام فقط، ولماذا صار هو مسلماً؛ بل ليخبرهم أيضاً بما هو الرائع في الإسلام، وما هو الذي اجتذبه إليه، من وجهة نظره.

 

لقد كان والدي مفكراً دينياً، ولم يكن رجل سياسة، وقد عدّ القرآن والسنة الركنين الأمثلين للهداية والحياة الإنسانية الرشيدة، وقد تقدم بمقترحاتٍ وأفكارٍ لكتابة الدستور الباكستاني، وهذه المقترحات والمبادئ جرى شرحها في كتابه: مبادئ نظام الحكم في الإسلام؛ بيد أنّ اهتمامه بالموضوع تضاءل فيما بعد حين أقبل على ترجمة القرآن، وانشغل بذلك تمام الانشغال. وكما في حالة مفكرين كثيرين عاشوا طويلاً (توفّي عن 92 سنة)؛ فإنّ آراءه تبلورت وتطورت بحسب الظروف والتجارب ومتغيرات الأحوال، ولستُ قادراً هنا على تتبع مراحل تطور تفكيره؛ لكنني سأحاول في هذه العجالة -وبعد عقدين على وفاته- أن أعرضَ ما أعتقده أفكاره الرئيسة أو رؤيته للإسلام. وخلال القيام بهذا المسعى، سأوضّح اختلافي معه أحياناً، كما أُحاول في أحيانٍ أُخرى أن أقتبس عباراته كما هي، حيث أرى ذلك ضرورياً للفهم، للخفي والمستتر من آرائه.

 

إنّ أول وأهمَّ فكرة في رؤية والدي للإسلام أنّ الدخول إليه يعتمد على العقل؛ ولذا فإنّ الحِجاج ضروريٌّ للدخول في الإسلام وللبقاء فيه. وعندما كنتُ فتىً صغيراً اعتاد والدي على القول لي: إنّ على الواحد منا أن يتعامل مع المؤمن وغير المؤمن ليس بالعنف بل بالحُسنى، وهذا الذي عناهُ القرآن بقوله: (لا إكراهَ في الدين). ويتابع الوالد أنّ القرآن الموحى من الله سبحانه يدعو البشر إلى دينه بالعقل، وعندما نقرأ القرآن قراءة متأنيةً نُلاحظُ أنه يخوض جدالاتٍ ويثير أسئلةً باستمرار؛ لأنه بهذه الوسيلة يدفع السامعين للإصغاء والتقدير. أحياناً يخاطب البشر جميعاً (يا أيُّها الناس)، وفي أحيانٍ أُخرى يخاطب المؤمنين(يا أيها الذين آمنوا)، وفي كلتا الحالتين يريد دفْع الناس للاستفاقة للحياة الأُخرى. والجدالات لا تهدف إلى إقناع الناس بدليلٍ لا يُردُّ؛ بل تنبيههم إلى الإمكانيات غير المتوقَّعة؛ فإشاراتُ القرآن إلى العذاب والمُعاناة في الآخرة لا تؤثّر في غير المؤمن؛ لأنه غير مَعْنيٍّ بها؛ بل إنّ المقصودَ بها المؤمن لإيقاظ وعيه. والقرآن هُدىً لأولئك البشر الذين يريدون سلوك طريق الهداية. وإذا فشل الإلحاح الجدلي؛ فإن القرآن يطلب من المؤمنين التعايُش مع سائر أهل الديانات: ﴿لكم دينكم ولي دين﴾.

 

في هذا السياق، كان والدي غالباً ما يقرأ هذه الآية: ﴿إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين مَنْ آمن بالله واليوم الآخِر وعمل صالحاً فلهم أَجْرُهُم عند ربّهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون﴾(البقرة: 62). وما كان الوالد يجد شيئاً مُشابهاً يمكن الإشارةُ إليه في العهد القديم أو الجديد، فهذه الآيات تؤكّد الانطباع الذي يفيد أنّ اليهودية والمسيحية (أهل الكتاب) ينتميان إلى التقليد نفسِه الذي استمرّ واستعلى في الإسلام، إنها دياناتٌ سابقةٌ تأسست على الوحي ثم خالطها التحريف، إنما رغم ذلك فإنها ما تزال تحتضن الحقيقة. وقد تكون الاعتقادات فيهما قد نالت منها التغييرات، لكنْ بسبب انتمائها إلى التقليد نفسه فإنها تستحق الاحترام. وبخلاف الرأي المسيحي التاريخي؛ فإنّ استمرار أهل الوحي السابق على دينهم القديم لا يعدّه الإسلام كارثة؛ بل هو يشير إلى الاصرار غير المبرَّر على التوجُّه المخطئ. ففي "التقليد الإسلامي الحقيقي" ليس هناك تفريق بين الصديق والعدوّ، وليست هناك قسمةٌ بسيطةٌ في التميز بين أهل هذا العالم بعدِّهم أخياراً أو أشراراً. وبحسب رأي والدي؛ فإنّ القرآن لا يحتج بذلك كلّه من أجل هداية المخطئين والضالين فقط؛ بل ومن أجل التقرير أنّ هؤلاء جميعاً يستحقون الاحترام بالتساوي. والاحترام يعني أنه من واجبك أن تُصغي لهؤلاء وهم يعبّرون عن آمالهم العميقة، وعن التزاماتهم. وبهذا المعنى فإنّ احترام هذا الشخص أو ذاك يعني إدخاله في دائرة الأصدقاء، وإن يكن ذلك قصْراً على أتباع ديانات التوحيد أو الميراث الإبراهيمي. ويسلِّم والدي أنّ هناك آيات في القرآن تُقْصي أهل الكتاب؛ لكنه يرى في هذا الإقصاء تعبيراً عن رفض هذه الجماعة أو تلك في موقفٍ معيَّن في حياة النبي، كما أنه تعبيرٌ عن الاقتناع بأنّ اللقاء مع هذا الفريق أو ذاك صعب في نطاق الجماعة الإسلامية الجديدة، ثم إنه يشير أخيراً إلى أنّ هذه الآيات تتضمن موقفاً في تراتبية الأمور في الإسلام الجديد.

 

ويذكر والدي على قِلّة -شاكياً- أنّ الغربيين يزعمون أنّ الإسلام دينٌ عنيف، وأنه قاد دعوتَه لاعتناق الدين في العصور المتأخِّرة بالعنف والإكراه، ولا شكّ أنه الصحيح أنّ المسلمين في العصور الأولى ما نشروا دينهم بالقوة، باستثناء حالاتٍ قليلةٍ لا تنقُضُ القاعدة. إنما يكون علينا أن نقرر أنّ موضوع اعتناق الإسلام من جانب غير المسلمين، وعلاقة هؤلاء بالسلطة، ما يزال غير مبحوث. ويطلق الدارسون القِلّة تعابير جافة (من مثل: الخوف، والمصالح المادية، والإسلام الظاهر دون الباطن... الخ). ثم إنّ الاعتقاد بأنّ الانتقال للإسلام يشكّل علامةً فارقةً بين فترتين، بين الأبيض والأسود، هو أمرٌ فيه تبسيطٌ كبير. وعلى أيِّ حال؛ فإنّ الادّعاء بأنّ اعتناق الإسلام كان بالإكراه هو ادعاءٌ كاذبٌ، ولكنه ما يزال شائعاً جداً في الغرب. إنّ التعبير الأحدث عن هذه النزعة نجده في محاضرة البابا الحالي بنديكتوس السادس عشر بجامعة رغنسبورغ عام 2006، والتي زعم فيها أنه في حين يقع العقل في المركز لدى المسيحيين في التاريخ، فقد كان غائباً في التاريخ الفكري للإسلام، وهذا هو السبب الذي جعل الإسلام يعتمد على القوة والعنف. أما فيما يخص والدي؛ فإنّ العقل كان مركزياً عند المسلمين، وليس فقط في الطريقة التي كانوا يتوجهون بها إلى غير المسلمين، بل وفي الطريقة أو النهج الذي ينبغي أن يتعاملوا به فيما بينهم، وبخاصةٍ في معالجة الاختلافات والنزاعات، وسواء أكان ذلك في الشأن العام أو الشؤون الخاصة. ومن وجهة نظره فإنّ الخلاف الواسع أو العميق لا ينبغي أن يدفع المتخاصمين من المسلمين أو يؤدي إلى تكفير أحدهما الآخر؛ بل ينبغي السلوك في النزاعات مسلك الإصرار المنضبط الذي يحترم فيه كلُّ طرفٍ قرينه حتى عندما لا يكون ممكناً التوصلُ لاتفاق. ولذلك فهو يقتبس مراراً الأثَر المنسوب للنبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «اختلاف علماء أمَّتي رحمة». وقد اختلف هو نفسُه اختلافاً بارزاً مع عددٍ من العلماء والمثقفين المسلمين، بشأن الفهم الصحيح لمسائل عَقَدية إسلامية وأُخرى في الممارسة؛ لكنه ظلَّ كلَّ الوقت يكره التعصُّب والتشدد والغلوّ في الدين، ثم إنه كان يكره التصرفات الشائنة التي تُرتكبُ باسم الحرص على الدين، سواء من جهة العامة والغوغاء، أم من جهة الأفراد من جهة الدولة. فالفرد يكون مسلماً إذا أعلن ذلك، أمّا الجدية أو عدمها فهي أمرٌ بينه وبين الله وحده.

 

لقد كان والدي يعدّ الدين بشكلٍ عام (والإسلام على وجه الخصوص باعتباره مسلماً) أساسياً في التفرقة بين ما هو أخلاقيٌّ وما هو غير أخلاقي، وما هو صوابٌ أو خطأ. وهو قد نظر إلى ذلك في تسويغه لإقامة دولةٍ إسلامية. وقد أوجز التعبير عن ذلك في موطنٍ معيَّنٍ على الشكل التالي: "لن تعرف أمةٌ أو جماعةٌ السعادة إن لم تكن موحَّدةً من الداخل، ولن تستطيع أمةٌ التوحد داخلياً إن لم يكن هناك إجماعٌ على مقاييس الصواب والخطأ في الشؤون الإنسانية، ولن يتحقق إجماعٌ كهذا إن لم يكن هناك اتفاقٌ على الواجبات الأخلاقية بين سائر أعضاء تلك الجماعة" (مبادئ نظام الحكم في الإسلام، النص الإنجليزي، 1961، ص6). وإنه لمما يدعو للانتباه أنّ هذه القضية التي أقام عليها محمد أسد ضرورة الدولة الإسلامية لا تستند إلى ما يمكن أن يعدّ "خضوعاً أعمى للماضي"؛ بل إنه أسَّسها على العقل. إنما إذا كانت الدولة قائمةً على تعقُّل قضيتها؛ فإنّ العقل أيضاً يمكن أن يُسائل ضرورتها، كما سأحاول فعلُهُ فيما يلي. بالنسبة للوالد، فإنّ الأخلاق والقانون هنا شيء واحد- وبخاصةٍ لدى المسلم المطالَب بالخضوع لإرادة الله. لقد كان والدي يعتقد أنّ الدولة لا بُدَّ أن تُبنى على أسُسٍ دينية؛ وذلك لأنّ الدولة هي وحدها التي تستطيع أن تُعطي القانون الإلهي القوة التي يحتاجها، وشرع الله(إرادة الله) هو مصدر القيم الأخلاقية كلّها ومصدر السعادة. وهنا يأتي سؤالي المُقلق: هل من الممكن لغير المسلمين أن يعيشوا أخلاقياً في دولةٍ إسلامية؟ وهل هناك حدودٌ للثقة بهم إن لم يكونوا ملزمين بالخضوع للقوة الأخلاقية لقوانين الدولة؟

 

ومثل كثيرٍ من المدافعين عن الدولة الإسلامية؛ فإنّ والدي يقول: إنّ غير المسلمين ينبغي أن يتمتعوا بالحماية الكاملة؛ لكنهم لا يستطيعون تقلُّد مناصب سامية في الدولة، وهو يرى أنّ هذا الأمر لا يعدّ تمييزاً أو معاملة غير نزيهة؛ بل على العكس من ذلك؛ فإنّ في ذلك اعترافاً بأنّ " غير المسلمين لا يجب أن يكونوا مُوالين تماماً للدولة"(كما قال ذلك باللفظ)، التي تحمل أيديولوجيا تختلف عن تلك التي يحملونها أو يعتقدونها. وبعبارةٍ أُخرى؛ فإنّ من حقّ الدولة على مسؤوليها الكبار مطالبتهم بالولاء الكامل لمقتضياتها ومصالحها، كما أنه يكون على أولئك المسؤولين أن يؤمّنوا طاعة وخضوع الرعايا استناداً إلى اعترافهم بشرعيتهم. ولأنّ غير المسلمين غير قادرين على أداء هذين الواجبين؛ يكون من الضروري الاعتراف بعدم قدرتهم على تولي المناصب الكبيرة والحسّاسة في الدولة: ماذا يمكن أن يكون "معقولاً" أكثر من ذلك؟

 

إنني أريد أن أبدأ النقاش مع الوالد بالتأكيد على أنّ مطالبة الدولة لرعاياها أو مواطنيها بالولاء المطلق، ظاهرةٌ حديثة، إنها تعود إلى عصر الدولة الوطنية، في مواجهة أعدائها الخارجيين- مثل الدول المعادية والخَوَنة- أما في الأزمنة ما قبل الحديثة؛ فإنّ المطلوب كان ولاء النبلاء والجنرالات والحكّام وليس عامة الناس. وسبب إصرار الدولة الوطنية على الولاء الكامل، هو خوفُها من الأعداء الخارجيين والداخليين؛ ولذلك فهي تشدّد على الوحدة. وعندما لا يتمُّ الالتزام بمبادئ الولاء والطاعة؛ فإنّ الدول الوطنية تلجأ إلى القوة في الإخضاع؛ بغضّ النظر عن الاختلاف والتفاوت. إنه في دولٍ كهذه؛ فإنّ التجمعات السياسية تصبح عدوَّها الرئيس الواقعي أو المنتظَر. ولأنها تعدّ وجودها أولويةً لا يمكن التفكيرُ ببدائلَ لها؛ فإنها تكون مستعدةً للإخضاع بشتى السُبُل والأساليب. وبالطبع، ليس كلّ شيء ظهر في الأزمنة الحديثة جيدٌ وإيجابي. فالدولة الليبرالية الحديثة هي مناط الخير العام من جهة، وهي مصدرٌ محتملٌ للقسوة والقمع. والحكام والمحكومون منفصلون عن الدولة، أما الدولة ذاتُها فهي خالدة. والحكومات إنما تحافظ على وحدة الدولة، وتمثّل المواطنين تُجاهها، وتحاول تحقيق مصالحهم، وعندما تخاطب الحكومة المواطنين فإنها لا ترجوهم، بل تُعاملُهُم بإمْرة القانون، من أجل "تحقيق الصالح العالم"، وهي قادرةٌ على معاقبتهم إذا عَصَوا وخالفوا. ويمكن تفسير القانون بأشكالٍ لا تنتهي، لكنّ الجانب القضائي أو السلطة القضائية هي التي تتخذ القرارات في النهاية، بحسب التفسير الذي استقرّ عليه الرأْي. ولا شكَّ أنّ الإعلان عن فوز هذا التفسير أو ذاك للقانون هو الذي يهبُ أشكال العنف تلك مشروعيتها. واحتكار الدولة للعنف من جهة، وسيطرتها على البيروقراطية من جهةٍ ثانية، هما الأمران اللذان يعطيان الحكومة سلطةً هائلةً، لا يمكن أن تجتمع للمواطن الفرد. وصحيحٌ أنّ الدولة الليبرالية العلمانية تحمي حقَّ المنشقّين في الاعتراض؛ لكنْ ليس هناك دولة(من خلال حكومتها) تسمح بالتجاوز عليها وعلى قوانينها تحت أيّ اسم؛ لأنَّ في ذلك تهديداً لوجودها المقدَّس.

 

وليس من المفاجئ أنّ بعض المسلمين يعدون الولاء المطلق للدولة (وهذا ما تطلبه الدولة الحديثة دون شكٍ أو تساؤل) مناقضاً للولاء المطلق الذي يتجه به العبد إلى الله. فوالدي -مثل معظم المسلمين- يعتقد أنّ تشبيه الله بمخلوقاته هو أمرٌ لا يمكن التفكير به لدى المؤمنين. والدولة إنما هي بنيةٌ صنعتها مخلوقات الله، والولاء لله لا يمكن أن يتقدمه ولاءٌ لمخلوقاته، ولذا ليس واضحاً بالنسبة لي لماذا أراد الوالد إعطاء الدولة الإسلامية ولاءً مطلقاً، وبخاصةٍ أنّ الشهادة نفسَها تشير إلى الحصْرية، وإلى الطاعة المطلقة (لا إله إلاّ الله، محمد رسول الله)، وهي لا تذكر أيَّ ولاءٍ من هذا النوع للحكام الدنيويين، ولا للمؤسَّسات أو التنظيمات. وبخلاف نظرية كارل شميت المشهورة في "السيادة" والتي تتعلق باللاهوت السياسي؛ فإنه في التقليد السلفي؛ لا يمكن أن تُشرعَنَ الدولةُ من خلال مشابهةٍ أو مُوازاةٍ بينها وبين الله. وكان شميت قد أسَّس مقولته في "السيادة" على قدرة الحكام على اشتراع "الاستثناء" في القانون، وقدرة الله على التدخل في الطبيعة من خلال العجائب والمعجزات. وهكذا ففي هذا التقليد الإسلامي، لا يمكن إدراك الله سبحانه باعتباره بطريركاً (كما في التقليد الأوروبي على مشارف الحداثة بشأن الحق الإلهي للملوك) أو باعتباره مشترعاً لميثاق سماوي (كما في الأفكار الأوروبية المبكرة بشأن العقد الاجتماعي). وهكذا وبنتيجة غياب نظرية للسيادة في التقليد الإسلامي؛ فإنه سواء أكانت الدولة تحتضن أيديولوجيا دينية، أو علمانية، وسواء أكانت تدّعي تمثيل الله سبحانه، أو تقول بالسلطة الدنيوية العادية؛ فإنها لا تستطيع أن تطلب من مواطنيها ولاءً مطلقاً. وهناك بين القائلين بالدولة الإسلامية اليوم مَنْ يؤكّدون على أنّ الله يملك السيادة أو الحاكمية فيها. إنما وبحسب الرؤية القرآنية؛ فإنّ كل شيء في هذا الوجود يقع تحت قدرة الله ومشيئته، فكيف يكون بوسع الدولة وهي تركيبٌ اجتماعيٌّ أن تطلب من مواطنيها الولاء المطلق؟! ولأنّ الدولة الإسلامية لا تملك السيادة (أو الحاكمية بالتعبير الإسلامي الحديث)؛ فإنّ أحداً من المتحدثين أو الحاكمين باسمها لا يستطيع أيضاً أن يطلب ذلك باسمها. ويمكن أن تكون الدولة ضروريةً في الأزمنة المعاصرة، لتأدية عددٍ من المهامّ التي تستطيع هي وحدها القيام بها. وبقدر ما تقوم بهذه المهامّ بطرائق شفافة ومتّسمة بالكفاءة؛ فإنّ الدعم من جانب المواطنين يكون متوقَّعاً ومرجَّحاً؛ بيد أنّ الدولة لا تملك مقولةً لاهوتية للسيادة في الإسلام؛ لأنّ الدولة وبخلاف ما ذهب إليه شميت -مستنداً إلى التاريخ المسيحي- لا تستطيع في الإسلام أن تتكلم كما يتكلم الله؛ إنها مخلوقٌ وليست خالقاً. لقد قيل (أو قال الوالد) إنّ الرعايا غير المسلمين لا يستطيعون أن يُعطوا الدولة الإسلامية ولاءً مطلقاً، وأنا ما قلتُ: إنهم يستطيعون ذلك؛ بل ذهبتُ إلى أنّ فكرة الولاء المطلق ذاتها في دولةٍ إسلامية تبقى غريبة. إنما ما هو الأمر الآخر الذي لا يستطيع غير المسلم أداءه أو القيام به في الدولة الإسلامية؟ والدي ذهب إلى أنّ كل المواطنين في الدولة الإسلامية- بما في ذلك غير المسلمين- لهم حقُّ الاختلاف، والذهاب إلى معارضة الحكومة عَلَناً. إنما إلى أيّ حدٍ يستطيع غير المسلم معارضة حكومةٍ إسلاميةٍ قائمة، هي بالمعنى الضيّق ليست حكومته هو؟ وهذا الأمر لا يتعلق ببساطة بالخوف؛ بل يتعلق بالمشاركة. ويكمن جزءٌ من "الجواب" في أنّ الدولة الإسلامية ملزمةٌ بحماية غير المسلمين، بما في ذلك إعطاؤهم حقّ حرية التعبير وحرية الإيمان والعبادة. لكنّ الالتزام بحماية كلّ أحدٍ وحقوقه على قدم المساواة، لا تعني الحقّ بالمشاركة بالتساوي في الحياة العامة. ومثل ذلك عندما نذهب إلى أنّ من حقّ المراهقين على الراشدين الحماية وتأمين الحقوق، فليس معنى ذلك أنّ من حقّ المراهقين أن يشاركوا في حياة الراشدين! فهل ينبغي النظر لغير المسلمين في الدولة الإسلامية باعتبارهم بمنزلة الأطفال الذين يتمتعون بحماية الراشدين؟! أو يكون علينا تشجيع غير المسلمين هؤلاء على مغادرة مواطنهم الأصلية إلى ديارٍ لا يكون فيها المسلمون أكثرية؟ والمسألة هنا أنه إذا لم تكن الدولة دولتهم؛ فإنّ المواطنين غير المسلمين لا يمكن أن تمثّل مصالحهم الدولة الإسلامية التي يعيشون فيها، تماماً مثلما أنّ الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل (وسواء أكانوا مسلمين أم مسيحيين) لا يمكن أن تمثّلهم الدولة اليهودية! وهكذا فإنني أقول بكل احترام: إنني أختلف مع والدي في هذه المسألة مستدعياً قول النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «اختلاف علماء أمتي رحمة». فنحن نتشارك في العيش في هذا التقليد العريق، وإن كان الوالد -رحمه الله- هو الأكبر والأكثر علماً إلى حدودٍ بعيدة.

 

ومع ذلك، فيمكن القول: إنّ هناك أمراً آخر ينبغي أخذه بالاعتبار في دعوة والدي للدولة الإسلامية، وهذا الأمر ينبغي أَخْذُهُ بجدّية: مكانة الدين والأخلاق في الحياة السياسية. ويتطلب ذلك منا التفرقة بين الدولة والسياسة. وتتعلق الأولى بممارسة السلطة، وتطلُّب الطاعة (ومن هنا يأتي قانون معاقبة الخيانة)، ويتلازم ذلك مع حلول التوجُّس والخوف- الخوف من العنف الداخلي والعنف الخارجي. فالعقوبات على الجرائم وصناعة الحرب، هذه الأمور هي وظائف أساسية لسيادة الدولة أو سلطانها. وهذا المفهوم للدولة هو الذي تحدث عنه للمرة الأولى توماس هوبز، والذي صار البداية للنظريات حول الدولة الحديثة. أما السياسة -من جهةٍ ثانية- فإنها تتضمن نقاشاً، وصراعاً، وتطلُّب المساواة؛ لأنّ ذلك الذي يجادل أو لا يتقبل رأيي؛ فإنه يدعي لهذه الناحية أنه مُساوٍ لي. والسياسة بهذا المعنى يمكن أن تكون -وينبغي أن تكون- متركِّزةً على سلطة الدولة. ونظرية السيادة أو سلطان الدولة هي التي ترفع المطلب أن تكونَ الدولةُ هي المركز والمعنى الأَوحد للسياسة. فهل يجب أن تسودَ القوة والمصالح المادية، أو أنّ هناك مكاناً للأخلاق والدين في الحياة العامة؟ في النظريات المعاصرة لليبرالية السياسية هناك تفرقة واضحةٌ بين المجال العام والمجال الخاص (وإن يكن هناك اختلاطٌ بينهما في الواقع). والسياسة بهذا المعنى يصبح موضوعها الأخلاق، والدين هو موطن الالتزامات المتركزة في المجال الخاص. والأخلاق والدين ينبغي أن يُبعدا عن الدولة؛ لأنه بسبب طبيعتهما المبدئية يمكن أن يؤديا إلى عنفٍ لا يتعذَّرُ إخمادُه. ولذا فإنّ النظرية الليبرالية تضع الأخلاق والدين في المجال الخاصّ؛ لكنني أودُّ أن أقول هنا: إنّ القراءة النقدية واجبةٌ للمقولة الذاهبة إلى أنّ الدين والأخلاق إنما يجلبان العنف والنزاعات، بينما تجلب الدولة العلمانية السِلْم والأمن. والسؤال هنا: هل يمكن المجيء بالدين والأخلاق إلى المجال العام دون أن تكون سيادة الدولة موضوعهما؟ إنّ هذا السؤال فيما أحسب كان حاضراً في تفكير والدي بشأن الدولة والسياسة والدين والأخلاق، والذي أحسبُهُ أنّ اهتمام الوالد بالأخلاق يقع في أصل تفكيره بالدولة الإسلامية؛ إنما الذي تجاهل بحثه تلك التفرقة بين السياسة والدولة. ليس من الضروري أن تكون السياسة مشغولةً بالمصالح الوطنية. وبمقتضى المبادئ السالفة الذكر؛ فإنه يمكن للدين والأخلاق أن يرفضا احتكار الدولة للسياسة. لقد كان الدين تاريخياً مصدراً مهماً للسلوكات المبدئية، ولذا يمكن القول إنه بالنسبة للمسلمين فإنّ إمكانية الإسلام السياسي لا تكمن في طموحه إلى الاستيلاء على قوة الدولة من أجل تطبيق الشريعة؛ بل في ممارسة النقاش العام والسعْي بحدِّ ذاته، وبذلك تصبح الالتزامات الدينية والأخلاقية أضيق أو أوسع من حدود الدولة الوطنية، وهذا يعني توسيع مدى الحِراك أكثر مما تسمح به الدولة الحديثة.

 

وأريد أن أنتهي هنا إلى نقطة أعتقد أنها كانت مهمةً على وجه الخصوص في الرؤية الأخلاقية للوالد؛ فقد لاحظتُ أنه يقتبس مراراً آيات سورة التكاثر القرآنية: ﴿ألهاكُمُ التكاثُر. حتى زُرتم المقابر﴾، فهذه الآيات تُدين النزعة الاستهلاكية والغرائزية المُفزِعة، وتنتهي الآيات إلى "علم اليقين": ﴿لتروُنّ الجحيم﴾. والجحيم هنا قد يكون هذا العالم المعاصر المليء بالشهوات والغرائز والرغبات التي تصنعُ منها جحيماً حاضراً لنا وللآخرين. لقد كان هذا الجموح هماً دائماً عنده، حيث تختلط الغرائزية بدعوى الاستقلالية والقرار الذاتي الحُرّ. أمّا ما لا نلاحظُهُ على وجه السرعة؛ فهو أنّ لنهج الحياة هذا علاقةً بالدولة الحديثة، التي لا تكتفي بتطلُّب الولاء المطلق؛ بل تشجِّع أيضاً النزعة الاستهلاكية القاتلة بالقوانين الملائمة! وهذا كلُّه يدفع باتجاه استبدال هذا الهول بأَيديولوجيا دينية. وفي هذا السياق يقع التساؤل عن الفروق بين "القيم الديمقراطية" و"الديمقراطية الحقيقية" أو أماكن الالتقاء والافتراق.

 

إنّ الأمر الأول الذي ينبغي أن يثير الاهتمام هو الفرقُ بين مفهوم السياسة كما هو عند كارل شميت في تعريفه الشائع: صديق/عدو، والذي يتصل بقوة بمفهوم سيادة الدولة أو سلطانها. والذي يبدو لي أنّ مفهوم السياسة الإسلامية- كما هو عند والدي- سوف يبعدنا بالتدريج عن مشروع الدولة الإسلامية، والذي لا يبعُدُ كثيراً في الجوهر عن أي دولةٍ حديثة. ويبدو لي أنّ هذا الأمر متضمَّنٌ في حياة والدي وكتاباته؛ وذلك لأنّ العقل يشكّل جزءًا مهماً من ميراثه الفكري. وهذا بالتأكيد أهم بكثير من "الحوار بين الشرق والغرب"، والذي صار في الموضة الآن. فالذي يظهر أنّ "الحوار بين الحضارات" يفترض أمرين مهمَّين: أولهما أنه يكون على المسلم أن يؤكد للأوروبيين والأميركيين أنّ الإسلام ليس أصلاً للعنف. وثانيهما وفي الوقت نفسه أن على الغربيين مساعدتنا في إصلاح الإسلام! وهذان أمران يدعوان للتعجب والاستغراب. إنّ على المسلمين بالطبع أن يظلُّوا منفتحين على المجتمعات والأفكار الاُخرى، وأن يستفيدوا منها ويتأملوها بنقدية. والأمل أن يتعلم الغربيون من الفكر الإسلامي أيضاً ومن التجربة الإسلامية، وأن يتأملوها بنقدية (حتى لو لم يكن أكثرهم يبتغي القيام بذلك). بيد أنّ الحوار الحسن النية ليس كافياً لإنجاز هذا التأمُّل المتبادَل.

 

ما كان الوالد إذن مهتماً بالحوار الإسلامي- المسيحي؛ بل كان همُّه أخلاقياً، وكان يريد إقامة الدولة الإسلامية على الدين والأخلاق؛ لتتنافس مع الدولة- (الأمة عند الغربيين) لصالح العالَم والإنسانية. لكنه ومن حيث لا يقصدُ استعار المبدأ الغربيَّ في "الولاء المطلق"، وهو ما لا يمكن فعلُهُ في الإسلام؛ بل الذي يمكن فِعْلُهُ أن يظلَّ الدين، وتظلَّ الأخلاق، في مواقع الرقابة والإسهام وصُنْع منظومة القيم؛ ليكونا المرجع، فلا تسيطر مقولة "الإطلاقية" على الدولة كما في الفكر الغربي. أمّا تحويل "الشريعة" لقانون، والمطالبة بتطبيقها؛ فإنه يحوّل الدين إلى أداةٍ في السيطرة، وتصبح مبدئيته أو إطلاقيته ضاغطةً جداً، ووسيلةً من وسائل الصراع على السلطة.

 

**********************

 

*) محمد أسد هو الاسم الذي تسمّى به المستشرق النمساوي ليوبولد فايس بعد أن أسلم، وعاش مدةً في السعودية وتزوج. وقد تُرجم إلى العربية من كتبه: الطريق إلى مكة، ومبادئ نظام الحكم في الإسلام. وطلال أسد هو ابنه من امرأته العربية، وهو أنتروبولوجيٌّ مشهور، وله أعمالٌ في علائق الدين والمجتمع، والعلاقات بين الأديان والثقافات. وقد أرسل هذه المقالة التي كتبها عن والده، للنشر في مجلة: التفاهم.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/4/92

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك