الحرب العالمية الأولى: وحركات المقاومة والتحرر في بلدان المغرب العربي

د.محمد العمارتي

يعيش العالم قاطبة هذه السنة حدثاً خاصاً لا يمكن نسيانه أو تجاوزه بسهولة أو مجرد القفز عليه وتناسيه. إنه حدث مرور مئة عام على اندلاع الحرب العالمية الأولى. مضت مئة سنة على هذا الحدث الكوني، والعالم المعاصر يجر وراءه حصيلة ثقيلة من المتغيرات والنتائج المتضاربة التي انعكست سلباً على دول العالم وقاراته، بل إنه الحدث الذي شكل أنظمة جديدة للعالم، وحدد هندسة سياساته الجديدة حسب مقاساته وجنون قادته ومخططيه، وتطلعاتهم التي كانت بسعة حجم الكون كله لا تنتهي ولا تقف عند حد ممكن.

نجم عن ذلك كله رسم خرائط جديدة للعالم ولجغرافيته السياسية والاقتصادية والثقافية والنفسية ما تزال البشرية تعاني إلى اليوم من تداعياتها.

 على أية حال فإننا هنا لسنا بصدد تحليل أو مناقشة أسباب هذه الحرب وإحصاء مخلفاتها البشرية والمادية والبيئية والإنسانية، بل سنسعى في حدود هذا الحيز المسموح لنا به إلى الحديث عن تمظهراتها وتجلياتها وانعكاساتها على البلدان الإسلامية والعربية عامة، ودول المغرب العربي الكبير خاصة التي كانت تعاني آنذاك من الاستعمار الأوروبي، وما أحدثته من متغيرات ومستجدات إيجابية عجلت باستقلالية هذه الدول واستشراف شعوبها للانعتاق والتحرر والكرامة.

العالم الإسلامي العربي غداة الحرب العالمية الأولى

 لقد تطلّعت الشعوب العربية منذ أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين إلى التحرر من الحكم العثماني وبناء دولتها المستقلة، بحيث ارتفعت من خلالها أصوات المفكرين، داعية الشعب العربي إلى التضامن والوحدة في مواجهة الاضطهاد وسوء المعاملة التي كان يمارسها الحكم التركي، وبخاصة في محاولته المستمرة فيما يدعى بسياسة (التتريك)، وكانت مطالبة العرب في البداية الدعوة إلى المشاركة في الحكم على نحو فعال وليس الاستقلال، فقد كان هناك خوف من الانتقال من حكم الأتراك إلى حكم أجنبي آخر، كما حصل في الجزائر وتونس والمغرب حين خضعت للنفوذ الفرنسي، في حين خضعت ليبيا للنفوذ الإيطالي، وشمال المغرب وجنوبه للنفوذ الإسباني، ومصر والسودان للنفوذ الإنجليزي.

 لكن مع اشتداد حملة التتريك، وبعد أن يئس العرب في المشرق، من طروحات المشاركة في الحكم، بدؤوا يتجهون إلى المطالبة بالاستقلال التام وبناء الدولة العربية المستقلة. وبدؤوا الإعداد للثورة، فحصل اتصال بينهم وبين أوروبا قبل الحرب العالمية الأولى في لقاء بين الأمير عبد الله بن الحسين والمعتمد البريطاني في مصر (كنشر) للوقوف على رأي بريطانيا، كان ذلك في شهر فبراير سنة 1914. فكان جواب بريطانيا سلبياً بحجة أنها تريد المحافظة على الصداقة مع تركيا. إلا أن قيام الحرب العالمية الأولى كان بنظر العرب، فرصة عليهم اقتناصها للحصول على دعم أوروبا لقضيتهم، فاجتمع قادة (جمعية العربية الفتاة) و(جمعية العهد) مع الأمير فيصل بن الحسين وفوضوا في هذا الاجتماع الشريف حسين بإجراء اتصالات مع بريطانيا للحصول على تأييدها للثورة العربية. وبالفعل فقد نجم عن هذه الاتصالات المراسلات المعروفة بمراسلات (حسين مكماهون) التي وعدت بموجبها بريطانيا بالاعتراف باستقلال العرب وبدعم هذا الاستقلال مقابل إعلان الثورة على الأتراك. وبالفعل دخل العرب الحرب حلفاء لبريطانيا في 5/6/1916، وكان لهم دور أساس في إضعاف تركيا التي كانت منخرطة في الحرب إلى جانب الألمان.

 ودخلت الثورة العربية دمشق مع بريطانيا بتاريخ 30/9/1918، ورفعت الراية العربية في دمشق بعد حكم العثمانيين الذي امتد من عام 1516 وحتى عام 1918، فاستعادت وجهها العربي الذي افتقدته أربعة قرون، لتقع في دائرة الصراع الدولي والمصالح الدولية. إلا أن بريطانيا نكثت بوعدها، فكان بدلاً عن الوفاء به اتفاقية (سايكس  بيكو 1916) التي كانت بمثابة الخلفية التي تمّ بموجبها تقسيم الشرق العربي إلى دول جديدة.

وقد نصت اتفاقية  سايكس – بيكو على تقسيم المنطقة العربية شرق المتوسط المعروفة باسم بلاد الشام، (الهلال الخصيب) إلى ثلاث مناطق:

•المنطقة (أ) الزرقاء وهي العراق وتخضع للإدارة البريطانية.

•المنطقة (ب) الحمراء وهي سوريا وتخضع للسيادة الفرنسية.

•المنطقة (ج) السمراء وهي فلسطين وتخضع لإدارة دولية.

 وتعتبر اتفاقية سايكس بيكو من أخطر الوثائق التي تمّ تطبيقها، وفرض حالة من التقسيم والتجزئة في المشرق العربي، إلى جانب كونها تتخطى مشاعر العرب وتطلعاتهم في إقامة دولتهم، وتضعهم منذ ذلك الوقت تحت هيمنة وسيطرة الدول الاستعمارية الكبرى، كما أنها تفتح باب الصراع بين هذه الدول على المنطقة العربية وتجعلها موضوعاً دائماً لمصالحها المتناقضة.

 وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، تمّ حصول البلدان العربية والإسلامية على استقلالها السياسي تباعاً، وتم تكريس تقسيمها، وحالت الظروف الدولية والشروط الموضوعية الذاتية دون تحقيق الوحدة العربية، بل أسهمت هذه الظروف والشروط في إعاقة قيام نظام عربي إقليمي في إطار جامعة الدول العربية، ومنع قيام تكتل اقتصادي عربي موحد.

 كان ذلك في بلدان المشرق العربي فما هي إذن ظروف نشأة الحركة الوطنية في دول المغرب العربي (المغرب/الجزائر/ وتونس/ وليبيا)؟  سيقتصر العرض في هذه القراءة على الوضع الخاص بالمغرب نظراً لمحدودية مساحة النشر، وما هي مميزات هذه الحركة في فترة ما بين الحربين وفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية؟

عوامل ظهور الحركة الوطنية ببلدان المغرب العربي

 خضعت هذه البلدان لاستغلال استعماري واجهته مقاومة عنيفة اختلفت بحسب الظروف الدولية والمحلية، وقد تحولت من المطالبة بالإصلاحات إلى المطالبة بالاستقلال.

الوضع الخاص بالمغرب: مفهوم نظام الحماية، وظروف فرضه على المغرب.

1)  مفهوم نظام الحماية:

 نظام استعماري فرض على المغرب خلال الفترة الممتدة بين 1912 و1956، بعد أن فرضت عليه فرنسا معاهدة فاس في 30 مارس 1912 التي قسمت التراب المغربي إلى ثلاث مناطق استعمارية: المنطقة الدولية بطنجة. منطقة الحماية الإسبانية بالشمال (جبالة، غمارة، الريف..)، وبالجنوب المغربي (الساقية الحمراء ووادي الذهب).

• منطقة الحماية الفرنسية بوسط البلاد الذي تم تقسيمها إلى جهات مدنية، (وجدة والرباط والدار البيضاء)، وجهات عسكرية، (فاس مكناس مراكش وأكادير).

2)- الظروف التي فرضت فيها الحماية على المغرب:

 وقد ساهمت عوامل خارجية في فرض نظام الحماية على المغرب تمثلت في اشتداد التنافس الاستعماري الأوروبي حول المغرب، وقد حسمت فرنسا هذا التنافس عبر اتفاقيات ثنائية انفردت بموجبها بالمغرب، حيث تنازلت في سنة 1902 لإيطاليا عن ليبيا مقابل المغرب، ثم تنازلت لبريطانيا عن مصر سنة 1904، كما حصلت على امتيازات متعددة في المغرب بموجب مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906، وفي سنة 1911 تنازلت لألمانيا عن الكونغو، وفي 27 نونبر 1912 اتفقت مع إسبانيا حول تحديد مناطق احتلالها.

3)   الأجهزة الإدارية للحماية الفرنسية:

 توزعت بين إدارة مركزية وإقليمية ومحلية: فعلى رأس إدارة الحماية المقيم العام للإقامة العامة (اليوطي أول مقيم عام 1912-1925) يمثل الجمهورية الفرنسية بالمغرب يسير المصالح الإدارية والعسكرية، يسن القوانين ويصادق عليها. وله مطلق الصلاحيات، يساعده كاتب عام يشرف على جميع الإدارات. إضافة إلى المديريات السياسية، منها الداخلية تراقب السلط جهوياً ومحلياً، والأمنية تراقب أفكار المغاربة وتقمع المعارضين، ثم مديرية الشؤون الشريفة تراقب وظائف المخزن وتقدم القرارات للسلطان والصدر الأعظم. أما الإدارة المغربية مركزياً فعلى رأسها السلطان (يمثل السلطتين السياسية والدينية) يساعده الصدر الأعظم ووزارتا العدل والأوقاف.أما محلياً فيمثل الإدارة المغربية الباشوات في المدن وبالبوادي وكان هناك القائد، الشيخ والمقدم، يخضعون للإدارة الفرنسية المدنية والعسكرية.

المقاومة المسلحة ودورها في مواجهة نظام الحماية الاستعماري

1) مظاهر المقاومة المسلحة المغربية للاحتلال الفرنسي:

 معركة سيدي بوعثمان: حيث انتفض سكان مدينة فاس ضد الوجود الفرنسي وانطلقت المقاومة الجنوبية من الصحراء المغربية بزعامة أحمد الهيبة ابن الشيخ ماء العينين، وأخيه مربيه ربه، وتصدت هذه المقاومة للجيش الفرنسي في شمال مراكش، وبسبب اختلاف موازين القوة انهزم المغاربة. ولكن بعدها عاد المجاهدون لمواصلة المقاومة بالجنوب المغربي إلى غاية وفاة مربيه ربه سنة 1934.

 معركة الهري: قاد موحا أوحمو الزياني قبائل زيان بخنيفرة بالأطلس المتوسط، واستطاعوا بفضل شجاعتهم وخططهم الحربية الانتصار الساحق على الفرنسيين – قتل وأسر كبار قادة الجيش- في معركة الهري يوم 13نونبر 1913.

 معركة مسكي الرجل: تزعم المجاهد الشريف المحمدي العلوي قبائل تافيلالت بالجنوب الشرقي للمغرب لمقاومة الاحتلال الفرنسي، وقد صمد المقاومون في جبهات المعركة حيث اضطروا إلى ربط أرجلهم ببعضهم بالحبال للثبات في مواقعهم، وأداروا معركة طاحنة ضد الجيش الفرنسي بمنطقة مسكي - قرب الريصاني- سنة 1919 انتهت باستشهادهم.

 معركة القوس: ترأس المجاهد باعلي المقاومة المسلحة بالجنوب الغربي لمنطقة تافيلالت ضد القوات الفرنسية وعملائها من المغاربة، وانتهت بانهزام المقاومة في معركة القوس 31 يوليوز إلى 3 غشت 1920.

 معركة بوغافر: قاد المجاهد عسو أوبسلام قبائل أيت عطا بالأطلس الكبير، وتولى قيادة المقاومة. ورغم استعمال الجيش الفرنسي للطائرات والمدافع والقنابل، فإن المقاومين صمدوا في معركة القوس من 12 فبراير إلى 24 مارس 1933، ولم يستسلموا إلا بعد أن استنفدوا أسلحتهم، مقابل شروط قدمها عسو أوبسلام للفرنسيين، توفي سنة 1963.

2) مظاهر المقاومة المسلحة المغربية للاحتلال الإسباني:

تزعم محمد بن عبد الكريم الخطابي المقاومة المسلحة الريفية التي حققت نصراً كبيراً في معركة أنوال يوم 21 يوليوز 1921 ضد الاحتلال الإسباني بالشمال المغربي، وبعد هذه المعركة تحالفت إسبانيا مع فرنسا، وشنتا حرباً عسكرية استعملت فيها الغازات الكيماوية، واستسلم محمد بن عبد الكريم الخطابي يوم 27 ماي 1926.

 قاد أحمد أخريرو مقاومة قبائل جبالة بالشمال الغربي من المغرب ضد الاحتلال الإسباني إلى أن استشهد يوم 3 نونبر 1926.

3) مظاهر صمود المقاومة المسلحة في مواجهة الاحتلالين الفرنسي-الإسباني:

 تطلب احتلال المغرب عسكرياً من قِبَلِ سلطات الحماية 22 سنة من العمل العسكري (1912إلى1934) وذلك بفضل قوة المقاومة المسلحة المغربية وحسن تنظيمها، رغم استعمالها وسائل وأسلحة تقليدية بسيطة وأسلحة الغنائم العسكرية من المعارك كما هو الشأن في معركة (الهري) و(أنوال) مقارنة مع التفوق العسكري للمحتل المكون من جيش نظامي مجهز بأسلحة متطورة نارية ودبابات وطائرات. إضافة إلى ارتفاع الروح القتالية للقبائل والتفافها حول زعماء المقاومة. وهو ما حاولت فرنسا ضربه بخلق التفرقة بين مكونات المجتمع المغربي من أمازيغ وعرب بإصدارها للظهير البربري سنة 1930، إلا أن المغاربة أفشلوه وزاد من شعورهم الوطني المغربي. وبنهاية المقاومة المسلحة سنة 1934 دخلت المقاومة المغربية مرحلة المقاومة السياسية إلى جانب العمل المسلح بقيادة الأحزاب السياسية.

 ومنذ سنة 1944 انتقلت الحركة الوطنية المغربية إلى المطالبة بالاستقلال، ففي 11 يناير 1944 أصدر حزب الاستقلال (الحزب الوطني سابقاً) وثيقة المطالبة بالاستقلال التي نادت بإلغاء نظام الحماية وباستقلال المغرب ووحدته الترابية في إطار الملكية الدستورية. وتبنى السلطان محمد الخامس هذه الوثيقة حيث قام في شهر أبريل 1947 بزيارة مدينة طنجة وألقى خطاباً أكد فيه على الوحدة الترابية وعلى تشبث المغرب بالقومية العربية والعقيدة الإسلامية. وأصدر السلطان بتنسيق مع قادة الحركة الوطنية مذكرات تطالب بالاستقلال.

 وفي 20 غشت 1953 نفي السلطان محمد الخامس والأسرة الملكية إلى جزيرة كورسيكا، ومنها إلى مدغشقر. بمجرد نفي السلطان، انطلقت مظاهرات في المدن المغربية، وقاطعوا البضائع الفرنسية. وظهرت حركة فدائية مسلحة قادها بعض الزعماء من أشهرهم علال بن عبد الله ومحمد الزرقطوني وأحمد الحنصالي. في نفس الوقت تأسس جيش التحرير (جيش تطوعي) الذي تولى مهاجمة المواقع الاستعمارية في جبال الريف والأطلس المتوسط والكبير والمناطق الصحراوية. أمام تصاعد الكفاح المسلح، اضطرت فرنسا إلى عقد اتفاقية إيكس ليبان (غشت 1955) التي بموجبها عاد السلطان محمد الخامس إلى وطنه في نونبر 1955. وتشكلت حكومة مغربية تكلفت بمتابعة التفاوض مع فرنسا الذي أسفر في 2 مارس 1956 عن توقيع اتفاقية مغربية فرنسية وضعت حداً للحماية الفرنسية. وفي أبريل من نفس السنة ألغيت الحماية الإسبانية في المنطقة الشمالية. ثم بعدها ألغي الوضع الدولي لمدينة طنجة، وفي 18 نونبر 1956 حصل المغرب على استقلاله.

 وبذلك تحقق الاستقلال في دول المغرب العربي بفضل ما شهدته شعوبها من رفض للاحتلال من خلال المقاومة المسلحة والمقاومة السياسية ثم الكفاح المسلح مع وجود اختلاف لنضال الحركة الوطنية من بلد لآخر بطبيعة الحال.

المصدر: http://www.arabicmagazine.com/Arabic/ArticleDetails.aspx?Id=3668

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك