الحرب العالمية الأولى وتأثيراتها على المنطقة العربية

فاروق مصطفى

 

لا يمكن اعتبار الحرب العالمية الأولى حدثاً مهماً وحاسماً في المنطقة العربية، كما هي بالنسبة لمعظم جغرافية أوروبا التي كانت مسرحاً أساسياً لتلك الحرب؛ لكن من المعروف أن هذه الحرب فاقمت الخصومة بين السلطنة العثمانية والإمبراطورية البريطانية الأمر الذي عزز نفوذ القادة المحليين في المناطق العربية عبر التحالف مع هذا الطرف أو ذاك في سبيل تحقيق تطلعات شعوبهم، وأسفر لاحقاً عن تأسيس كيانات ودول عربية مستقلة راحت تصارع إرث الاستعمار الطويل.

 وشهدت المنطقة العربية، إبان هذه الحرب، تحولات كبيرة، ولعل من أبرز النتائج هو زوال الإمبراطورية العثمانية التي كانت تتحكم بالعالم العربي لنحو أربعة قرون، وظهور قوى استعمارية جديدة مثل بريطانيا وفرنسا اللتين راحتا تتقاسمان النفوذ وتبحثان عن مصالحهما في المنطقة. وتشير المصادر التاريخية إلى أن الوضع في شبه الجزيرة العربية، بداية الحرب، كان منقسماً، ففي حين كانت السلطنة العثمانية تفرض سيطرتها على منطقة الحجاز على ساحل البحر الأحمر، بما فيها الحرمين الشريفين، وتعتبر المنطقة المتاخمة جنوباً، اليمن ضمناً، من أراضيها، فإن بريطانيا بدورها كانت تسيطر على المنطقة الممتدة من عدن إلى عُمان وعلى ساحل الخليج العربي وحتى الكويت، وكانت إدارة هذه المناطق تتم عبر الاستعانة بوجهاء محليين يطمحون لتحقيق مكاسب لشعوبهم، وكانت مناطق نفوذ القوى الاستعمارية تمتد بالطبع حتى شمال أفريقيا ومنطقة المغرب العربي.

 وتختلف روايات تاريخ الحرب العالمية الأولى في المنطقة، حسب المؤرخين، فمن ناحية يمكن طبعاً اعتماد وجهة نظر المشاركين في الحرب رسمياً، خصوصاً البريطانيين، والعثمانيين، الذين كانوا يستشيرون الألمان ويعتمدون عليهم عسكرياً. وفي هاتين الروايتين نقرأ أقاصيص شعبية عن المآثر العظيمة. وأكثر هذه البطولات شهرة هي قصة لورنس العرب، الضابط البريطاني الذي رافق منذ حزيران/ يونيو 1916 انتفاضة الشريف حسين على العثمانيين، أو ما يسمى في الأدبيات القومية بالثورة العربية الكبرى. إلا أن حكايات الأبطال انتشرت على الجبهة المعادية أيضاً، فأحد أعداء الشريف حسين كان القائد العثماني عمر فخر الدين باشا، قائد الحماية العثمانية للدفاع عن المدينة المنورة وسكة حديد الحجاز في وجه قوات الشريف حسين. (أسد) أو (نمر) الصحراء صمد في المدينة ودافع عنها 72 يوماً حتى بعد استسلام العثمانيين، ولم يتوقف قبل أن يعتقله جنوده ويسلموه إلى البريطانيين المنتصرين. إلا أن حكايات الإمبراطوريات والأبطال تخفي أشياء كثيرة من بينها تناقضات السياسة الإمبريالية فضلاً عن معاناة شعوب مناطق الحرب والجنود المرغمين على خوضها. وكذلك تخفي أن الصراعات الإمبريالية الإقليمية، التي يشتد أوارها في حالة الحرب، تفتح أمام المشايخ المحليين خيارات جديدة، لا سيما وأن الوعي السياسي والقومي راح يتشكل بفعل كتابات الكثير من المفكرين والعلماء العرب في تلك الحقبة.

 وكان واضحاً أن البريطانيين، الذين كانوا يحاربون حلفاء الألمان العثمانيين في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، كانوا يبحثون عن حلفاء محليين وبخاصة إذا انضوت أهداف هؤلاء تحت أهداف الحرب العليا. فعلى أعتاب الحرب تنادى في بلاد الشام ومركزها دمشق القوميون العرب راجين أن تحل الدولة العربية الكبرى محل الحكم العثماني بمساعدة شريف مكة. هؤلاء كانوا في البداية قلة قليلة، إلا أن تجربة الحرب سرعان ما ساهمت بالفعل في تقويض الشرعية العثمانية.

 وكان لشريف مكة هدف يتمثل في دولة عربية كبرى في المشرق العربي، وهذا ما أشار إليه في مراسلاته السرية إلى الممثل الأعلى لبريطانيا في مصر المحتلة، هنري مكماهون، طوال 1915 - 1916. لكن مكماهون كان حذراً بما فيه الكفاية للتحفظ على عدة أمور تتعلق بمصالح الحكام المحليين، المتحالفين بدورهم مع بريطانيا، وكذلك بالأطماع الفرنسية المحتملة في سوريا. إلا أنه من المرجح أن الشريف حسين لم يكن مطلعاً بالإطلاق على تفاصيل المباحثات الفرنسية البريطانية كما صيغت في اتفاقية سايكس بيكو، السرية بدورها، عام 1916. ونظراً إلى الهزائم البريطانية حاول الشريف العودة إلى العثمانيين وعرض عليهم الدعم العسكري مقابل منحه حكماً ذاتياً موسعاً على المناطق العربية التي يطمح إليها. إلا أن الوالي العثماني في سوريا اعتبر هذا محاولة ابتزاز، وعليه دعا الشريف في حزيران/يونيو 1916 إلى الثورة تلافياً للهجوم العثماني الوشيك.

 تزخر صفحات الحرب الطويلة هذه بالكثير من التحولات والتغييرات غير أن أبرز ما شهدته المنطقة العربية هو هزيمة الدولة العثمانية، وتكريس النظام الجديد في الشرق الأوسط برعاية فرنسية وبريطانية، ولم يمض وقت طويل حتى رحل هؤلاء أيضاً فجاءت أنظمة حكم محلية بدأت بشعارات الوطنية والسيادة والاستقلال وسرعان ما أحكمت سيطرتها على البلاد والعباد، ومارست قمعاً عبر عقود طويلة، ولعل الثورات التي قامت في البلاد العربية قبل نحو أربع سنوات، هي من نتائج تلك الممارسات السياسية المجحفة بحق شرائح واسعة من المواطنين.

المصدر: http://www.arabicmagazine.com/Arabic/ArticleDetails.aspx?Id=3666

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك