الحرب العالمية الأولى: آثار في الأعماق آثار في السطوح

د.عبدالله إبراهيم

 

لم تكن الحرب العالمية الأولى حدثاً عارضاً كالحروب التي سبقتها في التاريخ بين أمة وأخرى، إنما هي نزاع دموي مرير اشتركت فيه الإمبراطوريات الكبرى في مطلع القرن العشرين، وقد أفضت إلى ظهور عالم مختلف عما كان عليه قبل حدوثها، إذ يمكن اعتبارها ختاماً للعالم القديم بقيمه وعلاقاته السياسية، وبداية ظهور عالم جديد. اندلعت الحرب العالمية الأولى بسبب إخفاق التعايش بين الإمبراطوريات الكبرى، فتضاربت قواها وإراداتها وتطلعاتها بحرب شاملة انخرطت فيها دول كثيرة، وتأدى عنها انهيار بعض الإمبراطوريات، وانحسار نفوذ أخرى، واختفاء دول بكاملها. والحال هذه، أظهرت تلك الحرب ما يمكن اعتباره العالم الحديث بالمعنى السياسي والثقافي للحداثة.

ولعل أحد تمخضات تلك الحرب بروز مصطلح سياسي جديد، هو (الوطن العربي) أو رديفه الحامل للمعنى نفسه تقريباً (العالم العربي) بحدوده الخارجية الحالية التي لم يجر تغيير كبير عليها، لكنه عرف مزيداً من التمزقات، والتشققات، ولم يفلح، طوال قرن، على توحيد نفسه في إطار ناظم لعلاقاته، إنما ظل منقسماً. وأخفق في تعريف نفسه أمام العالم بوصفه نسيجاً متجانساً وموحداً في الأدبيات السياسية والتاريخية المعاصرة. ولطالما نظر إليه على أنه كيانات متنازعة في سياساتها ومصالحها وعلاقاتها الدولية.

لم يكن مصطلح (الوطن العربي) أو (العالم العربي) معروفاً قبل الحرب العالمية الأولى، فقد كانت بعض أطرافه ملحقة بالسلطنة العثمانية، وأخرى خاضعة للإمبراطوريتين الفرنسية والإنجليزية، وأجزاء قليلة منه لديها ما يمكن عدّه استقلالاً زائفاً، وبانهيار السلطنة العثمانية، وانحسار التجربة الاستعمارية، انبثق كيان شبه مبهم، من الناحية السياسية، يتطلع إلى احتواء شعب/شعوب المنطقة الممتدة من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، وقد وجد هذا الكيان نفسه بحاجة إلى إطار سياسي ينتظم فيه، ولمّا حيل بينه وبين ذلك الطموح بسبب السياسات الاستعمارية، وهوس بعض الشخصيات المحلّية بالحكم والثروة، انقسم على ذاته في عدد كبير من الكيانات القطرية التي توهمت اكتساب الشرعية، لكنها في العمق دون ذلك، لأنها من تركة الانتداب والتجربة الاستعمارية.

شُغل عالم ما بعد الحرب بالأدوار والتطلعات والهويات، ولكنه ظل مصطرعاً لم يأخذ بأسباب السلم، والرفاهية، والتعاون، بانتهاء الحرب، وظهور الوطن العربي، حيث طرح موضوع الهوية العربية باعتبارها إطاراً حاوياً لهويات متنوعة في منطقة متنوعة عرقياً ودينياً ومذهبياً، فالهوية العربية إطار ثقافي للانتماء والتعريف، وليست اختزالاً مقصوداً لوجود الأقليات، وكان من ذلك أن أصبحت اللغة العربية وسيلة التعبير الأساسية في مجالات التعليم والأدب والإعلام، وعموم مجالات الحياة، وعلى الرغم من وجود لغات أخرى (إنجليزية أو فرنسية أو تركية) فإن العربية أصبحت المعلم الأساس لهوية المجتمعات الناطقة بها، أو الجماعات العرقية المتعايشة مع الأغلبية العربية، وما لبثت أن أنتجت العربية أدباً متنوعاً في مجال الكتابة الأدبية، فضلاً عن الكتابة الفكرية والدينية والسياسية، مما دفع بالعربية لتطوير نفسها باعتبارها نظاماً تداولياً. وبعد مرور مئة عام على الحرب العالمية أصبح الكلام عن (الأدب العربي الحديث) كلاماً مؤكداً، ومعبراً عن مدونة كبيرة جرى التفكير فيها، والتعبير عنها، باللغة العربية، واستجابت، تلك المدونة، للخصائص الأسلوبية والتركيبية والدلالية للغة العربية، وبها جرى تمثيل أحوال المجتمعات التي تستعين بها لغة للتوصيل والتفكير والتعبير، وهي مدونة تزداد ثراء وتنوعاً بمرور الزمن، ويجري تداولها وتطويرها من مجتمعات متنوعة أسهمت في إغناء هذه اللغة.

من الصحيح بأن الوطن العربي هو أحد تمخضات الحرب العالمية الأولى، ولكنه ورث كثيراً من مكونات عالم ما قبل الحرب، فقد اقترح لنفسه دولاً لم تنجح في تعريف ذاتها إلا بوصفها تابعة للنفوذ الغربي، وسعى كثير منها إلى محاكاة التجربة الغربية لكنه فشل في ذلك، فأخفق في مجال الحريات العامة، والتنمية، والتعليم، والإرادة السياسية، والاستقلال الحقيقي، وأصبح منطقة نفوذ للمصالح الغربية المتضاربة التي قسمته إلى أشطار بمعاهدات دولية معروفة، ثم أغوت بعض الزعامات القبلية أو العسكرية لتأسيس دول لم ترتقِ إلى مستوى الاستقلال في الإرادة القومية أو الوطنية، وكان من نتيجة ذلك أن أخفقت تلك الدول في صوغ نظام يفي بالحاجات الضرورية للمجتمع، ولا يكفل مصالح أفراده، وشغلت بنزاعات إقليمية ودولية بددت ثرواتها البشرية والاقتصادية.

ومع الإشارات المقتضبة لتأثير الحرب العالمية الأولى ثقافياً وسياسياً، فإن الآثار الاجتماعية، كان لها أعظم الأثر في المجتمع العربي، لكنها لم تنجح في تحرير الإنسان العربي من علاقاته التقليدية، فما زالت البنى التقليدية المورثة في المجال الاجتماعي والديني تشكل النواة الصلبة للانتماء القبلي والمذهبي والعرقي والديني. أحيت تلك الحرب، في الوطن العربي، نزعات مغلقة للهوية، فبمرور الوقت أصبح الأخذ بنسخة متشددة للانتماء هو السائد فيه، وتوارى التحديث الذي يقوم على تحرير علاقة الإنسان بالآخرين من التحيزات الموروثة التي أنتجتها العصور الوسطى، ولم تعد تناسب العصر الحديث، فلا غرابة أن تنكفئ المجتمعات العربية في البحث عن الأصول، فأصبح البحث عن الماضي أهم من البحث عن المستقبل، فكأن تلك المجتمعات ينبغي عليها أن تمشي إلى الوراء، فلا تقف، وتدير وجهها إلى المستقبل، وليس من الصعب تفسير ذلك، فعالم ما بعد الحرب، أنتج حداثة سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية، وحرر نفسه من التصورات القديمة ومستلزماتها، لكن ذلك جرى بعيداً عن المجتمعات العربية، التي صوّر لها أن الحداثة سوف تطيح بمأثوراتها الدينية، وتبتّ صلتها بماضيها العريق، وبمواجهة ذلك فُرض على تلك المجتمعات الأخذ بالأصولية منهجاً ورؤية حفاظاً على هوياتها التقليدية من حيث أنها أخفقت في الاندراج في الحداثة العالمية.

 ينبغي القول بكل وضوح بأن الحداثة لا تهدد ماضي الإنسان ولا تقطع صلته بمأثوراته الرمزية، إنما تهدّد فهماً خاطئاً لذلك الماضي ومضمونه. ليس من شأن الحداثة فصم صلة الإنسان بالماضي باعتباره تاريخاً إنما تحرره من تبعاته الأيديولوجية، وتعمل على تغيير منظوره للعالم الذي يعيش فيه، وإلى ذلك فالحداثة تقترح عليه رؤية نفسه بوصفه المركز الذي ينبغي أن يكون موضوعاً للتحديث الاجتماعي والسياسي. تنقل الحداثة الإنسان من رتبة التبعية إلى رتبة الحرية، من كونه تابعاً إلى كونه مواطناً، فتجهز بذلك على العلاقات الرعوية وتحلّ محلها علاقة المواطنة القائمة على الشراكة والمسؤولية، ومع كل ذلك، فأحد أهم المحاذير التي ينبغي التصريح بها، هو الأخذ بالمقترح الغربي للحداثة كما هو، فذلك مقترح يناسب الغربيين، وهو من تمخضات تاريخهم الاجتماعي والسياسي، ولا يلزم الآخرين إلا بكونه تجربة مهمة يمكن الإفادة منها، والتفاعل معها، وليس استعارتها، أما العرب فهم بحاجة إلى حداثة تستجيب لواقعهم، يقترحونها على أنفسهم في ضوء حاجاتهم الدنيوية. إن الأخذ بحداثة مستعارة لا يقل خطراً عن نبذ الحداثة بمجملها.

زعزعت الحرب العالمية الأولى أركان العالم القديم، وخرّبت إمبراطورياته، وأعادت ترسيم حدوده، وطورت فكرة القوميات، والهويات، والخصوصيات، لكن الحرب بذاتها عمل شرير ومدان ولا ينبغي الاحتفاء بها بوصفها عملاً عسكرياً أزهق ملايين الأنفس، وخرّب بلاداً بكاملها، إنما باعتبارها حدثاً خلخل البنيات السياسية والاجتماعية القديمة في العالم، والغالب أن العرب أخذوا فقط بفعل الحرب، ولم يأخذوا بالمتغيرات التي نتجت عنها، فهم منخرطون، منذ انتهاء الحرب إلى يوم الناس هذا، في متاهة لم يغادروها إلا لاصطناع متاهات تلتهم قواهم البشرية والاقتصادية.

المصدر: http://www.arabicmagazine.com/Arabic/ArticleDetails.aspx?Id=3659 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك