واجبات ومسؤوليات النُخَب الدينية في صُنْع المجتمع الخيري في الزمن الجديد

عامر الحافي

 

ازدادت أهمية النخب الدينية ودورها في المجتمعات الإسلامية مع تزايد الدعوات إلى الإصلاح والتغيير وتنامي المطالبة بالحريات وبناء المؤسّسات الديمقراطية، وقد أسهم في ذلك جملة التغيرات التي لابست العالم الإسلامي في السنوات القليلة الماضية.

 

ومن جانب آخر تنامى إدراك النخب الدينية لوظيفتها الاجتماعية ودورها التغييري ولحاجات ومتطلبات المجتمع والسعي لبناء المجتمع الخيري، وأصبح اهتمام النخب الدينية بالشأن العام والإصلاح والعدالة والمساواة والحقوق والواجبات، وبناء العقل الإسلامي، والالتزام بالمصلحة العامة، والحرص على المشاركة في بناء المجتمع من أولويات الخطاب الديني المعاصر.

 

ولم يعد من المقبول قصر دور النخب الدينية على إصدار الأحكام والفتاوى والتوجيهات الأخلاقية؛ وإنما تجاوز ذلك إلى الإسهام في تجديد الفكر الديني وممارسة النقد العلمي للتراث، والعمل على صياغة مشروع حضاري من شأنه أن يحقق التقدم والنهضة للمجتمعات الإسلامية المعاصرة.

 

إن لدراسة النخب بصفة عامة -والدينية بصفة خاصة- أهمية كبيرة؛ نظرا لما تملكه من أدوات مؤثرة في تكوين واستقرار المجتمعات, وتشكيل نسق الحكم والفكر والتوجيه العقدي(1).

 

وعلى هذا الأساس ستحاول هذه الورقة التركيز على دور النخب الدينية في بناء المجتمع الخيري في واقعنا المعاصر.

 

تعريف النخبة:

 

ويعدّ اصطلاح النخبة من أكثر المصطلحات تداولا في الأدبيات المعاصرة إلى جانب مصطلحات أخرى؛ كالمثقف، والطليعة، والدعاة عند المودودي، والنخبة المؤمنة عند حسن البنا(2).

 

لا تقتصر النخب الدينية علي ما تمثله المؤسّسات الدينية الرسمية كأئمة المساجد التابعين لوزارات الأوقاف، والمفتين في دوائر الإفتاء، وأساتذة كليات الشريعة؛ وإنما تتسع لتشمل الأئمة والمشايخ والدعاة غير العاملين في تلك الدوائر، هذا بالإضافة إلى الجماعات الدينية السياسية.

 

مفهوم النخبة الدينية يرتبط بمصطلحات أخرى ملابسة مثل، الصفوة، الأئمة، علماء الشريعة، وخرّيجي المؤسّسات التعليمية الدينية: الجامعات والكليات الشرعية.

 

فالنخبة الدينية هي نخبة الحكمة والموعظة الحسنة التي تدعو إلى الخير والرشاد بالأدلة العقلية البرهانية، وتجسد ما تدعو إليه على أرض الواقع بألطف أسلوب وأحسن خطاب.

 

مفهوم المجتمع الخيري:

 

ينتقد بعض الكتاب المعاصرين ربْط مفهوم الخيرية بالأمة الإسلامية بالمطلق، ويرى بأن ذلك يؤدي إلى نفي مفهوم التخلف أو الانحطاط من فاعلية الإنسان وحراكه الاجتماعي والسياسي، وقدرته على التغيير والبحث عن الأفضل(3).

 

فمفهوم الخيرية قد ارتبط بتلك النزعة التي تعصم الأمة من الخلل والخطأ، وتكرس مفهوم " عصمة الأمة " بعيدا عن الأسباب والشروط الموضوعية والتاريخية، وهذا المفهوم بدوره يخالف مفهوم الخيرية في الإسلام الذي يقوم على التغيير والأخذ بالأسباب: ﴿وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم﴾ (محمَّد 38)، ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاۤ أَمَانِيِّ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً﴾ (النساء 123).

 

وقد جاء في سبب نزول الآية "قال قتادة: تفاخر المؤمنون وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونحن أحقُّ بالله منكم، وقال المؤمنون: نبينا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على سائر الكتب، فنزلت: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاۤ أَمَانِيِّ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ﴾(4).

 

ويقول سيد قطب في التعليق على هذه الآية: "ولعل بعض المسلمين كانت تراود نفوسهم كذلك فكرة أنهم خير أمة أخرجت للناس، وأن الله متجاوز عما يقع منهم.. بما أنهم المسلمون، فجاء هذا النص يرد هؤلاء وهؤلاء إلى العمل, والعمل وحده. ويرد الناس كلهم إلى ميزان واحد"(5).

 

أدى مفهوم الخيرية "الجبرية" إلى جعل عموم المسلمين ينظرون إلى الأمم الأخرى نظرة استخفافية، لا تدفع إلى طلب التعلم منهم والتعارف معهم، وأصبح الآخر وكأنه نقيض وجودي للخير والفضيلة.

 

وهذا ما يجعل الأمة أسيرة لذاتها، ويزيف وعيها بالتاريخ، ويجعلها تعيش فوق التاريخ لا من خلاله، وهنا تبدو الأمة الإسلامية أقرب إلى "شعب مختار" آخر يحلم بانعزاليته المقدسة... الأمر الذي يسهم في فصل المسلمين عن العالم ويجهض رسالتهم الإنسانية العالمية.

 

الخيرية هي غاية يسعى إلى تحقيقها المجتمع الإسلامي على قدر وسعه, وليست سمة وراثية أو عقيدة نخبوية فالإيمان النظري والإحساس بالأفضلية العقدية هو أمر شائع بين عموم أتباع الأديان.

 

المجتمع الخيري هو مجتمع حضاري يسعى إلى تحقيق معاني الاستخلاف, ويتجه إلى خدمة المجتمع الإنساني ومساعدته على تحقيق العدالة والفضيلة.

 

ومِمَّا تجدر الإشارة إليه في هذا السياق أنه إذا كان مجتمعنا هو "خير أمة أخرجت للناس"؛ فلماذا تتقدم علينا كثير من الشعوب والأمم في مختلف الميادين العلمية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية؟ ولماذا تراجعت المجتمعات الإسلامية عن دورها الحضاري والرسالي؟

 

وفي هذا السياق يقول "توبي هاف": «لماذا أخفق العلم العربي في أن ينجب العلم الحديث؟ ولماذا انهار وتراجع الفكر العلمي والعمل في الحضارة العربية الإسلامية بعد القرن الثالث عشر؟ مع أن العِلْم العربي كان منذ القرن الثامن حتَّى نهاية القرن الرابع عشر أكثر العلوم تقدماً في العالم، وقد تجاوز بكثير ما كان في الغرب وفي الصين، وفي كل ميدان للبحث في الفلك والكيمياء والرياضيات والطب والبصريات».

 

يُرجع "هاف" العوامل التي أدت إلى تخلف الحضارة الإسلامية إلى أسباب عِرْقية وسيطرة السنية الأرثوذكسية الدينية والطغيان السياسي، إضافة إلى وسائل متصلة بالبواعث النفسية والعوامل الاقتصادية وإخفاق فلاسفة الطبيعة العرب في تطوير واستخدام المنهج التجريبي(6).

 

وهنا تظهر أهمية إعادة النظر في التاريخ والتراث الإسلامي، وإعمال المنهج النقدي للمجتمعات الإسلامية يسهم في معرفة الأسباب الموضوعية لتراجع المجتمع الإسلامي، ويمكننا من إعادة تقويم ووضع اللبنات الصحيحة في تشييد مجتمعنا الإسلامي الفاضل.

 

المجتمع الخيري يستوعب شروط الخيرية " الخيرية المشروطة" بعيدا عن "الخيرية الذاتية غير المعللة"، التي تكرس قداسة الذات ولا تحتاج إلى أي فعل أو جهد أو اجتهاد.. تلك الخيرية المزيفة التي طغت على الفكر الديني اليهودي, وتسرب بعض منها إلى تراثنا وعقول بعض نخبنا الدينية!!!

 

المجتمع الخيري هو مجتمع التكافل والتعاون على البر والتقوى، الذي يرحم فيه الضعيف، ويحسن إلى المسكين، ويأخذ بيد الفقير. وهو مجتمع العمل والإنتاج وتحقيق الاكتفاء، وهو مجتمع أخلاقي يرتكز في سلوكه على معيارية ثابتة قوامها الرحمة والعدالة والحرية في الفكر والاعتقاد والسلوك.

 

هو مجتمع يشهد على المجتمعات الإنسانية " لتكونوا شهداء على الناس " شهادة تعاون وتكليف لا شهادة تشريف واختلاف، والمجتمع الإسلامي يشهد على نفسه في الوقت نفسه الذي يشهد فيه على غيره من المجتمعات الإنسانية الأخرى. والشهادة الحقة تقتضي المعرفة بحال وواقع المشهود عليه، وهذه المعرفة تستمد أجزاءها من التواصل والتفاعل مع تلك المجتمعات، وليس بالانعزال عنها أو الاستعلاء عليها.

 

هو مجتمع الضمير والرقابة الذاتية ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ (الحديد: 4).

 

وهو مجتمع يعلي من قيمة العلم ومكانة العلماء ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ (فاطر:28).

 

وهو مجتمع البصيرة ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (يوسف: 108).

 

وهو مجتمع الاجتهاد والتفكير والحوار والبرهان ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين﴾ (البقرة:111).

 

وهو مجتمع يتجاوز عقدة "الشعب المختار" ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم﴾ (محمَّد: 38) ذلك الشعب الذي لا يختال ولا يغتر؛ وإنما ينظر إلى نفسه كمجتمع إنساني متواضع يسعي إلى تحقيق مضامين الإيمان الأخلاقية والاجتماعية على الأرض..

 

هو المجتمع الذي يتجاوز النظرة التقديسية للسلف وقصصهم الفائقة للطبيعة إلى فهم تجربتهم الإنسانية في سياقاتها التاريخية وتقيمها عن وعي وبصيرة: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (يوسف:111).

 

وهو يعيش في واقعه ويواجه مشكلاته دون أن يهرب إلى صور قديمة جاهزة في مخياله الوردي. فهو يسعى إلى إقامة تعاليم الإسلام وتنزيلها في الواقع الاجتماعي على قدر الوسع الإنساني والشروط الموضوعية.

 

هو مجتمع يقف إلى جانب المقهورين والمظلومين والفقراء، ولا يكرس نفوذ الأقوياء والمستبدين وأصحاب رؤوس الأموال..." الضعيف فيكم قوي عندي حتَّى أرجع عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتَّى آخذ الحق منه إن شاء الله"(7).

 

هو المجتمع الذي يسعى لخدمة البشرية وتحقيق الخير انطلاقا من إنسانية الرسالة الإسلامية التي تهدف إلى تعميم وتعميق معاني الخير والفضيلة التي أرادها الله للناس جميعا.

 

مجتمع الخيرية هو الأنموذج الإنساني الأقرب إلى الوحدة والانسجام منه إلى الانقسام والتناقض، وهو الأقرب إلى الرحمة والمودة منه إلى القساوة والبغضاء.. هو مجتمع يكرم الإنسان مهما كان لونه أو عرقه أو دينه، ويحترم فيه الفكر مهما كانت اتجاهاته, وتتبع فيه الحكمة مهما كان مصدرها, وتحمد فيه فضائل الأخلاق.

 

الخيرية والكمال:

 

القول بكمال الدين كما هو الحال في قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً﴾ (المائدة:3) يمثل أساسا راسخا بين المؤمنين.

 

هو اكتمال الدين من حيث الوحي والتنزيل، وليس اكتمال الفكر والفعل الإنساني في الواقع الاجتماعي الذي يخضع دوما لسنن التدافع والتغير، فالواقع الإنساني على الأرض لا يتماهى مع النص؛ وإنما يقترب من تحقيق معانيه أحيانا، ويبتعد أحيانا أخرى بحسب معطيات متعددة، فحتى مجتمع المدينة النبوي لم يكن مجتمعا كاملا وإنما كان مجتمعا يغلب عليه الخير والاتجاه نحو الفضيلة.

 

وهنا تحل مشكلة الشعور بالكمال والغرور الديني لدى بعض النخب الدينية، والتي تنتج صيغاً عقدية مطلقة وغير قابلة للزيادة أو النقصان (دوغما)، ومن هذه الصيغ مفهوم "الطائفة الناجية" الذي سبق وأن ظهر في كل من الديانتين اليهودية والمسيحية، وكان له أثر كبير في تعميق وتأبيد الصراعات الداخلية في كل منهما، بالإضافة إلى إضعاف قيمهما الإنسانية والروحية.

 

وعوضا عن قيام تلك النخب الدينية بالإصلاح والدعوة إلى الوحدة والهداية ونشر العدالة والرحمة إذا بهم يتحولون إلى بناة لـ"جيتو عقدي"، تقيم فيها كتل بشرية صلبة مليئة بالحقد والكراهية تجاه الأغلبية الهالكة من الناس.

 

لا يرى "المجتمع الخيري" غيره من المجتمعات الإنسانية نقيضاً له يسلبه خيريته وينازعه إياها، وإنما نماذج موازية تتسابق نحو الخيرات وفضائل الأعمال: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (البقرة: 148)، ومِمَّا لا شك فيه أن التسابق بالخيرات يسهم في تقوية الحس الإنساني بين المسلمين ويرتقي بعلاقتهم مع المجتمعات الأخرى.

 

ليست الأفضلية انتقاء عرقياً أو عقدياً لفئة مخصوصة من الناس؛ وإنما هي البر والإحسان وفضائل الأعمال التي تتوجه إلى عموم خلق الله، فالأمة الأفضل هي الأمة التي تقدم النفع الأكثر لغيرها من الأمم: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرض كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ﴾ (الرعد: 17).

 

واقع العمل الخيري:

 

العمل الخيري هو أحد مظاهر المجتمع الخيري؛ فهو يعكس بصورة واقعية ترابط المجتمع وشعوره بالمسؤولية تجاه الآخرين، ولمعرفة لمحة من واقع العمل الخيري على مستوى العالم نشير إلى القائمة التي ذكرتها مجلة "غلوبال"(8) بأفضل مئة منظمة غير حكومية في العالم. وهي في الغالب منظمات خيرية للإغاثة وتقديم المساعدات الإنسانية.

 

تصدّرت القائمة منظمات إنسانية أميركية (مثل: ويكيبيديا فاونديشين، وبارتنرز إن هيلث، وباث)، وبريطانية (مثة: أوكسفام)، وسويسرية (مثل: كير انترناشنال، وأطباء بلا حدود)، ودنماركية (مثل: مجلس اللاجئين الدنماركي)(9)..

 

وقد جاءت المنظمات العربية والإسلامية في مرتبة متأخرة بين هذه المنظمات الخيرية المائة. فثمة ثلاث منظمات عربية فقط -بحرينية ومصرية وأردنية- جاءت في الترتيب الحادي والتسعين والثاني والتسعين والسادس والتسعين على التوالي.

 

ولا يعكس هذا الواقع موقف الإسلام من عمل الخير، والذي كان أبرز أخلاق النبي قبل النبوة كما جاء في قول خديجة: ﴿كَلَّا أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا؛ فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ﴾(10).

 

وإذا كانت هذه أخلاقه قبل النبوة فكيف بأخلاقه بعد أن جاءه الوحي، وحثه على عمل الخير كما في قوله تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً. إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا﴾ (الإنسان:8) ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ (البقرة:177)، ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ (المعارج:24-25)، ﴿لَن تَنَالُوا البِرَّ حتَّى تُنفِقُوا مِمّا تُحِبونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ (آل عمران آية: 92)، ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ (البقرة:215).

 

واجبات النخب الدينية:

 

﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران 104).

 

مسؤولية النخب الدينية هي مسؤولية أكثر شمولا من مسؤولية النخب الأخرى: (السياسية، الثقافية، الاقتصادية...) فالنخب الدينية بمعناها العميق هي التعبير الأمثل عن الالتزام الأخلاقي والفهم العلمي القائم على التفكير السببي والنقد العقلي الذي يتجاوز النزعة التوفيقية والانتقائية إلى إعادة صياغة الفهم الإنساني تجاه التراث الديني وأبعاده الاجتماعية.

 

لا تقوم النخب الدينية بدورها عندما لا تفهم متطلبات مجتمعاتها وعصرها الذي تعيش فيه، أو عندما تقصر دورها على جوانب دينية فقط:

 

1- بيان العقائد الحقة، ودفع تشكيكات المشككين.

 

2- تعليم الناس الأحكام الشرعية، وترغيبهم فيها(11).

 

وفي مقابل ذلك نجد شريحة كبيرة من الناس يعتقدون أن العلماء متخصصون في كل شيء، فهم خبراء في السحر، والجن، وتفسير الأحلام، والحياة على الكواكب الأخرى.

 

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

 

من أهم شروط الخيرية التي ذكرها القرآن: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران: 110).

 

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمعناه الشامل لا يقتصر على الجوانب الدينية أو السلوكية؛ وإنما يستوعب -إلى جانب ذلك- الجوانب والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وينسجم مع حقوق الإنسان وحرياته.

 

فالمعروف هو كل ما تعارف الناس على قبوله والعمل به، وهو ما ينفع الناس، ويحقق مصالحهم الدينية والدنيوية، ويسهم في تقدمهم وازدهارهم.

 

إن الناظر إلى الواقع الإسلامي المعاصر يلحظ أن مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو بحد ذاته لم يخْلُ من الخلل؛ فالشائع لدى عموم الناس أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتعلقان بالأقوال والمواعظ المتصلة بالسلوك الفردي الديني, وليس بمجمل الفكر والسلوك الاجتماعي المدني والحضاري.

 

لقد تطور مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واتخذ أبعاده الاجتماعية مع تطور المجتمعات الإنسانية المعاصرة، وتبلور منظومة حقوق الإنسانية، وأضحى من الأهمية بمكان الملاءمة بين الإسلام والعصر. فعلى سبيل المثال كان الرق من الأمور التي تعارف عليها الناس في العصور القديمة؛ لكنه أصبح بمعايير العصر "منكرا", ولم يعد من المعروف بشيء.

 

لقد أدرك العديد من علمائنا السابقين أثر تغير الزمان والمكان في تغير الأحكام والفتاوى، ومن ذلك مسألة المؤلفة قلوبهم في عهد عمر.

 

ومما يؤشر على وجود خلل في إدراك مدى التغير والتطور الكبير الذي وقع في عالمنا الإنساني تلك الفتاوى السطحية التي ما تزال بعض الأوساط الإسلامية تروج لها، بداية من تحريم التصوير والرسم والفنون والإنترنت والساتلايت, وانتهاء بالمفاهيم السطحية لدراسة القانون الإنساني وعلم النفس والاجتماع ونظريات التطور البيولوجية.

 

القدوة الحسنة:

 

يتوجب على النخب الدينية أن تعيش كل فكرة تنادي الناس إليها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ﴾ (الصف: 2).

 

فالمجتمع الخيري يولد عندما يحقق العلماء تلك الخيرية في واقع حياتهم، ويتعدى دورهم المعرفة النظريَّة إلى المعرفة العملية التي تتجسد على الأرض: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ (الأحزاب: 21).

 

فالاقتصار على الوعظ والإرشاد دون القدوة الحسنة لن يؤدي بالمجتمع إلى الارتقاء والتقدم، ومِمَّا يذكر في هذا السياق ما جاء عن الحسن البصري عندما جاءه بعض العبيد يطالبونه بأن يحدّث مَنْ يملكونهم بأن يحرروهم, فكان أن قال لهم: أمهلوني مدة، فبقي شهرا، ثم بعد ذلك صعد المنبر وألقى خطبة جمعة في هذا الموضوع؛ فكان عددُ الذين أُعتقوا بعدها كبيرا جدا، فجاءوه شاكرين ومعاتبين؛ شاكرين لأنه قد حث على إطلاق سراحهم، وإعتاق رقابهم، ومعاتبين لأنه أخَّر ذلكم شهرا كاملا، فقال البصري رحمه الله: ما كان لي أن آمر الناس بأن يُعتقوا الرقاب وأنا لم أفعل، ولم يكن معي من المال ما يكفي... فانتظرتُ حتَّى جمعتُ المال وقمتُ بذلك(12).

 

التجديد والإصلاح:

 

جاء في الحديث النبوي: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها» (رواه أبو داود). والتجديد بمعناه الأعمق هو تجديد لمناهج الفهم وبناء لقدرات العقل على استنطاق الأصول، وليس ارتجاعا آليا وإعادة ضخ كمي للنصوص، وهو من ناحية ثانية إدراك لأثر الظروف التاريخية في صياغة مفاهيم ومقولات الأسلاف والأجداد والقدرة على مراجعة لتلك المقولات على ضوء ما بلغناه من المعارف الإنسانية الحديثة، والتي تجاوزت ما عرفه السابقون من الآباء والأجداد.

 

فما لم يقم المثقف بتجديد نظرته لتراثه لن يمكنه القيام بدوره في المجتمع، فإعادة إنتاج التراث يخلق حالة من الانفصام بين المثقف وبين الواقع الاجتماعي، ويفرز تخلفا فكريا، ينعكس في جزء كبير منه على وعي المثقف. وقد لا يستطيع المثقف التفرع لأي دور تاريخي، ما لم يخلص ذاته من سطوة الماضي، وما لم يتمكن من فهم جدلية قوانين التطور التاريخي(13).

 

ودون تجديد الفهم ومناهج التفكير والبحث والاستقصاء لا يمكننا تنزيل الدين وتوظيفه في واقعنا الإنساني، ومن غير هذا التجديد المنهجي لن نستطيع إصلاح مجتمعاتنا والارتقاء بها نحو الفضيلة والخيرية.

 

وإذا تمكنت الأمة من تجديد دينها فإنها ستكون قادرة على قيادة دنياها والنهوض بها نحو الخيرية، فلا خيرية دون إصلاح ولا إصلاح دون تجديد.

 

الحث على الاجتهاد:

 

الحث على بناء مقومات الاجتهاد وتبصير المجتمع بطرائق البحث والتفكير والدعوة إلى الاجتهاد الذي يعلي من شأن الإبداع والابتكار ويرسخ القبول بالتعددية الاجتهادية، ويرى فيها عبادة مأجورا عليها عند الله تعالى: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران. وإذا حكم فاجتهد، ثم أخطأ، فله أجر»(14).

 

وقد جاء عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه-، أنه لما بعثه النبي -صلَّى الله عليه وسلم- إلى اليمن سأله قائلا له: «كيف تقضي؟» قال: أقضي بما في كتاب الله. قال: «فإن لم يكن في كتاب الله؟» قال: فبسنة رسول الله. قال: «فإن لم يكن في سنة رسول الله؟» قال: أجتهد رأيي ولا آلو. فقال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلم-: «الحمد لله الذي وفَّق رسولَ رسولِ الله لِما يرضاه رسول الله»(15).

 

والمتفحص لقول النبي: «فإن لم يكن في كتاب الله»، «فإن لم يكن في سنة رسول الله» يدرك أن النبي الكريم كان يحث معاذا على البحث وراء النصوص التي من شأنها أن تتناهى، ويلفت إلى أنه لابد للمجتهد أن يُعمل عقله في البحث عن حلول للقضايا التي تطرأ على المجتمعات الإسلامية المختلفة...

 

إعمال العقل:

 

تقوم معرفة النخب الدينية على معرفة تراكمية إنسانية لا تقتصر على المعارف التراثية المنقولة؛ وإنما تضيف إليها كل اجتهاد عقلي يمكن أن يبلغه عقل الإنسان وفكره.

 

ويقتضي إعمال العقل أن يقوم العلماء بالدراسات النقدية للمناهج والكتابات التراثية التي تنطلق من المراجعة الشاملة, والتعرف على جواب القوة والإضافة في ذلك التراث.

 

وعندما يقوم العلماء بدعم مبدأ حرية الفكر وتشجيع البحث العقلي والعلمي في مجتمعهم؛ يمكن للمسلمين أن يصبحوا «منتجي معرفة»(16).

 

ومما يؤكد أهمية إعمال العقل في الدين ما جاء في قوله تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (يوسف: 108).

 

وهذه البصيرة ليست مقصورة على الأنبياء؛ وإنما هي منهج شامل يسترشد به عموم المسلمين إلى الخير في الأقوال والأعمال.

 

فقه الأولويات:

 

العلم بالشريعة المقترن بمعرفة تاريخ التشريع وتطور مدارس الفقه والكلام والتفسير إلى جانب فقه الواقع المعاصر يمكّن النخب الدينية من فقه الأولويات, التي يحتاج إليها المجتمع, وهذا ما يمكّنهم من النجاح في إصلاح مجتمعاتهم، فالوقوع في القضايا الثانوية والهامشية التي تعطل الطاقات من قبيل الانشغال في قضايا العين والحسد والسحر وتفسير الأحلام وإخراج الجن وغطاء الوجه وإطلاق اللحية...إلخ، والتي لا يجوز أن تشغل مساحة كبيرة في مجتمعات تعاني من القمع والاستبداد والتفاوت الطبقي وضياع حقوق الأغلبية وانتشار الرذيلة والمحسوبية والرشوة.

 

العمل الجماعي:

 

لا يستطيع العلماء القيام بما عليهم من مسؤوليات جسيمة في مجتمعاتهم، التي غدت أكثر تعقيدا وتداخلا، دون وجود أطر مؤسّسية جامعة يعملون من خلالها، والعمل الجماعي المشترك بين العلماء والمتمثل في "مؤسّسة الاجتهاد" يمكّن النخب الدينية من القيام بدورها في نهضة الأمة، وبناء المجتمع الخيري، ويقيها من الوقوع في النزاعات والصراعات سواء أكانت طائفية أم مذهبية أم سياسية.

 

وتتجلى أهمية العمل الجماعي ودوره في بلوغ الرشد والسداد من خلال الشورى التي أمر الله بها المسلمين: ﴿وشاورهم في الأمر﴾ (آل عمران: 159). وقد جاء عن الحسن: "ما شاور قوم قط إلا هُدُوا لأرشد أمورهم، وعلى المؤمنين من بعده أن يتمثلوه فيما حزبهم من أمر دينهم ودنياهم"(17).

 

كما عمّق الإسلام روح المسؤولية الجماعية، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)(18) ، والمسؤولية وفق النظرة الإسلامية يقوم عليها استخلاف الإنسان على الأرض وما عليها.

 

أمام التحديات الكبرى التي تواجه المجتمعات الإسلامية ينبغي على النخب الدينية الالتقاء والاتفاق على مشاريع مشتركة تتطلبها مجتمعاتهم.

 

فالبحث عن "كلمة سواء" و"عمل سواء" و"مجتمع سواء" هو من الأهداف الرئيسة التي ينبغي أن تسعى إليها النخب الدينية، وهذا يقتضي نبذ الفرقة والاختلاف(19).

 

العمل على تحقيق وحدة الأمَّة:

 

من وظائف العلماء الدعوة إلى الوحدة ونبذ الفرقة وهم ينطلقون في ذلك من أسس قرآنية راسخة، كما في قوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾ (آل عمران: 103).

 

﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء:92), فالنخب الدينية ينبغي أن يكونوا هم أول الداعين إلى الوحدة والتلاحم بين أبناء الأمة مهما كانت أسماء طوائفهم أو مذاهبهم أو أعراقهم: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ (الشورى: 13)، ومن أقوال الرسول -صلَّى الله عليه وسلم-: «يد الله مع الجماعة»(20).

 

ويقول -صلَّى الله عليه وسلم-: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا»(21).

 

إن المجتمع الإسلامي مجتمع العبادة والعمل الذي يجسد ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾ من خلال الجماعة المتعبدة والعاملة بعون الله في مجتمعاتها الإنسانية على الأرض.

 

الصلح بين المتنازعين:

 

يجب على النخب الدينية العمل على الإصلاح بين المتنازعين سواء أكانت أسباب النزاعات طائفية أم سياسية أم قومية، ويرشد إلى هذا المعنى قوله تعالى: ﴿وإنْ طَائِفَتانِ مِنَ المؤمِنِينَ اقْتَتَلوا فأصلِحُوا بَيْنَهُما فإنْ بَغَتْ إحْداهُما عَلى الأخْرى فَقاتِلوا التي تَبْغِي حتَّى تَفيءَ إلى أَمْرِ الله فإنْ فاءتْ فأصلحوا بَيْنَهما بالعَدْلِ وأقْسِطُوا إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطينَ﴾ (الحجرات:9).

 

فالواجب الأول الذي يتوجب على النخب الدينية اتخاذه حيال التنازعات الداخلية في مجتمعاتها هو الإصلاح، وكلما كان أهل العلم أوسع أفقا وأحسن ظنا وتثبتا وأكثر التزاما بأدب الاختلاف وأشد بعداً عن التكفير وتجريم المخالف، كان تحقيق الإصلاح بين المؤمنين أقرب وأنجح. والقتال الذي في الآية هو وسيلة لردع المعتدين من أي طائفة أو ديانة أو عرق، لا يلجأ إليها إلا بعد بذل كل جهد ممكن للإصلاح بين طوائف الأمة.

 

الحث على التعاون والتكافل:

 

الحث على التعاون على البر والتقوى مما يجب أن يجسده العلماء في مجتمعاتهم: ﴿وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان﴾, وكذا التكافل كما في قوله الله تعالى: ﴿ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون﴾ (الحشر: 9).

 

قال رسول -صلَّى الله عليه وسلم-: «ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به»(22).

 

وقال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلم-: «لا يؤمن أحدكم حتَّى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»(23).

 

هو مجتمع لا يقتصر في حركته ونشاطه على الاستعانة بالأسباب المادية وإنما يستمد قوته وعزيمته من إيمانه بالله عز وجل.

 

معالجة الانحرافات الأخلاقية في المجتمع:

 

تسعى النخب الدينية إلى معالجة المشكلات التي تشتكي منها المجتمعات الإسلامية كالعنف والسرقة والزنا والرشوة والغش وتعاطي الخمور والمخدرات وغيرها من الأمراض التي تواجه المجتمعات المعاصرة.

 

إخلاص النصح للأمة وقياداتها:

 

تقديم النصح للمجتمع ولأولياء الأمور ليقيموا العدل والقسط بين الناس، وقد جعل الرسول -صلَّى الله عليه وسلم- يقول: «الدين النصيحة»، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله وملائكته ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»(24).

 

الاستماع إلى الآخر والتعلم منه:

 

﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُو الْأَلْبَابِ﴾ (الزمر:18).

 

القسط والعدل:

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أو الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أو فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أو تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ (النساء135)، ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ (البقرة: 143).

 

سمات النخب:

 

يشير الكُتَّاب والمفكرون المعاصرون إلى جملة من السمات التي ينبغي على النخب المثقفة أن تتسم بها حتَّى تقوم بواجباتها تجاه مجتمعاتها، ومن هذه السمات:

 

القدرة على صنع القرارات، القدرة على تعديل سلوك المواطنين، التمتع بمكانة اجتماعية مرموقة، توجيه المواطنين إلى القيم الاجتماعية، التأثير في العقيدة.

 

ويضيف المفكر إدوارد سعيد إلى جانب هذه السمات: أن يكون المثقف مستقلا عن أي جهة أو سلطة؛ كي لا تقيد تفكيره أو مساره، وأن يبني القيم والمثل العليا كقيمة العدالة والحرية له ولغيره، وأن يشارك في الحياة العامة، وأن يتجاوز أي صفة حزبية أو فئويَّة متعصبة أو مذهبية متجمدة، وأن تكون ثقافته عامة تخاطب الناس بعقلانية ووعي, ويكون دفاعه عن أفكاره وثقافته بهدف تغيير الواقع السيئ، وعليه أن يسجل بكل جرأة ووضوح شهادته ورأيه، وأن يكون صادقا يفضح الفساد ويدافع عن المستضعفين(25).

 

ولا شك أن هذه السمات لا بد أن تتحقق في النخب الدينية قبل غيرها؛ نظرا للمسؤوليات الكبرى الملقاة عليها، وحتى تتمكن من القيام بدورها في بناء المجتمع الخيري الحضاري.

 

نقد النخب الدينية وأدوارها الاجتماعية:

 

تتشابه المشكلات التي تؤثر بالعلاقة بين النخبة الدينية والمجتمع في الإسلام إلى حد كبير مع المشكلات التي تؤثر في العلاقة بين المثقف والمجتمع في المفهوم العام، كما هو الحال مع القضايا التالية:

 

لم يمارس المثقف أدواراً اجتماعية كثيرة مقارنة بممارسة أدوار سياسية، فلم يتجه المثقف لنقد الأوضاع الاجتماعية كما هي في نقده للأوضاع السياسية والثقافية والدينية.

 

أن العديد من النخب الدينية تعمل ضمن النظام الرسمي, ويقتصر دورها على تجميل الحكّام أكثر من أي شيء آخر.

 

لم تستخدم النخب الدينية الدين لتوحيد الكل المختلف, وإيجاد رؤية وسطية تقضي على الفردانية وتدعو إلى التكافل والتضامن.

 

عدم الاهتمام بمفاهيم الدين حول حقوق الإنسان ومواجهة الاستبداد. معادات التحول الديمقراطي. القيام بدور الوصي على المجتمعات وادعاء احتكار الحقيقة. الاهتمام بالجزئيات على حساب الأصول.

 

مسؤولية النخب عن الحروب الطائفية من خلال قيام بعض النخب بشحن التمايز الطائفي والقبلي بمفاعيل ومدلولات سياسية واستخدامه في النزاع على السلطة. مما جعل العالم العربي هو اليوم أكبر منطقة طاردة للجماعات الأقلية المتميزة أو المغايرة، سواء أكانت جماعات دينية أم جماعات عرقية أم جماعات رأي وثقافة سياسية ومعارضة(26).

 

ادعاء النخبة احتكار الحقيقة أو المعرفة بأسرار التغيير, أو امتلاك مفاتيح النجاة والخلاص، مآله اتخاذ الجماهير كاحتياطي بشري للتعبئة والتجييش والتنظيم، أو كحقل اختبار للمشاريع العقائدية والأحلام الثورية؛ أي اتخاذها آلة لتحقيق استراتيجية النخبة للاستيلاء على الدولة والمجتمع.

 

"فشل التحرر العقلي لدى النخبة كما لدى الشعب؛ أي في المجتمع بشكل عام، وغياب نشوء روح علمية صحيحة، يرجع.. إلى فشل عملية تعميم المعرفة. وكل معرفة لا تعمم تصبح وسيلة سيطرة سياسية واجتماعية"(27).

 

التقليدية في التفكير وتتسم بعدم القدرة على مواجهة المستجدات وعدم الاستجابة مع متطلبات العصر.

 

وهناك من يرى أن النخبة الدينية/ الفكرية تمارس "سياستين انتحاريتين؛ مرة بتجاهل تلك المشاكل الحقيقية التي تعامت عنها النخبة السياسية، ومرة بإغراق الجمهور عبر وسائل الإعلام التي تحتكرها بالمشاكل البيزنطية الدينية أو الدنيوية؛ كالحجاب وهجاء العولمة وعبادة الشيطان، التي تملأ الآن الإعلام وتشغل الناس"(28).

 

لم تستطع النخب الدينية إصلاح ذات البين؛ بل زاد انقسام المسلمين إلى طوائف وفرق، وأصبح الخطاب الديني عامل تأزيم وتكريس للفرقة والشحن الطائفي وتغذية الصراعات السياسية.

 

لم تنجح النخب الدينية في تقديم صورة جاذبة وعقلانية للإسلام والمسلمين، والحد من مشكلة الخوف من المسلمين.

 

لا تقع مسؤولية الفشل في تحقيق المجتمع الخيري على عاتق النخبة الدينية فقط؛ بل هي مسؤولية مشتركة لجميع فئات المجتمع، إلا أن مسؤولية النخبة الدينية هي الأكبر.

 

وفي الخاتمة يمكننا القول: إن المطلوب اليوم هو نخب دينية مثقفة تجمع بين المعارف الدينية والدنيوية، وتقارب بين الثقافة الإسلامية والثقافة الإنسانية، وهي نخب واعية لدورها في المجتمع ولأهمية التعاون مع النخب الأخرى في بناء المشروع الحضاري الإسلامي، والذي لا سبيل إليه دون المرور ببناء المجتمع الخيري.

 

إنَّ الوصول إلى المجتمع الخيري هو واجب مشترك بين جميع أفراد الأمة الإسلامية، باختلاف معارفهم وتخصّصاتهم واتجاهاتهم. ولا تستطيع النخب الدينية القيام بواجباتها تجاه مجتمعهم دون أن يعطيهم المجتمع مكانتهم؛ فالنخب الدينية تتفاعل مع جملة مكونات المجتمع، وليست مجموعة منفصلة عنها، ومن هنا لا بد أن يكون لهم دورهم في مقاومة الفساد والاستبداد السياسي والانحرافات الاجتماعية والأخلاقية والتراجع العلمي والحضاري دون التوقف عند الجوانب الطقوسية والشعائرية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1)         محمد الشيمي، النخبة في العالم العربي دراسة وصفية نقدية، الحوار المتمدن، عدد3113. http://www.ahewar.org.

2)         هيثم مناع، النخب أمام التحديات نهوض، اللجنة العربية لحقوق الإنسان، المرجع السابق.

3)         رضوان زيادة، التحدي الحضاري أمام العالم الإسلامي. انظر: http://www.almultaka.net/ShowMaqal.

4)         الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن، تحقيق: أحمد شاكر، مؤسسة الرسالة، ط1، 2000، ج9، ص229. http://www.islamport.com

5)         سيد قطب، في ظلال القرآن، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط7، 1971، ج2، ص529.

6)         رضوان زيادة، التحدي الحضاري أمام العالم الإسلامي. انظر: http://www.almultaka.net/ShowMaqal.

7)         ابن هشام، السيرة النبوية،ج4، ص661 انظر: http://www.muslm.net.

8)         تصدر من جنيف ونيويورك انظر: عددها الصادر في 23/1/ 2012. http://theglobaljournal.net/article/view/585/.

9)         انظر: عدنان حسين، "خير أمة " في آخر قائمة الخير. انظر: http://www.elaph.com.

10)       رواه البخاري.

11)       علي آل محسن مسؤولية العلماء. انظر: http://www.almohsin.org.

12)       انظر: www.chahama.org/index.php.

13)       زكي العليو، المثقف بين المجتمع والسياسة، مجلة "الكلمة" في عددها رقم (49)، خريف 2005م/1426هـ.

14)       صحيح مسلم ، رقم الحديث: 1716.

15)       رواه أبو داود والترمذي.

16)       عزيز عبد الواحد، تجديد الخطاب الديني لماذا. انظر: http://www.alnoor.se/article.

17)       السيوطي، الدر المنثور، دار الفكر، بيروت،1993،ج2، ص359. انظر: http://islamport.com.

18)       متفق عليه.

19)       ناصر العمر، دور العلماء في قيادة الأمة. انظر: http://almoslim.net.

20)       رواه الترمذي.

21)       متفق عليه.

22)       رواه الحاكم في مستدركه.

23)       رواه البخاري ومسلم.

24)       رواه مسلم في صحيحه.

25)       محمد الشيمي، النخبة في العالم العربي دراسة وصفية نقدية، الحوار المتمدن، العدد: 3113.

26)       برهان غليون، في مسؤولية النخب عن الحروب الطائفية، الجزيرة نت، 27 سبتمبر: http://www.aljazeera.net.

27)       سعيد شبار، في مفهوم "النخبة".. ودور الوسيط أو المصادر الثقافي. http://www.aljabriabed.net.

28)       شاكر النابلسي، هل مشكلة العرب في نخبهم الدينية والسياسية؟ http://aljarida.com.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/5/102

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك