العلاقة بين قيمتي الخير والعدل لدى جون رولز ونقاده

محمَّد الشيخ

 

لئن أنت سألت فيلسوفي أخلاق أو مفكري قيمة عن أهم قيمتين يؤمنان بهما إيمانا؛ لأوشكا أن يُجمعا على أنهما ما كانتا سوى قيمتي "الخير" و"العدل". ولكن؛ لئن أنت أعدت طرح السؤال عليهما: أيهما أولى بالتفضيل والتقديم: أقيمة "الخير" -يا ترى- أم قيمة "العدل"؟ لتوقفا وعجبا وأطرقا ووسوسا ولم يحيرا جوابا، وحتى إن هما أجابا، اختلفت -لا محالة- إجابتهما عن "سؤال الأولوية" هذا غايةَ الاختلاف: من مقدّمٍ منهما للخير مؤخّرٍ للعدل -شأن سائر الفلاسفة القدامى، أضراب أفلاطون وأرسطو والرواقيين والأبيقوريين والأفلاطونيين الجدد وآباء الكنيسة من الفلاسفة، وحتى في المحدثين منهم كثير، من هيوم إلى من صاروا يعرفون اليوم تحت مسمى "الفلاسفة الجماعيين"- ومن -على الضد من هذا- مقدمٍ للعدل على الخير، بدءا بكانط، وانتهاء بأحد أنجب تلامذة تصانيفه: الفيلسوف الأمريكي جون رولز، ومن متوقف في هذا الأمر متحيّر؛ وهم كثير.

 

جون رولز وأولوية العدل على الخير:

 

يقال دال "الخير"-في اللسان العربي كما في العديد من الألسن الأوربية- بدلالات شتى، فهو لفظ قد يطلق على ما نملكه ـ الخيرات ـ وما نفعله ـ فعل الخير ـ وما ننشده ـ مثال الخير... وليس يشذ الأمر عند جون رولز، هذا الذي وصفه الفيلسوف الألماني هابرماس ذات يوم، فقال عنه: "إنه المنظر السياسي الأكثر أهمية في القرن العشرين"(1)، ففي كتبه الأساسية ـ لا سيما في "نظريَّة العدالة" و"العدالة والديمقراطية" ـ استعمل مفهوم "الخير" بهذه الدلالات كلها. أكثر من هذا، ميز في "الخيرات" بين "خيرات أوائل" و"خيرات ثوانٍ". ومِمَّا دل على أهمية مفهوم "الخير" عنده: أن كتابه "نظريَّة العدالة" إن أمكن عده بحق موسوعة في الفلسفة السياسية المعاصرة ومواضيعها الأساسية ـ من نظريَّة المواطن إلى نظريَّة الحرية مرورا بنظريَّة الدولة ونظريَّة المجتمع المدني وغيرها من النظريات التي حفل بها الكتاب؛ فإنه لم يحسب أنه أقام إلا نظريتين على وجه التخصيص: "نظريَّة العدالة" و"نظريَّة الخير". غير أنه لئن كان من السهل تبين نظريَّة رولز في أمر "العدالة" ـ في جليل قولها وليس في دقيقه ـ فإنه يوشك أن يصعب تبين نظريته في شأن "الخير"، لا سيما وأن نظريته في "الخير" ـ وعلى خلاف نظريته في العدالة ـ تتثني وتزدوج، فنصير أمام "نظريَّة ضيقة" وأخرى "شاسعة"... وذلك على الرغم من أن أساسها بين. إذ يعتبر رولز أن ثمة ملكتين أخلاقيتين توجدان لدى المواطنين: حس العدالة، وتصور الخير(2)، وذلك مع أنه عادة ما يتحدث الرجل عن "حس العدالة" وكأنه حس موحد، عكس ما يفعل حين يتحدث عن "تصور الخير" ـ بله "تصورات الخير" ـ وكأنه تصور -منذ البدء- متعدد؛ وذلك لأنه كان يؤمن بإمكان التوافق التداولي الحواري التفاوضي على مبادئ العدالة، وكان يعتقد باستحالة التوافق على تصور موحد وواحد "للخير".

 

وأول معاني "الخير" هو ما تعلق باستعمال مفهوم "الخير" ـ بالجمع: "الخيرات" ـ وبدلالته الأولى: "الخيرات الأولية"، وهو يعني بها: "تلك [المرغوبات] التي يرغب فيها الأشخاص العاقلون، مهما كانت رغباتهم الأخرى"(3). ههنا ربْط للخير بالرغبة، فالخير هو ما يرغب فيه الشخص؛ لكن هذا الخير متعدد؛ لأن الشخص راغب برغائب وليس برغبة واحدة. ولئن كانت المنزلة الإبستمولوجية لتصور هذه "الخيرات الأولية" قد بدت مُشْكَلَة بالنسبة إلى العديد من الباحثين-بحيث بدت لهم مبنية على تصور سيكولوجي- فإن رولز اعترف بهذا الإشكال ـ في مقدمة الطبعة الفرنسية وفي غيرها من التعديلات التي أدخلها على نظريَّة الخيرات الأولية ـ بأنه لربما أوحى طرحه الأولي بأن لهذا التصور أساسا سيكولوجيا (كما بين ذلك الفيلسوف الأمريكي ألان جيبار Allan Guibard (1942-) ذلك عن حق، باعتراف رولز نفسه)؛ بينما هو رام ربط الخيرات الأولية لا بالجوانب السيكولوجية، وإنما بتصور أخلاقي للشخص(4). وفكرة الخيرات الأولية - كما تبدت في الصورة الأولى لنظريَّة العدالة- مبنية على مبدأ أن ما من إنسان عاقل إلا ويرغب في حقوق وحريات ومداخيل وثروة وحق في أن يُحترم شخصُه، وتلك "خيرات اجتماعية أولية". وهناك خيرات أولية أخرى- شأن الصحة والعافية والخيال والذكاء ـ يدعوها "خيرات أولية طبيعية"(5).

 

ثم يقال مفهوم "الخير" بدلالة ثانية هي دلالة "خير الفرد" كما يتصوره هو؛ ذلك أن الفلاسفة - منذ أرسطو إلى سيدغويك مرورا بكانط ورويس وغيره- تنبهوا إلى أنه يمكن النظر إلى أي شخص كان بوسمه يملك مشروع حياة على المدى الطويل يكون مشروعا معقولا ويشكل الخير بالنسبة إليه، شريطة أن يوضع هذا الشخص في ظروف مناسبة له لتحقيق مشروع حياته(6). ومن ثمة يتحدد "الخير" هذه المرة بوصفه: "تحقيق رغبة عاقلة"(7)،والحال أن الأصل في هذه الرغبة التعدد؛ لأن ثمة رغبات عاقلة وليس رغبة واحدة، تتبعها مشاريع عاقلة وليس مشروعا واحدا عاقلا، وتلك "واقعة التعدد" التي تحكم المجتمعات الحديثة. والحال أن ما من خير-بهذا المعنى- إلا وهو خير نسبي، فإن استحال هو خيرا مطلقا تحول إلى طغيان: "إن الخير المطلق -بالنسبة إلى أي كائن بشري- لَيتمثلُ في أن يلتحق به كل الأفراد الآخرين لكي يحقق تصوره المخصوص للخير، كيفما كان هذا التصور، وإلا فإنه يفرض على الآخرين أن يتصرفوا بطريقة عادلة، ويستثنى هو من هذه القاعدة، ويتبع هواه اتباعا..."(8)، ولن يفعلوا. ثم إن معنى "الخير" يتوقف على اختيار فلسفي، وليس على الدولة أن تتدخل في اختيارات الناس الفلسفية. وليست نظريَّة العدالة تنصب نفسها حكما بين خيرات الأفراد، ولا ينبغي لها أن تفعل ذلك(9). وإنما بالبدل من ذلك تفترض هي أن أعضاء المجتمع أفراد عاقلون، قادرون على تكييف تصورهم للخير ـ المتعدد بالأصل ـ مع وضعهم؛ أي مع مبدأي العدالة. وبالجملة، ما تحدث رولز عن الخير إلا وربطه بمعنى "التصور" ـ "تصور الخير" ـ وما تحدث هو ـ على التدقيق ـ عن "تصور" هكذا بالمفرد، وإنما عن "تصورات" ـ "تصورات الخير" ـ هو تحدث.

 

والخير بمعنى آخر هو "خير الجماعة"، والملحوظ هنا أن رولز لطالما تحاشى استعمال هذا التعبير، مفضلا الحديث عن "المصلحة المشتركة" أو "المنفعة المشتركة" أو "المنفعة المتبادلة"(10)، هذا مع تقدم العلم أن ثمة بونا بين "الخير العام" و"المصلحة العامة": الأول ذو بعد غائي/ فلسفي وديني وأخلاقي، والثاني لا يقتضي ذلك. أكثر من هذا، عوض الحديث عن "الاهتمام المشترك" ـ الذي يوحي بمفهوم "المصلحة المشتركة" ـ يفضل رولز حتَّى الحديث عن "عدم الاهتمام المتبادل" فيما يخص تصور "الخير"، فليس لنا أن نعنى بتصورات الآخرين للخير، حتَّى وإن عنينا بالمصلحة المشتركة(11). ولهذا يفترض في الوضع الأصلي أن الناس يجهلون خير بعضهم البعض.

 

هذا ويؤكد رولز -في غير ما مناسبة في كتاباته- على أن المفهومين الأساسيين في مبحث الأخلاق إنما هما مفهوما "العدل" و"الخير"، وأن مفهوم "الشخص الأخلاقي" نفسه إنما هو مستنبط من حس الإنسان بالعدالة ومن سعيه إلى تحقيق خيره كما يرتضيه لنفسه؛ أي من هذين المفهومين ذاتهما، فليس يكون الشخص شخصا أخلاقيا إلا بقدر ما تتوفر فيه هاتان الملكتان. ولطالما قفى رولز على أثر هذا القول بالقول: "إن بنية نظريَّة أخلاقية ما لترتهن إذن إلى الطريقة التي تنتظم بوفقها الصلة بين هذين المفهومين بداخلها"(12). فكيف انتظمت الصلة بين "العدل" و"الخير" في نظريَّة رولز نفسه؟

 

يصنف رولز النظريات الأخلاقية بحسب الطريقة التي انتظم بها فيهما هذان المفهومان: ثمة "النظريات الغائية" التي يتحدد فيها الخير عن العدل بمعزل، ثم يصار إلى تحديد العدل بوصفه ما يحقق الخير، فتعد المؤسّسات والأفعال العادلة هي تلك التي تنتج أكبر قدر من الخير العميم. وثمة "النظريات الآدابية" التي إما هي لا تحدد الخير عن العدل بمعزل، أو هي لا تعدّ العدل تحقيقا ـ التحقيق بأقصى ما يمكن ـ للخير. وهو التصور الذي يتبناه. وليس يعني هذا ألا يكون تحقيق العدل مولدا للخير؛ وإنما لا توجد صلة علية بين الاثنين وإنما هي محض تلاقٍ(13). إنما العدل هو معيار الخير وما كان الأمر على النقيض: "إن مبادئ العدل، ومن ثمة العدالة، هي التي ترسم الحدود التي تكون الإشباعات بوفقها ذات قيمة، كما تعين الحدود التي تكون بحسبها تصورات الخير ذات معقولية"(14). ففي نظريَّة العدالة بحسبانها إنصافا ليس يتم الأخذ بعين الاعتبار نزوعات البشر ولا تصوراتهم للخير؛ وإنما الأمر على الضد من ذلك؛ تحدد نزوعاتهم وميولاتهم منذ البدء طبقا لمبادئ العدالة التي ترسم الحدود وتعين التخوم. هي هذه الفكرة التي يقول عنها رولز: "يمكن أن نعبر عن هذا الأمر بالقول: في نظريَّة العدالة بوصفها إنصافا يتقدم مفهوم العدل على مفهوم الخير"(15). وهو يجد أنه ما كان أول من قال بهذا الرأي؛ وإنما يجد سندا له في كانط: "إن أولوية الأمر العدل سمة مركزية في إتيقا كانط"(16).ومثلما كانت هذه التقدمة مركزية في إتيقا كانط، فهي كذلك مركزية في تصور رولز: "يتبين أن أولوية العدل على الخير هذه في نظريَّة العدالة باعتبارها إنصافا سمة مركزية في هذه النظريَّة"(17). فمبدآ العدل هما ما يحدد حدودا لما هو خير.

 

فإذن، تنتظم الصلة بين "الخير" و"العدل" ـ أول ما تنتظم ـ في كتاب رولز الأول على شكل أطروحة: أولوية العدل ـ أو الحق الاعتباري: ما الذي ينبغي أن يكون عليه حق إنسان؟ ـ على الخير. لهذا ما قال هو: "الخير هو الأول"؛ وإنما قال: "العدالة هي الفضيلة الأولى للمؤسّسات الاجتماعية"(18). وقد كتب رولز بعد مضي ما يقارب العقدين من الزمن على صدور كتاب العدالة يقول: "إن فكرة أولوية العدل عنصر جوهري فيما سميته الليبرالية السياسية، وهي تلعب دورا مركزيا في نظريَّة العدالة بوسمها إنصافا التي هي لون من ألوان هذه الليبرالية"(19). فليس الاجتماع من أجل خير الجماعة كاف لتحديد المجتمع، عنده، وإنما المجتمع يتحدد بالعدالة. ولهذا ما يفتأ يردد الكلام منذ صفحات الكتاب الأولى عما يسميه: "قناعتنا الحدسية بأولوية العدالة [على الخير]"(20). والمجتمع يتحدد عنده باعتراف أفراده بقواعد سلوك ضرورية لسيره، وليس بتعاون أفراده لتحقيق خير مشترك؛ إنما القواعد هي ما تحدد "الخير"، وليس الخير هو ما يدعو إلى وضع القواعد. والمجتمع الجيد التنظيم يتحدد أولا بتصور أفراده الموحد لقواعد عدالة، قبل أن يتحدد بسعي أفراده لتحقيق الخير العام.

 

واستبعاد أن يكون مفهوم "الخير" مفهوما تأسيسيا للجماعة-وبالتالي استبعاد أن يتقدم على مفهوم العدل- بادٍ في "الوضع البدئي" الذي يفترضه رولز لبلوغ بني البشر إلى توافق على مبادئ العدالة، والذي يفترض فيه "حجاب الجهل" ضامنا لسلامة المبادئ، حيث يقول: "ينبغي أن نضمن أن لا الميولات ولا التمنيات الخاصة ولا التصورات المخصوصة التي يحملها كل فرد عن خيره يمكن أن تؤثر على المبادئ المتبناة"(21). على أن قول رولز بالتمايز بين الخير والعدل-مع إيلائه الأولوية للعدل على الخير- ليس يعني-بأي وجه من الوجوه- تنافرهما، أو وجود مهواة سحيقة بينهما، وإنما لطالما تحدث الرجل عن "تلاؤم العدل والخير"، ولطالما أعاد القول: "ثمة تلاؤم بين العدالة والخير، على الأقل في المجتمع المحكم التنظيم"(22). ذلك أني: "قد افترضت دوما أن في مجتمع جيد التنظيم من شأن التصورات التي ينشئها الأفراد عن خيرهم أن تكون متلائمة مع مبدأي العدل المعترف بهما عموميا..."(23).

 

وبعد، لما كتب رولز يقول في مفتتح القسم الثالث من نظريته في العدالة: "إلى غاية الساعة ما قلت شيئا ذا بال عن مفهوم الخير"(24)ما كان ليقصد أنه ما ذكر مفهوم "الخير" بإطلاق؛ وإلا فإن المفهوم حاضر بالإلماع منذ الصفحات الأولى من الكتاب، وإنما يعني أنه لئن هو بسط القول في مفهوم "العدالة" ومبدأيها، فإنه ما فعل الأمر ذاته بالنسبة إلى مفهوم "الخير". وقد حضر بباله آنذاك أن ما من نظريَّة أخلاقية حقة إلا ومن شأنها لا أن تنظر في مفهوم "العدل" وحده؛ وإنما أن تبحث في صلته بقرينه: مفهوم "الخير". إنما قصد بدءا أنه تحدث عن مفهوم "الخير" في إطار ضيق ـ الخيرات الاجتماعية الأولية ـ فأنشأ بذلك ما سماه "النظريَّة الضيقة للخير". وقد تنبه إلى أن القول بأولوية العدل على الخير لا يمنع من وجود تصور أولي لما هو الخير. وذلك دور منطقي لطالما تنبه إليه نقاد رولز؛ لكنه ما كان عنه تائها؛ أوَ لم يقل هو نفسه: "لكي نقيم هذين المبدأين [يعني مبدأي العدل]، فإنه يلزم أن يكون ثمة تصور لما هو الخير"؟(25)؛ لكن "الخير" المتحدث عنه هنا هو الخير بمعناه الأولي ـ الخيرات الأولية ـ وليس الخير بمعانيه الأخرى. ولهذا يسمي نظريَّة الخير هذه التي تقترن بهذا المستوى من النظر "نظريَّة الخير الضيقة". وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال وقوعه في مناقضة القول: "العدل متقدم على الخير"، ونقيضه: "الخير متقدم على العدلٌ. والحال أنه ما إن تقام مبادئ العدالة؛ حتَّى يصير الطريق مفتوحا نحو نظريَّة في الخير، تارة يسميها رولز "النظريَّة الواسعة في الخير"، وطورا ينعتها بوسم "النظريَّة الكاملة [أو التامة] في الخير". لكن؛ لئن كانت النظريَّة الأولى ضرورية؛ فإنها غير كافية؛ لأن ثمة أفعالا في المجتمع ـ الأفعال الإيثارية بمختلف أشكالها مثلا، وحب الخير المتبادل، والتواد... ـ من جهة، ولأن تحليل قيم المجتمع - من جهة أخرى- أمران يحتاجان إلى تحليل كامل للخير، فلا يعود الخير هنا دالا على مجرد خيرات أولية نرغب في حيازتها؛ وإنما يصير متضمنا لغايات: ما معنى الشخص الخير أو الطيب؟ وهل هو خير أن يكون الشخص طيبا، لا سيما في المجتمع محكم التنظيم؟ غير أن هذه المفاهيم لا تتحدد إلا بعد تحديد مبادئ العدل، عود على بدء في إيلاء الأولية للعدل على الخير.

 

وهكذا -فإنه لتفادي الدور المنطقي- يميز رولز بين نظريَّة في الخير ضيقة وأخرى واسعة، وهو يرى أنه ما إن يستوفِ مبدآ العدالة حقهما حتَّى يكون عليه أن يقوم بتأويل أوسع للخير، وهو التأويل الذي يجعل من العاقلية خيرا، بل هي الخير؛ بمعنى أن الخير يكمن في اتباع خطوات معقولة لتحقيق مشروع حياة. وهو تحديد لا ينفي رولز أنه "صوري" أو "شكلي"، وليس "مضمونيا" أو "جوهريا"، هذا إن لم يكن تعريفا "وسيليا" وليس "مبدئيا". وهناك خير الفرد، وقد رأيناه متمثلا في اتباع خطوات عاقلة لتحقيق مشروع حياة يضعه ويتبعه، كما أن هناك خير الجماعة، وخير الجماعة ليس سوى تضام مشاريع حياة الأفراد العاقلة في مشروع أوسع، لكن بشرط ألا يقيم غاية مسيطرة واحدة تصير كالفكرة المسلطة؛ شأن "الوحدة الدينية" أو "عظمة الأمة" مثلا(26). فليس أخشى عند رولز من الوحدة المفروضة. يخشاها رولز ـ وهو المستند على الدوام إلى "واقعة التعدد"، وقد رأيناه يتبرم حتَّى من أن يوقف المرء حياته على مسعى واحد، ويصف هذا الموقف بالحمق ـ كما يخشى المارد من الماء المبارك. لربما كان الخير العميم الذي يستسيغه رولز ولا يستهجنه إنما هو تحقيق مبادئ العدالة. فهذا التحقيق هو القيمة الجماعية، وهو مصدر السعادة البشرية(27)، وبهذا الشكل يتحقق التواؤم بين العدل والخير.

 

تعديلات على النظريَّة:

 

ما كانت نظريَّة العدالة بوسمها إنصافا من جنس تلك النظريات التي تولد كاملة مكتملة في ذهن صاحبها، ثم يخطها بخط نهائي على الورق، ويذيعها على الناس إذاعة واحدة، وإنما كانت هي من صنف تلك النظريات التي تحافظ على بعض الحدوس الجوهرية لكن ما تفتأ تتعدل تعديلا. ومثلما قيل عن فلسفة الفيلسوف المثالي الألماني شلينغ بأن تطورها تم في الساحة العامة، بمعنى أن كل التعديلات التي أدخلها صاحبها عليها كانت معلومة للجميع مذاعة عليه، فكذلك يمكن القول عن نظريَّة رولز بأن تعديلاتها المتعددة تمت في الساحة العمومية، وذلك بالأخذ بعين الحسبان الاعتراضات عليها التي أحوجتْ صاحبَها إلى إدخال تعديلات عليها على الملأ. ومثلما كان يقول برغسون عن الفلاسفة بأنهم ليس لهم طيلة حياتهم إلا حدس واحد، يمضون سحابة حياتهم في التعبير عنه التعابير المختلفة حتَّى يُبِينون هم عنه أفضل الإبانة إن أمكن، فكذلك كان للرجل حدس أساس ـ أو حدوس ـ حاول الإبانة عنها طيلة حياته الإبانة المتعددة المتكررة. فهناك نسخة 1999(28)المعدلة، ونسخة 2001(29) المنقحة من النظريَّة الأم، هذا فضلا عن جملة البحوث والمقالات التي نشرت مستقلة في مجلات ثم جمعت بعد ذلك في كتاب(30).

 

وأول ما قام به رولز -في مراجعته هذه-الرد على ملاحظات محاوريه. يمكن أن يعتقد أن أولوية "العدل" تتضمن أن العدالة ـ بوسمها إنصافا ـ لا يمكنها أن تحمل إلا أفكارا عن "الخير" ضيقة المدى، أو بالأحرى أذاتية وحسب، وحتى إن لم تكن أذاتية، فإن الأفكار عن "الخير" إنما هي أفكار فردية، ومن ثمة فإن التصور السياسي المرتبط بها بأكمله تصور فرداني(31). والحال أن الأمر كان على الضد، بحسب ما ذهب إليه رولز دفاعا عن نفسه؛ إذ أن ثمة تكاملا بين الحق الأخلاقي (العدل) والخير؛ وذلك بحيث إن ما من تصور للعدالة بوسمها إنصافا ـ لنقُلْ: العدالة: الإنصاف ـ بما في ذلك نظريَّة سياسية محضة منفصلة عن التصورات الدينية والفلسفية والخلقية ـ إلا ويحتاج إلى هذين المفهومين معا، والقول بأولوية العدل على الخير لا ينفي هذا الأمر(32).وبعد، فإنه لا حاجة إلى التذكير بأن ثمة تكاملا بين الأمر العدل ـ الحق كما ينبغي أن يكون (الحق الاعتباري) ـ وبين الأمر الخير: لن تكون للمؤسّسات العادلة وللفضائل السياسية من معنى ومن غاية إلا إذا كانت لا -فحسب- تسمح بتصورات للخير يعتقد فيها المواطنون اعتقادا؛ وإنما أيضا لا تستند إلى هذه التصورات. ويلخص رولز هذه الصلة بالجملة الجامعة: إنما الأمر العدل يرسم الحد، وإنما الأمر الخير يدل عن المنحى أو الوجهة(33).

 

ويوضح صاحب نظريَّة العدالة أن المقصود بالأولوية ـ أولوية الشأن العدل على الأمر الخير ـ في نظريَّة العدالة بوسمها إنصافا إنما هو: إن على الأفكار المقبولة عن "الخير" أن تندمج في تصور سياسي (مركزه فكرة الإنصاف)،والجديد هنا هو تأكيد رولز على "واقعة التعدد"، وذلك بما يشترط في الأفكار عن "الخير" أن تستوفي شرطين:

 

1-       أن تكون الأفكار عن "الخير" المعروضة تقبل أن تتشاطر بين المواطنين بعامة بحسبانهم أحرارا ومتساوين.

 

2-       ألا تفترض أي مذهب جامع جزئيا أو كليا، بحيث تعكس هذا المذهب، وذلك بما يقصي مواطنين آخرين قد لا يعتقدون فيه؛ وإنما يعتقدون في غيره.

 

وينبري المؤلف إلى إحصاء مختلف دلالات "الخير" في كتابه "نظريَّة العدالة بوصفها إنصافا"، فيحصرها في ستّ:

 

أولاها؛ فكرة "الخير" بوصفه "العاقلية"؛ أي بحسبان الخير هو الوسيلة المعقولة لتحقيق غاية المرء في الحياة أو غاياته (فكرة الخير/العاقلية)، وهي فكرة طبيعية في اعتبار كل التصورات السياسية للعدالة تقريبا. والحال أن هذا التصور يفترض أن أفراد مجتمع ديمقراطي يمتلكون -على الأقل على نحو حدسي- مشروع حياة على ضوئه يصممون جهودهم الأهم، ويوزعون مختلف إمكاناتهم؛ بحيث يبحثون عن تحقيق تصوراتهم للخير بشكل معقول طيلة حياتهم، كما تفترض هذه الفكرة أن الوجود البشري وإرضاء الحاجات والأهداف متضمنان في فكرة الخير، وأن العاقلية مبدأ أساسي في التنظيم السياسي والاجتماعي.

 

ثانيها؛ هي فكرة "الخيرات الأولية" التي تحدد حاجات المواطنين (خلافا لتفضيلاتهم ورغباتهم وغاياتهم القصوى)، وذلك في توافق مع التصور السياسي لوضعهم بوصفهم أشخاصا أحرارا ومتساوين. والجديد ههنا هو التأكيد على نظريَّة العدالة بوسمها إنصافا من حيث هي نظريَّة سياسية بالأولى، وليست بحسب ما أُعتقد عنها ـ بما في ذلك اعتقاد صاحبها نفسه ـ من أنها نظريَّة جامعة: أخلاقية ودينية وفلسفية. كما يلاحظ أن رولز أخذ بعين النظر بعض انتقادات ناقدي نظريَّة العدالة بوسمها إنصافا، لا سيما هنا فيما يتعلق مثلا بتصور الخيرات البدئية الأولى، والفصل بينها وبين الأساس السيكولوجي، كما أشار رولز نفسه إلى ذلك في مقدمة الطبعة المنقحة من نظريَّة العدالة، حيث قال بأن ثمة: "عرضا جديدا للخيرات الأولية يربطها هذه المرة [وعلى خلاف ما ورد في النسخة الأولى من النظريَّة] بالتصور المعياري والسياسي للمواطنين بوسمهم أشخاصا أحرارا، وذلك حتَّى لا تبدو هذه الخيرات (على نحو ما أظهر لي ذلك عديد من الناس لا سيما يوشوا كوهن ويوشوا رابينوفيتش) كما لو كانت هي تقوم -تخصيصا- على أساس علم السيكولوجيا والحاجات البشرية"(34).

 

ثالثها؛ التصورات الكاملة للخير المقبولة والتي هي مرتهنة إلى مذاهب جامعة. وفي هذا السياق عادة ما تم عرض مسألة الأولوية هذه ـ في معناها المخصوص وليس العام ـ على النحو التالي: وحدها تصورات الخير المقبولة هي تلك التي يكون تحقيقها قابلا للتوافق مع مبدأيْ العدالة.

 

رابعها؛ تلك التصورات للخير المتعلقة بالفضائل السياسية، وهي الفضائل التي تحدد من هو المواطن "الخير" [الحسن أو الجيد] في نظام ديمقراطي. يتعلق الأمر هنا بمثال سياسي؛ لكنه مثال ليس يفترض أي مذهب جامع بعينه، وحتى ولو كان يشكل تصورا (جزئيا) للقيمة الأخلاقية، فإنه يتوافق مع كل معاني أولوية الحق الاعتباري، ومن ثمة يمكن أن يدمج في تصور سياسي للعدالة. هذا فضلا عن تصورات أخرى للخير: من بينها فكرة "الخير السياسي" الذي يتمثل في مجتمع حسن التنظيم بفضل مبدأيْ العدالة المعروفين، وفكرة "الخير" المتمثلة في هذا المجتمع لما يعدّ جماع تجمعات صغرى.

 

غير أن بين هذه التصورات ـ الأربعة الأولى على الأقل ـ تعالقات شديدة؛ ذلك أننا بالبدء من فكرة "الخير" بوصفه "عاقلية"، فإننا سرعان ما نصل إلى فكرة "الخيرات الأولية"، وهما التصوران المتعالقان اللذان يسبقان مبدأيْ العدالة ويشترطانهما. أما تصورات "الخير"(الكاملة) المقبولة؛ فإنها تتأخر مبدئيا عن المبدأين؛ لأنها تقوم على التوافق معهما. وأخيرا، فإن الفضائل السياسية تتحدد بوسمها مزايا الطابع الأخلاقي للمواطنين، والتي هي أمور حاسمة لضمان قاعدة أساسية عادلة عبر الزمن. وهكذا، فإن فكرة "الخير" ـ أو بالأحرى "أفكار الخير" ـ تشرط مبدأي العدل، ويشرطانها بدورهما، مثلما تضمن استمرارهما في الوجود.

 

وهنا يسمح رولز لنفسه بالرد على تصورات تجعل الخير كل الخير في مشاركة المواطنين في الحياة السياسية لأوطانهم، وهو المذهب في النظر الذي يعبر عنه بمصطلح "الإنسية المدنية"، وينسبه إلى المفكر السياسي الكندي الشهير ريتشارد تايلور، ويجد رولز أن هذه النزعة إنما هي شكل من أشكال الأرسطية، هذا مع سابق العلم أن الرجل كانطي الهوى أكثر منه أرسطية. وفكرة الإنسية المدنية الجوهرية تقول: نحن كائنات اجتماعية، بل سياسية، ليست تتحقق طبيعتها إلا في مجتمع ديمقراطي سمته الأساسية المشاركة المكثفة والنشيطة في الحياة السياسية، وفي المشاركة وبالمشاركة يتحقق خيرنا العام التحقق التام. وهو ما اعتبر تايلور أن كانط لم يكن ليوافق عليه، وذلك على خلاف روسو الذي آمن به(35).غير أن رولز يلاحظ أن قولا هذا أمره من شأنه أن يجعل منه مذهبا فلسفيا جامعا، لا يتوافق مع ميل رولز الجديد إلى تصور نظريَّة العدالة، لا بما هي نظريَّة شمولية تضمنية؛ وإنما بما هي تصور سياسي فحسب لا أكثر؛ أي تصور لا يقتضي تبني رؤى فلسفية أو دينية أو أخلاقية جامعة. فليس يقتضي تصور الخير تصورا شموليا، في الديمقراطية الحديثة-وعلى عكس القديمة- المشاركة الموصولة والنشيطة في الحياة العامة؛ ذلك أنه في مجتمع ديمقراطي حديث ما عادت السياسة مركز الوجود، على عكس ما كان الأمر عليه بالنسبة إلى المواطنين القدامى في الديمقراطية اليونانية(36).

 

لكن ليس ينبغي أن نخلط بين هذه النظريَّة والفكرة البسيطة الشائعة القائلة: يلزمنا أن نحيا في المجتمع لكي نحقق خيرنا؛ ذلك أن النظريَّة الأولى تحدد الخير البشري الأهم؛ بل الأوحد، بكونه يتجسد في انخراطنا في الحياة السياسية، عادة في شكلها اليوناني القديم (الدولة/المدينة) أو في شكلها على عصر النهضة الإيطالية (فلورنسا). ورفض هذه النزعة ليس يعني أن أحد الخيرات الأكثر أهمية في الوجود البشري هو ما يحققه المواطنون بانخراطهم في الحياة السياسية؛ لكن على المواطنين أنفسهم أن يقرروا القدر الذي يجعلون به التزامهم في الحياة السياسية جزءا من خيرهم الكامل، علما أن من شأن هذا القدر أن يختلف من شخص إلى آخر(37). وهو أمر يلزم عنه -مثلا بالنسبة إلى الانتماء إلى جماعة دينية معينة بالميلاد- حق المواطنين في تبديل جماعتهم، مهما كانت هذه الجماعة قوية؛ وذلك لأنه لا جماعة تتضمن مجمل المجتمع؛ وذلك عملا بمبدأ أن ما يسم المجتمعات الديمقراطية الحديثة وسما إنما هو إقرارها بما يسميه رولز "واقعة التعددية". هذا مع تقدم العلم أن القول بنظريَّة العدالة الإنصاف ليس ينكر أن بعض الناس يجدون في الحياة السياسية متسع كل خيرهم، فيقبلون عليها بكامل همتهم، ويجعلون من هذه الحياة جملة تصورهم للخير العام؛ لكن هذا الأمر من شأنه أن يخص، وهو لا يعم بأي وجه(38).

 

ويرد رولز على الاعتراض على نظريته القائل بأنه بما أن النظريَّة ليست مبنية على مذهب شمولي جامع، ديني وفلسفي أو أخلاقي؛ فإنها تنتهي إلى أن تتخلى عن تصور مثال الجماعة السياسية، وتتصور المجتمع، بالبدل من ذلك، كما لو كان هو جماع أفراد متمايزين، أو جماعات متباينة، لا يتعاونون إلا لتحقيق مصلحتهم الخاصة أو الجماعية من غير أن تكون لهم غاية مشتركة. وذلك بما يعني أن النظريَّة تقوم على أساس فرداني ووسيلي تعدّ بوفقه المؤسّسات السياسية كما لو كانت هي مجرد أدوات ووسائل في خدمة أغراض فردية أو تكتلية فئوية؛ أي كما لو كانت مؤسّسات مجتمعات خاصة. وبناء عليه، لا تعدّ هي المجتمع السياسي خيرا، وإنما -إذا حملناها المحمل الأحسن- مجرد وسيلة لتحقيق خير فردي أو تكتلي. ويقر رولز هنا بأن نظريَّة العدالة/الإنصاف تتخلى بالفعل عن فكرة مثال جماعة سياسية يوحدها مذهب جامع (جزئيا أو كليا) ذو طبيعة دينية أو فلسفية أو أخلاقية. والحال أن ما يدفعها إلى ذلك هو شهودها على "واقعة التعددية العاقلة"(39)، وبأن علينا أن نتصور الوحدة الاجتماعية تصورا آخر غير التصور الذي ينتمي إلى عهد ما قبل اكتشاف "واقعة التعددية العاقلة". وهو التصور الذي يسميه رولز "التوافق عن طريق الإجماع التقاطعي"، والذي يعني به قبول الجماعات ذات المذاهب الشمولية الجامعة: الأخلاقية والدينية والفلسفية بمبادئ العدالة، بالرغم من كل اختلافاتها المذكورة، وذلك على مدى أجيال يكون من أمرها أن تضمن استمرار هذا التوافق في المجتمع. وهذا توافق يباين مجرد "التعايش" بين المذاهب المتعارضة لأسباب ظرفية فحسب. ففي مثل هذا الإجماع يثبت المواطنون ـ المنتمون إلى مختلف المذاهب المتباينة والمتعارضة بدءا من مضمون مواضعهم الخاصة المتمايزة ـ هذا التصور السياسي المشترك، ويجمعون عليه ويحمونه(40).

 

وما معنى "المجتمع المحكم التنظيم" أو "المجتمع الجيد التنظيم"؟ هو من يستوفي شروطا ثلاثة: أولا؛ هو المجتمع الذي يقبل فيه كل المواطنين مبادئ العدالة إياها، ويقرون بذلك بعضهم أمام بعض. ثانيا؛ هو التي يعلم مواطنوه علما عموميا ويعتقدون لأسباب وجيهة أن قاعدته الأساس ـ مؤسّساته السياسية والاجتماعية والطريقة التي تشكل بها، جملة، نظام تعاون ـ إنما تستجيب لهذه المبادئ. ثالثا؛ هو الذي يكون فيه للمواطنين حس بالعدالة متحقق؛ أي يسمح لهم بفهم مبادئ العدالة وتطبيقها، فيتصرفون على ضوئها عندما تتطلب الظروف ذلك(41). وما كان هذا المجتمع المحكم التنظيم من المجتمع الخاص بشيء؛ وذلك لأن للمواطنين غايات نهائية مشتركة، وحتى إن كانوا لا يتبنون المذهب نفسه، فإنهم يتبنون التصور السياسي ذاته، بما يعني أنهم يتشاطرون غاية سياسية أساسا تحظى بالأولوية عندهم. وهي تتمثل في دعم المؤسّسات العادلة وبت روح التعادل ـ العدل المتبادل ـ فيما بينهم... هذا ما يشكل ما يسميه رولز "أساس خير مجتمع سياسي معين"(42). وبهذا، فإن المجتمع جيد التنظيم ـ الذي تقول به نظريَّة العدالة الإنصاف ـ إنما يشكل "خيرا"، وذلك بمعنيين اثنين:

 

أولا: إنه "خير" بالنسبة إلى الأشخاص معتبرين في فرديتهم؛ وذلك لسببين: أولا؛ باعتبار أن ممارسة الأفراد لملكتيهم الخلقيتين إنما يعاش بوصفه أمرا "خيرا". وثانيا؛ باعتبار أن المجتمع السياسي ـ بحسبانه يعدّ خيرا بالنسبة إلى المواطنين ـ يضمن خير العدالة والأسس الاجتماعية للاحترام المتبادل ولاحترام النفس. وهذا خير مجتمع متقن التنظيم وليس خير مذهب شمولي، وذلك حتَّى وإن لم يمتنع أن يتبنى مذهب مثل هذا التصور من داخل تعاليمه التي يقول بها(43). وبالجملة، يقر رولز بأن القول بأولوية الحق الاعتباري ـ العدل ـ على الخير ليس يعني أبدا ضرورة تفادي الأفكار المتعلقة بالخير، فهذا أمر مستحيل عنده(44).وإنما يعني بالأحرى أن الأفكار المتعلقة بالخير ـ التي ينبغي إعمالها والحال هذه ـ إنما هي تلك التي تتعلق بالسياسة؛ أي أن تكون أفكارا سياسية؛ بمعنى أن تتشكل بوفق ما يضمن احترام موانع التصور السياسي للعادل، وأن تتماشى مع الفضاء الذي يوفره(45).

 

ثانيا؛ إن مجتمعا جيد التنظيم لهو "خير" بمعنى آخر، وهو المعنى الجماعي هذه المرة؛ إذ كلما وجدت هناك غاية نهائية متقاسمة بين المواطنين يقتضي تحقيقها تعاون أشخاص عديدين؛ فإن الخير المتحقق يكون خيرا اجتماعيا. ومن ثمة كان الإسهام في بناء مؤسّسات ديمقراطية عادلة بعدل معقول والمحافظة عليها وإصلاحها باستمرار عبر أجيال إنما هو ما يجعل كل هذه الأعمال تشكل خيرا اجتماعيا عميما معتبرا في ذاته(46). أكثر من هذا، هذا ما يحقق لمجتمع جيد السياسة استقراره؛ إذ ثمة صلة وثيقة بين فكرة المواطنين الذين يعدّون مجتمعهم السياسي خيرا، وفكرة استقرار هذا المجتمع. وبقدر ما هم يعدون اجتماعهم السياسي بحسبانه خيرا لهم وعليهم، بوصفهم جماعة ووحدانا، فإنهم يعتبرون إسهام التصور السياسي في ضمان استقرار النظام اعتبارا، ولا تفشو فيهم مواقف الحسد والضغينة ورغبة السيطرة والنزوع نحو حرمان الأغيار من العدالة، على نحو ما تفشو عند بعض الأفراد(47). إنما من شأن العدل والخير أن يقبلا التوافق والتناسب؛ ففي المجتمع حسن النظام يتناسب العدل والخير (كما يحددهما التصور السياسي) ويتلاءمان ويتوافقان ويتكاملان: إن المواطنين-الذين يأخذون بعين النظر فيما يعدونه خيرهم أن يكونوا عاقلين وعقلانيين وأن يعدوا كذلك من جانب غيرهم- إنما يجدون أنفسهم مدفوعين إلى أن يقوموا بما يتطلبه العدل، وذلك بسبب من دواعي تنم عن خيرهم(48).

 

نظريَّة الخير عند رولز بين نقادها

 

كثيرة هي النقود على تصور رولز لمفهوم "الخير"، على نحو ما بسطناه في الصفحات المتقدمة، وعديدة هي مشاربها: إحياء النظريَّة الأرسطية القديمة (أخلاق القدامة)، القول بالنزعة الجماعية (communitarianism) المعاصرة، وغيرهما. على أننا لسنا ندعي هنا استيفاء كل هذه النقود، بسبب نبو المكان عن ذلك، وإنما قُصارانا أن نمثل لها تمثيلا. وكما كان يقول القدماء: تكفي من البيدر السنبلة. وبالتالي، عملا بهذا المبدأ التمثيلي، نود التركيز على نموذجين نعدهما جوهريين:

 

لا يهتمّ ميخائيل ساندل (Michael Sandel) (1953-) ـ في كتابه الشهير الذي أفرد جزءا كبيرا منه لنقد نظريَّة العدالة عند رولز: الليبرالية وحدود العدالة (1982) ـ بمختلف دلالات لفظ "الخير" ـ التي رأينا أنها بلغت الست ـ في استعمال رولز، لا ولا حتَّى بالتركيز على تمييز رولز بين نظريَّة في الخير "موسعة" وأخرى "ضيقة"، هذا فضلا عن أن يقحم نفسه في مسألة الخير الخاص والخير العام؛ وإنما يتجه رأسا إلى مسألة "خير الجماعة"؛ أي إلى قضية "الخير العام"، وهو يجد أن نظريَّة الخير لدى رولز تتسم بسمتين أساسيتين: أوَّلا: أنها نظريَّة "مُشكَلَة"؛ أي أنها تثير العديد من التساؤلات والإشكالات. وأنها - ثانيا- نظريَّة "معوزة"؛ أي أنها تتضمن تصورا للخير "فقيرا" و"محوجا".

 

وعنده أن "خير الجماعة" ـ أو "الخير العام ـ ليس يمكن أن يفهم لدى رولز كما لدى غيره إلا بإدراك دلالة "الجماعة". وفيما يخص تصور رولز للجماعة ـ والذي يبني عليه تصوره للخير وللعدالة معا ـ إنما يقوم على التمييز بين تصورين: واحد يجده "مرذولا"، والآخر يلفيه "معقولا". فأما التصور المرذول الذي تمجّه نظريته في العدالة بوصفها إنصافا؛ فهو ما يسميه ساندل "التصور الوسيلي للجماعة"؛ بمعنى التصور الذي ليس يرى في الجماعة إلا "وسيلة" تتوسل لتحقيق نزوات الفرد ومصالحه، هذا إن لم يعدها هو "عبأ" يُثقل كاهله. هذا هو التصور الذي كان قد أشار إليه رولز، ونبذه تحت اسم "المجتمع الخاص" أو "المجتمع المدني"؛ بمعناه الهيجلي؛ أي المجتمع وقد تصور على أساس أنه مجلى مصالح الأفراد الأنانية الخاصة. أما التصور الثاني ـ والذي يسميه ساندل "التصور الوجداني" أو "التصور العاطفي" للجماعة(49) ـ فهو تصور رولز الذي لا يرى أن الجماعة تقوم فحسب على مصالح مخصوصة؛ وإنما أيضا على أواصر وجدانية مشتركة. والحال أن كلا النظريتين "فرداني". وهو العيب الذي يجده فيهما ساندل. حتَّى وإن لمتكن فردانيتهما على نفس الجديلة: الأولى؛ لأنها تصادر على أن الذوات التي تتعاون إنما تتحكم فيها دوافعها المغرضة ـ ذات الغرض ـ الخاصة، بما يترتب عنه أن "خير الجماعة" ـ في عرفها ـ يصير مرتهنا ارتهانا تاما بالفوائد التي يجنيها الأفراد من التعاون فيما بينهم، وقد اتبعوا أهدافهم الخاصة الأنانية، وهذا مفهوم للخير ذاتوي صرف. والثانية؛ لأنها تصادر على "الفردانية" المسبقة لذوات التعاون، وذلك على الرغم من أن دوافع هذه الذوات يمكن أن تتضمن ـ وهذا هو ما يميز بين فردانيتها وفردانية النظريَّة الأولى ـغايات طيبة حسنة، وذلك مثلما تتضمن هي أيضا غايات أنانية. ومِمَّا يلزم عن هذا- فيما يتعلق بتصور رولز لخير الجماعة-أن هذا الخير لا يكمن ـ حصرا ـ في الفوائد المباشرة للتعاون الاجتماعي، على نحو ما يذهب إليه التصور الأول ـ وإنما أيضا ـ وهذا هو جديد تصوره للخير العام الذي يفصله عن التصور السابق ـ في نوعية الدواعي والأواصر الوجدانية التي يمكن أن ترافق هذا التعاون الاجتماعي وتتقوى على مر الزمان. وهكذا، فإنه بينما في التصور الأول تبقى الجماعة برانية عن أهداف ومصالح الأفراد الذين يكونّونها، فإنه في التصور الثاني تبقى الجماعة ـ بالجزء ـ جوانية للذوات من حيث إنها تمس أهواء وعواطف أولئك الذين انخرطوا في بنية التعاون انخراطا(50).

 

وما يدفع ساندل إلى الحكم بفشل نظريَّة رولز أنها تنهض ـفي تصورها للفرد، وبالتالي اعتبارها للجماعة ـعلى فرضية "تفريد" الذات قبلا، بمعنى أن لا ذات عند رولز إلا الذات التي يفترض مسبقا أنها منفردة بنفسها، ليس من حضور للأغيار فيها أبدا. وبذلك يظهر أن عيب رولز الأساس إنما يكمن في هذا "التفريد المسبق"(51). وكأن ذات الإنسان ذات نخب هواء فارغة، اللهم إلا من نفسها وكأن الآخر ليس عين الذات، بعبارة الفيلسوف الفرنسي بول ريكور. مما يترتب عنه قيام هوة سحيقة بين الجماعة والغير(52). والذي عند ساندل أن الصلة بالأغيار ما كانت صلة وجدانية فحسب؛ وإنما هي أكثر من هذا. فالجماعة إنما توجد داخل الفرد، وليس خارجه، ولا يمكن تصور الفرد عنها بمعزل ومنأى ومبعد: في البدء كانت الجماعة، وما الفرد إلا الجماعة، وقد استنبطت من طرف الفرد استنباطا، ولا مشروع للفرد معقولا إلا والجماعة فيه داخلة، وهذا ما لم يكن بإمكان نظريَّة رولز الفردانية المنزع أن تتصوره(53)،وما كانت الجماعة ـ على نحو ما اعتقده رولز ـ "إحساسا"، لا ولا كانت هي "وجدانا"، إنما الجماعة "فَهْمٌ للذات". ومن هنا يوظف ساندل التصور التفاعلي للذات ـ الذات كائن تفاعلي بيني تذاوتي ـ ضدا على التصور الفرداني الآحادي الذي ينسب القول به إلى رولز. على أن مشكلة رولز أنه ظل أحيانا يراوح الخطى بين التصورين ـ جيئةً وذهابا ـ بحيث لا يكاد هو يثبت على تصور. وقد قام ساندل بدراسة توصيفات رولز لصلة الفرد بالجماعة، فألفى أن أغلبها إنما كانت استعارات في العبارات، وهي استعارات مبهمة ـ أبدا محتارة بين التصورين كالشاة العائرة بين الغنمين ـ من شأن بعضها أن ينقض بعضا(54).

 

ثم إن أولوية العدل على الخير إنما تعكس أولوية التعدد على الوحدة عند رولز؛ أي أنها تنم عن أولوية مصالح الفرد المتنوعة على وحدة خير الجماعة، وتشي بأولوية الأنا على غاياته التي تصله بالجماعة. والحال أن أولوية العدل على الخير -عند رولز- إنما تقتضي تصورا للذات مخصوصا، والذي عنده أن تصور الأمر العادل هو ما يؤسس للذات، وليس تصور الأمر الخير هو ما يفعل ذلك. فالعدل هو ما يشكل الأنا من حيث ما هو أنا، وليس الخير من يفعل(55).

 

وفي الجملة، عيب نظريَّة العدالة -التي يقول بها رولز- أنها لا تأخذ بعين النظر الجاد مسألة "الجماعة". وإذ هي ترى أن حدود الأنا معطيات قبلية ومحددة تحديدا ثابتا، فإنها تعمد إلى اختزال طابعنا المشترك إلى ألا يكون إلا جانبا من جوانب الخير، وذلك بالقدر نفسه الذي تختزل فيه الخير ذاته إلى أمر عرضي طارئ، أو إلى نتاج حاجات ورغبات مختلطة فاقدة لكل وجاهة من جهة النظر الأخلاقية، وذاك لعَمْرنا تصور للخير شديد الخصاصة(56).

 

 والحال أن اشتكال مفهوم "الخير" لدى رولز يؤدي إلى اشتكال مفهوم "العدل" عنده، ولا عجب في ذلك؛ فهما مفهومان مترابطان، مهما حاول رولز إنكار ذلك. وتلك مسألة أخرى تحتاج إلى بحث آخر.

 

أما الفيلسوف البريطاني ألسدير ماكنتاير (Alsdair MacIntyre) (1929-)، فإنه يذهب ـ في كتابه "بعد الفضيلة"(1981) ـ إلى اعتبار جون رولز: "أحد متأخري فلاسفة أخلاق الحداثة"(57)، بما يعني ذلك عنده- وهو الساعي إلى إحياء أخلاق القدامة (الأخلاق الأرسطية)، القائمة على فكرة "الفضيلة" ـ اختلافا في النظر إلى المسألة الأخلاقية بينه وبين رولز. وهذا ما تشهد عليه الإشارات التي خص بها رولز ونظريته في العدالة، ضمن هذا الكتاب. وأولى هذه الملاحظات النقدية أن رولز ينتهي-في آخر المطاف- إلى فصل الالتزام بمبادئ العدالة وبالفضائل عن كل إيمان جوهري بمفهوم "الإنسان الخَيِّر"(58). فأين هذا التصور - يتساءل لسان حال ماكنتاير- من التقليد الأخلاقي الكلاسيكي الذي كان يضع الفضائل في صلب النظريَّة الأخلاقية(59)؟ والسبب فيما يعتبره ماكنتاير استبعادا للخير العام عند رولز هو تصور هذا للمجتمع؛ إذ يجعل رولز الأفراد في المقام الأول، ولا يجعل المجتمع إلا في المقام الثاني(60). وعنده أن تحديد مصالح الفرد هي الأولى، وهي عن كل أخلاق جمعية بمبعد. هذا مع أن ماكنتاير يرى -بالضد من هذا- أن من شأن الجماعة أن تكون في المقام الأول، وأن من أمر الجماعة أن تقوم على فهم مشترك للإنسان الخير ولخير الجماعة ـ أو الخير العام ـ وأنه ينبغي على أفراد الجماعة جعل مصالحهم تتطابق مع خيرات الجماعة. أما رولز، فهو عنده لا يحفل بمعنى "الحياة الطيبة" التي يمكن أن يحياها الإنسان؛ بل يرى أنها أمر خلافي لا معنى للخوض فيه أثناء طرح مسألة مبادئ العدالة(61). وكأننا ـ معشر أفراد المجتمع ـ نسكن في جزيرة معزولة مع جماعة من الأفراد كل واحد منهم غريب عنا وعن غيرنا. وما يحكمنا جميعا هو فحسب مبادئ العدالة التي تحمي كل واحد منا ما أمكن والحالة هذه. مما نم عن تصور فرداني للمجتمع يتبناه رولز أسلافه هم هوبز ولوك ومكيافلي وغيرهم. وإذ يذهب ماكنتاير إلى حد الاعتراف بما لهذا التصور الليبرالي الفرداني الذي يتبناه رولز من وجاهة، فإنه يربط تلك الوجاهة والواقعية بطبيعة المجتمع الحديث؛ ذلك أنه عادة ما لا يكون هذا المجتمع، على الأقل ظاهريا، شيئا سوى مجمع غرباء، ما من واحد منهم إلا ويتبع مصالحه، وليسوا يخضعون إلا إلى قواعد سلوك دنيا(62). وهذا مثلما يصير الولوج إلى هذا المجتمع-على الأقل مبدئيا- فعلا إراديا، وكأن الأفراد وهم يلجون إلى المجتمع ولوجا إرادويا مفترضا يطرحون على أنفسهم السؤال التالي: "ما نوع العقود الاجتماعية مع الأغيار المعقول بالنسبة إلي حتَّى ألج إلى هذا المجتمع؟". وإن من شأن تصور للمجتمع هذا أمره ألا يوجد فيه تصور مشترك لمعنى الخير العام. هذا مع سابق العلم أنه التصور الذي يعد بحق مصدر الأحكام حول الفضيلة والرذيلة، والعدل والظلم(63)؛ أي أنه ـ أعني تصور الخير الجمعي ـ هو التصور الذي يحكم مسألة العدالة، وليست قواعد العدالة الصورية هي التي تحكمه.

 

وشبيه هذا الضرب من النقد ذاك الذي يعاود ماكنتاير القول به في كتابه "أية عدالة؟ وأية عقلانية؟"(1988). وينشأ السجال ضد رولز هذه المرة بمناسبة إعادة تقييم ماكنتاير لتصور القديس توما الأكويني للمسائل السياسية، وكيف أنه ينبغي أن تطرح عنده في إطار اللاهوت العقلي (مثلما انطرحت عند أرسطو في إطار السياسة)، وأن مجال تجربتها لهو مجال الصلة بين المدينة المدنية والمدينة الإلهية (مثلما كان الشأن عند أرسطو في كونها تنطرح في إطار المدينة الإغريقية). وهنا يلاحظ ماكنتاير أن رغبة رولز في الفصل بين السياسية واللاهوت أعمت بصيرته عن تقدير تصور القديس. فلئن كان الفيلسوف الدنماركي كيركجارد قال: "يكمن صفاء القلب في أن يوقف المرء حياته على مطلب واحد" ـ وهو "الخير" هنا لدى توماس الأكويني، كما لدى دعاة الأخلاق الكلاسيكية ـ فإن رولز يرى-على الضد من هذا- أن في هذا الأمر سلوكا غير معقول؛ بل إن فيه جنونا. وقد عقب ماكنتاير على رأي رولز هذا بالقول: إن آراء هذا تشكل مؤشرا ذا دلالة بالغة بهذا الشأن على البون الثقافي الذي يفصل دعاة الحداثة عن القديس توما الأكويني(64). والحال أن الإيمان بوحدة الخير ما كان ليعني -عند القديس- أن ثمة ضربا واحدا من الحياة ووحيدا هو الذي يفضي إلى الخير، وأن ما سواه من ألوان الحياة الأخرى وأساليبها المتنوعة يفضي إلى غير الخير؛ إذ لطالما أقر الرجل بتعدد ألوان الخير، غير أنه رأى أنها كلها من شأنها أن تفضي إلى الخير البشري الأسمى، مثله في ذلك مثل أرسطو لا فرق، فلماذا ينسب رولز القديس إلى الجنون، ويستثني من هذا الوصم أرسطو؟(65)أم أن الأمر بالضد، بحيث يرد ماكنتاير عبارة رولز إلى نحره معتبرا ألا توجد فكرة ناظمة لخيرات الأفراد ـ على نحو ما كان ذهب إليه رولز ـ هو عين الجنون. كلا، ما كان القديس توما الأكويني ليطرح تصورا أحاديا وتأحيديا للخير، وإنما طرح هو حيوات خيرية متباينة متنوعة مختلفة.

 

تأسيسا عليه، ينتقد ماكنتاير التصور الليبرالي لمفهوم "الخير"؛ ذلك أن من شأن الليبرالية أن تلفي نفسها ـ تبعا للمقدمات الفردانية والشكية والنسبية التي تنطلق منها ـ مجبرة على الإقرار بأن لا وجود لخير جامع يشمل ألوان الخير المتعددة؛ إذ اعترافها بوجود أنحاء من الخير وأضرب يرافقه إقرار من جانبها بأن لكل مجال خيره الخاص به: فلمجال السياسة خيره، ولمجال الاقتصاد خيره، ولمجال الأسرة خيره، وقس على ذلك مجال الفن والرياضة والعلم. فإذن في إطار جماعات متباينة ينشد كل فرد خيره ويتبعه، والتفضيلات التي يبديها إنما تعكس تعددية العلاقات الاجتماعية. مما تترتب عنه استحالة ترتيب الخيرات من جهة، وإنكار وجود خير عام يوجه حياة الإنسان من جهة أخرى(66).

 

وبالجملة، يمكن التخبر عن واقع مسألة "الخير"-في الفلسفة الخلقية الحديثة والمعاصرة- بالتأمل في عناوين أشهر المؤلفات التي أفردت نفسها إلى هذا الموضوع. هذا الفيلسوف الفنلندي فان رايث (Von Wright) (1916-2003) يكتب عن "تنوع [دلالات] الخيرية"(1963). وهذه الفيلسوفة الإيرلندية إريس مردوخ تكتب عن "سيادة الخير"(1971). وهذه الفيلسوفة الأمريكية مارتا ناسباوم (Martha Nassbaum) (1947-)تكتب عن "هشاشة الخير"(1986) حتَّى لدى الإغريق القدامى من منظري الخير. وإذ كتبت صاحبة "سيادة الخير" ما كتبت، فلكي ترثي ما آل إليه مفهوم "الخير" في الحداثة. وذلك من تشتت في الدلالة - حتَّى إن رولز يستعمل المفهوم بست دلالات على الأقل ـ وتلك دلالة العنوان: "تنوع الخير"، وبقدر تنوع دلالاته تضيع الدلالة الأصل، ونصير أمام "هشاشة الخير". وبالفعل، لقد كان مفهوم "الخير" دوما مفهوما هشا. ولربما لهذا السبب أشكل الخير على المحدثين إشكالا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

1)        Jürgen Habermas, «la «vie bonne», une «expression détestable»» in John Rawls, Le Péché et la Foi ,Ecrits sur la religion, Hermann éditeurs, Paris: 2010, p352.

2)        John Rawls, Théorie de la Justice, Traduit par Catherine Audard, Seuil, Paris: 1987, p11.

3)        Ibid, p11.

4)        Ibidem.

5)        Ibid, p93.

6)        Ibid, p123.

7)        Ibid, p123.

8)        Ibid, p152.

9)        Ibid, p124-125.

10)    Ibid, p133-135.

11)    Ibid, p290.

12)    Rawls, Théorie de la Justice, p50.

13)    Ibid, p54-56.

14)    Ibid, p57.

15)    Ibidem.

16)    John Rawls, Théorie de la Justice, p81.

17)    Ibid, p57.

18)    Ibid, p29, 33.

19)    John Rawls, « La priorité du juste et les conceptions du Bien » in Justice et démocratie, traduit par Catherine Audard, éditions du Seuil, Paris: 1993, p287.

20)    Ibid, p30.

21)    John Rawls, Théorie de la justice, op. cit., p45.

22)    Ibid, p437.

23)    Ibid, p437-438.

24)    Ibid, p437.

25)    Ibid, p438.

26)    Ibid, p571.

27)    Ibidem.

28)    John Rawls, A theory of justice. Revised Edition, Belknap Press of Harvard University Press, Cambridge, Massachusetts: 1999.

29)    John Rawls, Justice as fairness, A restatement, The Belknap Press of Harvard University Press, Cambridge, Massachusetts: 2001. Traduction française: La Justice comme équité: Une reformulation de Théorie de la Justice, traduit de l’anglais par Bertrand Guillarme, Editions La Découverte, Paris: 2003.

30)    John Rawls, Collected Papers. Cambridge, Massachusetts: Harvard University Press, 1999. Traduction française partielle de ces articles: John Rawls, Justice et démocratie, traduit par Catherine Audard, éditions du Seuil, Paris: 1993.

31)    John Rawls, Justice et démocratie, op. cit., p287.

32)    John Rawls, La Justice comme équité: Une reformulation de Théorie de la Justice, op. cit., p194.

33)    Ibidem.

34)    Ibid, « Préface », p13.

35)    Ibid, note 8, p197.

36)    Ibid, p197.

37)    Ibid, p198.

38)    Ibid, p199.

39)    Ibid, p269.

40)    Ibid, p269.

41)    Ibidem.

42)    Ibid, p270.

43)    Ibid, p271.

44)    Ibidem.

45)    Ibidem.

46)    Ibid, p272.

47)    Ibid, p273.

48)    Ibid, 273-274.

49)    Sandel, Le Libéralisme et les limites de la démocratie, traduit par Jean-Fabien Spitz, Seuil , Paris: 1999, p220.

50)    Ibidem.

51)    Ibid, p226.

52)    Ibid, p221.

53)    Ibid, p221.

54)    Ibid, p.222.

55)    Ibid, p221.

56)    Ibid, p253.

57)    Alsdair MacIntyre, After Virtue, A study in Moral Theory, third edition, University of Notre Dame Press, Indiana, 2007.

58)    Ibid, p233.

59)    Ibid, p248.

60)    Ibid, p248.

61)    Ibid, p250.

62)    Ibid, p252.

63)    Ibid, p251.

64)    Alsdair MacIntyre, Quelle justice ? Quelle rationalité ?traduit par Michèle Vignaux D’hollande, Presses universitaires de France, Paris: 1993, p180.

65)    Ibid, p180-181.

66)    Ibid, p362.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/5/104

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك