جذور العداء العنصري الإمبريالي – النازي للمسلمين

د. سعد سعيد الديوه جي

 

مما لا شك فيه أن الإمبريالية الغربية التي خرجت منتصرة في حربين عالميتين، ضد ألمانيا خصوصاً، لا تختلف في مواقفها الفكرية والعنصرية عن النازية، وأن الجرائم التي قامت ولا تزال ضد المسلمين عموماً يتم تغطيتها برداء المنتصر، وهذا منطق الغالب دائماً.

والنازية حركة "قومية اشتراكية علمانية" تؤمن إيماناً شديداً بتفوق العنصر الآري عموماً، والألماني خصوصاً، على بقية الأعراق، وخصوصاً على الأعراق الشرقية، المسماة بالأدبيات الغربية بـ(السامية)، وعلى الأعراق الأفريقية. والسمة الأساسية للنازية، كما يقول المرحوم الدكتور (عبد الوهاب المسيري) في كتابه الشهير "الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ"، علمانيتها الشاملة، وواحديتها المادية الصارمة، وأن العرق محرك التاريخ!.

ولم ينظر النازيون إلى المسيحية إلا كامتداد لليهودية التي لا نفع منها، وقد قتل (هتلر)، الذي حكم بواسطة حزبه النازي ألمانيا من عام 1933 إلى عام 1945، كثيراً من رجال الكنيسة، ثم وضع مخططاً شاملاً للقضاء على الكنائس المسيحية بشكل كامل، حتى يمحو أي أثر أخلاقي لحركته، وتسود المادية، وقيم القومية العضوية، وإعلان الولاء لألمانيا، والتي كان شعارها بأنها فوق الجميع.

والنازية هي وليدة الحضارة الغربية، التي أفرزت الشيوعية والإمبريالية والصهيونية والفاشستية، وكان لكل واحد من هذه الحركات فلسفتها الخاصة، وأساليبها المعتمدة، في تأكيد تفوق أفكارها على الباقين.

وهذه الحضارة استمدت من الثالوث الروماني الوثني، المتكون من الإله والطبيعة والإنسان، ثالوث الدم والتربة والشعب، والتي قلدتها الأحزاب القومية الشرقية بثواليث لا مجال لتعدادها وذكرها، وأدت بنا إلى كوارث لا زلنا نعيش صداها.

والسمة الأبرز في تاريخ النازية، بلا شك، تعلق سيرتها بعمليات الإبادة والتطهير العرقي لكل من يخالف قواعد الدم الأزرق، ولأسباب سياسية بحتة، فقد شمل التطهير العرقي اليهود أكثر من غيرهم، واستغلت ذلك الصهيونية العالمية لتقوم بدورها بأكبر عملية تطهير عرقي شملت ملايين الفلسطينيين، منذ عام 1947 وإلى الآن.

وبما أننا لا نريد أن نبتعد كثيراً عن الموضوع، فإنه لا بأس من أخذ فكرة عابرة عن ممارسات الإبادة في القرون الحديثة، التي قام بها الغرب الإمبريالي في اتجاهه نحو تأكيد الذات وتغيير خارطة العالم الديموغرافية. ففي اتجاه الإنكليز نحو القارة الجديدة "أمريكا" بعد عام 1502، أباد الغزاة الإنكليز أكثر من 400 أمة وشعباً. ويقدر عدد الهنود الحمر عند بداية الغزو عام (1502م) بـــ(6.5) مليون هندي أحمر، لم يبق منهم إلا أقل من نصف مليون، وفي أمريكا الجنوبية تم إبادة أكثر من عشرة ملايين من قبل الإسبان والبرتغاليين، وفي أستراليا لم يبق من 20 مليون من سكانها الأصليين سوى 300 ألف.

وفي خضم هذه المجازر، فإن دراسة معمقة جديرة بالاهتمام قام بها الاستاذ (منير العكش) في كتابه "تلمود العم سام" يقول بأن تيارات عنصرية أمريكية لا زالت تسمي هنود أمريكا بالعرب تحقيراً، والعربي في الفكر الغربي لا يفرق عن مصطلح "المسلم" مطلقاً.

فكل هندي أحمر نجا من الإبادة صاروا يطلقون عليه اسم "مور = مسلم" أو "مُبغَّل" Mulato ، وهي كلمة مستمدة من تهجين البغال، وهو ربط بلا شك بين الاستخفاف بإنسانية هؤلاء البشر وربطهم لا شعورياً بالحقد على المسلمين، والذي يعكس موروثاً ثقافياً وعنصرية دفينة لا مثيل لها.

وتضيف هذه الدراسة بأن تعبير "المور – مسلم" لدى بعض مثقفي وكُتاب أواخر القرون الوسطى يعني كل من هو ليس أبيض البشرة، فالإنسانية التي رسموها هي إما أبيض أوروبي مسيحي، أو زنجي عبد مسلم.

ويقول الباحث الأمريكي في هذا المجال (فوربس): إن كلمة more الفرنسية و maurus الإسبانية و moro الفالنسية، أُشتقت جميعاً من الكلمة اللاتينية morus وتعني الزنجي، وهو أحط العناصر بنظر الثقافة العنصرية الغربية.

ومن نفس الأصول اشتقت كلمة "المورسيكيون"، وهم المسلمون الذين بقوا بعد سقوط آخر معاقل المسلمين في غرناطة، ولم يكونوا كلهم من أصول عربية أو بربرية، وكانت نسبة كبيرة منهم من أصول إسبانية، ولكن ذلك لم يشفع لهم، فخيروا بين عمليات الهجرة والقتل، والتي استمرت لأكثر من قرن كامل تحت سطوة محاكم التفتيش سيئة الصيت، وكل ذلك ضمن إطار عملية إبادة كاملة لم يبق على إثرها مسلم واحد في شبه الجزيرة الإيبرية.

لقد عبرت الإمبريالية عن أفكارها السوداء في أدبيات لا حصر لها، وخصوصاً بما يتعلق بالمشروع الصهيوني في فلسطين، فها هو (تشرشل) رئيس وزراء بريطانيا العظمى، والمشهور بصهيونيته المفرطة، يقول أمام إحدى اللجان الصهيونية عام 1937: "إنني لا أعتقد أن كلباً في مذود – يقصد الفلسطينيين – يستطيع الادعاء بأن له حقاً نهائياً في مذوده، مهما طالت إقامته فيه، إنني لا أعترف له بذلك الحق، وأنا لا أعترف بأن ما أصاب الهنود الحمر في أمريكا والشعب الأسود في أستراليا خطأ فاحش، إنني لا أعترف بأن ما أصابهم كان سوءاً لمجرد أن جيشاً أقوى وأكثر حكمة قد حل محلهم".

من هذه الأطر انطلقت النظرة النازية نحو المسلمين، التي لفتت انتباه المرحوم (عبد الوهاب المسيري) في دراساته المعمقة حول هذه المواضيع، في كتبه العديدة حول الموضوع.

فهو يلفت النظر أولاً بأن المسلمين هم الذين آووا اليهود في الدولة العثمانية، بعد طردهم من إسبانيا، ووفروا لهم مقومات الحياة الكريمة، وأن الأقلية المسلمة في بلغاريا قامت بدور كبير في حماية الجماعات اليهودية من الإبادة، أثناء الحرب العالمية الثانية، كما أن الملك (الحسن الخامس) عاهل المغرب رفض تسليم رعاياه اليهود إلى حكومة (فيشي) الفرنسية الممالئة للنازيين، وحماهم من الإبادة.

وفي التفاتة ذكية يقول (المسيري) رحمه الله بأنه لاحظ أثناء كتابة "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية" تكرار كلمة "مسلم" في مقال عن التدرج الاجتماعي في (معسكر أوشفيتز)، وهو أشهر معسكرات الإبادة في ألمانيا، التي شملت كل العناصر غير المرغوب فيها من السلاف والغجر واليهود، وبعد أن يتم استنفاد قواهم الجسدية في أعمال السخرة ويصبحوا عالة لا فائدة منهم!.

وقد لاحظ (المسيري) رحمه الله وبعد قراءة عدة مراجع وموسوعات بأن الضحايا كانوا يسمون في واقع الأمر "ميزلمان Muselmann" أي مسلم بالألمانية، ويوثق ذلك من مدخل مستقل في الموسوعة اليهودية (جودايكا – Enyclopedia Judaica) تحت عنوان "مسلم"، "ميزلمان"، هي إحدى المفردات الدارجة في معسكرات (الاعتقال)، والتي كانت تستخدم للإشارة للمساجين الذين كانوا على حافة الموت، أي الذين بدأت تظهر عليهم الأعراض النهائية للجوع والمرض وعدم الاكتراث العقلي والوهن الجسدي، وكان هذا المصطلح يستخدم أساساً في (أوشفيتز)، ولكنه كان يستخدم في المعسكرات الأخرى كذلك!.

ويضيف المرحوم (المسيري) بأن العقل الغربي حينما كان يدمر ضحاياه كان يرى فيهم الآخر، والآخر منذ حروب الفرنجة (الصليبية) هو المسلم، ومن المعروف في تاريخ العصور الوسطى أن العقل الغربي كان يربط بين المسلمين واليهود، وهناك لوحات لتعذيب المسيح، تصور الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهو يقوم بضرب المسيح بالسياط!!.

والحقيقة أن النازية في تصوراتها هذه قد مثلت هذا الفكر الإنحطاطي خير تمثيل، وهي لم تشذ عن القاعدة الإمبريالية الغربية عموماً إلا بشدة قسوتها ووقوعها في فخ معاداة اليهود بصورة علنية.

والنازيون هم ممثلو الحضارة الغربية في مجابهتها للحضارة الإسلامية، وكما يقول المسيري رحمه الله، لم ينسوا قط هذا العبء، حتى وهم يبيدون بعضاً من سكان أوروبا، كل ما في الأمر أن نطاق الحقل الدلالي لكلمة "مسلم" تم توسيعه لتشير للآخر على وجه العموم.

إن الجذر الأوروبي الحضاري لهذه العملية الإبادية ما هو إلا حصيلة اللاوعي الديني في الفكر الأوروبي، والذي جاء من الأصول الوثنية، ومن ولادة المسيحية من رحم اليهودية، التي استمدت منها الصهيونية فكرة "الأغيار"، وهم الشعوب من غير اليهودية، والذين هم خارج دائرة الشعب المختار، والذين سيتم إبادتهم في معركة "هرمجدون" الخرافية، حسب إدعاءات التوراة، وعندها سيقف الزمان "نهاية التاريخ"، والذي يمثل الحلقة الثانية بعد استكمال عملية الإبادة. ولا يزال كثير من المفكرين الغربيين يتغنون بفكرة "نهاية التاريخ"، خصوصاً بعد الانهيار الشيوعي في القرن الماضي.

ويضيف (المسيري) رحمه الله بأن كاتب مدخل "مسلم" في الموسوعة اليهودية (جودايكا) قد حاول تفسير استخدام الكلمة، فقال: "إن الضحايا سموا "مسلمين" استنادا إلى طريقة مشيهم وحركتهم، إنهم كانوا يجلسون القرفصاء وقد ثنيت أرجلهم بطريقة شرقية، وكان يرتسم على وجوههم جمود يشبه الأقنعة"، ثم يعقب: والكاتب في محاولة التفسير هذه لم يتخل قط عن عنصريته الغربية، كل ما في الأمر حاول أن يحل كلمة "شرقيين" العامة، محل كلمة "مسلمين" المحددة!.

وفي التفاتة ذكية جداً يشير الكاتب بأن وصف ضحايا الإبادة بوصفهم "مسلمين" يثير قضيتين، واحدة عملية، والأخرى معرفية.

فالمسألة العملية تتعلق بإهمال الإعلام الغربي عموماً لهذا المصطلح، لكي يبتعد عن تفسير عمليات الإبادة التي قامت بها الصهيونية في فلسطين، والتركيز على الجرائم النازية بحق اليهود وغيرهم، وعليه فتأكيد المصطلح يقلل من احتكار اليهود لفكرة أنهم الضحية الوحيدة، ويثير قضية أن ما ينشر من معلومات هو الذي يخدم صالح فريق بعينه، وإلا فلماذا اختفى هذا المصطلح، ولم يشر إليه أحد؟.

وأخيراً يثير الكاتب مسألة غاية في الأهمية لدارسي التاريخ تتعلق بالناحية المعرفية، فيقول بأننا تحت رحمة الغرب، لأننا لا نقرأ تاريخه من منظورنا، وإنما نقرأ تاريخه كما ورد لنا من منظوره، وليس هذا عيباً في الغرب وإنما فينا نحن، فكتب التاريخ موجودة، وكل من يود أن يحصل على المعلومات سيجدها هناك، وعليه أن يعيد تفسيرها وأن يستنطقها عن طريق اكتشاف تضميناتها الخفية!.

المصدر: http://alhiwarmagazine.blogspot.com/2013/11/blog-post_7781.html

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك